لم يشهد العالم العربي منذ أن فتح أعينه على العصر الحديث في القرن العشرين حركات احتجاج هدفها الأول تحرير حياته من أجهزة الأمن التي لا تسأل ومن الفساد المؤسسي المدمر ومن اغتصاب السلطة المحفز للعنف والتمرد والتآكل. في ذاكرتنا الجماعية تخصصنا في مقاومة الخارج أكان عربياً أم إسرائيلياً أم أميركياً أم فرنسياً أم بريطانياً، لكننا لم ننجح في مواجهة الاستبداد والتعسف والتمييز والتفرقة في صفوفنا، فالاستبداد والديكتاتورية كانا السبب الأساسي لإجهاض انجازاتنا في مواجهة الخارج. هذه المرة الأولى نقبل بحماسة وتجلٍّ على مقاومة الديكتاتورية في أنظمتنا ورؤسائنا قبل أن نتصدى لها عند محتلينا. في أحداث الشهور التسعة الأخيرة، ومع سقوط النظامين التونسي والمصري، والآن نظام القذافي في ليبيا، يعصف بنا تحول كبير يعيد صياغة تعريفنا لمن نكون.
لقد نشأ الشباب العربي في ظل أنظمة عربية قابضة على السلطة، مشكّكة بكل نقد ورأي، يمارس معظمها خطاباً دينياً شكلياً لا علاقة له بجوهر الدين الإسلامي وذلك بهدف تأكيد الطاعة ومنع التعبير. نشأ الجيل العربي الجديد في ظل سلطات يحكمها الخوف من المعارضة والاختلاف والشعب والثقافة والحرية. ترعرع الجيل العربي الصاعد في ظل أنظمة أفهمته أن وجودها، مهما فعلت وكيفما تصرفت، هو ضمانة استقراره، فإما هي أو الطوفان والحرب الأهلية. في هذا كانت الأنظمة تقول له أنها الوحيدة التي تحمل هماً وطنياً، أما الشعب فهو غير موجود لأنه عبارة عن قبائل وعشائر وطوائف لا ولاء لها.
ويكتشف الجيل العربي الجديد انه ولد في الزمن العربي الضائع بين جيلين. جيل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الذي نشأ مباشرة بعد حرب ١٩٦٧ والذي قاوم ببطولة ولكنه شهد عشرات الانكسارات في تاريخه والتي توجت باحتلال إسرائيل لبيروت عام ١٩٨٢، وبين الجيل الذي جاء بعد ذلك في ظل انكسار العالم العربي أمام الخارج وانكساره أمام التسلط الداخلي. نشأ هذا الجيل العربي الجديد يرى جيلاً قبله يعيش مهانة دائمة سببها الأساسي أن الجيل السابق قاوم الخارج ولكنه لم ينجح في مقاومة الاستبداد في الداخل.
هذه ليست كل الحكاية. فالجيل الجديد تخرج من الثانوية فلم يجد جامعة مفيدة. ذهب للعلاج فلم يجد مشفى مناسباً يعتني به أو بكبار أسرته. نظر إلى آبائه وأمهاته وكبار عائلته فلم يعجبه وضعهم واستسلامهم، عانى من التمييز في عمل فلم يجد حلاً لمشكلته. وجد أمامه أفشل الخريجين يتبوءون مواقع لا يستحقونها وذلك بحكم صلاتهم بالحزب و «العائلة» و«الفئة الحاكمة». هكذا ارتقى الأقل قدرة وتم تهميش الأكثر ذكاء وسعياً وتنافسية.
حاول الجيل الجديد الهرب من واقعه من خلال الهجرة، فذهب إلى السفارات ليواجه بالرفض. فالمسلمون بعد 11 أيلول (سبتبمر) ٢٠٠١ والعرب بالتحديد غير مرحب بهم في الكثير من عواصم العالم. فكر في الخروج هرباً عبر البحار المتقلبة لكنه غرق في الطريق. والذين وصلوا إلى ايطاليا وأوروبا اكتشفوا زيف الوعود. كثير من أبناء الجيل العربي الصاعد سعوا للاغتراب في أرض الذهب الأسود في الخليج، لكنهم واجهوا وضعاً جديداً هناك، فدول الخليج هي الأخرى لم تعد قادرة، كما حصل مع الجيل الذي سبق، على استيعاب أعداد كبيرة من الشبان العرب وذلك بسبب اكتمال بناها التحتية. لم يعد للشاب العربي مكان يذهب إليه. أصبح محبوساً في مجمع بخار وغاز مغلق وأغلقت عليه كل المنافذ والستائر.
العربي الجديد أكان شاباً أم شابة لم تخدعه شعارات «المقاومة» الصادرة عن بعض الأنظمة كالنظام السوري لأنه سأل نفسه السـؤال الأساس: اين المقاومة في مدينتي وفي قريتي وفي حياتي اليومية؟ سأل نفسه: ما علاقة المقاومة بتدهور حياتي وانغلاق فرص المستقبل والتفرقة؟ ما علاقة المقاومة بالتعذيب والتعسف والإهانة والسجن بلا محاكمة وتلفيق التهم؟ كما لم تخدع هذا الجيل شعارات الانفتاح الاقتصادي كما في دول عربية أخرى مثل النظام المصري والتونسي، إذ وجد أن اقتصاده مرهون لفئة صغيرة من أقرباء الرئيس وعائلته وجلسائه، كما حصل في سورية مع مخلوف وفي مصر وتونس واليمن مع أقرباء وأولاد الرئيس. اكتشف انه يعيش في ظل أنظمة سياسية تخصصت بالخداع الإعلامي عن الانفتاح والديمقراطية الشكلية. اكتشف بالممارسة أن حياته كذبة كبيرة.
نظر الجيل الصاعد أمامه فرأى مسـؤولاً يسرق الاقتصاد ولا يحاسَب، رأى أعضاء برلمان يصفقون لرئيس مهما كان حديثه مبهماً وكأنهم في جوقة غنائية، ذلك أن انتخابهم جاء عبر التزوير الذي صنعه الرئيس نفسه. ورأى الجيل الجديد قادة رأي ومعارضين في بلادهم يزج بهم في السجون وتلفّق لهم تهم العمالة للخارج. الجيل الصاعد شاهد فساد حكامه وتهالكهم على المال والمصالح الضيقة وتصفيتهم على مراحل للطبقات الوسطى، وشاهد كيف يبعد النظام اقرب الناس إليه وينقلب على أكثر من خدموه في ظل الاختلاف على النفوذ والمال. شاهد الجيل العربي الفيلم كله انتهاء بسعي كل رئيس لتوريث الحكم لأبنائه في ظل إفساد النظام والاقتصاد والحياة السياسية. كان هذا التوريث في المراحل الأخيرة أعلى مراحل احتقار الشعوب.
وعندما سعى بعض أبناء الجيل الجديد وبناته لكتابة مقال يعبر عن تجربته ولإنشاء مدونة، انتهى الأمر بملاحقته وسجنه وأحياناً قتله وتصفيته، كما حصل مع خالد سعيد في مصر. بعض النشطاء الجامعيين من هذا الجيل لم يستطيعوا، لسنوات، إيجاد عمل في أي مكان بسبب مقالات كتبوها أو مدونة أنشأوها، ذلك أن الأجهزة الأمنية منعت أي شركة أو مؤسسة خاصة من توظيفهم. بدأ هذا الجيل يفكر بعمل يتجاوز الكتابة. بدأ يفكر في صناعة حركة احتجاج. بدأ يفكر في الثورة.
وبين أزقة مدنه وقراه استوعب الجيل العربي الجديد عبر التجربة مكامن ضعف حكامه الأبديين ومواطن تآكل الأنظمة السياسية وتفككها. قرأ سقوطها قبل أن تسقط، وفهم اقتراب لحظة موتها قبل أن تموت. عرف انه قادر على إسقاطها إن حزم أمره على المواجهة، فكل أركان النظام امتهنوا حب السلطة وأدمنوا تجميع الأموال والأراضي والمناصب، فهم في غفلة كاملة عن الذي سيقع.
هكذا بدأ الجيل الشاب يهتدي إلى وسائل تساعده على اكتشاف مواطن قوته، فاكتشف عبر الإعلام المفتوح وفضاء الانترنت شباناً وشابات في عمره ومن ثقافات أخرى يعيشون كما يريدون، يطرحون فكرهم ويقولون رأيهم وينتخبون بحرية ويصنعون مستقبلهم. عبر التكنولوجيا عرف انه يوجد طريق آخر. فلا يوجد نظام سياسي قادر على البقاء إذا لم يكتسب شرعية واضحة من شعبه وغالبية سكانه. قرر الجيل الجديد استخدام قانون أزلي: قوة الغالبية في مواجهة قوة الأقلية السياسية، وقوة الشعب في مواجهة قوة فئة حاكمة مدججة بالسلاح وملتهية بمتاع السلطة والقوة وغرائز تجميع الأموال والغش لتحقيقها والتصارع عليها. اكتشف انه قادر على انجاز التغيير من خلال آليات المقاومة السلمية اللاعنفية تماماً كما فعل غاندي ومانديلا وحركات الاحتجاج الكثيرة التي واجهت جيوشاً وأجهزة أمنية متفوقة عليها وفاسدة حتى النخاع. كان من الطبيعي أن يتحول بوعزيزي التونسي إلى رمز للجيل العربي تماماً كما أصبح خالد سعيد ومدينة السويس رمزاً لمصر ولثورتها وأطفال درعا رموزاً للثورة السورية، وتعز رمزاً للثورة اليمنية ودوار اللؤلؤة رمزاً لحركة الاحتجاج البحرينية.
واللافت في قصة هذا الجيل الثائر انه بدأ حركاته يريد إصلاحاً، لكن الأنظمة لم تكن قادرة بحكم فسادها وتفككها الداخلي وحدّة أزمتها الذاتية على الإصلاح. لهذا تحول الجيل بسرعة في الدول التي وقعت فيها الثورات من شعار ”الشعب يريد الإصلاح“ إلى ”الشعب يريد إسقاط النظام».
ما يقع في البلاد العربية عملية خلق وتجديد لجيل جديد يحمل فكراً مختلفاً. في أحياء دمشق وطرابلس ومصر وتونس واليمن وأيضا البحرين والأردن والمغرب وفي كل الدول العربية الأخرى التي تختبر حركات احتجاج وحراك مرئي وغير مرئي، تصنع كل يوم قيادات شابة جديدة تمتلك طاقة مختلفة ولديها إحساس عميق بالأشياء. هذه التجارب المباشرة أو المنتقلة من ليبيا إلى سورية ومن مصر وتونس إلى اليمن وبقية الدول العربية أصبحت مصانع للقيادات العربية القادمة من الجيل العربي الصاعد. نحن نشهد ولادة أمة تمتد إلى كل الجغرافيا العربية عبر حراك شعبي هادر لن يوقفه القمع أو الاستهزاء أو تهم العمالة للخارج، بل يمكن فقط استيعابه من خلال إصلاح ”صادق“ عميق ومؤثر يفتح كل مسام الحياة السياسية ويؤدي إلى التداول السلمي على السلطة. نحن أمام ولادة جيل بل الأصح: هذه لحظة جيل.
المصدر: الحياة
© منبر الحرية،28 غشت/اب2011