اقتصاد العالم العربي

منبر الحرية8 سبتمبر، 20111

اعتبر المحلل الاقتصادي، نوح الهرموزي، ومدير مشروع «منبر الحرية»، أن إصلاح صندوق الدعم أو المقاصة يقتضي التحلي بالشجاعة السياسية وعدم الانصياع وراء الشعبوية، أما نية الحكومة إحداث صندوق للتضامن في 2012 فإنها مجرد مناورة انتخابية من طرف الوزير الاول المغربي عباس الفاسي....

منبر الحرية20 أغسطس، 20111

تعتبر الحرية الاقتصادية من بين أهم المؤشرات على مستوى الظروف والأوضاع السائدة في جميع الدول وبالخصوص في البلدان العربية. وإذا كان هذا المؤشر مترديا، فإنه سيعكس الحالة التي يعيش عليها هذا البلد. وما الحرية الاقتصادية والاجتماعية إلا مرآة لحالة سياسية يشوبها الكثير من النواقص......

peshwazarabic6 ديسمبر، 20100

نظم مشروع منبر الحرية بشراكة مع شبكة الليبراليين العرب ومشروع عالم حر في السابع والعشرين من نونبر الجاري يوما دراسيا بمدينة الدارالبيضاء المغربية حول الحرية الاقتصادية بالمغرب. وشهد الحدث حضور فاعلين سياسين واقتصاديين محليين بالإضافة إلى ممثلي وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة.كما عرف اليوم الدراسي حفل توقيع وتقديم ترجمة كتاب “الليبرالية” للمفكر الفرنسي باسكال سالان والذي أشرف على ترجمته المغربي محمد تملدو.
بين الخبراء الدوليين والمحليين
ويأتي اليوم الدراسي الذي حمل عنوان “الحرية الاقتصادية في المغرب:الواقع والمستقبل”واحتضنه فندق فرح بالدار البيضاء برعاية من مجموعة من المنظمات. فإلى جانب شبكة الليبراليين العرب ومشروع منبر الحرية ومشروع عالم حر، شارك المسؤول الأكاديمي بمعهد الكاتو ومؤسسة أطلس للدراسات البروفيسور توم بالمر بورقة حول الحرية الاقتصادية بالمغرب،كما قدم فريد ماك ماهون عن معهد فريزرالكندي تقريرا عن المؤشرات المعتمدة في إصدار التقرير. وعرف اليوم الدراسي أيضا حضور الاقتصادي الكندي فرونسوا ميناردي بالإضافة إلى الاقتصادي الفرنسي إمانويل مارتان.
وتنبع أهمية اليوم الدراسي من استدعاء خمسة خبراء مغاربة من أجل إدارة ورشات تناقش مضامين تقرير الحرية الاقتصادية بالمغرب حيث انتظم المشاركون في إطار خمسلجان مممبرفع ملاحظاتها إلى معدي التقرير بخصوص المؤشرات المعتمدة. وشارك في إدارة الورشات كل من الاقتصادي المغربي فارسي السرغيني رئيس جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. والمحلل الاقتصادي بمؤسسة أطلس الدكتور نوح الهرموزي بالإضافة إلى الدكتور احمد مفيد الأستاذ بكلية الحقوق بفاس كما يشارك في إدارة الورشات الدكتور هشام المساوي الأستاذ بجامعة السلطان مولاي سليمان وعضو مشروع عالم حر.
في كلمات المتدخلين :افتحاص الاقتصاد المغربي آفاق جديدة للحرية.
خلق اليوم الدراسي نقاشا فعالا حول موضوع الحرية الاقتصاية حيث أكد المتدخلون المحليين والدوليين على ان الحرية الاقتصادية تشكل المدخل الأساسي والبؤرة الأساسية للحرية. وأجمعت الكلمات التي ساهم بها الخبراء الدوليون على أن الحرية الاقتصادية بالإضافة إلى تضمنها للحرية الفردية فهي تتجاوز ذلك إلى حقوق الملكية والاستفادة من نتائج العمل ومحاربة الرشوة ودعم الديناميات البنكية.
وبهذا الخصوص قال رئيس شبكة الليبراليين العرب محمد تملدو” ترتبط الحرية الاقتصادية بالمعاش اليومي لأنها المرآة الحقيقية للحقوق وعلى رأسها حق الملكية والمسؤولية وغيرها”.وأضاف تملدو أن اليوم الدراسي “يأتي في إطار سياسة شبكة الليبراليين العرب الهادفة إلى الانفتاح على المؤسسات الدولية عبر أنشطة تتجاوز العموميات إلى انشطة تطبيقية تفتح نقاشا تفاعليا بين مؤسسات دولية فاعلة والفاعلين الأساسيين في العالم العربي. وهكذا يقول تملدو يرمي هذا النشاط إلى “فتح آفاق جديدة للاقتصاد المغربي من خلال التعامل مع التقارير الدولية بحس علمي يتجاوز ردود الفعل في اتجاه التأسيس لتفاعل إيجابي حول ما ينتج حول المغرب وفي نفس الوقت في إطار التعامل المنهجي مع مايصدر من تقارير دولية حول المغرب وفرض الرؤية العلمية وفق فعل علمي وفعال””
وشهد اليوم الدراسي حضور فعاليات وخبراء وباحثين ومهتمين محليين ودوليين كما ستشهد حضور أطياف متعددة من المجتمع المدني من أحزاب سياسية وممثلي العمال ورجال الأعمال والإعلاميين وأعضاء الحكومة والمهتمين بقضايا الحرية الاقتصادية بالمغرب,.
ومن جهته قال الدكتور نوح الهرموزي رئيس مشروع منبر الحرية بإن اليوم الدراسي “يهدف اليوم إلى استضافة معاهد دولية كبرى تعد فاعلة على صعيد رسم استراتيجيات السياسات الدولية الاقتصادية. فمعهد فريز الكندي أحد أشهر المعاهد الدولية في إعداد تقارير الحرية الاقتصادية خص المغرب بتقرير سنوي. لذلك فالفكرة الأساسية هي خلق نوع من التفاعل المباشر بين معدي التقرير والفاعلين الأكاديميين والسياسيين ورجال الاعمال وممثلي العمال بخصوص المؤشرات المعتمدة في أفق تقويم السياسات الاقتصادية.
ومن جانب آخراعتبر البروفيسور توم بالمر من معهد كاتو الأمريكي أن المغرب يشكل ثالث محطة بعد الأردن ومصر التي اختارها منبر الحرية ومعهد فرايزر من أجل تقديم تقرير الحرية الاقتصادي.  ودلالة ذلك، يضيف توم، درجة الانفتاح التي يتمتع بها المغرب، غير انه أضاف بالمقابل بأن”التقرير لا يدعو إلى القلق لأن المغرب يمكن أن يحقق تقدما ملموسا على مستوى تثبيت مزيد من الحريات الاقتصادية من أجل تحقيق الرخاء والتقدم”
تقرير معهد فرايز: مؤشرات واعدة لكنها غير كافية
أشار نائب رئيس معهد فرايزر الكندي البروفيسور فريد ماكماهون إلى أن تطورا ملحوظا طرأ على مؤشرات الحرية الاقتصادية بالمغرب خاصة فيما يتعلق بحجم الحكومة والتي حصل فيها المغرب على مرتبة متقدمة. غيرأن ما يتعلق بقانون العمالة وغيرها من المؤشرات الأخرى تظل بحاجة إلى مزيد من التطوير.
وحول  المؤشرات الأساسية التي تم اعتمادها في إعداد التقرير ذكر مسؤول معهد فرايزر حجم الحكومة حيث “عندما تصبح الحكومة كبيرة جدا فإنها لا تفسح مجالا لنشاط اقتصادي حر وتقتنص بالضرائب ما يكسبه الأفراد والأسر بشكل مشروع. كلما كبر حجم الحكومة، كلما ازداد حجم الأنفاق وبالتالي تزيد الضرائب، وتبدأ الحكومة تدريجيا بالتمتع بحرية أكبر على حساب الحريات الفردية، والاقتصادية ».
كما استعرض الخبير الكندي المؤشر الثاني  المتمثل في الوصول للعملة المستقرة وهنا قال فريد ماكماهون “يمكن للحكومات أيضا أن تقلل من الحرية الاقتصادية عبر خفض قيمة الدخول والممتلكات التي اكتسبها الأفراد بشكل مشروع من خلال التضخم. حيث يؤدي التضخم إلى التقليل من قيمة الأجور والمدخرات. لذا فإن العملة المستقرة ضرورية لحماية حقوق الملكية. وحينما يكون التضخم متقلبا وعاليا، يصبح من الصعب على الأفراد أن يخططوا للمستقبل واستغلال الحرية الاقتصادية بفاعلية.
وبخصوص  حرية التجارة قال فريد أن “حرية التبادل- بمعناها الأوسع، الشراء، والبيع، وإبرام العقود، وما إلى ذلك- هي شيء أساسي للحرية الاقتصادية، التي تتضاءل عندما لا تشمل المبادلات قطاعات الأعمال والأفراد في دول أخرى  ».
وفيما يتعلق بالنظام القانوني قال المسؤول في معهد فرايزر”إن نظاما قانونيا يعمل بشكل جيد أمر لا غنى عنه لحماية الملكية والحقوق وضمان ألا يتمكن الأقوياء من استخدام نفوذهم للتقليل من حرية الآخرين. وبغياب مثل هذا الهيكل القانوني التشريعي الذي يضمن حماية الملكية، وهي أسمى غاية ومبرر لوجود الحكومة، لا يمكن أن تكون هناك حرية اقتصادية ». أما التدابير التنظيمية فتعني، حسب ذات المصدر دائما، أن تكون قادرا على العمل لمن تريد وأن تستخدم من تريد؛ أن تبدأ عملا وأن تنهيه كما تريد؛ وأن تقترض وتستعير ممن تريد.
وهدف اليوم الدراسي إلى مناقشة الوضع الراهن للحريات الاقتصادية بالمغرب ومناقشة آليات وسبل تعزيز هذه الحرية الاقتصادي وتسليط الضوء على مكامن ضعف وقوة المبادرة الحرة للاقتصاد المغرب ومقارنة مؤشر الحرية الاقتصادية بالمغرب مع المعدل العالمي والمعدل العربي ومعدل الدول العشر الأوائل في العالم.وانتهى اليوم الدراسي بإعداد تقرير نهائي عن وضع الحرية الاقتصادية بالمغرب بتنسيق بين الخبراء المحليين والدوليين، وتضمن هذا التقرير توصيات رفعت لصناع القرار السياسي والاقتصادي بالمغرب.
توصيات من أجل اقتصاد سليم
تطرقت أوراش عمل اليوم الدراسي بالتحليل والتقييم لمجموعة من مؤشرات الحرية الاقتصادية المتعارف عليها دوليا من قبيل حجم الحكومة الأمثل ودورها ووزنها في النشاط الاقتصادي وحرية التبادل التجاري والإجراءات التنظيمية الهادفة إلى تنظيم الائتمان والعمالة والأعمال التجاري النظام القانوني وتأمين حقوق الملكية واستقرار وثبات العملة الوطنية.
وخلص المشاركون في اليوم الدراسي إلى أن العقبات الأساسية التي تواجه الحرية التجارية بالمغرب، تتمثل في معدلات التعرفة الجمركية المفروضة على الواردات والصادرات. بالإضافة إلى المعيقات المرتبطة بحقوق الملكية المفروضة على المستثمرين الأجانب.كما تطرقت إحدى خلاصات اليوم الدراسي إلى الضوابط المفروضة على الرأسمال والإكراهات الموضوعة من طرف السياسات النقدية التي ينهجها مكتب الصرف، والتي تحول دون التداول والانتقال السلس لرؤوس الأموال المحلية والأجنبية.
كما تعرض الخبراء الاقتصاديون إلى الأثر السلبي للسياسات التدخلية في مجال تحديد وتثبيت الأسعار، حيث يخلق هذا التدخل ندرة مصطنعة يستفيد منها مجموعة من اللوبيات وقوى الضغط، في صفوف المنتجين الكبار على حساب المنتجين المتوسطين والصغار، والأكثر من ذلك على حساب المستهلك المغربي سواء في أثمنة السلع أو جودتها.
وخص اليوم الدراسي في إحدى ورشاته صندوق المقاصة بالعديد من التوصيات إذ أشارت إحداها إلى أن الدعم الذي يقدمه صندوق المقاصة لبعض السلع يتم الاستحواذ على أغلبيته من قبل كبريات الشركات على حساب الشركات الصغيرة وعلى حساب المستهلك.
يذكر أن اليوم الدراسي الذي نظمه مشروع منبر الحرية  بالدار البيضاء المغربية حول الحرية الاقتصادية بالمغرب، يعتبر ثالث تجربة في استضافة معهد فرايزر الكندي، أحد أشهر المعاهد الرائدة في إعداد تقارير الحرية الاقتصادية في العالم. وسبق لمنبر الحرية أن استضاف معهد فرايزر الكندي ضمن مؤتمرين اقتصاديين مماثلين بكل من الأردن ومصر. وتدخل هذه الاستضافة ضمن استراتيجية منبر الحرية الهادفة إلى الانفتاح على المعاهد الدولية الفاعلة في رسم استراتيجيات الاقتصاد العالمي وتمكين الفاعلين وصناع القرارالعرب من التفاعل المباشر مع منتجي التقارير الاقتصادية الدولية، للرفع من مستوى الحرية الاقتصادية في العالم العربي.

حواس محمود10 نوفمبر، 20100

تعيش المدينة العربية حالة الأزمة منذ أكثر من نصف قرن بسبب هجرة السكان من الريف إلى المدن، بحثا عن الراحة والصحة والأمان،  ولكن هذا البحث قد يؤدي إلى نتائج معكوسة، إذ تتفاقم الأزمة في المدن وتقل الخدمات الضرورية وتعج الأسواق بالمارة والسيارات، وتتكاثف المساكن المتجاورة، وتختلط المياه العذبة مع مياه المجارير وغيرها من المياه الملوثة مما يؤدي إلى الأمراض والأوبئة والتلوث البيئي.
أزمة المدينة العربية :
بادئ ذي بدء لا بد من التطرق إلى تعريف أرسطو عن المدينة التي يقول بأنها: “المكان الذي يعيش فيه الناس حياة جماعية من اجل هدف نبيل” ويقول الدكتور غانم هنا: “خلافا لما قد يعتقد الكثيرون لم تنشأ المدن المتطورة عن تجمعات صغيرة في التاريخ، بل كان نشوؤها ملازما للتجمعات الأولى، أي منذ بدأ الإنسان يستتب على بقعة من الأرض، وذلك كشكل مستقل للتجمع الإنساني”، ويشير أيضا إلى أن: “المدن قد أنشئت ليس تجاوبا مع متطلبات التصنيع، ففي كولومبيا مثلا أقام الرعاة في المدن، وفي الحضارات المصرية القديمة أو البابلية أو اليونانية أو الإيرانية نشأت المدن حول مراكز السلطة أو العشائر الدينية ” (1).
لقد مثلت المدينة كموضوع دراسة في العلوم الاجتماعية شيئا أكبر من تخطيطها الفيزيقي وتنظيمها الخدماتي ( كالخدمات التعليمية والصحية والأسواق وأجهزة الأمن … الخ) أي أنها –  أي المدينة  – في واقع الأمر بناء أو تركيب معقد من الأنساق القيمية والثقافية، إنها وكما يقول روبرت بارك :” نسق من عادات وتقاليد واتجاهات ومواقف منظمة ومشاعر متلازمة مع هذه العادات تتناقل عبر هذه التقاليد ” ( 2).
والمدن كانت وستظل المراكز الرئيسية للعلم  والإنتاج والفنون والثقافة، وباختصار للحضارة، وبالنسبة للعالم العربي فقد شهدت مدنه اتساعا كبيرا لم يسبق له مثيل، إذ أن نسبة سكان المدن ارتفعت من 27,7 في المائة عام 1960 إلى 46،8 في المائة عام 1980، وهي نسبة آخذة في الارتفاع، وبحلول عام 2000 فإن ستة أشخاص تقريبا من بين كل عشرة أشخاص من سكان المنطقة سيكونون من أهل المدن، ولقد تسببت هجرة السكان من الريف إلى المدن في ظاهرة ” ترييف المدن”، أي إضفاء طابع الريف على المدن، إذ تمركزت  العوائل المهاجرة في ضواحي المدن الكبرى في العالم العربي، هذه الضواحي التي تنقصها الخدمات حتى أن بعض المهاجرين قد احتلوا مقابر الأموات في مدينة القاهرة، ويقدر عدد الذين يعيشون في مقابر تلك المدافن القديمة ب 250000  و   900000نسمة، وتشير منى سراج الدين (3) (التي تلقي محاضرات حول تخطيط المدن في جامعة هارفارد) إلى أن المدن العربية التي تضج بالنشاط تنتج في الوقت نفسه فرص الحصول على مغريات عديدة، فهذه المدن تمثل في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية البؤرة الديناميكية للحياة العربية وقطب المغناطيس القوي الذي يجتذب النازحين.
إن ازدحام السكان بات اليوم سمة عامة  في الحياة اليومية للمدن في  كافة أرجاء المنطقة، ويضطر أهل المدينة للتنافس سعيا وراء الحصول على موارد بعيدة المنال، وتختنق الشوارع بحركة المرور التي تلوث الهواء وتنفجر أنابيب المياه والمجاري، وتسد الطرقات، وتنتفخ الباصات بالركاب حيث توجد وسائل النقل العام، ولكي نكون على إطلاع واضح بأزمة المدينة يمكننا أن نذكر – هنا- بعض المشكلات الصحية في المدن العربية:
مياه الشرب : هناك سببان رئيسيان لأزمة المياه النقية يتعلقان بكمية المياه المتوفرة ونوعيتها ، الأول  النمو الحضري المتزايد وما يتمخض عن ذلك من تزايد في طلب المياه واستهلاكها. أما السبب الثاني فهو التلوث الذي صار يصيب جزءا من هذه المياه من مخلفات السكان والصناعة.
النقل وآثاره : إن أكثر العناصر الضارة بالبيئة الحضرية وضوحا للعيان عنصرا الازدحام والنقل، فساكن الحضر أول ما يميزه عن أخيه الريفي هو التوتر الناجم – لدرجة عالية- عن تعرضه المتواصل لاختناقات المرور والضوضاء وضياع ساعات العمل وتدني إنتاجيته المطلوبة. وتجدر الإشارة إلى أن وسائل النقل تقوم ببث مجموعة من الملوثات في الجو، تقدر بآلاف الأطنان في العام أهمها أول أكسيد الكربون والذرات العالقة في الهواء وثاني أكسيد الكربون وغيرهما، ويمكن القول بأن الرصاص مادة سامة تبثها الناقلات في شكل ذرات دقيقة في الهواء يستنشقها الإنسان، وتمتصها الرئتان بكفاءة شبه تامة، وعند دخوله الجسم يبدأ بمهاجمة المخ والأعضاء الأخرى، وحتى في الأطوار البسيطة لهذا التسمم يصاب الصبي بتدهور في أدائه الفكري وتشتت في ذاكرته للمدى القريب وضعف قراءته وتهجيه …الخ.
الصرف الصحي : تتراوح نظم الصرف الصحي في المدن العربية من الشبكات العامة الحديثة للصرف إلى أحواض الترسيب والآبار في كل بيت إلى المراحيض البلدية( الحفر) إلى المراحيض المهوَاة المحسَنة، وهذه كلها تحتاج إلى معايير تحكم أداءها، فالمراحيض البلدية مثلا تلزمها مواصفات دقيقة في التربة الحجرية الصلبة والتربة الرملية القابلة للانهيار، وفي المناطق ذات المستوى العالي للمياه الأرضية والمناطق التي تزداد فيها أخطار  تلوث المياه الجوفية المجاورة.
النفايات : ازدادت في عصرنا الحالي مخلفات المناطق المختلفة في المدينة (سكنية- تجارية- صناعية- خدمية ) حتى أضحى تراكمها يهدد صحة البيئة والمواطنين، وأصبحت تلال القمامة منظرا مألوفا في كثير من المدن العربية، ومصدرا للأمراض، خصوصا للصبيان، ويكون أثرها أبلغ ضررا في المناطق الرطبة، وفي مواسم الأمطار التي تساعد على توالد الذباب والبعوض والبكتريا والفطريات والقوارض، كما تزيد مخلفات المناطق الصناعية باحتوائها  على الأبخرة والمواد الكيميائية الضارة بالتربة والهواء ومصادر المياه.
تصريف المياه السطحية :  يخلق تجمع المياه السطحية وركودها  في كثير من المدن العربية مشكلة صحية وبيئية كبرى، خصوصا في الأحياء الفقيرة وفي مناطق السكن العشوائي التي لا تكون أرضها أصلا صالحة للبناء عليها والسكن، والمشكلة لا تكون فقط من مياه الأمطار والسيول،  بل تنبع إلى جانب ذلك من مواسير التغذية الرئيسية المسربة للمياه أو المنفجرة، ومياه الغسيل والاستجمام، بل أسوأ من ذلك مجاري التصريف الصحي الطافحة بسبب الانسداد  أو ضعف طاقة المحطات على السحب، فتظهر بذلك برك المياه الآسنة والجداول المليئة كخط رئيسي ولاسيما حين تختلط مياهها بالنفايات المنزلية والصناعية.
الصناعة وآثارها : شهدت المدن العربية بدايات التصنيع بشكل ملحوظ. ومع أهمية التصنيع وحتميته لنا فانه يجلب عللا لابد من مجابهتها، ومن أهمها التلوث بأنواعه – الهواء- الماء- التربة –، فإلى جانب تلوث البيئة بالضوضاء والحرارة، هناك تلوث للجو في دول النفط ينتج عن عمليات استخراج النفط وتكريره، وحين تكون مستودعات النفط تحت الماء يحدث بالإضافة إلى ذلك تلوث المياه، أما مخلفات عمليات التصنيع فكثيرا ما تجد طريقها إلى الأراضي المجاورة، عاملة بذلك على تدمير التربة، ولا يزال أغلب الأقطار العربية من دون قوانين ملزمة تحكم التصرف في مخلفات الصناعة.
السكن العشوائي : أضحت الكثير من المدن العربية مطوقة بأحزمة من السكن العشوائي ” أحزمة البؤس” كما يقولون لها وتفوق في بعض الحالات ما يزيد عن نصف سكان المدينة، ويوفر السكن العشوائي البيئة المهيأة للعديد من الأمراض البيئية منها والعضوية والنفسية والاجتماعية ( 4).
إن المناطق الحضرية تتمدد عشوائيا  في الريف جارفة في طريقها أرضا زراعية قيمة وإن قرى بأكملها يتم ابتلاعها، ولقد تحولت حقول زراعية بالقرب من المدن الرئيسية مثل القاهرة، بغداد، دمشق  بيروت، إلى مناطق سكن عشوائية أو مدن صفيح أو عمارات سكنية عادية، وبعد أن كانت تلك الحقول تمد المدن بالخضار والفواكه أضحت بيئات سكنية غير كاملة المواصفات من حيث النظافة والشروط الصحية المناسبة، ولم تعد مناسبة للغطاء الزراعي (5).
إن الأزمة التي تعيشها المدن العربية تتفاقم أكثر في ظل غياب المساكن السكانية لاحتضان هذا الكم الهائل من الناس، وترتفع قيمة الإيجارات إلى مستويات خيالية مخيفة في كثير من الأحيان، وتمتلئ مراكز المدينة وأسواقها بالسكان، واستدراكا وامتصاصا لهذه المشكلة أقيمت في مدينة حلب جدران في البيوت القديمة ذات الأفنية والتي كانت تضم من قبل أسرة واحدة بحيث قسمت إلى شقق تشغلها عدة أسر لكل منها قطعة صغيرة من الفناء (6)
ومن المفارقات العجيبة أنه بالرغم من ندرة المساكن إلا أنه هناك الكثير من البنايات والمساكن الخالية من السكان احتفظ بها أصحابها لأهداف تجارية صرفة، ويبرر أصحاب هذه المساكن في ( القاهرة- حلب – دمشق- بيروت ) خلاءها من السكان بأنهم مضطرون لذلك بسبب القانون الذي يجعل من المستحيل تقريبا إخلاءها إذا تم تأجيرها (7)
إن هذه الأزمات الحادة التي تعانيها المدينة العربية تتطلب حلا، وهذا الحل سيكون بإنشاء مساكن جديدة، وتوسع مديني،  ولكن  العديد من المشاريع فشلت، في هذا الصدد نذكر على سبيل المثال في مصر ( في عهد السادات ) تم وضع مخططات لإنشاء ثلاث مجمعات جديدة –العاشر من رمضان – مدينة السادات- مدينة الأميرية الجديدة (8).
وكانت الخطة استيعاب كل منها نصف مليون إنسان بحلول عام 2000 ولكنها فشلت في ذلك لأسباب متقاربة ، ويعود ذلك إلى عدم تلاؤم الإنسان في العالم العربي المتميز بخصوصية ونفسية وروحية وتقاليد خاصة تتناقض مع واقع وبيئة وسكن له طابع غربي، محول  على عقل ويد  وممارسة مقاولي وتجار العقارات والبناء إلى “علب كبريت”   جامدة، وجرت محاولات مماثلة في مدن الخليج وفشلت هي الأخرى – في معظمها- لأسباب مماثلة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن العيب ليس في البناء الغربي بحد ذاته وإنما في تنفيذ النموذج الغربي  الحرفي والكامل – إن جاز التعبير – في المنطقة العربية التي تختلف ببيئتها ونمطها البيئي والاجتماعي  عن البيئات الغربية.
لقد قفز الاستهلاك  المنزلي في مدن الخليج عاليا دونما ضابط من أجهزة القياس  في معظم الأحيان، وتوضح حالة الكويت الحاجة الماسة والمتزايدة للماء(9).
وقد كان بوسع الطبقات الصخرية المائية المحلية الوفاء باحتياجات السكان من الماء، إلى أن ازداد الطلب في بواكير هذا القرن وأرسلت المراكب الشراعية التقليدية المعروفة باسم ” البوم” لجلب المزيد من المياه العذبة من شط العرب.
إن الاستهلاك المنزلي في الكويت تضاعف خلال الفترة من الخمسينات إلى السبعينات أربع  مرات تقريبا، ومن اجل مواجهة الطلب بنيت محطات لتحلية المياه، وبالنسبة لدول المغرب  العربي وطبقا لمعطيات البنك الدولي فان حوالي 45% من المغاربة يقطنون المدن حاليا بالمقارنة بنسبة تقل في عام 1960 عن ثلاثين في المائة، وبالمثل يعيش نصف الجزائريين وأكثر من نصف التونسيين  في المدن، إن هذه المظاهر من الأزمة المتفاقمة في المدينة العربية تتطلب – بطبيعة الحال – حلا لها، وهذا الحل لن يكون سوى التخطيط العمراني، الذي يمكنه وحده ضبط الأزمات وحركة السكان والعمران بشكل يحافظ على صحة الإنسان وسلامته، وفي الآن نفسه على جمال وحيوية ونشاط المدينة ،  والتخطيط العمراني مهم جدا لأي مدينة، وفيما يلي سنتناوله بشيء من التفصيل:
التخطيط العمراني :
لنبحث في البداية عن ماهية التخطيط العمراني، وللوصول إلى فهم لهذه الماهية يمكننا إيراد بعض التعاريف لتقريب مفهوم ” التخطيط العمراني” من ذهن القارئ:
تعريف أول : ” التخطيط العمراني هو علم وفن وتقنية وسياسة ومهمته وضع نظام وظيفي واقتصادي وفراغي في المكان المأهول ” (10).
تعريف ثان : ” التخطيط العمراني يهدف إلى الاهتمام بالتنظيم الشامل للمدن والحواضر بغية توفير ظروف حقيقية وكاملة للإنسان ليعيش وينتج ويستجم ” (11).
تعريف ثالث : ” التخطيط العمراني هو نظرية وممارسة لتخطيط المدن وبنائها، ويشمل ذلك مجموعة من التدابير الاجتماعية والاقتصادية والصحية العامة والبنائية التقنية والمعمارية ”  ( 12 ).
وتعرف ” الموسوعة البريطانية المختصرة ” التخطيط العمراني بقولها : ” التخطيط العمراني برنامج وأساس تخطيطي إلزامي لبناء المكان المأهول ومحيطه وإعادة بنائهما وتجميلهما وتطويرهما الشامل، وذلك لفترة تتراوح بين 15-20 سنة في إطار خطط الاقتصاد الوطني ” (13).
ويربط الدكتور احمد الغفري بين المدينة واحتياجاتها من جهة والتخطيط العمراني من جهة أخرى، فيقول ” إن المدينة تجسد على أرض الواقع الحياة الإنسانية العصرية  اليوم، والعصرية بالأمس، والعصرية في المستقبل، وتحتاج إلى متطلبات، وعلى التخطيط العمراني تلبيتها جميعا، لكي يتمكن الإنسان من ممارسة حياته الإنسانية دون أزمات “.
وظيفة التخطيط العمراني :
قد يقع مخطط  أو منظم المدينة في أخطاء تؤثر سلبا على السكان، وهذا التأثير أكبر بكثير  مما قد يقاس بخطأ مهندس إنشائي يسبب أضرارا لبعض سكان إحدى البنايات، يقول في هذا الصدد الدكتور احمد الغفري ” إن خطأ المهندس الإنشائي في تصميم جسر قد يؤدي إلى كارثة مرة واحدة، ولكن خطأ منظم المدينة يؤدي إلى كوارث مباشرة متتالية ( حوادث الطرق )، كما يؤدي إلى ما يشبه الموت البطيء (الضجيج ، سوء توجيه الأبنية – قلة المساحات الخضراء – توسيع الشوارع والأماكن المرصوفة كمصادر للوهج ) ( 14) .
وهناك أخطاء كثيرة يقع فيها منظم المدن منها : منظم المدن الذي يضع المصانع على طريق الرياح السائدة، أو يضع المسكن على شارع كثيف الحركة الآلية أو يبعده عن سوق تأمين الحاجيات  اليومية، أو يضع المنطقة الصناعية بجانب منطقة سكنية، أو يضع مدرسة في الطرف الآخر من شارع مزدحم بالسيارات، أو يتغافل عن تأمين ملاعب ورياض الأطفال ، أو يقلل من الحدائق إلى درجة أدنى …الخ.
وبالرغم من أن التخطيط العمراني اختصاص علمي، إلا أن مهندس التخطيط العمراني يلجأ ويزداد لجوؤه كلما ازداد  تمكنه من اختصاصه إلى حد كبير من الاختصاصات الأخرى، بهدف تحقيق الشروط المثلى لمعيشة  الإنسان وعمله واستجمامه، من هذه الاختصاصات :  الجغرافيا، علم الاجتماع، البيئة،  االعمارة،     الهندسة الإنشائية، علم المياه، الطبوغرافيا، الصحة العامة، المناخ، الصرف الصحي، ميكانيك التربة، الزراعة ، الفنون التشكيلية، ولكن مهندس التخطيط  العمراني يبقى قائد الأوركسترا( المايسترو)  لتحقيق التناغم المطلوب من جميع الاختصاصات الأخرى، ويمكن القول بأن ” التخطيط العمراني ليس تقسيما لشوارع يصطف على جانبها صفان من الأبنية، ومن المؤكد  أن المدينة هي المكان الذي يعيش فيه الإنسان، وهذا يتطلب من مهندس التخطيط العمراني أن يوسع مداركه ومعارفه قدر ما هي واسعة حياة الإنسان وعمله، وأن يؤمن لهذا الإنسان المأوى والراحة فيه وخارجه، وأن يقيه من المنغصات التي تؤدي إلى أمراض عصبية وجسدية، وتؤثر على إنتاجية عمله وعلى علاقاته بالآخرين ” (15).
إذن بالاستناد إلى ما سبق نجد أن التخطيط العمراني مسألة دقيقة وحساسة، وعليه أن يأخذ بالاعتبار عملية التوفيق بين الجانب الوظيفي والجانب الجمالي والجانب الاقتصادي، فعلى مدى نجاح التوفيق بين العناصر السابقة المتناقضة يمكن تقويم المخطط العمراني إيجابا أو سلبا، وبالاستناد إلى تعريف المدينة  ” المكان الذي يعيش فيه الإنسان ويعمل”، نرى أن مهمة منظم المدينة تعتمد بشكل رئيسي في تأمين مسكن للسكان وتلبية احتياجاتهم، وبالنسبة لتأمين المسكن ومستلزماته  يتوجب على منظم المدينة أن يؤمن للسكان جميع الخدمات الضرورية في إطار مرحلة التطور التي يعيشها هؤلاء السكان مع الأخذ بالاعتبار التطور المستقل، ويمكن تحديد هذه الخدمات ب :
الأملاك العامة : وتشمل الشوارع بأنواعها، الحدائق، الساحات.
المشيدات العامة : وتشمل المدارس، المراكز الطبية، المراكز الثقافية، أماكن العبادة، المراكز الإدارية ، مخافر الشرطة.
الأسواق التجارية.
التأثير على الحالة الصحية والنفسية للسكان :
يلعب منظم المدن دورا رئيسيا في التأثير على سلامة الحالة الصحية والنفسية للسكان سلبا أو إيجابا، ويمكننا في هذا السياق أن نورد أمورا كثيرة تؤثر على هذه الحالة بصورة عامة ( 16).
وضع الأبنية السكنية : يتطلب من منظم المدينة أن يوفر لسكانها القدر الكافي من الضياء والهواء والخصوصية والمنظر الجميل، وذلك بالتوافق والانسجام مع الظروف المناخية والاجتماعية والموقع، وتقع أخطاء كثيرة في هذا المجال، كمثال : قرب الأبنية بعضها من بعض لدرجة تفقد المسكن خصوصيته، وتجعله تحت أنظار سكان المبنى المجاور، مما يضطر العديد من السكان إلى إغلاق نوافذهم إغلاقا دائما، وبذلك هم يحرمون أنفسهم من الشمس والهواء.
تأمين مساحات محددة أو أنصاف أقطار تخديم لا يجوز تجاوزها بالنسبة لكل نوع من أنواع الخدمات، والغاية من ذلك هي تأمين حصول السكان على هذه الخدمات دون عناء كبير، وتحصل أخطاء في هذا المجال كمثال : بعد المدرسة وبخاصة ” الابتدائية”- حيث الأطفال الصغار-، عن كثير من الأبنية السكنية بعدا يخلق قلقا لدى الأم والأب، ويستمر هذا القلق إلى حين عودة الطفل من المدرسة.
توازن استعمالات الأراضي  يتوجب أثناء دراسة المخطط التنظيمي العام لمدينة من المدن أو المخطط التفصيلي لقطاع معين من المدينة، أن ينصب الاهتمام الأول على التوازن في استعمالات الأراضي، وتأمين تناسب سليم للمسافات بين مختلف الاستعمالات لتلبية احتياجات السكان الأساسية، وتقسم هذه الاستعمالات إلى أبنية وفراغات.
الأبنية : وتشمل السكنية والعامة، الإدارة ، الثقافية، الدينية، الصحية، التعليمية، التجارية والخدمية، أما الفراغات فتشمل حدائق خاصة، حدائق عامة، ساحات عامة، شوارع، مواقف سيارات، ممرات ، وأرصفة للمشاة، والغاية من التوازن بين مختلف استعمالات الأراضي هي أن لا يطغى استعمال على آخر، ويمكننا أن نضرب مثلا على سوء التوازن بين استعمالات الأراضي ما يتعلق بالشارع والرصيف،  إذ أن الدراسات أثبتت أن 70%من حوادث السير في الاتحاد السوفياتي السابق يعود سببها إلى سوء تخطيط الطرق، والشوارع، وأشار باحث فرنسي إلى أن هذه النسبة  هي 80%.
تنظيم المدينة والاستجمام : يقسم علماء تنظيم مدن الاستجمام إلى ثلاثة أنواع : يومي، أسبوعي، موسمي، وتقع على عاتق منظم المدينة مسؤولية اختيار مواقع الاستجمام الملائمة  في المدينة، ويمكن تأمين الاستجمام اليومي بتخصيص مساحات كافية للحدائق العامة وللمساحات الخضراء، وتوصلت الدراسات إلى نتيجة مفادها أن درجة حرارة المناطق الخضراء تنقص عما هي عليه في مناطق المدينة الأخرى ويصل الفارق إلى (15) درجة مئوية، كما أن المناطق الخضراء تقوم بتخفيف الضجيج في المدن نتيجة لتلاشي أو تخامد الموجات الصوتية المتساقطة على أوراقها المخملية المهتزة باستمرار ( 17).
جمال المدينة : تشكل المدينة ككل  وبأجزائها المختلفة مجموعات غنية معمارية وعمرانية معقدة ذات أحجام كبيرة، ويجب أن تتوفر فيها التكوينات المتناسقة تخطيطيا وفراغيا ومعماريا، أي أنه يجب أن تتوفر فيها العناصر الجمالية، وفي حال عدم توفرها فإنها لا تعدو أن تكون مجموعات أو تماثيل نحتية بشعة.
العمل العمراني العربي المشترك : – توصيات ندوة دبي –
إن الواقع التنظيمي والعمراني للمدن العربية وما يتخلله من أخطاء وما يترافق مع أزمات ومشاكل يدعونا إلى القول بضرورة تضافر الجهود في الدول العربية، وإلى العمل العربي المشترك، والتعاون لتبادل الخبرات ومناقشة الدراسات والبحوث في هذا المجال ، ويمكن أن ينظم هذا التعاون ضمن لجان مشتركة منبثقة عن الجامعة العربية أو مجلس التعاون الخليجي، أي على المستوى القومي العربي، أو على المستوى الجهوي، ويمكننا أن نذكر – في هذا السياق- بعض التوصيات ( في مجال التخطيط العمراني ) التي تم إقرارها في ندوة ” دبي” بدولة الإمارات العربية أثناء عقد المؤتمر العاشر لمنظمة المدن العربية من  3إلى 7 نيسان 1994 والتي كانت بعنوان ” المدينة العربية وتحديات المستقبل ” (18).
ضرورة إعداد استراتيجيات بعيدة المدى للتنمية الحضرية مع الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال.
نظرا لتعاظم أهمية المدن المتوسطة والصغيرة في تحقيق التنظيم الحضري والتوزيع الأمثل للسكان وكذلك في مجالات التنمية،   يجب أن  تولي الدول والمدن العربية اهتماما كبيرا لتدعيم دور المدن في خطط التنمية الشاملة.
الاهتمام بدور البلديات في إعداد استراتيجيات التنمية الحضرية ودورها أيضا في إعداد الخطط وتحديثها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
النهوض بالمجتمعات الريفية والبدوية في البلاد العربية والتنمية الشاملة لهذه المجتمعات أسوة بالمجتمعات المتحضرة.
مراعاة الاختيار الجيد والدقيق للموقع الجغرافي والموقع الطبيعي للمدن الجديدة، في ظل الظروف المكانية والأحوال البيئية من اجل الحفاظ على توازن البنية الاقتصادية.
من الضروري  أن تقوم المدينة الجديدة على عنصر التخطيط الكامل، الذي يضمن بناء مستوطنة مستوفية لجميع الشروط التي يجب توفرها لقيام المدينة واستمرارها.
ضرورة حفظ وإحياء المواقع التاريخية، وكذلك الارتقاء بالأحياء القديمة والمتخلفة، مع تأكيد التوازن في التنمية والتخطيط الحضري، وتكوين لجان متخصصة من ذوي الخبرة والاهتمام بالتراث والتخطيط العمراني لتقييم التراث العمراني فنيا في المدن، وتقرير ما يجب هدمه وما يجب الحفاظ عليه، وتطبيق الأساليب العلمية في ترميم المباني التاريخية.
وفي الختام يمكن  القول بأن العديد من الأزمات التي حدثت وتحدث في المدن، وان حالة الاغتراب المديني التي تصيب العديد من سكان المدن،  سببه سوء التخطيط العمراني، ذلك أن التخطيط العمراني يتغلب عليه في كثير من الأحيان أهداف تجارية صرفة، من قبل تجار ومقاولي العقارات الذين يهمهم فقط الربح السريع ولا يهمهم صحة وسلامة المواطن، ولذلك فالتخطيط العمراني يتوجب عليه وضع المخططات العمرانية استنادا إلى دراسة ميدانية موسعة بالأخذ بعين الاعتبار جميع حيثيات وظروف التواجد السكاني وعلاقته بمستويات المدينة الاقتصادية والثقافية والعلمية والسياحية، وبما يؤدي في المحصلة إلى الحد أو إزالة الأضرار الناجمة عن سوء التوضعات العمرانية، وكما رأينا لا يمكن أن يكون التخطيط العمراني ترفا حضاريا، وإنما هو حاجة موضوعية لبناء وسكن ومدينة منتظمة متناسبة الأبعاد والتوضعات السكنية والخدمية والاستجمامية، بحيث تشكل في مجموعها لوحة جمالية حضارية متناسبة الألوان والمسافات غنية بالوظائف، زاخرة بالحيوية والنظام.
الهوامش :
د. أحمد الغفري ” تخطيط المدن ” مطبعة الجمهورية – دمشق 1993 – ص 5، ص 7
د. باقر النجار مجلة ” عالم الفكر” مقال ” البتية الثقافية والاجتماعية للمدينة الخليجية في الحقبة النفطية  ، المجلد 24  عدد 4  ابريل / يونيو 1996  – الكويت – ص 77
لين سيمارسكي ، ترجمة عبد الفتاح الصبحي ، مجلة ” الثقافة العالمية ” الكويتية ، مقال ” أزمة المدن في العالم العربي ” العدد 41 يوليو / تموز 1988 – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت – ص 7
عادل مصطفى أحمد مجلة ” المستقبل العربي” مقال ” المدينة المعافاة في الوطن العربي دعوة إلى التعاون بين المدن العربية ” العدد 211 ايلول / سبتمبر 1996 بيروت مركز دراسات الوحدة العربية ص 85، ص 91
عامر ذياب التميمي ، مجلة ” العربي” مقال النمو السكاني والتحديات أمام العرب عدد 434 يناير / كانون الثاني 1995 ت الكويت وزارة الاعلام ص 108
لين سيمارسكي – الثقافة العالمية- مصدر سابق ص 9
8- 9 مجلة الثقافة العالمية ص10، ص9
تعريف اورده ليوبين توفيق  في بحثه ” المدينة والتخطيط العمراني ” في كتاب ” التخطيط العمراني ” لمجموعة من المؤلفين ص 9 ولم يشر إلى مصدره ، نقلا عن د. احمد الغفري كتاب ” تخطيط المدن ” مصدر سابق  ص18
المصدر السابق ص 9  نقلا عن د. الغفري مصدر سابق ص 18
” الموسوعة السوفيتية الكبرى ” ص 396 نقلا عن ” تخطيط المدن ” د. الغفري ص 19
د. احمد الغفري ” التخطيط العمراني اختصاص علمي أم هواية ” مجلة  المهندس العربي عدد 112 – سورية – دمشق نقابة المهندسين  ص 4
15-16 د. احمد الغفري ” تخطيط المدن ” مصدر سابق ص 160 ، ص 22 ، ص 152-157
17 – د. عمر وصفي مارتيني ” تخطيط المدن ” حلب – جامعة  حلب – كلية الهندسة – قسم العمارة 1981 ص 475
18- مجلة ” المهندس العربي ” – توصيات ندوة المدينة العربية والمستقبل ” عدد 115 / 1994 ص 58
© منبر الحرية،6 شتنبر/سبتمبر 2010

peshwazarabic10 نوفمبر، 20101

لا يمكن لمؤرخ الأفكار العربي/المسلم خاصة، أن يفلت من ملاحظة ظاهرة التصحر الحضري التي ألمت بالمراكز المدينية العربية منذ عصر فجر السلالات في بلاد مابين النهرين، ثم حاصرتها ومحقتها حتى العصر الحديث كي تقدم أغلب المدن العربية، مشرقية كانت أم مغربية، نفسها كقرى أو واحات متضخمة، فيزياوياً واجتماعيا.
لقد تواترت هذه الحال عبر الحقب التاريخية ومتغيراتها الكبرى نظراً لحقائق جوار المراكز المدينية في العالم العربي مع البوادي، أو على حافات الصحارى الكبرى القادرة على ابتلاع كل شيء عبر ربوعها الخالية، الأمر الذي يفسر طغيان “فيزياء البادية” الرملي المتصحر الجاف على هذه المدن، لاغياً المناطق والأنطقة الخضراء ودافناً بأتربته الصفراء الخانقة منابع المياه والرطوبة النادرة في الفيزياء المدينية الشرق أوسطية. إنها حال طوبوغرافية تستحق الملاحظة والرصد والدراسة على سبيل محاولة تفسير كنه سر هيمنة قيم البادية على أشباه الحواضر أو أنصاف المدن التي نفتخر بها أحياناً، تلك المراكز التي نستورد لها أعلى ناطحات السحاب، الجاهزة المسلفنة، كي تبدو شبيهة بمدن العالم الغربي العملاقة.
لقد حاولت الأقوام القديمة في بلاد الرافدين والشام والنيل التأسيس لحواضر تسودها قيم الحاضرة والتحضر أو قيم المجتمع المدني؛ وفعلاً نجحت بعض المحاولات حتى ظهرت في منطقتنا مراكز حضرية كوزموبوليتانية في العصور الغابرة، ومنها بابل وآشور والقدس (أورشليم حقبة ذاك) والإسكندرية وصور، من بين مدن عظيمة أخرى، منتفعة من مجاورة مصادر المياه غير المالحة على سبيل إقامة حواضر ومراكز إشعاع حضري وثقافي عظمى تنأى بنفسها عن الصحراء وسكانها على سبيل تقديم أنموذج مديني عملاق يستحق الدراسة وحتى المحاكاة.
وللمرء أن يلاحظ، في سياق كهذا، أن ظاهرة تصحر المدينة في هذا الإقليم قد تبلورت فيما بعد عبر عصر الفتوحات الإسلامية، إذ لاحظ الفاتحون الآتون من بطون البوادي لدحر جيوش الفرس على الفرات والروم على سهول ووديان بلاد الشام وحوالي دلتا النيل، لاحظوا أن عليهم أن يؤسسوا “معسكرات” (وليس مدن) يستقر فيها الفاتحون وعوائلهم على نحو عشوائي، بطريقة تجعلهم على حافات الصحارى حتى يمكن من هذه المراكز أو المعسكرات ممارسة عمليات الكر والفر أمام جيوش الإمبراطوريات القديمة. وهكذا ظهرت أولى المدن العربية على سواحل الفرات والنيل: متصحرة مقفرة، تحت اسم “الأمصار”: الكوفة ثم البصرة، والفسطاط ثم القيروان. حول هذه النوى (جمع نواة) أخذت المدن العربية الجديدة تتضخم وتتوسع. وفي الوقت الذي انتخب فيه الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) الكوفة عاصمة لدولة الخلافة الفتية، كانت تلك المدينة/المعسكر مقسمة على نحو أحياء أو مناطق بأسماء القبائل العربية التي قطنته،ا وكونت أو شكلت القوات الفاتحة التي جاءت إلى العراق وانتقت موقع الكوفة معسكراً ثم مدينة لها. وتنطبق ذات الحال على بقية الأمصار الرئيسية بين الكوفة والقيروان.
المهم في هذا السياق التاريخي هو أن هذه المدن الناشئة بقيت ضحية لفيزياء البادية الداهم الذي كان يغزوها من آن لآخر على نحو عواصف رملية خانقة أو موجات بدوية، أو أحياناً على نحو جراد صحراوي جائع لا يبقي ولا يذر. أما بقاء أو تواصل عنصر البادية داخل هذه المراكز الحضرية، فقد عبّر عن نفسه في خطط هذه المدن المقسمة حسب أسماء العشائر والقبائل: فهذا حي تميم، وذاك حي بنو أسد، أو جشعم أو طي، وهكذا.
لم تحاول أمصار العرب المسلمين القادمين من بطون البوادي نزع جلدها الصحراوي على سبيل محاكاة حواضر الرافدين والشام ومصر المتطورة القديمة، بل هي تمسكت بهذا الجلد ونأت بنفسها عما ظهر لسكانها وكأنه “ترف” أو نعومة أهل الكفر والشرك من بقايا الثقافات والتقاليد الدينية القديمة التي هزمها العرب على أرض العراق وبلاد الشام. لذا راحت المراكز المدنية العربية الجديدة تمد جسور الصلة والتواصل مع الصحراء وليس مع بساتين وحدائق الوديان الخصيبة الغنّاء، الأمر الذي قاد إلى سيادة قيم البادية في هذه المدن أو أشباه المدن، بديلاً عن قيم التمدن والاستقرار: وهكذا راح سكان هذه المدن يعرفون بانتساباتهم القبلية وألقابهم العشائرية، ليس فقط بحدود التعريف والهوية، وإنما كذلك بحدود السلوك وأنماطه الفردية والجماعية، حيث هيمنت وحتى الآن قيم البداوة على مدن وسط وجنوب العراق، مثلاً، بديلاً عن قيم المدينة الثقافية المتحضرة، الأمر الذي يفسر دوافع وإرهاصات التمسك بالممارسات البدوية العتيقة كالثأر والانتقام ونصرة أقرباء الدم (العصبية القبلية)، من بين سواها من الممارسات والقيم التي نهى الإسلام عن بعضها، ولكنها بقيت متواصلة تتحرك وتسري تحت “رادار الرقيب المسلم” القادم من المدينة.
قد تكون هذه مداخلة مهمة الآن بقدر تعلق الأمر بما نلاحظه من تشبث الإنسان المديني في المشرق العربي خاصة بقيم الصحراء وبأصولها البدوية التي قد تتناهى إلى “جاهلية” من النوع المخيف الذي يراد تجنبه والحذر منه اليوم.
ربما كانت هذه المداخلة مهمة كذلك من ناحية ضرورات ملاحظة أولي الأمر في الحكومات العربية عملية وأهمية التخطيط الحضري: مصادر المياه، الأنطقة والمساحات الخضراء التي تمنح الإنسان المديني ما يحتاج إليه من صفاء ورواق المدينة، تلك السجايا القابلة للترجمة على نحو علوم وفنون وإبداع، ومدارس وجامعات. كم من مخططينا الحضريين اليوم وضع نصب عينيه أو في أولوياته وجود مكتبة عامة، للنشء وللكبار؟ وكم من هؤلاء فكر بمدارس للموسيقى والباليه في خططه لمدننا القديمة والجديدة؟ هل نتذكر بناء مسارح ودور سينما كافية للأنشطة الاجتماعية في مجتمعات تقيم أعلى الجدران الفاصلة بين الجنسين.
هذه قضايا تستحق الملاحظة وأنشطة تبادل الرأي ما دامت مدننا تستجيب للتصحر والصحرنة، فيزيائياً واجتماعيا على نحو متواصل مخيف.
© منبر الحرية ، 7 ماي /أيار2010

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

كلما واجهت المنطقة العربية مشكلة سياسية مع الغرب تتكرر الدعوة لاستخدام النفط كسلاح استراتيجي. ربما نجاح هذه الآلية – كأحد أدوات إدارة العلاقات الدولية مع العالم الغربى- في عام 1973 هى السبب وراء تلك الدعوات المتكررة. لكن تطورات سوق الطاقة العالمي في العقود الثلاثة الماضية أكدت أن اللجوء لهذا البديل لم يعد ممكنا، وأن البديل الآن لدى الدول المنتجة هو “وطنية الطاقة”.
ولنبدأ أولا بالحديث عما يطلق عليه الأزمة النفطية الأولى، والتي ارتبطت بالتوقف المفاجئ في إمدادات النفط من الشرق الأوسط، وذلك بعد اجتماع وزراء البترول العرب في 17 أكتوبر 1973 لتتفق على تخفيض الإنتاج الكلى للبترول العربى بنسبة 5% مع زيادة التخفيض بالنسبة ذاتها كل شهر وذلك حتى تنسحب إسرائيل إلى ما قبل خطوط يونيو 67، كما قررت ست دول بترولية رفع سعرها بنسبة 70%، وقررت بعض الدول العربية حظر تصدير البترول كلية إلى أي دولة يثبت تأييدها لإسرائيل بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن تلك الأزمة لم تكن المرة الأولى التي يستخدم فيها النفط كسلاح إستراتيجي- فتاريخ القرن العشرين ملئ بالاستخدام السياسى للنفط في إدارة العلاقات الدولية- إلا أن أزمة 73 كانت الأكثر تأثيرا، ليس لكونها جاءت بالأساس من دول ليست غربية أو مهيمنة في النظام الدولي، أو حتى لكونها استمرت لتسعة أشهر، أو حتى لدورها في رفع أسعار النفط من 3 دولار للبرميل (1973) إلى 10-12 دولار للبرميل(1974) أو حتى لدورها في إجبار الدول المستوردة للنفط العربى على دعم القضية الفلسطينية. لكن الأهم هو إصرار -ونجاح-الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على إلغاء أي إمكانية لاستخدام النفط كسلاح استراتيجي في المستقبل من خلال عدة إستراتيجيات أهمها خلق تواجد لها في الدول الرئيسية المنتجة للنفط وخاصة الخليج.
فالوضع الحالي يؤكد أن الدول المنتجة والمصدرة الكبرى لا تسعى للضغط السياسى على الدول الغربية باستخدام النفط كسلاح استراتيجي ولكن بدلا من ذلك لجأت لإستراتيجية مختلفة وهى إحكام سيطرة الدولة على قطاع الطاقة، فيما أصبح يُعرف بوطنية الطاقة Energy Nationalism، والمفارقة المهمة هى أن وطنية الطاقة ليست قاصرة على الدول المنتجة فحسب، بل لجأت إليها الدول المستهلكة أيضا وإن اختلفت الآليات.
إلى جانب الدول المنتجة ترجمت وطنية الطاقة في إحكام الدول المنتجة الكبرى لسيطرتها على قطاع الطاقة كجزء من أمنها القومى وأحد مصادر قوتها داخليا وخارجيا، فـ 80% من مصادر الطاقة حاليا تحت سيطرة الحكومات.
فروسيا كثاني أكبر مصدر للنفط في العالم بعد المملكة العربية السعودية، ارتكزت إستراتيجيتها لأمن الطاقة على سيطرة الدولة والشركات الحكومية على مصادر الطاقة والسيطرة على خطوط الأنابيب الممتدة عبر أراضيها وأراضى جيرانها.
ووفقا للإستراتيجية الروسية يقتصر دور الشركات الدولية على توفير التكنولوجيا ورأس المال بما يساعد الدولة على تعظيم مكاسبها من احتياطاتها من النفط والغاز الطبيعى، بحيث يصبح القرار بيد الدولة بشأن كيف يتم تطوير الاحتياطات ولمن يتم بيع الإنتاج. ويتضح هذا الأمر بالنظر إلى القرار الروسى في أوائل عام 2006 بوقف ضخ الغاز الطبيعى عن أوكرانيا.
الأمر ذاته يتضح في دول مثل فنزويلا من خلال سيطرة الدولة على قطاع الطاقة من خلال شركة النفط الفنزويلية المملوكة للدولة، وكذلك المملكة العربية السعودية.
على الجانب الآخر، فإن الدول المستوردة ورغم اعتراضها على فكرة وطنية الطاقة التي تُطالب بها الدول المصدرة خشية أن تؤدى إلى صراعات في المستقبل فقد لجأت هى الأخرى إلى تبنى وطنية الطاقة وإن كان بشكل مختلف من خلال التركيز على بدائل محلية تجعلها بمعزل عن التهديد بتوقف الإمدادات.  وبرز هذا الأمر بشكل واضح عند النظر إلى السياسة الأمريكية الخاصة بالوقود الحيوي كبديل لمصادر الطاقة التقليدية.
وفي هذا السياق ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن الاعتماد على البدائل البيولوجية للطاقة يُشكّل مشروعها الاستراتيجي القومي القادم. هذا الاقتراب روج له المحافظون الجدد من خلال الترويج لفكرة مفاداها أن تقليل الاعتماد على النفط من شأنه تقليل سعر النفط ومن تم تقل تدفقات أموال النفط لدول الشرق الأوسط. ووفقا لوجهة النظر تلك فإن عائدات النفط المنخفضة سوف تجبر الحكومات لأن تصبح أكثر ديمقراطية. ومن تم فإن تقليل الاعتماد على النفط من شأنه حل مشكلة الأنظمة السلطوية وهو ما دفعهم لتطوير بدائل الطاقة.
فالولايات المتحدة الأمريكية تشهد صراعا بين تيارين فكريين فيما يتعلق بالاقتراب الأفضل للتعامل مع أمن الطاقة. الواقعيون يعتقدون أن النفط سيظل هو الأساس وأن كافة البدائل الأخرى تعتمد بالأساس على النفط وأن كل بديل يأتى ومعه مشاكله وقيوده وأنه رغم وجود بدائل عدة للنفط إلا أنها لن تحقق التوازن المطلوب في سوق الطاقة. ومن ثم فإن من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية ضمان تحقيق الاستقرار في سوق النفط العالمى وتنويع مصادر النفط. على الجانب الآخر، فإن المحافظين الجدد يدافعون عن الطاقة البديلة انطلاقا من أن الاعتماد على النفط في مجالات الحياة المختلفة يأخذ كثيرا من المال والوقت والإرادة السياسية وأن العالم يدخل عصراً جديداً للطاقة يتطلب استجابة مختلفة تختلف عن العصور السابقة.
وبذلك يتضح أن وطنية الطاقة على جانبي الدول المستهلكة والمنتجة كان لها تأثيراتها الضارة على أمن الطاقة العالمي، فإحكام سيطرة الحكومات على قطاع الطاقة من شأنه تهديد قطاع الطاقة على المستوى العالمي، خاصة في ظل سيطرة حكومات فاشلة. كما أن تجربة التفكير في بدائل أخرى كالايثانول كان لها تأثيراتها الضارة، فرغم ما يتمتع به هذا الأخير من مزايا إلا أن خبرة التطبيق في الولايات المتحدة الأمريكية كانت سلبية حيث أدت الزيادة في إنتاج الايثانول بها إلى ارتفاع أسعار الذرة بنسبة 20% خلال عام 2007. إذ أن إنتاج 13 لتر فقط من الايثانول يحتاج إلى 230 كيلو جرام من الذرة. بحيث أوشك العالم على أن يواجه أزمة غذاء كارثية.
وبذلك فإنه لا مجال لضمان تحقيق أمن الطاقة العالمى دون التخلى ولو بشكل محدود عن فكرة “وطنية الطاقة” ليس من قبل الدول المنتجة فحسب ولكن من جانب الدول المستوردة للطاقة أيضا وبما يضمن إيجاد حوار على المستوى العالمى وبما يضمن تحقيق أمن الطاقة.
© منبر الحرية، 28 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20102

بداية لابد من تعريف الهجرة الحالية للشباب في الوطن العربي، حتى يمكننا فهم مسبباتها وآلياتها ودوافعها في عبارات موجزة موحية فنقول: الهجرة بمعناها المتداول اليوم، هي الانتقال من دولة نامية ذات إمكانات وقدرات ضعيفة، إلى أخرى تتوفر فيها إمكانات اقتصادية عالية ومستوى معيشي مرتفع يفتقدهما الشاب المهاجر في بلده.
ولهذا يمكننا القول بأن الهجرة الحالية للشريحة الشابة في الوطن العربي بدأت في السنوات الأخيرة، وبالتحديد بعد الهجرة الواسعة من الريف إلى المدينة في بدايات السبعينيات من القرن الماضي وخاصة في سورية، حيث اصطدام الشباب في حياتهم المدينية الجديدة بالبطالة وزيادة مصاريف المدينة وأعباء المعيشة، لتتحول سريعاً إلى تيار هجرة خارجية توجه فيها الشباب نحو أوربا الغربية بشكل خاص ثم الولايات المتحدة الأمريكية حيث الاقتصاد الحر مزدهر ولا قيود على الحريات الفردية.
وفي وقت ما اكتظت أحياء مدن أمريكا اللاتينية بالمهاجرين العرب الشباب كالبرازيل، والأرجنتين، والمكسيك…الخ. إما هرباً من الاضطهاد الديني أو السياسي أو طلباً لحياة أفضل في هذه البلدان، حيث يمكن أن نعد في البرازيل وحدها اليوم أكثر من عشر ملايين مهاجر عربي. أما في الآونة الأخيرة فقد تغير مسار الهجرة الشبابية من الوطن العربي نحو الغرب، حيث أصبح الشباب يحلمون بمستوى معيشي لائق وبالثروة والمال والجاه وبالخلاص من الضغط الداخلي المرير. ولهذا ازدادت الهجرة اللاشرعية بشكل ملفت للنظر في الآونة الأخيرة وخاصة من كل من مصر، وسورية، ولبنان، والأردن، واليمن، والصومال، وبلدان المغرب العربي، وهي البلدان الأكثر تصديراً للمهاجرين الشباب اليوم.
هذه الهجرة التي تتم اليوم عن طريق شبكات التهريب التي استطاعت بأساليبها الخاصة تهريب ما يقارب الـ 90% من حالات هجرة الشباب العرب إلى الغرب، وإن بدأت تقل في الآونة الأخيرة بسبب معوقات السفر في كل من بلدان الهجرة(الغرب) التي تعمل على الحد من دخول اللاجئين غير الشرعيين إليها، وبلدان المهجر(الوطن العربي)، وذلك بسبب ارتفاع تكاليف الهجرة غير الشرعية على أيدي المهربين ومخاطر الطريق البحري ومشاكله.
وعلى العموم يمكن إجمال أسباب هجرة الشباب العربي إلى عدة عوامل أساسية وهي:
1- الزيادة السكانية الكبيرة، والبطالة الناشئة عن الاقتصاد العام الحكومي المغلق والتي طالت مختلف الشرائح الشبابية ومن أعمار مختلفة، ثم الحالة النفسية وحالات الاكتئاب والضغط النفسي التي أصبحت تسيطر على فئة للشباب. فالشاب الذي لا يجد في جيبه ثمن حذائه وقميصه وأحياناً دخانه – إن كان مدخناً- يشعر بالحرج والدونية في مجتمعه فيهاجر مهما كان ثمن هجرته.
2- عدم وجود فرص عمل كافية لاستيعاب الطاقات الشبابية وتحمسهم للعمل والإنتاج.
3- الضغوطات السياسية القمعية والنزاعات العسكرية والسياسات الاقتصادية المتبعة من قبل الحكومات المتعاقبة في البلدان العربية، وعدم الاهتمام بالشباب من قبل هذه الحكومات كانت هي أيضا من جملة الأسباب التي أدت إلى الهجرة غير الشرعية المتفاقمة بين شباب الوطن العربي اليوم.
4- رفع سقف القبول بالجامعات الوطنية، بالإضافة إلى اضطراد ارتفاع أسعار المواد الأساسية بشكل جنوني لافت.
5- ظهور حالات من الازدهار الاقتصادي السريع بين بعض الأسر التي هاجر أحد أفرادها، ثم الانبهار بالحياة الغربية والحريات (الليبرالية) المتوفرة فيها والتي تلبي طموحات الشباب المتحمس، وخاصة إذا كان الغرب هو الولايات المتحدة الأمريكية التي تبهر حتى الأوربي نفسه بأسلوب حياتها ومعيشة سكانها.
6- وأخطر أنواع الهجرة، هي ما نسميه بهجرة العقول أو الأدمغة أو أصحاب الشهادات العليا، لأن أوطانهم لاتوفر لهم مجالات تتناسب ومستوى ما يحملونه من شهادات سواء حصلوا على هذه الشهادات في بلدانهم أو من الخارج. لأن بلدانهم تخسر عليهم ملايين الدولارات، بالإضافة إلى أنها تضطر لاستقدام معادليهم من الدول المتقدمة، فيشكلون بذلك خسارة كبيرة لدولهم وبلدانهم. ولذا يجب توفير العمل لهذه العقول وأصحاب الكفاءات مهما كلف الثمن بدلاً من تركهم يهاجرون مرغمين.
ولكننا بدأنا نلمس تقلص تيار الهجرة بشكل ملفت اليوم، وخاصة بعد القيود التي فرضها الغرب وإصدار الأوربيين لما سمي بـ(الورقة الخضراء) التي ترسم السياسة الأوربية العامة فيما يتعلق بالهجرة من الدول النامية، والتي تنص على عقلانية الهجرة، أي الاعتماد على الهجرة الشرعية لتلبي وحدها متطلبات التنمية الأوربية وسد حاجات سوق العمل الأوربي، على أن يكون المهاجرون المعتمدون من أصحاب الأدمغة والكفاءات وممن هم أكثر دراية وتأهيلاً في مجالات العمل المختلفة. وقد أشارت التقارير إلى أن الهجرة تنتشر بشكل خاص بين شباب الوطن العربي بين من هم في سن المراهقة والذين لايجدون عملا محترما في أوطانهم ويتعرضون لمضايقات وقيود العمل. وبالفعل فقد أشارت تقارير الأمم المتحدة ومنها تقرير(التنمية والجيل القادم) إلى أن المهاجرين من البلدان العربية أومن البلدان النامية هم ممن تتراوح أعمارهم ما بين (12- 24) سنة.
ولكن ما هي نتائج هذه الهجرة على الصعيدين الداخلي والخارجي وعلى المنطقة العربية عموماً؟ لاشك أن المهاجرين الشباب سرعان ما يألفون أجواء الحرية السائدة في الغرب بعيداً عما هو سائد في بلدانهم من كبت وفساد وقمع للحريات، وسرعان ما يدركون أن عملهم في بلد المهجر يندرج ضمن  مساهماتهم في رفع مستوى المعيشة لأهاليهم بشكل خاص وفي بلدانهم بشكل عام، لما يرسلونه من أموال إلى أهلهم وذويهم حيث ترتفع العمائر وتزدهر البلدان، بالإضافة إلى التخفيف عن كاهل دولهم عبء توفير العمل لهذا السيل المتدفق من الطاقات الشبابية الطامحة إلى العمل والتطلع نحو بناء حياتها ومستقبلها. كما تؤدي هجرة الشباب في جوانبها الإيجابية إلى التخفيف من المشاكل والمنازعات الاجتماعية في المدن والبلدان العربية…الخ. ولكني أرى أن من الأفضل للبلدان العربية الإقتداء بالغرب، والعمل على انتفاء مسببات الهجرة، وترسيخ دعائم اقتصاد متين منفتح،  من خلال الاستفادة من طاقاتها الشبابية وفتح مجالات العمل أمام الشباب واحتضانهم بكل أريحية وحرية والعمل على تشغيلهم والإستخدام الأمثل لهم، أي بما معناه الانفتاح على الحريات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية…الخ، حتى يمكن تفجير طاقات الشباب الإبداعية، والاستفادة منهم في بناء أوطانهم العربية والتي هي بأمس الحاجة إليهم بزنودهم وبأيديهم.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

لا يكاد يوجد تحدٍّ يواجه اليمن، ويُلقي بظلاله المخيفة على حاضرها ومستقبلها، يُماثل التحدي الذي يفرضه شُحّ موارد المياه واستنزاف المخزون المائي للبلاد. وبالتأكيد فإن مُشكلة المياه التي تعانيها اليمن تظل الأخطر بما لا يقاس بأي مشكلات أخرى تواجهها، إذ أن لها أبعاداً وجودية كثيرة متداخلة وفائقة التعقيد كما العواقب والتّبِعات. فهناك بُعد قِلّة المياه قياساً بعدد السكان المتزايد والاحتياجات المتواترة لهذه السلعة الحيوية المرتبطة بكل مناحي حياتهم، وهناك بُعد القدرة على الوصول بشكل مستدام إلى مياه شرب نظيفة، وهناك بُعد متعلق بمعضلة تلوث المياه والتحديات الناجمة عنها.
إننا بالطبع لا نحتاج إلى التذكير بأهمية الموارد المائية للإنسان وللحياة برمتها، فهذا من بديهيات الأمور وطبائع الوجود، لكن ما نحتاج إليه حتماً وباستمرار هو دقّ ناقوس الخطر والتنبيه إلى العواقب الوخيمة الناجمة عن تجاهل مظاهر مشكلة فقدان الأمن المائي، لاسيما في بلدٍ يُصنّف ضمن أربع دول تواجه خطر الفقر المائي على المستوى العالمي ويُعدّ من بين الدول العشر الأفقر مائياً في العالم، إذ لا يتعدى نصيب الفرد، بحسب منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، 150 متراً مكعباً في السنة، بينما يحصل مثيله في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على 1250 متراً مكعباً سنوياً، وبالمتوسط العام الدولي 7500 متر مكعب. وإذا استمر تناقص نصيب الفرد من المياه بالوتيرة الحالية في ظل تنامي مضطرد لعدد السكان (يبلغ معدله السنوي 3.5%)، وذلك بالتوازي مع زيادة غير متكافئة في تنمية الموارد المائية، فإن الأمور ستسير نحو الأسوأ لا محالة.
لقد عمل اليمنيون منذ القِدم على ابتكار وسائل مختلفة تساعدهم على التكيّف مع شحّ الموارد المائية في هذه الأرجاء، ولذا ابتكروا نظام المدرجات الزراعية على سفوح الجبال ودأبوا في الحفاظ عليها من أجل استغلال مياه الأمطار بالشكل الأمثل، كما قاموا أيضاً ببناء السدود وحفر القنوات الخاصة لسحب مياه الفيضانات والسيول. لكن هذه الإستراتيجيات القديمة لإدارة المياه أصابها التصدّع في هذا العصر بسبب الزيادة غير المنضبطة في عدد السكان، ولم تعد مصادر المياه المتجددة تلبي حاجة اليمنيين السنوية من الماء، والتي زادت من 2.9 مليار متر مكعب في مطلع تسعينيات القرن العشرين لتصل إلى 3.4 مليار متر مكعب في الوقت الراهن. فضلاً عن أن التوزيع الديمغرافي للسكان لا يتوافق مع توزع مصادر المياه، حيث يتمحور التركيز الاقتصادي والأنشطة التجارية والكثافة السكانية في مناطق تفتقر إلى تلبية الاحتياجات المائية والمنزلية لسكانها، ناهيك عن متطلبات الزراعة والرعي والأنشطة الأخرى.
وعلى الرغم من سعي الحكومة اليمنية إلى القيام بواجبها تجاه مواطنيها في توفير المياه، لكنها حتى اللحظة لم تستطِع تغطية احتياجات السكان في المدن سوى بنسبة ما بين 56% إلى 60% ونسبة تصل ما بين 40% و45% من احتياجات السكان في الأرياف. وهذا لا يعني أن نسبة 40% من سكان المدن لا يحصلون على المياه، ولكن لا يحصلون عليها عبر المشاريع الحكومية وإنما عبر مشاريع للقطاع الخاص.
وتزداد قضية الأمن المائي تعقيداً في ظل تفاقم مشكلة تلوث المياه في معظم أرجاء البلاد. ويعد سوء الصرف الصحي، وعدم توفر محطات معالجة المياه العادِمة، وكثرة استعمال المبيدات والأسمدة ومخلفات المعامل والمصانع من أهم أسباب تلوث المياه في اليمن. ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة عام 2008 تحت عنوان “مياه الشرب والصرف الصحي”، فإن 34% من السكان يحصلون على مياه شرب غير مُحسّنة (آبار وينابيع غير محميّة وعربات محمّلة بخزانات صغيرة وحاويات متنقلة ومياه سطحية).
وبالنظر إلى كون اليمن بلد زراعي وريفي تاريخياً، فإن مشكلة ندرة المياه فضلاً عن تلوث نسبة لا يستهان بها من الكمية المتوفرة منها، أخذت تُلقي بظلالٍ ثقيلة على مستقبل الزراعة في البلاد. فوفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، تقدر مساحة الأرض التي يمكن زراعتها في اليمن بحوالي 3.6 مليون هكتار أي حوالي 6.5% من مساحة البلاد، إلا أنه وبسبب النقص الحاد في المياه فإن إجمالي المساحة المزروعة لا تتجاوز 1.6 مليون هكتار أي حوالي 2.9% فقط من المساحة الإجمالية لليمن. ومن المعروف أن الزراعة ظلت تؤمن للأسرة اليمنية الاستقرار والأمن الغذائي، لكن النزوح المستمر وحركة الهجرة من الأرياف إلى المدن ومن أهم أسبابها ندرة المياه وشحتها، أجبرت العديد من سكان الريف على ترك النشاط الزراعي والتوجه إلى ممارسة أنشطة اقتصادية أخرى بديلة.
وفي ذات الإطار، يبرز انتشار القات وزراعته كمشكلة وطنية كبرى تساهم بقوة في استدامة حالة الفاقة المائية التي تعاني منها اليمن وتجذّرها. فالقات، وهو من الزراعات المروية من المياه الجوفية والذي يزرع 85% منه في محافظات صنعاء وعمران وذمار وإب وحجة، يستحوذ على ما يقرب من 30% من كمية المياه المستخدمة في الزراعة على مستوى البلاد. وقد ارتفع الطلب على القات في العقود الثلاثة الأخيرة بسبب الارتفاع النسبي للدخول والتوسّع في حفر الآبار الجوفية؛ وتبعاً لذلك توسعت المساحة المزروعة بأشجار القات عاماً بعد آخر وهي تنمو حالياً بين 10% و15% سنوياً، وطبقاً لبعض المصادر، فإن عدد أشجار القات في اليمن يصل إلى حوالي 260 مليون شجرة تقطف في السنة الواحدة بين 3 و4 مرات مع ما يستهلكه هذا من كميات مياه مُعتبَرة في كل مرة.
والمؤسف حقاً أن الحكومات المتعاقبة، وباعتراف كبار مسئوليها، ساهمت في تقديم معونات لاستغلال المياه لزراعة القات عن طريق بيع وقود الديزل بأسعار منخفضة، وبتكلفة سنوية تقدر بـ 3.5 مليار دولار أو بنسبة 14% من إجمالي الناتج المحلي، والذي بدوره أثر في نضوب المياه في أراضيها الجوفية، وكانت النتيجة مدمرة في صنعاء وما حولها. فقد كان المزارعون قبل أربعة عقود يستخدمون المعاول لحفر آبار المياه، لكنهم الآن يستخدمون الحفارات لتحفر أكثر من ألف قدم في باطن الأرض قبل أن تصل إلى المياه الصالحة للشرب دون معالجة ارتفاع الطلب. فضلاً عن أن الحكومة، كما أعترف وزير المياه والبيئة في أحاديث صحفية مؤخراً، لا يمكنها تطبيق قوانين استخراج المياه والري على كبار المستهلكين، مثل زعماء القبائل والمشايخ وضباط الجيش والأثرياء حتى إن حاولت، مؤكداً أن 99% من عمليات استخراج المياه تتم من دون ترخيص.
باختصار، فإن اليمن تعاني من انكشاف مائي يبعث على القلق بالفعل، وهذا الانكشاف لابد من معالجته بأسرع وقت ممكن؛ فهناك قليلٌ من المياه يقابله انفجار سكاني كبير، ولا شك في أن آخر قطرة ماء ستصبح قيمة للغاية. لقد عملت السياسات الحكومية جاهدة خلال السنوات الماضية على ردم الفجوة المائية التي تعاني منها البلاد، لكنها لم تعدُ – في المحصلة – أن تكون حلولاً مؤقتة، وفي أحيان كثيرة عقّدت المشكلة عوضاً عن حلّها. فعلى سبيل المثال، لجأت الحكومة وما تزال إلى بناء السدود في الكثير من المناطق بالرغم من أن سياسة بناء السدود – كما تبين للمسئولين أخيراً – ليست مجدية في بلد حار وجاف مثل اليمن، وحيث ينتهي الحال بالمياه إلى التبخّر. والحقيقة الجديرة بالإشارة، في هذا السياق، أن ما تحتاجه البلاد ليس بناء المزيد من السدود بل إقامة منشآت مائية تتولى تحويل المياه دون التفريط بحقوق الملكية في المناطق المستفيدة.
ويجادل البعض بأن مشكلة المياه في اليمن تتمثل في الزراعة، وأنه إذا استطاع كل من الحكومة وعموم أفراد المجتمع ترشيد استخدام الماء في الزراعة ستكون البلاد قد قطعت شوطاً كبيراً في حلّ هذه المشكلة, فالمهم هنا – كما يعتقد هؤلاء – هو كيف نُدير الطلب والعرض على المياه بطريقة صحيحة تؤدي إلى الاستخدام الأمثل للمياه. وحيث أن حوض صنعاء هو المهدد الأول بالجفاف، فإن هناك من يرى أن أفضل طريقة للتعامل مع أزمة المياه في الحوض تكمن في تخفيض استهلاك المياه قدر الإمكان، والحدّ من التوسع الزراعي، لاسيما في الزراعة المروية. وقد استبعد العديد من الخبراء خيار تحلية مياه البحر ونقلها إلى صنعاء كحل للمشكلة، لأنه في نظرهم خيار مستحيل فنياً واقتصادياً، لكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أنه قابل للتحقيق بالنسبة للمدن الساحلية كالمكلا وعدن والحديدة وتعز.
وفي اتجاه موازٍ، تركز توصيات خبراء الموارد المائية والخاصة بطرق مواجهة أزمة المياه في اليمن على تولي الحكومة إدارة الموارد المائية المتوفرة بكفاءة أكبر، واعتماد اللامركزية في إدارة هذه الموارد، والاستفادة من مياه الصرف الصحي بعد معالجتها، والاهتمام بالزراعة المطرية والحفاظ على المدرجات الزراعية، واختيار محاصيل زراعية تتناسب مع مخزون المياه المتوفرة في كل حوض، مع ضرورة إدخال التقنيات الحديثة في الرّي الزراعي لتقليل الهدر، والسيطرة على العوامل الملوثة للمياه، وتوظيف البعد البيئي في التخطيط الحضري، ووضع تشريعات تلزم المباني الإنشائية بمعايير ومواصفات تراعي البعد البيئي وتستغل مياه الأمطار. وأخيراً وليس آخراً، رفع الوعي المجتمعي بمشكلة المياه من خلال وسائل الإعلام.
© منبر الحرية، 12 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

اتبعت تونس في تطورها خال العقدين الماضيين مسارين مختلفين تماما. ففي المجال الاقتصادي، انتهجت سياسة انفتاح مرفقة بإطار مؤسساتي يشجع المبادرة الحرة و يحترم على العموم حقوق الملكية مما نتج عنه تحقيق نتائج اقتصادية لا بأس بها (حوالي 5% كمعدل نمو خلال هذه الفترة). بالمقابل و على الصعيد السياسي تضاءلت الآمال بحدوث أي تحول ديمقراطي بهذا البلد و ذلك نظرا لتزايد مسلسل التضييق على الحريات السياسية و المدنية. إنها إذن حالة جديدة لتلك الأنظمة الغير الديمقراطية التي تنجح في تحقيق معدلات نمو اقتصادية جيدة.
لكن، و حسب عالم الاجتماع الأمريكي سيمور مارتن لييسيت فإنه كلما ارتفع الدخل الفردي في بلد ما و ارتفع مستوى التربية و التعليم لدى ساكنته و ازدادت درجة انفتاحه الاقتصادي إلا و ظهرت بوادر حدوث تحول ديمقراطي به. لأن هذا يوسع من انتشار الطبقات الوسطى داخل المجتمع. تلك الطبقات التي غالبا ما شكلت المحرك الأساسي لمسارات التغيير السياسي و الاقتصادي. في تونس و رغم تحقيق كل تلك الشروط الاقتصادية لا نلاحظ ظهور أية بوادر لتحول ديمقراطي. لماذا إذن لا يؤدي النمو الاقتصادي إلى تحول ديمقراطي في هذا البلد؟ و ما هي الأسباب التي تمنع الطبقات الوسطى لحد الآن من الدفع في اتجاه دمقرطة النظام؟
هل النمو الاقتصادي المحقق غير كافي؟
من الممكن أن يكون مستوى النمو الاقتصادي الذي وصلته تونس غير كافي للدفع في اتجاه تحول ديمقراطي. لأنه، و رغم أن ما ثم القيام به لحد الآن يسير في الاتجاه الصحيح لكن يبدو أن الاقتصاد التونسي لازال في حاجة إلى إصلاحات ليبرالية أكثر عمقا. فهذا التقرير الدولي حول حقوق الملكية لسنة 2009 في المرتبة 40 عالميا (الأولى في المغرب العربي و الثانية في إفريقيا). و هذا تقرير المنتدى الاقتصادي لدافوس حول التنافسية يصنف الاقتصاد التونسي كأول اقتصاد في إفريقيا و المغرب العربي وفي المرتبة 35 عالميا متجاوزا بذلك دولا أوربية كالبرتغال و إيطاليا و اليونان.
لكن في حقيقة الأمر لازالت هناك ثغرات تهم مجال القضاء الذي يعتبر ذا أهمية قصوى بالنسبة لحقوق الملكية و للتنافسية. و أي تحسن يطرأ على مستوى أداء هذا القطاع قد يؤدي إلى تحقيق نمو اقتصادي أكبر. من جهة أخرى حقق قطاع التربية و التعليم بتونس نتائج لا بأس بها حيث أن برنامج الأمم المتحدة للتنمية لسنة 2008 يتحدث عن نسبة 74.3 % من التونسيين الذين يجيدون القراءة و الكتابة و هي نسبة تعتبر جيدة على الصعيد الإفريقي لكن مقارنة مع الدول المتقدمة فإنه لابد من بدل المزيد من الجهود لتحسين الأداء بهذا القطاع.
إذن هل يمكن أن نقول أن النمو الاقتصادي بتونس لم يصل إلى المستوى الذي يسمح بحدوث تحول ديمقراطي؟ تتبعنا لتجارب دول أخرى قد يبعد هذه الفرضية أو على الأقل يضعف من أهميتها، فكوريا الجنوبية حققت تحولا ديمقراطيا في مرحلة كان فيها دخل الفرد أقل من مستواه الحالي في تونس(1460 دولار مقابل 4000 دولار).
الطبقات الوسطى و مساندة الوضع القائم.
لقد كان للطبقة الوسطى دور تاريخي فاعل في التحول الديمقراطي(دور بورجوازية المدن في توطيد الديمقراطية في أوربا الغربية). لقد ساندت هذه الطبقة التغيير الديمقراطي لأنه يمنح إطارا سلميا يسمح لها بالحفاظ على مكتسباتها الاقتصادية و يبعد خطر الميول الثورية للطبقات الفقيرة.
أما في تونس فيبدو أن الغالبية قد استفادت من النمو الاقتصادي للعقدين الأخيرين. في هذا الإطار تتحدث التقارير الرسمية عن 80% من العائلات التي تمتلك سكنها. كما أن مظاهر البؤس و التهميش تخف حدتها في العاصمة التونسية مقارنة مع  المشاهد التي قد نجدها في القاهرة أو الدار البيضاء.
إذن قد يكون لهذا الإطار الاجتماعي الذي تغيب فيه الفوارق الفاحشة و يتمتع فيه المواطن نسبيا بحقوقه الاقتصادية و الاجتماعية دور في توطيد مساندة شرائح من المجتمع لهذا النظام السياسي حتى و لو لم يكن ديمقراطيا. ففي الوقت الذي لا يكون فيه النظام الديمقراطي هو الوحيد الذي يمنح السلم الاجتماعي. فإن الطبقات الوسطى قد لا تطالب به خاصة إذا كان يحمل في طياته أخطار صراع مسلح.
وضعية جيوسياسية غير مستقرة قد تشجع على الاستبداد
منذ وصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى السلطة سنة 1987 تعرض نظامه لمعارضة شديدة من طرف حزب النهضة الإسلامي. كما أن تفاقم الصراع بين الإسلاميين والنظامين المصري و الجزائري قد أدى بالنظام إلى تقوية سلطته مستغلا بذكاء أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 و تفجير جربة سنة 2002 كي يقدم نفسه كواق ضروري أمام المد الإسلامي. الشيء الذي جعله يضمن مساندة أغلب الأنظمة الغربية بالإضافة إلى شرائح عديدة من المجتمع التونسي المرعوبة من المشاهد الدموية التي كانت تأتي من الجزائر طيلة عقد التسعينيات. و هنا لابد أن نؤكد على أن تنظيم انتخابات حرة و ما نتج عنها من حرب أهلية بالجزائر لم يعطي صورة جيدة عن التحول الديمقراطي داخل الأوساط التونسية بما فيها الطبقات الوسطى. هذه الأخيرة التي فضلت الاستقرار السياسي الذي يضمن لها مكتسباتها الاقتصادية ولو في ظل نظام غير ديمقراطي على تحول ديمقراطي مجهول العواقب قد يحمل في طياته صراعا مسلحا. و السؤال المطروح هو هل سيظل هذا الاختيار قائما حتى لو تغيرت الظروف الاقتصادية و السياسية بتونس؟هل يمكن لوضع جهوي أكثر استقرارا أن يؤدي بالنظام إلى التوجه نحو انفتاح سياسي؟ هل يمكن لمستوى أكبر من النمو الاقتصادي أن يؤدي إلى التحول الديمقراطي المنشود؟ المستقبل وحده كفيل بالإجابة عن كل هذه الأسئلة.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

تحتدم المناقشات والمجادلات هنا وهناك، عبر وسائل الإعلام في عالمنا العربي بخاصة، حول التقارير السنوية التي تصدر عن الأمم المتحدة بشأن التنمية البشرية في البلدان العربية. ثم ما تلبث هذه المناقشات وأن تدور دوراناً عجيباً لتستقر على نقاط ومحاور لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تقلب أو تغير الصورة القاتمة التي ترسمها التقارير المشار إليها. بل أن طبيعة الإستقبال العربي المثقف ونصف المثقف لهذه الخلاصات الأممية المشحونة بالدلالات والنذر المخيفة، بالنسبة لمستقبلنا ولمستقبل أجيالنا الصاعدة، تكرس ذات الإختلالات والإخفاقات التي تقدمها هذه التقارير على نحو رقمي لا مجال فيه للشكوك وللظنون، حتى لو تركنا هامشاً من نوع ما للمبالغات وللـ”تدخلات” الغربية في صياغتها. لذا لم تكن دعوة صديقي الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان لنشر هذه التقارير من أجل إطلاع العالم، العربي خاصة، على حقائقها “المريرة” دعوة “مشبوهة” كما يحلو للبعض أن يدّعي، ذلك أننا يجب أن نرى أنفسنا بالمرآة بغض النظر عن إرهاصات فريدمان أو دوافع جامعي البيانات ومحرري التقارير موضوع المناقشة.
لا مراء من أن مثل هذه التقارير تصدر عن أهم هيئة دولية معترف بها عالمياً ومعتمدة من قبل جميع الدول العربية كسلطة عالمية مستقلة ومحايدة، الأمر الذي يجعل خلاصاتها (حتى بإفتراض وجود “التشويه” المتعمد وليّ الحقائق المشبوه) صحيحة بنسبة عالية جداً ربما تتجاوز التسعين بالمائة. وهذه فرصة لنا في العالم العربي لكي نراجع الذات ونحتكم إلى النقد الذاتي الذي قد يكون قاسياً أحياناً، آخذين بنظر الإعتبار إخفاق أغلب الحكومات والمنظمات الإقليمية العربية في تجهيز مثل هذا التقرير لصانع القرار السياسي ولجمهور القرّاء الصغير نسبياً في عالمنا الذي هاجر القراءة والكتابة إلى إغتراب الفضائيات الرخيصة والأغاني والفنون المتدنية.
ربما لا تعرف كتل كبيرة من المواطنين في الدول العربية المتباعدة معنى “التنمية البشرية”، أو أنها تجهل أبعادها الإستراتيجية والإقتصادية والإجتماعية الحقيقية. ولكن ينبغي، على أقل تقدير، ملاحظة أن مفهوم التنمية البشرية يصب في فكرة إحالة الإنسان “الخام” إلى إنسان مثقف أو إلى إنسان يمتلك من المهارات ما يمكنه من أن يكون عضواً نافعاً مفيداً في المجتمع، بدلاً من أن يبقى “عالة” عليه، الأمر الذي يعرّض هذا الإنسان لمزالق الإنحراف والجريمة واللاجدوى وحتى إلى “البطالة المقنعة” المتفشية في الأقطار العربية التي يرنو فيها الناس لأن يكونوا مدراء ورؤساء مؤسسات جميعاً، إعتماداً على المستورد والوافد من أصحاب المهارات الصناعية والزراعية الأجانب، الأمر الذي يؤول إلى إستهلاك مبالغ مهولة من مدخولاتنا الإقتصادية الوطنية. لذا تشكل العمالة الوافدة، خاصة تلك المستقدمة من دول أجنبية، دالة واضحة المعالم على إخفاق أغلب أنظمتنا التعليمية والتربوية والمهنية والجامعية التي تتكاثر على نحو مدارس وكليات أنيقة كـ”الفطر” عبر مدننا وقرانا ولكن بلا جدوى، حيث تكون المعطيات أو المخرجات في أغلب الحالات نوعاً من “الأمية المقنّعة” التي تقدم لنا خريجين لا يقرأون ولا يكتبون. هذا ما يفسر إنحسار حركة التأليف والإبداع وضآلة أعداد ونوعية المطبوع والمقروء والمكتوب بأيدٍ عربية. أما إذا أراد المرء أن يتساءل عن “تسويق” المنتج الثقافي العربي إلى القاريء العالمي، فإن هذا نوع من الأحلام الوردية التي قد لا تتحقق قط، بإستثناء ثلاث أو أربع حالات شهدت قبولاً دولياً لكتّاب عرب هم من بقايا الأنظمة التربوية القديمة التي يحلو للبعض الإشارة إليها بتعبير الـ”رجعية”. ويبدو أن الخلل الأخطر الذي تعاني منه العديد من الدول العربية لا يتمثل فقط في أن الجميع يريدون أن يكونوا مدراءً وقادة إداريين، بل يتمثل كذلك في غياب مؤسسات التعليم المهني ومؤسسات المعاهد الفنية التقنية التي تصنع الفئة أو الحلقة الوسطية في بنية الإنتاج الصناعي والزراعي والتجاري، الأمر الذي يفسر فتح الأبواب واسعة لإستقدام المهارات الأجنبية، من الفنيين الجيدين إلى المربيات الجاهلات. إن مشكلة أنظمتنا التعليمية والتربوية والمعرفية تتبلور في أن الحكومات العربية لا تدخر جهداً ولا تمنع الأموال عن بناء المدارس وتأسيس الجامعات، مهتمة بـ”الكم” بدلاً من “النوع”، حيث يغرم القياديون التربويون والجامعيون بعملية تقديم أرقام أعداد الخريجين من هذه المدارس والجامعات إلى ولاة الأمر الذين يطلعون عليها ويسعدون بها نظراً لتزايد هذه الأعداد ومضاعفتها. ولكن أن يسأل المرء عن مستوى هؤلاء الخريجين وهل يمكن أن يقارنوا حرفياً بأقرانهم من خريجي المدارس والجامعات في اليابان أو ألمانيا، فهذه قضية أخرى تثير القلق وكوامن الحذر. هنا يكمن مأزق الجامعة أو المؤسسة الأكاديمية العربية التي تُخرّج أطباء لا يعرفون سوى الأسبرين ومهندسين بلا مهارات عملية وخريجي لغات أجنبية لا يقرأون سوى العربية، كما يحدث في العديد من الجامعات والمدارس !
لذا كانت النتائج مأساوية بحق: فقد تحولت العديد من مجتمعاتنا المزركشة بالشهادات والدرجات العلمية الأولية والعليا إلى مجتمعات إستهلاكية بدلاً من أن تكون مجتمعات إنتاجية، حسب معايير أعداد الكليات والمدارس التي تفتحها الحكومات العربية حتى في القرى النائية. وبدلاً من أن ينتج حملة الشهادات الأولية والعليا الكتب التي تخاطب الجمهور وتصنع الثقافة، لم نزل نعاني من “عقدة الخواجة” في جميع حقول الثقافة المحلية، بعد أن كانت الثقافة العربية الإسلامية هي منبع الثقافات العالمية في القرون الوسطى، عبر العصر العباسي خاصة. حتى في حقول الموسيقى والغناء والفنون العادية التي تغزو عقول أبناءنا وبناتنا من النشء والشبيبة، يبقى الإنتاج نمطاً ضعيفاً من محاكاة الفنون الرخيصة الموجودة في دول العالم الأخرى. لقد سدت السبل أمامنا، وأغلقت الأقدار أبواب الإبداع والإبتكار بدرجة تثير المخاوف والقلق: المخاوف من تواصل الإندفاع إلى الإستهلاك، والقلق من مستقبل خال من الإيحاء ومن المبادرة الحضارية والثقافية.
لماذا، إذاً، يميل بعض المعلقين العرب لأن ينحي باللائمة على الدول الغربية وعلى إسرائيل لتبرير تردي معطيات التنمية البشرية العربية. إن تقارير الأمم المتحدة أعلاه تقدم لنا مرآة لرؤية الذات ولمراجعة كل ما يشوب وجهنا من كلف وبثور يعكس ما نعاني منه في دواخلنا من أمراض إجتماعية وتردي ثقافي. ولكن رؤية الحقيقة المؤلمة عبر المرآة تذكرنا بشاعرنا العربي الكبير الحطيئة الذي لم ينجُ أحد من هجائه اللاذع، حتى إذا ما رأى صورة وجهه معكوسة عبر سطح الماء في بركة، هجا نفسه ولعن صورته بأقبح الأوصاف. إن إحالة مشاكلنا التربوية والتنموية إلى “الآخر” هي أسهل وأسرع الطرق للتملص من المسؤولية التاريخية: فهل منعت الإدارة الأميركية حكومة عربية من أن تفتح جامعة أو كلية رصينة، أم أن إسرائيل فجرت الثانويات والإعداديات المهنية التي تخلق أجيالاً من المهنيين والحلقات الوسطية المهمة في العملية الصناعية ؟ هذا كلام مردود، ذلك أن الدول العربية تمتلك من الموارد والقدرات الطبيعية الخام ما يجعلها قادرة على مواكبة العديد من دول العالم المتسابقة اليوم في مضمار التنمية البشرية. الخلل ليس في “الآخر” ( الضحية دائماً) وإنما الخلل يقبع في قصر النظر وفي الميل إلى تقديم الأرقام لولاة الأمر، بدلاً عن تقديم الحقائق ومستويات التعليم والتربية كما هي وكما ينبغي أن تكون.
© منبر الحرية، 26 يوليو/تموز 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018