إشكالية المجتمع المدني في ظل الحراك العربي: بين سلطة السياسة وسلطة الثقافة

منبر الحرية2 مايو، 20131
إن وجود المجتمع المدني ضرورة ملحة في النهوض بالأوضاع الإجتماعية التي يسودها القهر المجتمعي والإستبداد السياسي والنظام الشمولي الأحادي ولكن إذا كان المجتمع المدني لا يزدهر إلا في ظل نظام سياسي ديمقراطي ومتعدد، فكيف يمكن له المساهمة في إرساء قيم الديمقراطية والمواطنة والحرية والعدالة؟......

محمد أوالطاهر*

ربما جاز القول أنه لا حديث على الأصح في ظل الحراك العربي[1] إلا حديثَ الدمقرطة وحقوق الإنسان، ومن بين إفرازات هذا الأخير النقاش الدائر حول إمكانية قيام مجتمع مدني قوي في ظل هذا الحراك، لا ضير إذن في تباين وجهات النظر التي قاربت مسألة المجتمع المدني ما دام نقاش الدمقرطة وحقوق الإنسان نقاشا لم يُفصل فيه القول بعد داخل المجتمعات العربية لاعتبارات سياسية في أحيان، ثقافية وإيديولوجية في أخرى، أضف إلى أن أرضية المواطنة كثقافة اجتماعية لم تتأسس بعد لقيام الديمقراطية كثقافة سياسية، إذ إن فكرة المجتمع المدني كما يقول نايجل أشفورد: “هي إحدى ثمار الحضارة”[2].

من هذا المنطلق، يبدو قويما مقاربة فكرة المجتمع المدني من منظورين: المنظور السياسي الذي يشتغل عليه المجتمع المدني كميكانزمات للبقاء، والمنظور الثقافي الذي على أساسه بُنيت فكرة المجتمع المدني. إن الفصل بين هذين المنظورين يجد جذوره في الطرح الهيغيلي الذي ميز بين الدولة والمجتمع المدني اللذين كانا يمثلان كيانا واحدا بالمعنى الإغريقي قصد الإجابة عن إمكانية قيام تجمع communauté ما في العصر الحديث[3]، كما أن هذا الفصل الذي تبنيناه جاء مساءلة للطرح الماركسي الذي ينظر إلى المجتمع المدني في أنه مرتبط ماهويا بالمجتمع البورجوازي الذي يحاول من خلاله الاستئثار بالسلطة[4]. كيف إذن يمكن أن نترجم هذا التمييز داخل المجتمع المدني نفسه في مقاربة فكرة المجتمع المدني في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة العربية؟

يتضح بداية أن الحديث عن المجتمع المدني لا يستقيم دون إبرازٍ لمسألتين اثنتين: أولا تحديد مقتضيات الحديث عن قيام مجتمع مدني في ظل الحراك العربي، ثانيا تحديد رهانات هذا الحديث في  أفق النهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها المجتمعات العربية.

يأتي التحديد الأول ليعيد من جهة مساءلة أسباب ضعف المجتمع المدني العربي الكامنة أساسا في التضييق على أنشطته، الضرب في استقلاليته باعتباره مناورة لإضعاف الدولة المركزية، الملاحقات الأمنية لأعضائه، عدم الثقة في برامجه باعتبارها تسويقا للثقافة الغربية، وليبحث من جهة أخرى فيما يجعل الحديث عن المجتمع المدني ضرورة ملحة في النهوض بالأوضاع الإجتماعية التي يسودها القهر المجتمعي، الإستبداد السياسي والنظام الشمولي الأحادي. إلا أن هذا التحديد الأول قد يضعنا في تناقض: إذا كان المجتمع المدني لا يزدهر إلا في ظل نظام سياسي ديمقراطي ومتعدد، فكيف يمكن له المساهمة في إرساء قيم الديمقراطية والمواطنة والحرية والعدالة؟.

 يمكن الخروج من هذا التناقض بالقول: إن المجتمع المدني على المستوى السياسي مرحلة انتقالية قصد تخليق الحياة السياسية والإنتقال من مجتمع لا سياسي apolitique إلى مجتمع ذو وعي سياسي، إنه وسيط بين الطبقة الحاكمة والطبقة العريضة من المجتمع، بين العرض السياسي والطلب المجتمعي، غير أن القيام بفعل الوسيط يقتضي ضبط تاريخانية المجتمع بتعبير ألان تورين من جهة، أي الأفق الذي يسير نحوه المجتمع من خلال ممارساته الثقافية والإجتماعية،  ومن جهة أخرى الإحاطة بمسألة التسييس المعتمدة من لدن الدولة كورقة رابحة توهم المجتمع بقدرته على التغيير للبقاء في مأمن من تداعيات حراك ما أو حتى لمراقبة تحركات الأفراد ونشاطات الجماعات. من أين إذن يحصل المجتمع المدني على قوته: هل من السياسة، من الاقتصاد أو من الدين؟

إذا كان المجتمع المدني يُمثل كما يقول أشفورد: “كل المؤسسات الحرة القائمة بين الفرد والدولة مثل الأسرة والكنائس والنوادي الرياضية والمؤسسات الخيرية”[5]، فإن قوته يجب أن تأتيه من داخله، أي من مجموع إرادات المواطنين التي تتأسس على قيم المواطنة التي ترى قيمة الإنسان في كونه إنسانا بعيدا عن التحديدات الإجتماعية والدينية والسياسية لقيمة هذا الأخير، من هذا المنطلق، نؤكد على كون فكرة المجتمع المدني كثقافة ما تزال جنينية داخل المجتمعات العربية التي ما تزال فيها قيم “القبيلة، العشيرة، الغنيمة” كما حددها محمد الجابري تسيطر على ممارساتها سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، والأدهى أننا نشاهد من حين إلى آخر عودة المكبوت التاريخي كرد فعل انفعالي وليس كإستراتيجية بناءة ومستقبلية، مما يقسم المجتمع المدني إيديولوجيا، الشيء الذي يجعل منه عائقا للتقدم مادام رهانه إضفاء المشروعية على أشكال من الخصوصية الضيقة والهوية الجامدة أو الفردانية individualisme النفعية والتحرر الطائش، وليس هدفه توسيعا لرحبة الوجود الإنساني[6].

على هذا الأساس، يأتي التحديد الثاني القائم على إبراز رهانات قيام مجتمع مدني في فترة ما-بعد  الحراك العربي، ليُعيد تشكيل صورة المجتمع المدني من خلال نظرة مستقبلية كونية مبنية على تجارب الماضي التي اختلطت فيها أوراق السياسة بالدين والثقافة، وسنلاحظ من خلال ذلك، إن طرح سؤال إمكانية قيام مجتمع مدني قوي في المجتمعات العربية سؤال هو في منطوقه جديد لكن بداياته التاريخية جاءت مضمرة في سؤال إمكانية تبني مشروع الحداثة في البلدان العربية، غير أن الخلط بين ما هو سياسي وما هو ثقافي أدى إلى رسم صورة سلبية في المخيال المجتمعي العربي، حيث كان الخلط حاصلا ما بين الحداثة كمنجز إنساني قد تتقاسمه البشرية جمعاء، وبين الحداثة كغطاء خارجي لتحقيق مصالح استعمارية[7].

إن التفكير في ‘ثقافة’ المجتمع المدني كأساس للتصالح مع ‘سياسة’ المجتمع المدني والدفع بها نحو إرساء قيم الحرية والعدالة والمساواة، هو في آخر المطاف رهان الخروج من ثنائية الحداثة والتقليد للإنخراط في مشروع الكونية.

في هذا الإطار، وفي ظل الحراك العربي وصعود الإسلاميين إلى السلطة، لابد للمجتمع المدني أن يكون قوة ضاغطة لمنع كل شكل من أشكال “أسلمة” أو كما يسمونه المصريون “أخونة” قطاعات المجتمع والاقتصاد والسياسة، وفتح نقاش عريض حول إشكالية المدنية والدينية بدل النقاش حول العلمانية الذي لا يزال يُشكل نقطة انفصال الإسلاميين والعلمانيين، فما دمنا متفقين على المضمون (فصل السلط، دمقرطة المؤسسات، المواطنة كمشروع مجتمعي) فلا مشاحة في الاصطلاح (علمانية، مدنية…).

في هذا الأفق، على المجتمع المدني أن لا يكون طرفا في اللعبة السياسية بل منهجا لمقاربة مفهوم السلطة بمعناها الفوكوي (ميشيل فوكو)، تأصيلا للممارسات الغير الخطابية داخل سياق الممارسات الخطابية التي هي ممارسات سلطوية بالأساس، بعبارة أخرى، يصبح المجتمع المدني بمثابة عنصر تكوين وتأطير وتوعية من جهة، وعنصر مراقب لسياسة الدولة وليس جزءا من سياستها، إذ إن من الوظائف الأساسية للمجتمع المدني كما يؤكد ذلك “نايجل أشفورد”: “أن يعمل بوصفه قوة موازنة لسلطة الحكومة، فحين يكون الأفراد منفصلين وغير معتادين على سبل التعاون الإنساني، يكونون فريسة أسهل للإغراءات الشمولية لأولئك الذين يقدمون الأمن بديلا عن الحرية”[8].

على المستوى الاقتصادي، قد يكون دور المجتمع المدني هو محاولة التوفيق بين القطاع العام الذي يكرس التبعية والجمود والقطاع الخاص المعتمد على التنافسية والحرية، أو بالأحرى تجاوز ثنائية الخاص والعام التي ما هي في عمقها إلا مظهرا جديدا من مظاهر ثنائية الاشتراكية والرأسمالية، وبهذا يكون المجتمع المدني هو الإمكان الثالث المستقل عن سياسة الدولة التي ترنو إلى الاستقرار وعن اقتصاد الشركات الكبرى التي ترنو إلى الربح والمنفعة[9].

ختاما نقول، إن الحديث عن قيام مجتمع مدني في ظل الحراك العربي حديث ذو شجون، إذ يتقاطع فيه ما هو سياسي بما هو ثقافي، ويبقى الفصل بين المستويين أساسي لفهم التناقض الحاصل في مقاربة المجتمع المدني كضرورة مجتمعية اقتصادية من جهة وكمقاومة ثقافية تاريخية من جهة أخرى، ويبقى للباحث دور تفكيك هذه الثنائية قصد فهم البنيات اللاشعورية التي ما تزال تحكم سياسات المجتمعات العربية، وبذلك تكون فكرة المجتمع المدني آلية لدراسة ميكرو- سلطة المجتمع لفهم ماكرو- سلطة الدولة، إذ إن هذه من تلك ولا يستقيم فهم إحداهما بمعزل عن الأخرى، إذا اعتبرنا السلطة في ‘كل مكان’ إذ تنفذ في جميع مجالات الحياة، و’لا مكان’ إذ يصعب تحديد موقعها، فكلما اقتربنا لنقبض عليها كلما توارت تحت أشكال أخرى، وربما تكون فكرة “المجتمع المدني” شكلا جديدا من أشكال انكشاف حقيقة “السلطة” ؟

 * كاتب من المغرب

منبر الحرية، 02 ماي/أيار 2013


[1] – اخترنا كلمة “حراك” لأنها أكثر حيادية تجاه ما يحدث في المجتمعات العربية، على عكس كلمة “الثورة” التي تقتضي تغيرا جذريا في البنى الاقتصادية والسياسية، وكذا كلمة “ربيع” باعتبارها حكم قيمي إيجابي تجاه التحولات القائمة؛ أما بخصوص كلمة “عربي” فقد استعملت بمعناها الحضاري ولا يجب أن تُفهم في سياقنا هذا على أساس عرقي-إثني.

[2]نايجل أشفورد، المجتمع المدني، مقتطف من كتاب: مبادئ لمجتمع حر، ترجمة مشروع منبر الحرية في 21 مارس 2012، الرابط الإلكتروني: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/6364.

[3]Sunil Khilnani, la société civile : une résurgence, Traduit de l’anglais par Rachel Bouyssou et Anne Amiel.

« La question de Hegel : la possibilité de créer et de perpétuer une communauté dans les conditions modernes. C’est pour y répondre qu’il introduit la distinction entre « État » et « société civile ».

 

[4] – Ibid. «  Les marxistes, qu’ils fussent orthodoxes ou « dissidents », en usaient de manière péjorative : la société civile était identifiée à la « société bourgeoise », royaume de contradictions et de trompeuses apparences construit sur des rapports de pouvoir. »

 

[5] –  نايجل أشفورد، المجتمع المدني، مقتطف من كتاب: مبادئ لمجتمع حر، ترجمة مشروع منبر الحرية في 21 مارس 2012، الرابط الإلكتروني: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/6364.

[6]Sunil Khilnani, la société civile : une résurgence, Traduit de l’anglais par Rachel Bouyssou et Anne Amiel.
« Elle [la société civile] peut indifféremment être invoquée pour affirmer une conception libérale de l’État de droit ou pour légitimer des formes particularistes ou identitaires du politique. Dans ce dernier cas, elle devient un domaine d’authenticité et d’intimité toutes particulières, non contaminé par l’État, et auquel ce dernier doit être subordonné. En Égypte, par exemple, deux conceptions tout à fait contradictoires de la « société civile » coexistent, l’une « laïque et libérale », l’autre « islamique et communautaire », qui ont des interprétations complètement différentes de la politique en démocratie. »

[7] – محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة: هشام صالح، الطبعة الثانية 1996، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي، بيروت، ص 229.

[8]نايجل أشفورد، المجتمع المدني، مقتطف من كتاب: مبادئ لمجتمع حر، ترجمة مشروع منبر الحرية في 21 مارس 2012، الرابط الإلكتروني: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/6364.

[9]Nina Cvetek et Friedel Daiber, qu’est-ce que la société civile ? Traduction en français: Rabary-Andriamanday Voahanitriniaina, Coordination : Jean-Aimé A. Raveloson,  Antananarivo, octobre 2009.

« La société civile prend ainsi le rôle de contrepoids vis-à-vis de l’Etat et du secteur économique. Dans l’exécution de ce rôle, les principes de neutralité et d’indépendance doivent être pris très au sérieux. »

 

One comment

  • Rabary-Andriamanday Voahanitriniaina

    22 أكتوبر، 2013 at 5:26 ص

    Merci d’avoir écrit un article qui permettra certainement de compléter dans chaque pays, les conceptions habituelles traditionnelles sur la société civile par des regards novateurs, alimentés par la bonne connaissance de ces visions qui viennent d’ailleurs et qui peuvent être transposés et adaptés chez soi en toute connaissance de cause, grâce aux analyses comme la vôtre! Bravo!

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018