بدأت نهائيات كأس العالم الجارية حالياً في جنوب أفريقيا –والتي ستصل خلال أسبوع إلى مرحلتها النهائية- تتجه نحو مزيد من التشويق والإثارة، بعد انتهاء مباريات الدور الأول والثاني الذي ترافق مع خروج دراماتيكي مؤثر لدول كبرى ذات ماض عريق وتاريخ حافل بالإنجازات في عالم كرة القدم.. مثل البرازيل وفرنسا وإيطاليا وانجلترا..، وصعود نجم فرق جديدة من قارات لم يكن يحسب لها أي حساب في عالم كرة القدم كالفريق الغاني الذي نال إعجاب الجمهور والنقاد والمراقبين..
وقد ظهر جلياً المدى الذي بلغه تأثير كرة القدم على البشر جميعاً، ومدى انشداد الناس واهتمامهم في كل الأنحاء بهذه اللعبة العجيبة التي استطاعت أن تجعل أعضاء الجماعة البشرية بأكملهم –وعلى اختلافهم وتنوع مشاربهم وانتماءاتهم ومستوياتهم ومذاهبهم وألوانهم- يتسمرون أمام شاشات التلفاز لمشاهدة المباريات والتنافس الحضاري السلمي أو يسافرون إلى جنوب أفريقيا لتشجيع فرقهم المتأهلة للنهائيات.
بالفعل نحن أمام حالة أشبه ما تكون بالوحدة الإنسانية، حيث استطاعت هذه الكرة أن تفعل ما عجزت عنه السياسة والاقتصاد في تركيز انتباه الناس إلى كرة صغيرة يتنافس اللاعبون لإدخالها في مرمى على مدى 90 دقيقة بهدف تحقيق فوز من هنا وآخر من هناك قد يسمح لفريق من الفرق بنيل هذا اللقب العالمي الذي تتمنى كل دولة أن تحظى بشرف نيله.
والمونديال ليس فقط حالة تنافس كروي شريف بين مجموعة فرق تمثل بلداناً من مختلف القارات سينال منها فريق واحد كأس البطولة العالمية لمدة أربع سنوات، وإنما هي أيضاً مجال سياحي وثقافي وحضاري واسع للدولة المضيفة في أن تستثمر كل ما تمتلكه من إمكانات وطاقات ومؤهلات في تلك المجالات السياحية وغير السياحية لزيادة دخلها الوطني، واستغلال وجود ملايين السياح القادمين مع منتخباتهم للتمتع بقضاء إجازاتهم السنوية في ربوع الدولة المضيفة.
والواضح أن قطاع الرياضة أضحى اليوم حقلاً واسعاً وقطاعاً مزدهراً، ومن أهم قطاعات الحياة البشرية المتحركة والمنتجة والفاعلة في كثير من البلدان، بما يشتمل عليه من صناعات وأدوات ورموز وثروات وأدوات ونجوم، وهذا الحقل الاقتصادي أصبح له طريقاً صلبة يسير عليها، وهو يساهم من خلال أدواته في صناعة العالم الراهن، لا بل أضحى ينافس ويتفوق على قطاع الثقافة والكتاب والمفكرين، بجاذبيته وفاعليته وحضوره الآسر الممتع، وبات عالم كرة القدم أكثر مقبوليةً من أي حقل أو قطاع حياتي آخر، وربما بات ملاذاً آمناً وأكثر مؤانسةً وراحة للناس من معارك الثقافة والسياسة، ومجتمع المثقفين والساسة التي تقوم عندنا –في عالمنا العربي والإسلامي- على قاعدة الغلبة والتغلب، وتسود فيها قيم الاستبعاد والإلغاء والحصرية بأعلى صورها وعناوينها وتعابيرها خاصةً في ظل المناخ الثقافي والسياسي المهيمن عندنا، والذي تعبر عنه هذه العقول المغلقة والأيديولوجيات والعقائد الاصطفائية والشمولية ونزعات التعصب الدينية وغير الدينية التي تزعم وتدعي القبض على ناصية الحقيقة المقدسة، بينما تسود في عالم كرة القدم قيم التبادلية وعقلية المشاركة والجماعة والتنافس الحر السلمي الديمقراطي التداولي، وإدارة الشؤون بطريقة حضارية تشاركية مفتوحة متنوعة ومتعددة، بعيداً عن هيمنة منطق القسر والقهر والإلغاء.. وحيث أيضاً المران والتعب والجهد والمثابرة والخبرة والمهارة.. وحيث أيضاً لغة الابتكار وخلق وقائع جمالية جديدة غير منتظرة وغير متوقعة على عكس السياسة الرثة والبالية والمحافظة والتي يتعاطى منتجوها مع الواقع الحياتي القائم بعقول مقفلة وعقائد طوطمية سحرية قائمة على إقفال العقل عن التفكير والإبداع، ونهائية التفكير وتمامية النتائج.
إنها بالفعل عولمة كروية وساحة عرض كبرى لثقافات وعادات وتقاليد حضارات إنسانية متعددة، وهي أيضاً ظاهرة عالمية تتداخل فيها قضايا الاقتصاد والتجارة والسياسة والإعلام، لذلك تجد الكثير من المفارقات في هذا الحدث الذي يوفر للعالم فرصة واستراحة لمدة شهر للهروب من أزماته وتعقيداته الاقتصادية والاجتماعية.
© منبر الحرية،07 تموز/يوليو 2010