ظن كثيرون ومن بينهم من شارك في الثورة كجماعة الإخوان المسلمين أن سقوط حكم مبارك هو نهاية الثورة، ومن هنا سارعوا للتعاون وللضغط أحيانا مع حكام المرحلة الانتقالية ممثلين في المجلس العسكري لتخرج هذه المرحلة بالشكل الذي يريدونه ويخدم هدفهم، بدءا من عملية الاستفتاء المبهمة على الإعلان الدستوري في مارس 2011 وانتهاء بقانون الانتخابات الذي جاء بهم بالأغلبية في الانتخابات النيابية بتفصيله وانحيازه لهم …وغاب عن الطرفين أن الثورة مستمرة ولم تنتهي، وفسروا رد فعل الثوار بالمظاهرات على أحداث المتحف وكشوف العذرية أو أحداث العنف عند ماسبيرو والعباسية انه أمر عادى ومصطنع، ولم يدركوا أن هناك ثورة مستمرة حتى لو أن الرأي العام رضي بسقوط مبارك ويريد العودة إلى الاستقرار.
فإذا كانت بداية خيوط اللعبة التي أوصلت الإخوان إلى الحكم بنيت على سيناريو توظيف الدين وتشويه معارضيهم في كونهم ضده، فانه غاب عنهم الكثير من الحقائق التي من بينها أن ما يحدث في مصر بمثابة ثورة حقيقية وليست انقلاب وان تحقيق أهدافها أمر قد يستغرق سنوات ويحتاج إلى الاستمرارية فيها …..لذلك لم توقف كل هذه السيناريوهات الخفية المد الثوري للعام الثالث على التوالي بسبب إيمان الشباب بثورتهم، فبدأوا ينحتون في الصخر بعد ما قفز الإخوان من مركبه، فركزوا من وجودهم الرمزي في الميادين حتى في ظل ضغط الإخوان بالإسراع بالانتخابات النيابية الأمر الذي وضعهم في مأزق أمام الرأي العام، فالكثير من القوى السياسية شاركت فيها وظلوا هم واقفين في الميادين رافعين مطالبهم التي رأوا أنها لم تتحقق. وكثرت الأحداث والظروف التي أكدت على مبدأ استمرارية الثورة من بينها الصدام الذي حدث ما بين الثوار والمجلس العسكري في ديسمبر 2011 برفضهم تعيين رئيس وزراء جديد محسوب على النظام القديم، فحدثت مذبحة محمد محمود التي سقط فيها شهداء كثيرين بأخطاء من المجلس الحاكم في ذلك الوقت ومباركة الإخوان والإسلاميين الذي باتوا يرون أن وجود الثوار في الميادين يقف ضد تحقيق أهدافهم .. فالانتخابات النيابية دخلوها بشروطهم التي فرضوها على المجلس العسكري ولحقهم بعض الأحزاب القديمة والجديدة التي فكرت أن تخوض التجربة .. لذلك لم يكن مفاجئا أن يحصل الإسلاميون على نسبة 75% من المقاعد في المجلس بغرفتيه لعوامل كثيرة أبرزها أن تنظيمهم لم ينهار كالحزب الوطني الديمقراطي عقب الثورة فضلا تحييد شباب الثورة..الخ..وبمجرد أن تم الانتهاء من إخراج الانتخابات النيابية بغرفتيها تم الاستعداد والتجهيز للرئاسية والتي تسابق فيها وجوه متعددة لم تكن في جوهرها معبرة عن الثورة، وهو ما وضع الثوار أمام الأمر الواقع خصوصا بعد ما تم حل البرلمان لعدم دستورية الشكل الذي اجري به، فمال معظمهم في المشاركة في الانتخابات الرئاسية ، ومحاولة المفاضلة ما بين المرشحين الذين يوجد منهم من يقترب من الثورة بما فيهم حمدين الصباحى وعبد المنعم أبو الفتوح….وجاءت نتيجة الجولة الأولى بمفاجئة أنها وضعت الاختيار إما بين مرشح النظام القديم احمد شفيق ومرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي، وخرج المرشحان اللذان يدعمهم الثوار…ومن اجل هدف استمرارية الثورة، وعلى الرغم من تحفظاتهم على الإخوان لعدم إخلاصهم لها في المرحلة الانتقالية، ذهب الكثيرون منهم وأعطوا صوتهم لمرشح الإخوان على أساس مبدأ اخف الضررين ليمنعوا فوز المرشح المحسوب على النظام القديم الذي كان يعنى نجاحه فشلا للثورة .. وجاء فوز مرشح الإخوان انتصارا للثورة بفضل دعم الثوار أنفسهم بعدما تقاربت النتيجة مع المرشح المنافس …إلا أن الدرس الذي لم يدركه الإخوان عندما بات رئيسهم على رأس حكم مصر أن هناك مطالب للثورة لم تتحقق والثوار الذين دعموه منتظرين أن يأخذ بأيدهم في تحقيقها… فقد مرت مائة اليوم الأولى من حكم الإخوان ولم تتحقق أي مطالب مما تعهد بها الرئيس مرسي في هذه الفترة وخاصة المتعلقة بالثورة باستثناء انه نحى المجلس العسكري جانبا على خلفية مقتل الجنود المصريين في أغسطس 2012، وهو ما أعطاه دفعة وقوة وثقة بالنفس ليس ليحقق مطالب الثورة وإنما ليحقق أهداف وأيدلوجية تنظيمه الأمر الذي لم يستفز فقط الثوار الذين دعموه وإنما اخرج الطبقة الوسطى المصرية من ثباتها عقب إعلانه الدستوري الشهير في نوفمبر 2012 الذي نصب به نفسه اله فوق الجميع لتشهد مصر موجة ثورية جديدة في الشكل والنوع بأنها فاقت هذه المرة الموجات الثورية التي وقفت ضد حكم العسكر في كونها وسعت من نطاقها وتعدت ميدان التحرير إلى قصر الاتحادية مقر الحكم، وامتدت لأكثر من شهرين حتى تم إلغاء الإعلان الدستوري، فضلا عن كونها جاءت فقط بعد مرور ستة أشهر على رئيس منتخب . وبدلا من الاستجابة لمطالب الشارع تم الإسراع بعملية الاستفتاء على دستور تم طبخه بسرعة وغاب عنه التوافق بعدما انسحب ممثلي القوى المدنية من لجنته …إلا أن قيمة هذه الموجة من الثورة أكدت على مبدأ استمرارية الثورة، فمثلما فعّلته ضد العسكر ها هي تفعّله ضد حكم الإخوان، وليقف الشارع للمرة الأولى في مواجهة الإسلاميين في تطور مهم في الصراع السياسي والثقافي في مصر، فبعدما كان الشارع هو ملعبهم الذي يستمدون منه الشرعية بدأ هو الذي يسحبها منهم ليضع علامات استفهام كبيرة في الطريقة الخطأ التي ارتكبتها النظم الديكتاتورية في تعاملها مع الإسلام السياسي في أن حجبهم كان منطق قوتهم وشرعيتهم ..
وأفرز هذا النمط من الصراع على الأرض آليات جديدة لتجنب المواجهة مع الإسلاميين الذين يغلب عليهم العنف، فكانت المفاجأة الأكبر في هذا السياق ظهور حركة تمرد التي انتهجت نهجا جديدا في إبداعها الثوري وتغيرها للطريقة بان تضع لنفسها هدفا في خلال شهر، وقبل أن يتم الرئيس مرسي عامه الأول في الحكم بتجميع ما يزيد عن 22 مليون استمارة تمرد(حسب بيان آخر مؤتمر للحركة) موثقة من صاحبها برقم هويته وتوقيعه برفضه لحكم الرئيس مرسي لكونه لم يحقق أي شيء مما نادت به الثورة بطريق مبتكرة وعبقرية.. وعلى خلفية هذه الحركة بدأت مصر تتنفس ريح موجة تالية من الثورة بدأت قبل يوم 30 يونيو المحدد بإسقاط الرئيس مرسي . وما يلفت الانتباه لمن يعيش في مصر ان استمارات تمرد تجدها أينما ذهبت ، فأصبح أيضا الكارت الأحمر مألوفا في يد الصغار والكبار بمضمونه في عالم الكرة بان من يحصل عليه يكون مطرودا من اللعبة لارتكابه خطا جسيما في حق اللاعبين .. وهذه الرمزية من استمارة تمرد إلى الكارت الأحمر تؤكد على مبدأ سلمية الدعوة والتظاهر لإسقاط مرسي حتى لو حدث عكس ذلك فان هؤلاء لم يوجد ما يدلل على عنفهم عكس ما يفعله أنصار الرئيس من العنف اللفظي والمادي في حق معارضيهم.
والسؤال هل الثورة عدوة للإخوان أم عدوة لمن لا يحقق أهدافها؟ فالدور الذي لعبه الجيش المصري في حماية الثورة والمساعدة في تنحى مبارك لهو جميل سوف يذكره التاريخ، وعلى الرغم من ذلك عندما تخبط العسكر في عملية الحكم انعكست الآية وامتلأت الميادين بعدها بأشهر تطالبهم بالابتعاد عن الحكم .. وبالتالي ما يحدث فهو أمر ليس المقصود منه الإخوان بذاتهم وإنما بسبب فشلهم وخيانتهم للثورة .. فكان طبيعيا ن تخرج هذه الموجات التي تطالبهم بالابتعاد عن الحكم وإذا كانت حجتهم أنهم جاءوا بشرعية التصويت، فها هي ملايين التوقيعات التي تفوق نسبة ما حصلتم عليه بملايين تطالبهم بالرحيل ….. لينتصر في النهاية مبدأ استمرارية الثورة التي قد تحرق مثلما حرقت مرحلة حكم العسكر ومرحلة حكم الإخوان مراحل تالية قد يكون على رأسها حكم مدني ما دامت لم تحقق أهدافها ..
*كاتب مصري
منبر الحرية، 25 سبتمبر/أيلول 2013