محمد أوطاهر*
نود من هذا المقال المقتضب، توضيح المنهج الذي قد يبدو لنا قويما في مقاربة مسألة الأمازيغية، والذي ينضوي تحت المعادلة العويصة ذات قِيمتيْ الفكر والواقع، إنها الإشكالية التي شغلت الفكر الإنساني منذ الإغريق تقريبا، حيث أقام هذا الأخير تضادا بين الميثوس واللوغوس، فانقطع بذلك ارتباطُه بنمط الفكر السابق عليه، والذي كان يجمع بين الفكر والواقع في قالب أسطوري واحد. ومع ذلك، ما زالت هذه الإشكالية تشغل تفكيرنا إلى الآن، من قبيل: مَن الأسبق، هل الفكر أم الواقع؟ ومن له الأولوية في الاعتبار، هل الأول أم الثاني؟ وهل يمكن القول بأن العلاقة بينهما علاقة جدلية؟ وغيرها من الإشكالات التي حقيقة، كانت وراء بلورة الفكر الإنساني وإثراء معارفه وتوسيع آفاقه.
إذا أسقطنا هذه الإشكالية على المسألة الأمازيغية موضوع حديثنا، فسيكون إسقاطنا لها على النحو التالي:
قد يظهر في مجموعة من المناقشات والبحوث التي تناولت المسألة الأمازيغية، اندماجُ ما هو فكري بما هو واقعي فيها، أي الخلط المنهجي في معالجة القضية، مما قد يؤدي إلى غموض المعنى، وفي أحيان أخرى إلى أدلجة المبنى. على هذا الأساس، نرتئي إلى القول بضرورة الفصل بين المستويين في دراسة هذه الأخيرة، إذ رغم أنهما متصلين في العمق والهدف، إلا أن الفصل بينهما على مستوى الخطاب يطبعهما بطابع “علمي ـ موضوعي”، ونعني بذلك، دراسةُ كلٍ من المستويين من زاوية نظره ومجال تداوله، أي النظر في الواقع بأعين الواقع، واستبصار الفكر بأعين هذا الأخير، ومما يمكن أن نخلص إليه من هذا القول كالآتي:
إن القول بأن “المسألة الأمازيغية بين الفكر والواقع”، يعني أن هذه المسألة ذات مستويين في البحث والنظر، أولاهما، المستوى الفكري والتاريخي للأمازيغية، أي كل ما يتضمن الإنتاج المعرفي والإرث الثقافي الأمازيغي قبل الإسلام وبعده على جميع الأصعدة، كذا المسار التاريخي الذي نشطت فيه هذه الأخيرة تارة، وتعرضت للاستبعاد والتحوير والإقصاء فيه تارة أخرى، ثانيهما، المستوى الواقعي والاجتماعي، أي الحياة اليومية للمواطن الأمازيغي خاصة، والمغربي بصفة عامة، والذي يعاني أساسا من مشكل تنموي، يدخل ضمنه الغياب الشبه الكامل لأبسط ضروريات العيش، بما فيها المرافق العمومية وما يدخل في نطاقها، إضافة إلى التهميش الذي يعاني منه في المجال الإداري على الخصوص، والاستبعاد الذي يرزح تحته ما يَحول دونما مسايرةٍ لنمط الحياة ‘الحداثي’ المعاصر.
انطلاقا من هذا الفرق الموضوعي قبل كونه منهجيا، يأتي إلحاحنا على ضرورة الفصل بين المستويين في الدراسة والممارسة، ما يعني، أن يكون المستوى الأول خاصا بالنخبة، ونقصد بها المثقفين والباحثين والمتخصصين في المجال، من مؤرخين وأنثروبولوجيين ومفكرين وغيرهم، وهذا دون الحاجة إلى إعلام المواطن العادي بنتائج بحوث فيها من التعقيد والغموض والتأويل ما لا قِبل له بفهمه، إذ أن ذلك قد يؤدي، إما إلى التأويل الخاطئ الذي يمكن أن تتعرض له نتائج الدراسات من لدن الحكم الذي يصدره المواطن العادي، فيتبرأ بذلك من الفكر وصاحبه، ويتم إشغاله بأمور لا تعود عليه بالنفع في حياته اليومية، وإما أن يأخذ انطلاقا من ذلك صورة مُخلة عن الفكر والنظر، لما يفصله عنه بوْن التجريد والبعد عن الواقع والمعيش. فالمواطن العادي قد لا يفهمك إذا ما بدأت تسرد عليه المسار التاريخي والأحداث التي مرت بها الأمازيغية، ولا النظريات العلمية والمناهج المعرفية في دراسة القضية، بل قد يصغي ويطيل السماع لمن يحدثه عن مشاكله الخاصة التي يعيشها، إذ بذلك سيسايرك الحديث، وهذا هو المستوى الثاني الذي يجب حقا على السوسيولوجيين خاصة دراسته وإشراك الشريحة العريضة من المواطنين فيه، لأنه شيء حيوي مرتبط بواقعهم، أما عندما نخلط بين المجالين، فما ذلك في نظرنا سوى أدلوجة من الأدلوجات، تحاول التوفيق بين المستويين، والذي قد يؤدي في غالب الأحيان إلى تلفيق، إذ لا مناص من دراسة كلٍ على حدة، كل مستوى بآلياته ومناهجه انطلاقا من بنيته الداخلية، أما غير ذلك بالنسبة للمواطن العادي، قد يبدو إقصاء له من المشاركة الفعالة، ولو احتوت تلك الأدلوجة على مسائل تهمه في حياته، إلا أنه قد يلمس في أبعادها مسا بمقدس أو ما شابه، وما ذلك إلا نتيجة عجزه عن استكناه بواطن الأمور.
ولتوضيح هذه الفكرة قليلا، نضيف فنقول:
إذا سلمنا بكون اللحمة التي تجمع بين أفراد المجتمع المغربي هي الوشيجة الدينية الإسلامية، وكل مس بهذه الوشيجة في نظر غالبية المواطنين هو خروج عن حدودها والرغبة في تمزيقها، ورد الفعل الطبيعي هو مباشرة اتهام صاحب القول، وخلق سجالات عقيمة متولدة عن فكرة مسبقة وخاطئة من الأساس، وفي الحقيقة، لا يتم ذلك إلا عند الإعلان مثلا عن نتيجة دراسة أخذت من الجهد والوقت الشيء الكثير، فيأتي أحدهم ليلخصها في قولة ويبوح بها للجمهور الواسع، الذي قد لا يعلم من القول إلا ظاهره، ولا علم له ببواطن الأشياء، وإذا شئنا استعمال لغة ابن رشد، ليس من أهل النظر والتأويل، وبذلك يتم تشويه الدراسة واتهام منجزها، وإشغال الجمهور الواسع عن مواضيعه الحقيقية المرتبطة بتفشي البطالة والرشوة والمحسوبية، والمعاناة من التهميش والإقصاء الاجتماعي، وكل ما يمكن أن يدخل في نطاق مصالح المواطن.
أما إذا ما تم واقتصر المستوى الأول على النخبة المثقفة، فالحوار والنقاش سيكون مثمرا، مما قد يفتح الأفق نحو بلورة نظرة أخرى تسمح بتطوير الفكر وإنعاش المعرفة، ما سيكون له أثر في تنوير العقول تدريجيا وليس دفعة واحدة.
بالمقابل، سيكون للمهتمين بالقضايا الاجتماعية عامة، وللسوسيولوجيين على الأخص، دور مهم في بلورة وإغناء المستوى الثاني المختص بالقضايا التي تهم المواطن العادي من تنمية يحتاج إليها، وتهميش يعاني منه، وصحة وتعليم يفتقر إليهما، ومعاملات إقصائية يتعرض لها، إذ أن إشراك المواطن في مثل تلك القضايا، قد يحفزه على العمل، ويُعرّفه بحقوقه المدنية، ويُوطّد لديه فكرة أنه مواطن لا شيء آخر، فبلورة مثل هذا النوع من التفكير، سيجد لدى الشريحة الكبرى من المجتمع صدى كبيرا وصدرا رحبا لتقبل الإحصاءات والدراسات التي يقوم بها السوسيولوجيون، من دراسة معدلات الأمية والبطالة وتبيان قلة التجهيزات والمرافق، والتأكيد على هزالة البنيات التحتية وغيرها، وخاصة لدى ساكني القرى والبوادي، ومدى تفشي الأمية في أطفالهم لعدم انعدام المدارس أو لقلتها، وغير ذلك مما يعيشه المواطن العادي في الحياة الواقعية والاجتماعية.
ختاما نقول، إن الفصل الذي تبنيناه أعلاه، لا يقوم بأي شكل من الأشكال على تكريس أي نوع من التراتبية والهرمية في صفوف المواطنين، فكل مواطنٍ مواطنٍ له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، ويجب أن يخضع لنفس القانون على اختلاف مستواه، إلا أن الفرق الذي نُقيمه منهجي بالأساس، يُميز اختصاصات كل فرد، فلا يُعقل مثلا، أن أتجه إلى عيادة طبيب ما، إذا ما احتجت إلى حداد يصنع لي بوابة لمنزلي، والعكس على نفسه وعلى غيره صحيح، وإذا شئنا بلغة ابن رشد أن نقول: يجب فصل المقال منهجيا، ليبِين لنا ما بين المستوى الفكري والتاريخي والمستوى الواقعي والاجتماعي من الاتصال، أي أن الفصل منهجي، بينما الهدف مشترك والغاية واحدة، لكن لا يُدرك هذا الأخير إلا بتحصيل الأول.
وما هذا وذاك، إلا رغبة منا في بلورة مثل هذه الإشكالات في أذهاننا، وإعادة إحياء فلسفة التساؤل والاستفهام لدينا، حيث نأخذ باللب ونتغافل عن القشور، نتعرف على موقعنا في خريطة التاريخ ومتاهة الحياة ككل، ونستأنس بالمنهج الذي يُشكل أولا وأخيرا المَعْلَمَة الكبرى لأي فكر كان، ووسيلة لا مندوحة لنا عنها في عصر العولمة والتكنولوجيا، وذلك للسير قدما، نحو فكر أنقى، ومجتمع أرقى.
*باحث مغربي
منبر الحرية،09 أبريل/نيسان2012
4 comments
عتد الرحيم
13 أبريل، 2012 at 1:55 م
شكرا صديقي محمد، لقد كان مقالك مقالا محبوكا، أنار ذهني؛ تبينت من خلاله ضرورة الفصل بين مستويات المقاربة في تناولنا لكل قضية قضية، والقضية الأمازيغية على وجه الخصوص، وإن كان الحديث عن بعض المفاهيم التي تضمنها المقال من قبيل “النخبة”…وما جاورها، فيه الكثير من النضر. وأخيرا أتمنى أن لا تجعل جمعيبنا الحديث غن القضية المازيغية قي قادم الأيام حديثا محضورا. نتمنى لك يا صديقي التوفيق.
free man
14 أبريل، 2012 at 3:31 م
أود بداية أن أتقدم بالشكر الجزيل لصاحب المقال. أود في مقام ثان الإشارة إلى بعض الملاحظات والتساؤلات التي استطعت أن أستخلصها من خلال قراءتي لهذا المقال:
1- إلى أي حد يمكن أن نعتبر أن الأمازيغية قضية؟ إذ اُفضل شخصيا الحديث عن المسألة الامازيغية.
2- أعتبر أن المنهج الذي اعتبرتموه قويما في دراسة المسألة، منهج اديولوجي هو كذلك، إذ أن الفصل بين مستوى الفكر ومستوى الواقع قد يوقع في المثالية، وهذا ما انتقده ماركس والواقعيين بخصوص الفلسفة السابقة عليهم، إذ الواقع شرط في بناء الفكر، والفكر نتاج لتفاعلات مجتمعية وثقافية.
3- الفصل الذي قام به ابن رشد، فصل فكري، بين مستويين من الفكر (الشريعة والحكمة) بغض النظر عن قدسية الأول وبشرية الثاني، لذا فالإستشهاد به قد لا يكون في محله، لأنكم أساس أقمت فصلا ليس بين فكريين في مقابل الواقع، بل بين الفكر والواقع نفسه.
4- قد تكون مقاربتكم صحيحة إلا أنها مثالية، لأننا في عصر العولمة والمعلوميات، لا يمكن أن نطبق ما ترنون إليه، أي عدم إخبار المواطن العادي بما قد يُعلن عنه في مجال البحث العلمي، فالتلفاز والإنترنت وغيرها قد تحول دون ما تطمحون إليه.
5- قد أجدكم نخبويا لما تتحدثون عن عدم إمكانية المواطن العادي من فهم ما قد تكشفه الأبحاث في مجال الأمازيغية، والأمر أن الجميع يجب أن يساهم برأيه، وقد تكونون بهذا تقوضون مبدأ اساسيا من مبادئ الديمقراطية باسم النخبوية، ألا وهو مبدأ الحق في المعرفة للجميع، وحرية التعبير للجميع، فكيف نطبق ما ترنون إليه في إطار ديمقراطي شامل.
6- أرى أن الفصل الذي قام به الإغريق بين الميثوس واللوغوس قد كان سببا في نشأة “الميتافيزيقا” بل هو نظرة ميتافيزيقية للحياة، ونحن الآن في الفكر المعاصر، خصوصا مع نيتشه وهايدغر ودريدا، نتحدث عن تفكيك الميتافيزيقا، من خلال تقابلاتها المتعددة، فكيف تطرحون أستاذي هذا التصور من خلال الفصل، وهو ما تحاول الفلسفة المعاصرة ان تقوضه، كأني بكم أفلاطونيين أو ديكارتيين، ولم تستوعبوا الدرس الفلسفي المعاصر.
7- أخيرا وليس آخرا، أود من أستاذي أن يأخذ ملاحظاتي هذه على أنها عربون تقديري واحترامي للجهد الفكري الذي كان وراء كتابة هذا المقال. وكما يقال بأن النص ينفلت من قبضة صاحبه حينما يتم نشره للقارئ، ويصبح بين الأخذ والرد والنقاش ليتم إغناءه بالنقد والنقاش، وأتمنى أن أكون قد فتحت الباب لإخواني في المجال لمناقشة هذا المقال، وأنا بدوري مستعد لتقبل انتقاداتكم إزاء ملاحظاتي المتواضعة هذه. والشكر موصول للجميع.
Saida
17 ديسمبر، 2012 at 5:13 م
و لكن ما هي اهداف القضية الامازيغية و ارجو الاجابة على سؤالي
Saida
26 ديسمبر، 2012 at 8:29 ص
و لكن ما هي اهداف القضية الامازيغية