لم تكن الخبرة العربية الإسلامية غائبة عن تدشين أحد أشكال الحكم المتمثل في حكم الأسر على مدار تاريخها الطويل، وبالأخص بعد عصر الخلفاء الراشدين، للدرجة التي باتت تسمية الدولة تشتق من لقب العائلة بدءا من الخلافة الأموية (662_750 م) نسبة إلى معاوية بن أبي سفيان ومرورا بالخلافة العباسية (750_1258م) نسبة إلى عبد الله بن على بن عباس، ثم أخيرا الخلافة العثمانية ( 1299_1924م ) التي استمدت تسميتها من اسم مؤسسها عثمان بن أرطغل. ولم يقتصر هذا الشكل من الحكم على مستوى الخلافة وإنما امتد إلى الأمصار والولايات الأخرى، فمصر على سبيل المثال حكمت من قبل الأسر الحاكمة، فنجد الخليفة احمد بن طولون كان أول من استخلف الحكم في ابنه الثاني خومارويه في مصر منذ الفتح الإسلامي لها على يد عمر بن العاص في عام 639 ميلادية. وظلت ظاهرة الاستخلاف هذه داخل الأسرة الحاكمة متسيدة الساحة السياسية ليس في الخبرة العربية الإسلامية فقط وإنما أيضا في مناطق كثيرة على مدار القرون السابقة للعصر الحديث والذي بدأ مع النهضة الأوروبية الحديثة. حيث قد حدثت نقلة في العلوم الطبيعية وتطبيقاتها بجانب العلوم الاجتماعية والفلسفية والتي جاءت معظمها كرد فعل لتحرير العقل الأوربي تدريجيا من هيمنة الكنيسة بإعادة اكتشاف الإنسان لنفسه و النظر مرة ثانية إلى الأفكار والقيم التي تعيد الاعتبار لكرامة الإنسان كالحرية والعدالة والملكية والنسبية في المعرفة.
وبدأت الحياة، مع هذه التطورات، تأخذ شكلا جديدا حضاريا ومدنيا وعلى مستوى الأفكار والتي كانت من نتيجتها أنها أعلت من قيمة الإنسان ووضعت من الأطر القانونية والمؤسسية التي تحفظ له كرامته وحقوقه التي كانت عرضة للانتهاك بسبب عوامل كثيرة أبرزها أولا الهيمنة على العقل سواء بالدين أو بالتقاليد وثانيا هيمنة السلطة السياسية. بالنسبة للعامل الأول فقد استطاعت أوروبا أن تنجح باقتدار عبر ما يزيد عن الأربعة قرون وان تزيل هذه الغمامة بأفكار فلاسفة أعادوا للعقل مكانته الطبيعية، بالنسبة للثاني كان هناك تطورات على ارض الواقع تكثر احتكار السلطة السياسية بداية بالماجنا كارتا في عام 1215 كأول وثيقة دستورية في التاريخ استطاعت أن تمهد الطريق للتقليل من طغيان هذه السلطة واستمر هذا الحال إلى أن حدث التحول المهم في أواخر القرن الثامن بتدشين وثيقة الحقوق الأمريكية عقب انتهاء الحرب الأهلية التي شكلت العمود الفقري للدستور الأمريكي مدشنة الآلية المؤسسية والقانونية لتداول السلطة بشكل لا يجعل أحد يستأثر بها مدى الحياة .
ومن هنا تتنوع العوامل والظروف التي تقف وراء وجود ظاهرة الأسر الحاكمة في النظم السياسية الحديثة، حيث قد تقود طبيعة النظام السياسي الديمقراطي إلى ظهور هذه الأسرة مثل عائلة كينيدى وآل بوش في الولايات المتحدة أو حسب طبيعة النظام الديمقراطي بالإضافة إلى المورثات المجتمعية مثال عائلة غاندى في الهند، حيث الميراث التاريخي للأسرة يفرض على أفراد هذه الأسرة العمل في السياسة في ظل نظام ديمقراطي، وهذا النمط شائع في الثقافة الآسيوية. أما النمط الثالث فهو الذي ينبع من وجود نظام غير ديمقراطي ومجتمع ضعيف. يتميز فيه الحكم بالهيمنة التي تفرغ المجتمع من نخبته في سبيل التمهيد بتوريث الحكم للعائلة. وهذا النمط بدأت تظهر نماذج تطبيقية له سواء في العالم العربي أو في إفريقيا نتيجة فشل بناء الدولة الوطنية التي ظهرت ما بعد الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين.
فالنظام الديمقراطي إذا كان قد سمح بوجود آليات في أن تكون هناك أكثر من فرصة لتولى أكثر من فرد من عائلة واحدة لمقاليد الحكم على فترات متباعدة، فذلك لا يشكل ظاهرة في حد ذاته بقدر ما أن هذه العائلة توافرت فيها الإمكانيات الذاتية من وجود الأفراد ذوي الخبرة السياسية والإمكانيات المادية والكاريزمية الشعبية ليترشحوا على منصب الرئاسة شأنهم في ذلك شان أي مرشح آخر، وليس بالضرورة خبرة العائلة في الحكم تكون هي الدافع للفوز بالرئاسة مثل الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن هذا العامل المتعلق بالميراث العائلي يلعب دورا خطيرا في المجتمعات الشرقية وبالأخص الآسيوية في كون ميراث العائلة يكون من بين العوامل التي تقف وراء فوز المرشح في الانتخابات سواء كانت على منصب رئيس الدولة أو منصب رئيس الوزراء مثلما هو حادث في الهند وباكستان. هذا في حالة تثبيت المتغير الثاني والمتعلق بوجود نظام ديمقراطي. فالثقافة الأسيوية تعمل لصالح ميراث الأسر الحاكمة. ونلاحظ أن هذه الظاهرة باتت مألوفة ما دامت تتم في إطار من انتخابات تتسم بالديمقراطية.
إلا أن الظاهرة باتت ملفتة للنظر وتستحق الدراسة عندما يتم انتقالها عبر آليات غير دستورية عبر الأسرة الواحدة مثلما حدث في سوريا سنة 2000. حيث أن النخبة الحاكمة تعمل بكافة السبل المشروع منها وغير المشروع بإعداد أفراد أسرتها لتولى مقاليد الحكم بعدهم… حتى لو كان ذلك مخالفا للدستور والقوانين؟ إلا انه يبدو بالنسبة للنخب السلطوية طبيعيا؟ على اعتبار أن هذه النظم في قناعتها الذاتية كونت شرعيتها ليس على شرعية الانتخاب والديمقراطية بقدر ما تم بناؤها على شرعية القمع والسلطوية. هذا فضلا انه كان هناك تعمد في تفريغ المجتمع من فاعليته بأشكال مختلفة، بان يتم خلق مجتمع مسلوب الإرادة بآليات مختلفة سواء بالتهميش للمؤسسات التي تقوي من دور المجتمع في مواجهة الفرد الحاكم من الأحزاب والقوى السياسية، أو بعملية تفريغ النخبة سواء بترعيبهم أو قتلهم أو سجنهم وخلق مناخ يؤدى إلى أن هذه النخبة تفر إلى الخارج مهاجرة مثال حالة العراق في عهد الرئيس صدام حسين. حيث لا صوت يعلو فوق صوت القائد السياسي الذي لا يقبل اختلاف وجهات النظر أو المعارضة أو وجود مجتمع قوي سياسيا. وهذا العامل تتباين فيه الدول العربية حسب طبيعة النظام والشرعية التي جاء فيها إلى الحكم. إلا انه ظهر بشكل كبير في العراق نظرا لدموية انتقال السلطة على مدار الخمسين سنة الماضية.
في إطار الحديث عن ظاهرة الأسر الحاكمة مع الإشارة إلى النموذجين المرتبطين بوجود الديمقراطية والانتخابات النزيهة سواء كان ذلك في الولايات المتحدة أو في الهند أو باكستان تصبح الظاهرة في حكم المشروع. أما في حالة غياب الديمقراطية والانتخابات النزيهة فهذا يصبح نوع من السطو وإعادة خلق لشرعية غير موجودة، بالأخص إذا كان يتم على حساب إضعاف المجتمع وقواه السياسية، نظرا لعدم الفصل ما بين الحزب السياسي الحاكم والدولة بمؤسساتها المختلفة والذي يجعل الاثنين كيانين في الاسم وهما في الواقع كيان واحد متوحد. ومن هنا فتغييب وإضعاف القوى السياسية والنخبة التي يفترض فيها أن تكون ممثلة في المستقبل لتولى الأمور تصبح أولى أهداف القائمين على أمر الحزب الحاكم وأجهزة الدولة الخادمة له. الأمر الذي يصل إلى تشويه صورة من يتجرأ في المنافسة على موقع الاستخلاف. والسؤال إذا كانت ملامح المجتمعات العربية في الكثير من نظمها الجمهورية (مصر ،اليمن ، ليبيا ) تشير إلى السير في اتجاه حكم العائلات فان لذلك دلالات خطيرة أولها أن الدولة الوطنية التي كان من المفترض أن تقوم نخبة ما بعد الاستقلال ببنائها قد فشلت. الدلالة الثانية تحمل تناقضا غريبا أن هذه المجتمعات، وعلى عكس التطورات الإيجابية في مناطق متشابهة، تتراجع حضاريا ومجتمعيا بعدما بات من الضعف الذي يجعلها في بداية القرن الواحد والعشرين بكل المميزات التي حملها من نتائج التقدم المعرفي وبتطبيقاتها متخلفة، تتراجع للخلف ولا تستطيع أن تفرغ نخبة وطنية تتداول فيها السلطة. الدلالة الثالثة تؤكد انه القادم أسوا لو صارت الأمور بهذا الشكل الذي سوف يدشن ثقافة مبنية على عدم الشرعية وبالتالي كل ما هو غير شرعي سوف يكون هو القاعدة وتضيع الحقوق وسط هذه الثقافة التي تتحول إلي سلوك في تفاعلات الأفراد والمؤسسات في المجتمع.
© منبر الحرية،24 سبتمبر 2010