لماذا فشل العرب حتى الآن في إقامة دولة القانون والمؤسسات؟

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

يمكن الاستنتاج مباشرة ومن دون أية مواربة أن الواقع العربي الراهن يعبر أصدق تعبير عن فشل العرب في تكوين دول مدنية حديثة بالمعنى الثقافي والسياسي العملي. فنحن لا نزال نعيش في ظل نظم “أهلية-قبلية” غير مدنية (بالمعنى السوسيولوجي العملي) بعيدة عن منطق العصر والتطور والحداثة المعرفية والعلمية، ولا مكان فيها لأي منهجية تفكير علمية رصينة، ولا يعلو فيها سوى صوت السلف بسيوفه وتروسه وصولجاناته التي انتقلت –بقوة الدين وسطوة الأعراف والتقاليد- من أيديهم إلى أيدي الخلف من النخب السياسية والقبلية الجديدة التي يحكمها قانون البقاء والمصلحة، ويتحكم بوجودها فكر ومناخ الاستبداد التاريخي.
وقد وصلت الأمور بتلك النخب القبلية العربية الحديثة -في سياق رفضها ومحاربتها للتغيير السياسي والاجتماعي الطبيعي استجابةً لمنطق تغير الحياة وتطور الإنسان، ومنعها لأية محاولة يمكن من خلالها تشييد البنى الأساسية لإقامة مجتمع مدني متطور- أنها تقف بقوة حتى في وجه أي عامل تقدم علمي أو تقني، وتمنعه من النفاذ أو الدخول إلى المجتمعات إذا كان يمكن أن يشتم من دخوله أية رائحة للتغيير أو أي حراك بسيط قد يفضي إلى حرف للأوضاع القائمة، أو تغيير بالأفكار ومن أي نوع كان، في العقلية أو السلوك أو التوازنات الاجتماعية أو السياسية.
ولا تزال تلك النخب القائمة تعمل –في سياق إحكام سيطرتها على مجمل الحياة العمومية العربية- على تكريس ثقافة الفساد والإفساد كجزء من سياسة المواجهة بينها وبين بعض الطبقات والفئات الاجتماعية المتضررة والمختنقة الساعية بأي ثمن للتغيير والضاغطة بشدة على النظام، مما يجعلها تخصص قسماً كبيراً من موارد وإمكانات المجتمع المادية والمالية والبشرية لحماية مصالحها وضمان بقائها واستدامة سطوتها وانفلاتها من عقال القانون والمحاسبة والمساءلة، وفرض الاستقرار بالقوة (أي فرض الثبات والموت) ومنع حدوث أية قلاقل أو اضطرابات. وهكذا لم يبقَ هناك، في معظم البلاد العربية والإسلامية، أي هامش للاستثمار الحاضر والمستقبل.
من هذا المنطلق فإن الأمل بحدوث تطورات حقيقية سياسية واجتماعية وعلمية وصناعية في مجتمعاتنا العربية تستجيب لتحديات الحياة في الوجود المؤثر والفاعل، مرهون -ليس فقط بمدى قدرتنا الفكرية والعملية على الاستجابة الفاعلة لتلك التطورات- وإنما مرهون، أيضاً وبشكل أساسي، إلى ضرورة إحداث تغييرات هائلة على صعيد الحكم وإشكاليات السلطة والمشاركة والحرية .. الخ. لأن الأصل في القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة المسؤولة والمعبرة عن طموحات الناس والمنسجمة مع تطورات وتغييرات الحياة الدولية.. وهذا التغيير المطلوب لن يتحقق لوحده بقدرة سماوية، بل لا بد من إرادة جماعية فاعلة لتحقيقه، حيث أن النخب الحاكمة في مجتمعاتنا العربية عموماً ليست لها أية مصلحة في الإصلاح، فضلاً عن كونها أصلاً غير قادرة عليه، ولا تمتلك الحد الأدنى من الإرادة الجدية والفاعلية العملية لإحداث التغيير أو الإصلاح المنشود، بسبب انغلاقها ومركزيتها وتغييب قوى التأثير عليها من خلال ما قامت به –وعلى مدى العقود الماضية- من سحق للمجتمعات، وتحطيم منظم للموادر والقدرات والطاقات.
من هنا فإن استثمار تطورات الحياة والاستفادة المثلى من أي تقدم علمي يمكن أن توفره الحضارة الحديثة لن يكون متاحاً أمام مجتمعاتنا وأفرادنا إلا إذا ساهمنا وشاركنا جميعاً –بصورة وبأخرى- في إنتاجه وإبداعه وتمثله عملياً، ومن باب أولى فهمه ووعيه. ونحن لا يمكن أن نطور العلم وننتج منجزاته الحديثة مع وجود واتساع عقلية القبيلة المنزرعة فينا والمتحكمة بوجودنا والتي يعمل أصحابها على تدمير أي فرصة لربط   -مجرد ربط- البلاد العربية بتيارات التقدم العلمي والتقني. بل، على العكس من ذلك، إنها تعمل على ترسيخ كيانها الذاتي، وحفظ بقاء نظام قائم على مفاهيم القمع والضبط والردع عبر تمويل ودعم أسباب بقائها ونموها من خلال نهب أموال الناس، وسرقة ثروات الأمة النفطية وغيرها. والمجتمعات العربية بالنتيجة هي التي تدفع الثمن الباهظ لتلك السياسات الفاشلة للنظم السياسية العقيمة والضعيفة الأفق التي تقوم على تعقيم الإنسان العربي وشل قدراته وسحق طاقاته، والتي ليس لها مبرر وجود سوى خدمة مصالح الفئات والطبقات التي تسيطر عليها.
ونحن نعتقد أنه عندما تفشل الدولة في كسب ثقة أفرادها ومواطنيها، ومد جسور التعاون معهم، والعمل المستمر على تحقيق مصالحهم وطموحاتهم وتطلعاتهم من خلال اعتماد مشروع استنهاض سياسي واجتماعي يعبر عن آمالهم ووجودهم الحي الفاعل والمسؤول، ويحفزهم للمشاركة الشاملة في عملية التنمية الفردية والجماعية.. أقول : إن عدم تحقيق كل تلك الآمال التي تتناقض مع مصالح النخبة السياسية الحاكمة العاملة على أهداف ذاتية معاكسة تماماً لأهداف المجتمع، هو الذي ساهم إلى تحويل الدولة العربية الحديثة -عندما قامت وعملت على ترسيخ شعاراتها ووجودها- إلى مجموعة إقطاعات ومافيات لها أفرادها وأزلامها الدائرين في فلكها، وعندئذ لاحظنا كيف تطفو على السطح ظواهر قديمة-جديدة من التشبيح السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي التي لها أفكارها ودعائمها ورموزها ونخبها الذين يعملون باستمرار على تحويل تلك الدولة إلى مجموعة مزارع واستثمارات ربحية نفعية خاصة بهذا الطرف أو ذاك.
طبعاً نحن عندما نحمل معظم النخب السياسية العربية التقليدية الحاكمة مسؤولية هذا التردي والضعف والانقسام والهوان الذي نقبع في داخله حالياً، لا ينبغي أن ننسى أن العلة وجذر العطالة قائم أساساً في طبيعة المناخ الثقافي المسيطر علينا منذ قرون وقرون، وأعني به أن الخلل ثقافي معرفي بامتياز فبل أن يكون أي شيء آخر، والمسؤولية ليست فقط محصورة في هؤلاء الحكام والزعامات القائمة، فهؤلاء نتيجة لثقافة مجتمعاتنا.. ولذلك فالخلل مركوز في صلب البنية السياسية العربية المستغلِة للدين وليس الدين، حيث يحاول الكثيرون الإشارة إلى الدين كمعطى ثقافي قديم انتهى دوره، وتم تجاوز قيمه وأفكاره بحكم التطور والتقدم التاريخي.
ولكننا نتصور أن السلطات السياسية الشمولية القبلية هي التي عملت على فرض رؤية أحادية سلبية للدين في أذهان الناس. ثم انطلقت لتحاسب الشعب عن هذه الرؤية التي كونتها هي عن الدين، ما يعني أن تحقيق الشروط الأولى لعملية التقدم والتجديد ليس مرهوناً بتهديم البنى التقليدية (الدينية تحديداً) في المجتمع التي يمكن استثمارها واستخدامها إيجابياً بشكل مثالي ضمن عملية استنهاض المجتمع ككل. والدليل على ذلك أن حداثتنا العسكرية والمدنية قد هدمت، باسم العلمانية ، كل الركائز والمؤسسات التقليدية التي كانت قائمة في المجتمع، وصار الفرد يقف وحيداً أمام سلطانات قبلية فردية مطلقة، لا يجرؤ أحد على منازعتها سلطانها ومصالحها.. فماذا كانت النتيجة؟!.. كانت أن مشاريع التحديث والحداثة والتقدم قد فشلت فشلاً ذريعاً في معظم مجتمعاتنا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بعد أن أعادت إنتاج صيغ حديثة شكلاً لا مضموناً من مجتمعات أهلية متخلفة تم تركيبه من قبل أجهزة الدولة العربية المستوردة الحديثة.
وفي ظني أنه لا حل عملياً في المدى المنظور لتلك الإشكالية القائمة.. نعم هناك مشاريع وأفكار ومبادئ وأسس نظرية مهمة ورائعة وعظيمة، ولكن العبرة في التطبيق والممارسة الجماعية على الأرض.. فهناك –على سبيل المثال- الطرح الفكري الذي يدعو إلى تعميق قيم المجتمع المدني –الذي يقوم على أساس القانون والنظام العادل – في تربة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث يعتقد أتباع هذا الطرح بأنه كفيل ببناء دولة المؤسسات الحديثة التي يريدها الجميع، وذلك لأن هذا الفكر -الذي تقوم عليه مدنية المجتمع العربي والإسلامي- المناهض والمناقض لأسس المجتمع القبلي (القائم حالياً)- يمتلك معايير وضوابط وآليات عامة هي من صلب الحياة والفكر والتراث الإسلامي الأصيل، ويستطيع أن يؤمن -بالحد الأدنى- مشاركة كثيفة للناس والمبدعين في عملية الإنتاج والإثمار الحضاري المنشودة. لذلك من الضروري جداً الإيمان بأن بناء وتأسيس مجتمع مدني في العالم الإسلامي -له قواعده الثابتة وأسسه القوية الواضحة- لا يمكن أن يتم من دون وعي التراث الإسلامي وعياً إيجابياً من الداخل، ومحاولة دراسة وتفكيك وتحليل مضامينه المعرفية والفكرية والعقائدية وصياغة مقولاته وأفكاره بما يتناسب والحاجات الاجتماعية والسياسية الضرورية في عصرنا الحاضر.
وإذا كانت العملية التطورية للفكر والثقافة والتراث المعرفي الغربي قد أفرزت النمط الحديث المعروف للمجتمع المدني في الغرب، فإنه يجب العمل بالمقابل -من خلال فكرنا وثقافتنا- على إيجاد نواة حقيقية لبناء نمط اجتماعي آخر من صلب مبادئنا وتراثنا العربي والإسلامي لأن الناس لن تشرك في التغيير والبناء والتنمية مالم تقتنع بأن الفكر الإصلاحي لا يتناقض مع ثقافتها ونسيجها التاريخي العقائدي.
من هذا المنظور يؤكد أصحاب هذه الأفكار المدنية الحداثية المستقاة من التجديد الديني المنفتح على الحياة والعصر والتطورات الوجودية، على أن آلية العمل المؤسساتي المدني بصيغته الإسلامية المتطورة تفترض –مبدئياً- الارتكاز على ما يلي:
1-بما أن موضوعة “السلطة والحكم” قد تحولت إلى ما يشبه الهاجس الجنوني الذي تعيشه أغلب فئات وطبقات مجتمعاتنا، حيث قامت السلطات الحاكمة بمحورة ومركزة وجودها على هاجس الحكم والبقاء في السلطة مهما كانت الظروف والأحوال.. فلا بد من وجود إطار فكري يعمل على عقلنه السلطة، وجعلها شأناً بشرياً نسبياً، واستبدل البنى والسلطات التقليدية والعائلية بسلطة القانون الاجتماعي المدني -إذا صح التعبير- المتفق عليه في المجتمع.
2-تركيز القناعة بأن أي تحول أو تغيير في الحياة لن يكون له أية أو تأثير إلا إذا استند على قاعدة إنسانية شاملة، مشاركة واعية وواسعة للبسر في الحكم السياسي، لأن التنافس السياسي السلمي هو المقوم الفعلي للحياة المدنية الحديثة.
3-الإيمان بوجود المعارضة السلمية وحقها في التعبير والشرعية المقننة.
4-مراعاة رأي الأغلبية في البلاد والاحتكام إليها في اللحظات الحرجة والضرورية.
5-ضرورة وجود فكر حي وفاعل ومتفاعل ومتطور في داخل الأمة يجعل من حضور الإنسان -في كل مجالات وآفاق الحياة، ومشاركته الحرة في العمل المجتمعي- شرطاً ضرورياً في عملية التغيير والتقدم.
6-الضغط المتواصل باتجاه تعميق وتوسيع مساحة ثقافة الحرية في المجتمعات العربية كشرط أساسي مسبق لحدوث أي تحول إيجابي فيها، باعتبار أنَّ وجود فكر مستقل وفاعل لا يمكن أن يتحقق، أو يكون له أي معنى، إلا في إطار الحرية المنظمة والواعية.. حرية الفكر وحرية التعبير، وحرية الاجتماع والتنظيم السياسي، وحرية محاسبة الحكومات ومساءلتها.
وهذه الأمور المهمة لتطور ونهضة مجتمعاتنا لا يمكن تحققها إلا من خلال وعي وتطبيق الديمقراطية كآلية لإدارة شؤون الناس والمجتمع بصورة مؤسساتية عادلة وصحيحة.
وتبعاً لذلك ينتج عن الديمقراطية مجموعة من المعايير والقيم من أبرزها:
1-المشاركة العامة في اتخاذ القرار وضمان حرية الأفراد .
2-مسؤولية الفرد عن أفعاله.
3- تحقيق العدالة والمساواة بين الناس.
4-العناية الفائقة بحقوق الإنسان.
© منبر الحرية، 06 أغسطس/آب 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018