اتفق العديد من المفكرين والباحثين الليبراليين على أن الدكتاتورية أصبحت فيما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ملمحا بارزا في العديد من دول العالم الثالث حديثة الاستقلال، والتي غلب على أشكال الحكم في معظمها الطابع العسكري، كما أن الدول ذات أنظمة الحكم الشيوعية والاشتراكية اعتبرت دكتاتوريات أيضا من وجهة نظرهم وكان السبب الرئيسي في توصيفهم هذا هو غياب الاستقرار السياسي عن الكثير من هذه الدول وشيوع الانقلابات العسكرية والاضطرابات السياسية فيها، فضلا عن ظهور مشكلات عديدة تتعلق بمسألة الخلافة على السلطة.
الشعب الكردي والموزع الآن بين أربع دول (تركيا، إيران، العراق وسوريا) تصنف جميعها ضمن خانة دول العالم الثالث (النامي)، ومن سمات الحكم السياسي في هذه الدول إن “استثنينا الحالة السياسية الجديدة المفروضة في العراق” أنها تأخذ طابعا منافيا للمبادئ والقيم الديمقراطية.
فتركيا وبالرغم من تعدديتها السياسية إلا أن هيمنة عقلية “الجندرمة الأتاتوركية” والمنافية للقيم الديمقراطية بالفطرة العسكرية، تبقى صاحبة الكلمة الفصل في القرارات المصيرية للحياة السياسية التركية.
وكذلك إيران ومن وراء عمامات الملالي لم تنجح في إخفاء الميول القومية “الفارسية”، وجسدته فيما عرف بقومنة الدين، وسورية محكومة بالفكر القومي المطلق متمثلاً بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، منذ قرابة نصف قرن من الزمن.
لذلك فكل المظالم والإجراءات والقوانين الاستثنائية التي تطبق بحق الكرد في هذه الدول يجب أن لا تكون موضع استغراب، فالإرث الديكتاتوري العسكري التفردي إضافة إلى الأفكار القومية والدينية المتعصبة للسلطات الحاكمة في هذه الدول تفرض حتمية هذه الإجراءات القمعية.
الكرد، وفي نضالهم التاريخي للوقوف في وجه هذه المظالم، أسسوا تنظيمات سياسية في أماكن تواجدهم واضعين على عاتقها مهمة رئيسية في الدفاع عن وجود الشعب الكردي على أرضه التاريخية والمطالبة بحقوقه السياسية والثقافية والاجتماعية المشروعة، واستطاعت هذه الحركات وبالرغم من كل الإجراءات القاسية التي ارتكبتها السلطات بحق مؤسسيها وناشطيها أن تنال الدعم والتأييد من قبل فئة كبيرة من أبناء الشعب الكردي حتى أن البعض منها حقق الكثير من الآمال والطموحات الكردية ولعل مكاسب الأحزاب الكردستانية في العراق خير مثال على ذلك.
لاشك بأن الظلم والاضطهاد الذي تمارسه السلطات الحاكمة بحقنا كأقليات عرقية قد انعكس علينا سلبا ومن مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكن الاستفهامات المطروحة هي: هل هذه الإجراءات كافية لتبرير فشل بعض قياداتنا الكردية في التأسيس لفكر ديمقراطي حر في مؤسساتهم الحزبية؟ أيكفي أن نطالب السلطات الحاكمة بحقوقنا الديمقراطية دون أن نسعى نحن إلى نشر وتبني هذه الثقافة ذاتياً؟ هل ما تعيشه القيادات الكردية هو ضرب من ضروب التماهي بالمتسلط كما يصفها الأستاذ مصطفى الحجازي في كتابه (سيكولوجية الإنسان المقهور)؟
على صعيد الساحة الكردية في سوريا شغلت هذه الأسئلة مؤخراً حيزاً واسعاً للنقاش من قبل المثقفين والسياسيين الكرد، فالتنظيمات الكردية التي تعارض أساساً النظام السوري حول تصرفاته اللاديمقراطية ، تواجه اليوم معارضة حقيقية من قبل كوادرها الحزبية بسبب ما تعيشه بعض تلك الأحزاب من هيمنة فردية من قبل بعض القيادات على القرار السياسي والتنظيمي في إطار التجاهل التام لمبادئ وأسس الديمقراطية في الإدارة وآلية اتخاذ القرار السياسي، ما أنتج مؤخراً حالات إصلاحية لم يعتدها الشارع الكردي في سوريا كالحركة الإصلاحية التي يقودها السياسي الكردي فيصل يوسف في وجه مايسميها بالتصرفات الديكتاتورية المتفردة لزعيم أحد أقدم الأحزاب الكردية في سوريا الأستاذ حميد درويش والذي يترأس الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي منذ نصف قرن من الزمن، فالشعارات الإعلامية المميزة والتي يطلقها قياديوا هذه الحركة كنعم للإصلاح والشفافية ، لا للفساد والتوريث ، حركة كفاية الكردية، تلاقي صدى واسعا وقبولا لدى العديد من المثقفين السوريين، لدرجة أن البعض منهم بات يسميها “بالبيروسترويكا الكردية” .
الحالة التفاعلية بين الجماهير الكردية من جهة والمطالبين بالإصلاح والديمقراطية في التنظيمات الكردية في سوريا من جهة أخرى تدل على أهمية ترسيخ المبادئ الديمقراطية داخل الأحزاب الكردية، فالخوف من تحول قيادة هذه الأحزاب مستقبلا إلى طغاة أصبح هاجساً لدى الكثيرين، وقد لا تشكل الحالة الكردية استثناءا في هذا المجال، فالعديد من الشعوب المضطهدة في العالم وفي نضالها للتخلص من الظلم والطغيان قدمت الكثير من التضحيات، لكن ونتيجة إهمالها للكثير من الجوانب المتعلقة بالأسس والمبادئ الديمقراطية في حركاتها النضالية لم تنتج إلا طغاة جبابرة أشد بطشاً وقسوة من حكامها الأوليين والتجارب العربية حافلة في هذا المجال.
كما وأصبح حلم توريث حالة التجبر من قبل الحاكمين فرضية ممكنة من جديد، في الوقت الذي زادت فيه جرأة حركتنا الكردية للتصدي لحركات المطالبة بالديمقراطية، والعمل على تفريغ الحركة من الفكر الديمقراطي وزرع التناقضات والالتباسات ومحاولة تسميم العلاقات التي ورثتها من حكامها، كمن يقول الإصلاح والشفافية زائلة، والديمقراطية أعمى لا تبصر. بمعنى آخر “ديكوراً ديمقراطياً” من أجل تطبيع حالة الدكتاتورية وتوريثها كردياً.
© منبر الحرية،12 أبريل /نيسان 2010