قبل فترة زمنية قصيرة، أجرى مجلس بلدة البورغ، وهي بلدة صغيرة في إقليم ملقة الإسباني، استفتاء بين سكان البلدة البالغ عددهم ألف نسمة. طُلب من المواطنين الاختيار بين بديلين اثنين: الإنسانية أو الليبرالية الجديدة. جاءت نتيجة الاستفتاء 515 صوتاً للإنسانية و4 أصوات لليبرالية الجديدة. منذ ذلك الحين، لم أستطع إبعاد تلك الأصوات الأربعة عن تفكيري. ففي وجه تلك المعضلة الدرامية، لم يتردد أولئك الفرسان الأربعة في التصدي للإنسانية باسم تلك الفزّاعة المرعبة، المتمثلة بالليبرالية الجديدة. هل كانوا أربعة مهرجين أو أربعة حكماء؟ هل كان ذلك من قبل النكتة “البورجية”، أو أنها كانت الإشارة العاقلة الوحيدة في ذلك الاستفتاء الهزلي؟
وبعد ذلك بفترة ليست بطويلة، عقد مؤتمر دولي في شياباز ضد الليبرالية الجديدة، بدعوة من القائد ماركُس، بطل آخر زمان في السياسة الغربية التافهة، التي تديرها وتُسيرها وسائل الإعلام. كان من بين الحضور عدد كبير من شخصيات هوليوود اللامعة، وصديقي ريجس دبريه الذي اعتنق الديجولية متأخراً، ودانيال ميتران، أرملة الرئيس فرانسوا ميتران الدائمة، والذي أضفى عليها بماركة اشتراكية. تلكم كانت أحداث طريفة، ولكن من الخطأ الجسيم إهمالها كرفرفات لا قيمة لها في سجل البلاهة الإنسانية. وفي الحقيقة، فإنها تمثل الأبعاد المتفجرة لحركة سياسية وأيديولوجية شاسعة، متجذرة بصلابة، في قطاعات على اليسار والوسط واليمين، وموحدة في شكوك عميقة تجاه الحرية كأداة لحل قضايا الإنسانية. لقد بنوا مخاوفهم في شكل شبح جديد أطلقوا عليه اسم “الليبرالية الجديدة”. وفي مجمل التعابير الشائعة التي يستخدمها علماء الاجتماع والسياسة، فإنها تعرف كذلك بأنها “الفكر الوحيد”، كبش الفداء الذي تعلق على شماعته الكوارث الحالية والماضية من التاريخ العالمي.
أساتذة ذوو عقول كبيرة، في جامعات باريس وهارفارد والمكسيك، ينتفون شعورهم وهم يحاولون أن يثبتوا بأن الأسواق الحرة لا تخدم أبعد من جعل الغني أكثر غنى والفقير أكثر فقراً. إنهم يقولون لنا بأن التدويل والعولمة لا يخدمان سوى الشركات الضخمة عابرة القارات، وتسمح لهما “بعصر” البلدان الناشئة إلى درجة خنقها، وأنها تُدمرُ الطبيعة الكونية تدميراً تاماً. لذا، فلا عجب أن نرى مواطني بلدة البورغ الجهلة، أو مواطني شيابان، يعتقدون بأن العدو الحقيقي للإنسانية—المُدان بكافة الشرور، من معاناة وفقر واستغلال وتمييز وإساءة وجرائم ضد حقوق الإنسان، التي ترتكب في القارات الخمس، ضد ملايين البشر، هي تلك الكائنة المدمرة التي تعرف بالليبرالية الجديدة. إنها ليست أول مرة في التاريخ أن ما أسماه كارل ماركس بالصنم—وهو بناء اصطناعي ولكنه في خدمة مصالح ملموسة جداً—قد اكتسب استمرارية، واصبح يثير مثل هذا التمزيق في الحياة، مثل الجنِّي الذي أطلق بشكل عابث غير حكيم إلى الوجود، عندما فرك علاء الدين المصباح السحري.
إنني أعتبر نفسي ليبرالياً، وأعرف أناساً كثيرين ممن هم ليبراليون، وغيرهم كثر ممن هم غير ذلك، ولكن، وعلى امتداد تاريخ طويل من العمل يبدو طويلاً، فإنني لم أر ليبرالياً جديداً واحداً. ماذا يمثل الليبرالي الجديد؟ هو ضد ماذا؟ وعلى النقيض من الماركسية، أو الأنماط المختلفة للفاشية، فإن الليبرالية الحقيقية لا تمثل عقيدة، أيديولوجية متكاملة تكفي نفسها بنفسها، مع أجوبة جاهزة على جميع القضايا الاجتماعية. وبدلاً من ذلك، فإن الليبرالية هي عقيدة لا تتعدى الجمع بين مبادئ أساسية بسيطة نسبياً، تتجمع حول الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية (أي الديمقراطية والسوق الحرة). كما أنها تضم تشكيلة واسعة من التوجهات والصيحات الاحتجاجية. الذي لم تشمله حتى الآن، والذي لن تشمله في المستقبل، هو ذلك الكاريكاتور الذي يقدمه أعداؤها تحت تسمية الليبرالية الجديدة. في الإنجليزية “Neo” أي الجديد، هو شخص يزعم بأنه ذو شأن، شخص هو في الوقت ذاته داخل وخارج شيء ما؛ إنه تركيبة مهجنة مراوغة، رجل من القش، أقيم دون أن يجسد قيمة محددة، أو فكرة، أو نظاماً أو عقيدة.
قول الليبرالية الجديدة مطابق لقول شبه ليبرالية، أو ليبرالية زائفة. إنها هراء في هراء. إما أن يكون المرء مناصراً للحرية أو ضدها، ولكن لا يستطيع أن يكون نصف مناصر، أو مناصراً زائفاً للحرية مثلما أنه لا يمكن للإنسان أن يكون نصف حامل، أو نصف حيّ، أو نصف ميت. لم تخترع التسمية للتعبير عن حقيقة فكرية، بل كسلاح ماض يستخدم للسخرية. لقد اخترع التعبير بهدف التقليل من قيمة الحرية وحيث أننا ندخل الألفية الجديدة، فإن الليبرالية، أكثر من أية أيديولوجية أخرى، تُجسد التقدم الهائل الذي أحرزته الحرية على امتداد تاريخ الحضارة الإنسانية الطويل.
يجب أن نحتفل بما أنجزته الليبرالية بالفرح والسكينة، ولكن دون جلبة الانتصار. يجب أن يكون واضحاً في مفهومنا أنه، وعلى الرغم من أن إنجازات الليبرالية كانت باهرة، فإن ما لم يتم إنجازه حتى الآن هو أكثر أهمية. يضاف إلى ذلك، وحيث أنه لا شيء في التاريخ الإنساني مُقدّرٌ أو دائم، فإن التقدم الذي تم إحرازه في العقود الأخيرة، في موضوع الحرية، ليس أمراً لا يمكن الرجوع عنه. وما لم نتعلم كيف ندافع عنه، فإن ثقافة الحرية يمكن أن تصبح آسنةً، وسوف يفقد العالم الحر الأرضية لصالح قوى الاستبداد الشمولية والقبلية، مرتدين قناعاً من القومية أو التطرف الديني. لقد خلفت هذه القوى الشيوعية كأشد أعداء الديموقراطية مراساً وتجربة.
بالنسبة لليبرالي، فإن أهم ما حدث في هذا القرن، هو هزيمة الهجوم الشمولي الكبير ضد ثقافة الحرية. الفاشية والشيوعية، كل واحدة منها في زمنها، وصلت إلى مرحلة تهديد بقاء الديمقراطية. إنهم الآن ينتمون إلى الماضي، إلى التاريخ الأسود للعنف والجرائم التي تتجاوز الوصف، ضد الحقوق المدنية والعقلانية، وليس هنالك أي دليل بأنها سوف تبعث من رمادها في المستقبل المنظور. بطبيعة الحال، ما زال هنالك ما يُذكر بالفاشية في العالم. وفي بعض الأوقات، أحزاب متشددة ومتعصبة إلى أقصى الحدود، أمثال جبهة جان ماري لوبن الوطنية في فرنسا، أو الحزب الليبرالي في النمسا بزعامة جورغ هيدر، تستهوي درجة عالية خطرة من التأييد الانتخابي. كذلك، ما زالت هنالك بقايا باهتة للصرح الماركسي الهائل تجسده كوبا وكوريا الشمالية. ومع ذلك فإن تلك الفسائل الفاشية والشيوعية، لا تشكل بديلاً خطيراً أو كبيراً للخيار الديمقراطي.
مازالت تعيش دكتاتوريات، ولكن، وخلافاً للامبراطوريات الشمولية الكبيرة، فإنها تفتقر إلى أجواء عقائدية، أو ادعاءات جامعة تتجاوز حدودها. كثير منها، مثل الصين، تحاول الآن الجمع بين سياسات الحزب الواحد للدولة، وبين اقتصاديات السوق والاقتصاد الحر. وفي أقاليم شاسعة من أفريقيا وآسيا، وبشكل خاص في المجتمعات الإسلامية، نشأت دكتاتوريات أصولية، التي أعادت تلك البلدان إلى حالة من البدائية البربرية في شؤون تتعلق بالمرأة، والتعليم، والمعلومات، والحقوق المدنية والأخلاقية الأساسية. ومع ذلك، ومهما كانت الصور المرعبة التي تمثلها بلدان مثل ليبيا، وأفغانستان، والسودان أو إيران، فإنها لا تشكل تهديداً يتوجب على ثقافة الحرية أخذه بجدية: تأخر العقيدة التي يؤمنون بها تحكم على تلك الأنظمة بالتقهقر المتواصل إلى الخلف، في السباق نحو الحداثة، سباق سريع سبق وأن أحرزت فيه البلدان الحرة سبقاً حاسماً.
وعلى الرغم من الجغرافيا الكئيبة التي تكشف النقاب عن استمرارية الدكتاتوريات، فإن أمام الليبراليين الشيء الكثير الذي يستحق أن يحتفل به في العقود الأخيرة. ثقافة الحرية حققت تقدمات حاسمة في مناطق شاسعة من أواسط وغرب أوروبا، وجنوب شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية. في أمريكا اللاتينية، ولأول مرة في التاريخ، تسلمت مقاليد الحكم حكومات مدنية—ولدت عن طريق انتخابات حرة—في كل بلد من تلك البلدان تقريباً. (الاستثناء هو كوبا، وهي دكتاتورية أكيدة، والبيرو، وهي دكتاتورية مقنّعة). وأكثر من ذلك لفتاً للأنظار أن تلك الديمقراطيات تطبق الآن وإن كان على مضض وغير حماس وقلة دراية، سياسات السوق، أو على الأقل سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى سياسات التدخل والتأميم الهادف إلى كسب ود الجماهير، والذي اتسمت به تقليدياً حكومات القارة.
ولعل أكثر الأمور مغزى وأهمية حول تلك التغييرات في أمريكا اللاتينية، هي ليست الكم بل الكيف والنوعية. ومع أنه ما زال شائعاً سماع رجال الفكر الذين أُخرجوا من أعمالهم بعد انهيار الأيديولوجية الشمولية يصرخون على الليبرالية الجديدة، فإن صراخهم يشبه صراخ الذئب الموجه إلى القمر، فمن أدنى أمريكا اللاتينية إلى أقصاها، على الأقل في وقتنا هذا، يوجد توافق متين وراء النظام الديمقراطي، وضد الأنظمة الدكتاتورية و”المثاليات” الشمولية. ومع أن هذا التوافق أكثر تقييداً بالنسبة للسياسة الاقتصادية، فإن حكومات أمريكا اللاتينية أصبحت تنحني لنظرية الاقتصاد الليبرالي. تشعر بعض الحكومات بالحرج بالاعتراف بذلك، والبعض الآخر يغطون أنفسهم بالهجوم على الليبرالية الجديدة. ومع ذلك، فليس أمامهم من سبيل سوى تخصيص النشاطات الاقتصادية، وتحرير الأسعار، واقتصاد السوق الحر، ومحاولة لجم التضخم، والسعي لدمج اقتصادهم في الأسواق الدولية. لقد أدركوا نتيجة التجارب المرَّة، أنه ضمن المناخ الاقتصادي السائد اليوم، فإن البلدان التي لا تتبع هذه المؤشرات تحكم على نفسها بالانتحار. أو، بعبارات أقل رعباً، ذلك البلد يحكم على نفسه بالفقر والتخلف وحتى بالتفكك. كثير من القطاعات اليسارية في أمريكا اللاتينية قد طورت مواقفها من كونها عدواً لدوداً للحرية الاقتصادية، إلى اعتناق الاعتراف الحكيم الذي أدلى به فاسلاف هافل: “مع أن قلبي قد يكون إلى اليسار من الوسط، فقد كنت أدرك دائماً بأن النظام الاقتصادي الوحيد الناجع هو اقتصاد السوق. إنه الاقتصاد الطبيعي الوحيد، الوحيد الذي يبدو عملياً، الوحيد الموصل إلى الرخاء، لأنه الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة نفسها”.
علامات التقدم تلك مهمة وتعطي تثبيتاً تاريخياً للنظرية الليبرالية. ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال التقاعس، لأن واحدة من أكثر حقائق الليبرالية تثبيتاً وصفاءً هي التي تبين بأن الحتمية التاريخية غير موجودة. لم يكتب التاريخ بعد بما يعارض أية مقولة أخرى. التاريخ من صنع الرجال، وكما أن الرجال يستطيعون انتهاج الطريق السوي، بإجراءات تدفع التاريخ إلى آفاق التقدم والحضارة، فإنهم يستطيعون أن يرتكبوا الأخطاء كذلك، سواء نتيجة القناعة، أوالتلبد، أو الجبن، وبالتالي يسمحون للتاريخ بأن ينزلق إلى مهاوي الفوضى، والإفقار والظلامية والبربرية. تستطيع ثقافة الديمقراطية أن تكسب أرضاً جديدة، وأن تعزز التقدم الذي سبق وأن أحرَزَتْه. أو أنها تستطيع مشاهدة عرينها وهو ينكمش إلى لا شيء. المستقبل يعتمد علينا—على أفكارنا، على أصواتنا، وعلى القرارات التي يتخذها أولئك الذين نضعهم في السلطة.
بالنسبة لليبراليين، فإن الحرب من أجل تقدم الحرية في التاريخ هي، فوق كل شيء، صراع فكري، معركة أفكار. لقد كسب الحلفاء الحرب ضد دول المحور، ولكن ذلك الانتصار العسكري لم يفعل أكثر من تأكيد تفوق فكرة الإنسان والمجتمع، كفكرة عريضة، أفقية، تعددية، متسامحة وديمقراطية على تصور ضيق الأفق، مقطع الأوصال، عنصري، منحاز وعمودي. انهيار الامبراطورية السوفييتية أمام الغرب الديمقراطي أكد صحة نظريات آدم سميث، وألكس دو تكفيل، وكارل بوبر، وإزيا برلين حول المجتمع المنفتح والسوق الحر، وأثبت خطر العجرفة المميتة للأيديولوجيين، مثل كارل ماركس، ولينين، وماو تسيدونغ، الذين كانوا يعتقدون بأنهم قد كشفوا النقاب عن قوانين التاريخ الجامدة، وفسروها بطريقة صحيحة تمثلت بدكتاتورية البروليتاريا والتخطيط المركزي. ويجب أن نتذكر أيضاً بأن الغرب حقق انتصاره على الشيوعية في وقت كانت فيه مجتمعاته مليئة بالشعور بالنقص: الديمقراطية العادية قدمت أقل القليل من “الجذب الجنسية” مقابل المجتمعات التي يفترض أنها خالية من الطبقية للعالم الشيوعي.
المعركة الحالية هي ربما أقل مشقة لليبراليين من تلك التي قاتل فيها أساتذتنا. ففي تلك المعركة، كان هنالك مخططون مركزيون، ودول بوليسية، وأنظمة الحزب الواحد، واقتصاديات تهيمن عليها الدولة، تدعمهم امبراطورية مسلحة تسليحاً شاملاً، بالإضافة إلى حملة علاقات عامة قوية، تدار في قلب الديمقراطيات، على يد طابور خامس من رجال الفكر أغرتهم وطوعتهم الآراء الاشتراكية. اليوم، المعركة التي يجب أن نخوضها ليست ضد مفكرين شموليين عظام أمثال ماركس، أو مفكرين اجتماعيين ديمقراطيين أذكياء مثل جون مينارد كينز؛ ولكن ضد أنماط كاريكاتورية جامدة، تحاول زرع الشكوك والفوضى في المعسكر الديمقراطي؛ ومن هنا يجيء الهجوم المتعدد، المنطلق من خنادق مختلفة ضد الشبح المرعب الذي يحمل اسم الليبرالية الجديدة. المعركة أيضاً ضد أصحاب الرؤية المتشائمة، وهي فئة جديدة من المفكرين المتشائمين. فبدلاً من محاربة ثقافة الديمقراطية، كما فعل غورغ لوكاس، وأنطونيو جرامسكي، وجان بول سارتر، فإن أصحاب الرؤى المتشائمة قانعون بنفي وجودها، محاولين التأكيد لنا بأن الديمقراطية غير موجودة، وأننا نتعامل مع خيال، يكمن وراءه ظل الاستبداد الخطير.
أود أن أبرز من بين تلك الفئة رمزاً أفرده في بحث ما أشير إليه: إنه الدكتور روبرت كابلان. في مقالة مثيرة، يقول كابلان أنه، وعلى النقيض من التوقعات المتفائلة حول مستقبل الديمقراطية والذي تجلت طلائعه في موت الماركسية في شرق أوروبا، فإن الإنسانية تتجه في الواقع نحو عالم يسيطر عليه الاستبداد. هذا الاستبداد جليٌ في بعض الحالات؛ وفي حالات أخرى، فإنه مُقنَّع بمؤسسات ذات مظهر مدني وليبرالي. بالنسبة لكابلان، فإن هذه المؤسسات هي مجرد زينة. القوة الحقيقية هي—أو سوف تصبح قريباً—في أيدي الشركات الدولية الضخمة، ملاك التكنولوجيا ورأس المال، والذين يتمتعون، بفضل تواجدهم المستدام عبر الحدود، بحصانة تامة في أعمالهم. وقد كتب يقول: “أقرر بأن الديمقراطية التي نشجعها في كثير من مناطق العالم الفقيرة هي جزء عضوي من التحول نحو شكل جديد من أشكال الاستبداد؛ وأن الديمقراطية في الولايات المتحدة هي في خطر أعظم من أي وقت مضى، ومن مصادر غامضة؛ وأن كثيراً من نظم الحكم المستقبلية، وبالأخص نظامنا، قد تشبه الأوليغاركية (فئة المصالح الحاكمة) التي كانت سائدة في أثينا واليونان في العصور الخوالي، أكثر مما تشبه الحكومة الحالية القائمة في واشنطن”.
تحليله يتسم بسلبية أشد فيما يتعلق بإمكانية تجذر الديمقراطية في العالم النامي. ووفق ما يقوله كابلان، فإن جميع الجهود الغربية لفرض الديمقراطية في بلدان تفتقر إلى تقاليد ديمقراطية قد انتهت إلى فشل ذريع. بعض تلك الإفشالات كانت باهظة الثمن، كما هو الحال في كامبوديا، حيث فشل استثمار ملياري دولار من قبل المجموعة الدولية في ترسيخ حكم القانون أو الحرية، ولو ميلمتراً واحداً في مملكة أنجور العتيقة. نتائج تلك الجهود، في مناطق مثل السودان أو الجزائر أو أفغانستان أو البوسنة أو سيراليون أو الكونجو أو مالي أو روسيا أو ألبانيا أو هاييتي، قد أدت إلى نشوب الفوضى، والحروب الأهلية والإرهاب، وإحياء الدكتاتوريات الوحشية الضارية التي تمارس التطهير العرقي، أو ترتكب حروب إبادة ضد الأقليات الدينية.
كابلان ينظر بازدراءٍ مماثل لعملية “الدمقرطة” في أمريكا اللاتينية. تشيلي والبيرو هما الاستثناءان. حقيقة أن الأولى جرَّبت دكتاتورية أغوستو بينوشيه، والثانية تعاني من دكتاتورية ألبرتو فوجيموري والقوات المسلحة، في رأيه، تضمن الاستقرار في تلك البلدان، وبالمقارنة مع ذلك، فإن ما يطلق عليه اسم حكم القانون عاجز عن حماية ذلك الاستقرار في كولومبيا وفنزويلا والأرجنتين والبرازيل، حيث ضعف المؤسسات المدنية في رأيه، والفساد المستشري، والفروق الفلكية في مداخيل الناس، “تدفع لرد فعل من قبل الملايين من سيئي التعليم، الذين أصبحوا يسكنون المناطق الحضرية في أحياء قذرة مزدحمة، والذين لا يجدون أية فوائد محسوسة من الأنظمة البرلمانية الغربية”.
كابلان لا يضيع أي وقت في الدوران حول الموضوع إذ يقول ما يفكر فيه بوضوح، وما يفكر فيه هو أن الديمقراطية والعالم النامي نقيضان لا يلتقيان، “الاستقرار الاجتماعي يتم نتيجة قيام طبقة متوسطة. النظم الاستبدادية، بما فيها الملكيات، هي التي تخلق الطبقات الوسطى، وليس الديمقراطية”. وهو يذكر مثلاً حوض الباسيفيك الآسيوي (والذي يمثله، أكثر ما يمثله، رئيس وزراء سنغافورة لي كوان يو، وكذلك تشيلي في عهد بينوشيه). ومع أنه لم يذكر ذلك، فقد كان بإمكانه أن يذكر أيضاً الجنرال فرنسيسكو فرانكو، رئيس إسبانيا. الأنظمة الاستبدادية التي يراها تخلق الطبقات الوسطى والتي تجعل الديمقراطية أمراً ممكناً، هي الصين و”سوقها الاشتراكي”، والبيرو في ظل حكم فوجيموري (دكتاتورية عسكرية مع دمية مدنية). تلكم هي أنماط التنمية التي يراها، والقادرة على خلق “الرخاء من الفقر المدقع”. الخيار المتاح في العالم النامي في رأي كابلان ليس “بين الدكتاتوريين والديمقراطيين، وإنما هو بين الدكتاتوريات السيئة، وتلك التي هي أفضل منها بقليل”. وفي رأيه أن “روسيا، إنما هي فاشلة، جزئياً بسبب أنها ديمقراطية، والصين، على ما يبدو، ناجحة، بسبب أنها ليست كذلك”.
لقد خصصت مساحة لمراجعة هذه الآراء، بسبب أن كابلان يملك ميزة القول بصوت عالٍ، ما لم يملكه الكثيرون ممن يشاطرونه الرأي، ولكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عن آرائهم أو أنهم يكتفون بالهمس فيها. تشاؤم كابلان، بالنسبة للعالم النامي كبير؛ ولكنه ليس أقل مما أوحى به العالم المتقدم في نفسه. فبمجرد أن تنتهي الدكتاتوريات الكفؤة من تطوير بلدانها الفقيرة، وتسعى الطبقات الوسطى إلى التمتع بالديمقراطية على الطراز الغربي، فإنهم يكتشفون بأنهم إنما يطاردون السراب. ذلك أن الديمقراطيات الغربية تكون قد استبدلت بنظام (مشابه لذلك الذي كان قائماً في أثينا وسبارته) والذي تكون فيه الأوليغاركية—المتمثلة بالشركات متعددة الجنسيات، والتي تعمل في القارات الخمس—قد استلبت من الحكومات السلطة في اتخاذ القرارات ذات الأهمية للمجتمع وللفرد. سوف تمارس الأوليغاركية (حكم ذوي المصالح) سلطاتها مع انعدام مساءلتها، ذلك أن السلطة تأتي إلى الشركات الضخمة، ليس عن طريق الانتخاب، ولكن من خلال قوتها التكنولوجية والاقتصادية. وفي حالة أن لا يكون القارئ على علم بالإحصائيات، فإن كابلان يذكرنا بأنه من بين أعلى 100 اقتصاد في العالم، فإن 51 منها ليست بلداناً وإنما مؤسسات اقتصادية، وأن أقوى 500 شركة كبرى وحدها، تمثل 70% من التجارة العالمية.
وجهات النظر هذه هي نقطة انطلاق مناسبة للمقارنة مع التصور الليبرالي لأحوال العالم هنا، على أحد قرني الألفية الجديدة. بالنسبة للتصور الليبرالي، فإن خلق الإنسان للحرية، حتى وإن أخذنا في الاعتبار الفوضى العارمة التي أحدثتها، هي المنبع لأعظم الإنجازات التي تحققت، في ميادين العلوم، وحقوق الإنسان، والتقدم التكنولوجي، ومكافحة الاستبداد والاستغلال.
ومن أكثر الأمور غرابة في وجهات نظر كابلان هو القول بأن الدكتاتوريات وحدها هي التي تخلق الطبقات الوسطى، وهي التي تحقق الاستقرار للبلدان. فإذا كان الأمر كذلك، فإن جنة الطبقات الوسطى لن تكون الولايات المتحدة، وغرب أوروبا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وإنما هي المكسيك أو بوليفيا أو الباراغواي. تاريخ أمريكا اللاتينية هو حديقة حيوانات للطغاة الصغار، والحكام الأقوياء والقادة المبجلين. الرئيس بيرون، على سبيل المثال، دمر تقريباً الطبقى الوسطى في الأرجنتين، وكانت طبقة وسطى شاسعة وتتمتع بالرخاء، وتمكنت من تطوير بلدها بوتيرة أسرع مما فعلته معظم البلدان الأوروبية. أربعون عاماً من الدكتاتورية، لم تجلب إلى كوبا أقل القليل من الرخاء، بل أنزلتها إلى مرتبة المتسول الدولي؛ ولتجنب الموت جوعاً، فرض على الكوبيين أن يأكلوا الحشيش والزهور، بينما تمارس نساؤهم الدعارة مع السائحين القادمين من البلدان الرأسمالية.
بطبيعة الحال، يستطيع كابلان أن يقول بأنه لا يتحدث عن جميع الدكتاتوريات، وإنما عن الدكتاتوريات الكفؤة مثل تلك الموجودة في آسيا الباسيفيك، أو دكتاتوريات بينوشيه وفوجيموري. لقد قرأت بحثه، بصدفة تامة، عندما كانت أوتوقراطية إندونيسيا الموصوفة بالكفؤة، تنهار وكان الجنرال سوهارتو يتخلى عن مركزه تحت الضغط، وكان الاقتصاد الإندونيسي يتداعى. وقبل ذلك بقليل، كانت أوتوقراطيات كوريا وتايلندا السابقة قد انهارت، وأخذ نمور آسيا المشهورين بالاختفاء كالدخان، وكأنهم شيء من تمثيليات هوليوود بالغة الإثارة. يبدو أن دكتاتوريات السوق تلك لم تكن ناجحة مثلما تصورها كابلان. إنهم الآن يركعون على ركبهم أمام صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والولايات المتحدة، واليابان وغرب أوروبا، طالبين إنقاذهم من دمار شامل.
من وجهة النظر الاقتصادية، كانت دكتاتورية الجنرال بينوشيه ناجحة، ولنقطة محددة (أي كفاءتها التي تقاس فقط بنسبة التضخم، والعجز في الموازنة، والاحتياطيات الرسمية، ونسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي). هكذا كانت دكتاتورية فوجيموري أيضاً، ومع ذلك، فإننا نتحدث عن كفاءة نسبية جداً. عندما نترك الأمن المريح والمجتمع المفتوح (الولايات المتحدة في حالة كابلان) ونتفحص تلك الأنظمة من منظور أولئك الذين عانوا جرائم وشطط الأنظمة الدكتاتورية، فإن تلك الكفاءة النسبية تختفي. وعلى النقيض من كابلان، فنحن الليبراليون لا نؤمن بأن إنهاء الاقتصاد الشعبي، أو الإمساك برقبة التضخم، يشكلان أقل درجات التقدم للمجتمع، أو إذا كان في الوقت ذاته تحريراً للأسعار، وخفض الإنفاق العام، وخصخصة القطاع العام، فإن كل ذلك لا قيمة له إذا كانت النتيجة إخضاع المواطنين للعيش في ظل الخوف المرعب. التقدم لا يعني الدوس على حقوق المواطنين. التقدم لا يحرم المواطنين من صحافة حرة، أو حرمانهم من اللجوء إلى قضاء نزيه محايد، عندما يعتدي على حقوقهم أو يساء إليهم أو التزوير ضدهم.
التقدم لا يسمح بأن يتعرض المواطنون للتعذيب، أو مصادرة الأموال، أو الاختفاء أو القتل، وفق نزوات العصابة الحاكمة. فبموجب النظرية الليبرالية، فإن التقدم يسير في آن معاً في ميادين الاقتصاد والسياسة والثقافة. وإلا، وبكل بساطة، فإنه ليس بتقدم. هذا القول يستند إلى أسباب عملية وأخلاقية. في المجتمعات المفتوحة حيث تنتقل المعلومات دون قيود أو إعاقة، والتي يسود فيها حكم القانون، هي أكثر تحصيناً في مواجهة الأزمات من المجتمعات المقيدة. وقد ثبت ذلك من خلال نظام حزب الثورة المؤسساتي في المكسيك قبل بضع سنوات، وفي فترة لاحقة بعد ذلك، من خلال الجنرال سوهارتو في إندونيسيا. إن غياب دور حكم القانون الحقيقي في بلدان حوض الباسيفيك الاستبدادية، لم يؤكد عليه بدرجة كافية في الأزمة الراهنة.
كم كان عدد الدكتاتوريات الكفؤة؟ وكم كان عدد غير الكفؤة؟ كم من الدكتاتوريات أغرقت بلدانها في وحشيات لا عقلانية، كما يحدث اليوم في الجزائر وأفغانستان؟ الأغلبية الساحقة من الدكتاتوريات هي تلك غير الكفؤة، أما الكفؤة فهي الاستثناء. أليست مغامرة غير محسوبة اختيار الدكتاتورية من أجل تحقيق التنمية—أن يؤمل بأن يكون ذلك النظام محترماً وانتقالياً وليس العكس؟ ألا توجد طرق أقل مخاطرة، واقل عنفاً لتحقيق التقدم الاقتصادي؟ الحقيقة أنه توجد مثل هذه الطرق، ولكن أناساً مثل كابلان لا يريدون رؤيتها.
في البلدان التي تزدهر فيها الديمقراطية، فإن ثقافة الحرية ليست بالضرورة ذات تقاليد قديمة، لم تكن تقليداً في أي من الديمقراطيات المعاصرة إلى أن اختارت تلك المجتمعات هذه الثقافة وتقدموا بها، بعد تجارب ونكسات عديدة، وأتقنوها عبر مسيرتهم، إلى أن جعلوا ثقافة الديمقراطية ثقافتهم الذاتية. الضغط الدولي والمساعدات يمكن أن يكونا عنصراً فعالاً من الدرجة الأولى، في تطبيق أي مجتمع لثقافة الديمقراطية، كما تدل على ذلك تجربة ألمانيا واليابان، وهما بلدان يفتقران إلى التقاليد الديمقراطية، كأي بلد من بلدان أمريكا اللاتينية، ومع ذلك تبنّيا ثقافة الديمقراطية وأصبحت جزءا من حياتهما. فمنذ وقت قصير من انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد انضمتا إلى الديمقراطيات المتقدمة في العالم. لماذا إذن تكون دول نامية (أو روسيا) غير قادرة على تحرير نفسها من التقليد الاستبدادي؟ فلماذا لا يستطيعون أن يفعلوا ما فعله الألمان أو اليابانيون، وأن يبنوا ثقافة الحرية؟
وعلى النقيض من النتائج المتشائمة التي توصل إليها كابلان، فإن العولمة تفتح فرصة من الدرجة الأولى، لبلدان العالم الديمقراطية، وبالأخص لديمقراطيات العالم المتقدم في أمريكا وأوروبا، للمساهمة في دفع التسامح والتعددية وحكم القانون والحرية إلى الأمام. كثير من البلدان ما زالت عبداً للتقاليد الأوتوقراطية، ولكن علينا أن نتذكر بأن الأوتوقراطية قد كانت في يوم من الأيام تهيمن على الإنسانية كلها. إن توسع ثقافة الحرية ممكن إذا ما تم تحقيق ما يلي:
أ- أن نؤمن إيماناً واضحاً بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تسمح بالتعصب، وعدم التسامح، والعنصرية، والتي تسمح قانوناً بالتمييز الديني والإثني والسياسي وعلى أساس الجندر.
ب- أن نطبق سياسات اقتصادية وخارجية متناسقة، وتوجيهها بطريقة من شأنها، في آن معاً، تشجيع التوجهات الديمقراطية في العالم النامي، من جهة، ومعاقبة والتحيز ضد الأنظمة التي، مثل نظام الصين أو النظام المدني–العسكري التوأم القائم في البيرو، والذي يشجع السياسات الليبرالية في حقل الاقتصاد، بينما يبقي على الدكتاتورية في سياساته.
لسوء الحظ، وخلافاً لموقف كابلان، فإن ذلك النمط من التحيز لصالح الديمقراطية، والذي جلب كل تلك المنافع الكبيرة لبلدان مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان قبل نصف قرن، لم تطبقه البلدان الديمقراطية في يومنا هذا في تعاملها مع بقية العالم. وفي الحالات التي تم تطبيقها، فقد طبقت جزئياً وبطريقة مراوغة، كما هي الحال مع كوبا.
ومع بزوغ بدايات الألفية الجديدة، فإن لدى الديمقراطيات في البلدان المتقدمة حوافز أقوى للعمل بقناعات مبدئية وحازمة في دعم الديمقراطية. هذا الدافع يتأتى عن وجود خطر جديد، خطر يشير إليه كابلان في بحثه. ففي نظرته التشاؤمية المطلقة، يتنبأ كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية في المستقبل، تتألف من الشركات القوية المتعددة الجنسيات، والتي تعمل دون قيد في جميع أرجاء العالم. هذا التصور الكارثي يوضح الخطر الحقيقي الذي نشعر به. اختفاء الحدود الاقتصادية، وانتشار الأسواق العالمية يدعمان الاندماج والتحالف بين الفعاليات الاقتصادية عندما تسعى إلى المنافسة بشكل أكثر فعالية في جميع ميادين الإنتاج.
إنشاء شركات كبرى لا يشكل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، ما دام أن الديمقراطية حقيقية، أي ما دامت هنالك قوانين عادلة وحكومات قوية. (بالنسبة لليبرالي “القوية” تعني المحدودة والفعالة، وليس “الكبيرة”). في اقتصاد السوق الذي يكون مفتوحاً للمنافسة، فإن الشركة الكبيرة تفيد المستهلك بسبب أن حجم إنتاجها يمكّنها من تخفيض الأسعار ومضاعفة الخدمات. لا يكمن الخطر في حجم الفعالية الاقتصادية؛ وإنما يتأتى الخطر عن الاحتكار، الذي يكون دائماً سبباً في عدم الفعالية ومسبباً للفساد. وما دام أن هنالك حكومات ديمقراطية تحترم القانون—حكومات تحاكم حتى بيل جيتس إذا ما تجاوز القانون—لن يكون هنالك أي خطر يخشى منه. ما دام أن الحكومات الديمقراطية تحافظ على أسواق مفتوحة أمام المنافسة، وخالية من الاحتكار، عندها فلا خوف أبداً من الشركات الضخمة، والتي كثيراً ما تخدم المجتمع عن طريق مبادراتها السباقة في التقدم العلمي والتكنولوجي.
الشركة الرأسمالية لها طبائع الحرباء. ففي بلد ديمقراطي، فإنها تشكل مؤسسة ناجعة في التطور والتقدم. ولكن، في البلدان التي لا يسودها حكم القانون، ولا يوجد فيها سوق حرة، والذي يتقرر كل شيء فيه على يد إرادة حاكم مطلق، أو فئة حاكمة مستنفعة، فإن المؤسسة الرأسمالية يمكن أن تكون مصدراً للكوارث. الشركات ليست أخلاقية أو لا أخلاقية، وهي تتأقلم بسهولة مع قوانين اللعبة التي تعمل في إطارها. فإذا كان سلوك الشركات متعددة الجنسيات مدعاة للإدانة في كثير من البلدان النامية، فما ذلك إلا مسؤولية أولئك الذين يقع على عاتقهم وضع قوانين اللعبة، في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. نحن لا نستطيع لوم الشركات في اتباعهم لتلك القوانين، من خلال سعيهم لتحقيق الربح.
من تلك الحقيقة، يستخلص كابلان هذه النتيجة المتشائمة: مستقبل الديمقراطية معتم، لأن الشركات الضخمة سوف تسلك في الألفية الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية السلوك ذاته الذي تنتهجه حالياً في—على سبيل المثال—نيجيريا في عهد الكولونيل أباتشا.
في الحقيقة، لا يوجد أي سبب عقلي أو افتراضي لمثل هذا الاستخلاص. وبدلاً من ذلك، يجب أن نقرر النتيجة التالية: يتوجب على جميع البلدان في عالم اليوم والتي تحكمها الدكتاتورية أن تتطور سريعاً نحو الديمقراطية، وأن تطور ذلك الصرح من النظام القانوني، الذي يطالب الشركات الكبيرة بانتهاج السلوك السوي والأخلاقي، مثلما يطلب منها أن تفعل في البلدان المتقدمة. فبدون عولمة حكم القانون والحرية، فإن العولمة الاقتصادية تشكل خطراً جسيماً على الحضارة، وفوق كل شيء، على صحة الكرة الأرضية. يتوجب على الدول الكبرى تحمل مسؤولية أخلاقية نحو تشجيع وتنمية الأساليب الديمقراطية في العالم النامي. كما أن عليها واجباً عملياً. فبتبخر الحدود، فإن أعظم الضمانات بأن تعم الفوائد الاقتصادية جميع الناس هو التأكد بأن تدفق الاقتصاد على امتداد العالم سوف يتم في حدود الحرية والتنافس، وأن يكون موجهاً بالحوافز والحقوق والقيود التي يفرضها المجتمع الديمقراطي.
لن يكون أي من ذلك سهلاً، ولن يتم تحقيق أي شيء منه في فترة زمنية قصيرة. ولكن بالنسبة لليبراليين، فإن إدراكنا بأننا نسير نحو هدف يمكن تحقيقه يشكل لنا حافزاً عظيماً. فكرة أن يكون العالم موحداً حول ثقافة الحرية ليست يوتوبيا خيالية، بل هي فكرة جميلة يمكن تحقيقها، الأمر الذي يبرر الجهود التي نبذلها. وكما قال كارل بوبر، أحد أعظم أساتذتنا:
“التفاؤل واجب. المستقبل مفتوح. إنه ليس مقرراً سلفاً، ولا يستطيع أحد التنبؤ به، إلا من قبل الحظ. نحن جميعنا نساهم في تقريره، من خلال ما نفعل. ونحن جميعنا مسؤولون بالتساوي لنجاحه”.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 26 آب 2006.