نبيل علي صالح13 يناير، 20150
أزمات العرب المتعددة المتفاقمة الراهنة والموروثة، لن تنتهي في القريب العاجل، لأسباب ذاتية وموضوعية،.. نعم يمكن حدوث بعض التطورات البسيطة المحددة غير الواسعة على عدة صعد اقتصادية وتنموية.. أما على صعيد الحكم والسياسة، فهذه قضية صعبة المنال والتحقق في المدى القريب... .

    المشكلة أن الحاكم العربي عندما يصل إلى سدة الحكم يكون مشبعاً بأفكار التغيير، وفي قمة ألقه ونشوته النفسية الشعاراتية، فيبدأ من فوره بطرح رؤيته وبرامجه وخططه المستقبلية للبناء والتطوير، ولكن عند أول مفصل أو أزمة تواجهه، وكنتيجة مباشرة لسوء إدارته وفشله العملي، تراه يعود فوراً إلى حيث الركن الوثيق، والملجأ الآمن والحضن الدافئ الذي يوفر له الطمأنينة والراحة والبقاء.. هذا الركن هو الطائفة أو العشيرة أو القبيلة.. هنا أصل الداء عند عموم العرب المبتلين بثقافة الجذور والأجداد والماضي المتوج بالأمجاد التليدة.

    انطلاقاً من ذلك، نقول بأن أزمات العرب المتعددة المتفاقمة الراهنة والموروثة، لن تنتهي في القريب العاجل، كما قلنا، لأسباب ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية، تاريخية وثقافية… نعم يمكن حدوث بعض التطورات البسيطة المحددة غير الواسعة على عدة صعد اقتصادية وتنموية.. أما على صعيد الحكم والسياسة، والتغيير السياسي الديمقراطي المدني المؤسسي القانوني المنشود، فهذه قضية صعبة المنال والتحقق في المدى القريب، لأنها متصلة، بل ومرهونة عضوياً وفي العمق، بشروطها الخاصة وتربتها المناسبة ومعاييرها المعرفية ومعاييرها “السوسيولوجية” غير المتحققة بعدْ، لا على مستوى الذات، ولا على مستوى الموضوع.

    على هذا الصعيد، نعتقد بأن أزمة الإرهاب ومجمل تعقيدات وإفرازات تيارات الإسلام السياسي وجماعات الأصولية الدينية والانفجارات الجهادية المستمرة في بيئتنا العربية الحاضنة حالياً في العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها، لن تتوقف عن إنتاج ذاتها المريضة بين وقت وآخر، ولن تتوقف عن المباشرة في استخدام أدوات العنف الدامية في القريب العاجل، ربما ستخبو فتائلها، وقد تخف حدّتها، وتضعف وتائرها، إذا ما تم ضبطُ مصادرِ تمويلها، ومواقعِ وقنوات دعمها استخباراتياً ومعلوماتياً.. أما السيطرة النهائية عليها، وحسم المعركة والصراع ضدها لمصلحة الوطن ورغبة الناس في العيش المستقر والآمن، فلن يحدث إلا من خلال حسم معركة بناء الداخل في كل دولنا العربية، والاتفاق -من خلال الحوار الوطني العام- على بناء الدول المدنية الحديثة، دول القانون والمؤسسات التي يتشارك كل من يعيش تحت ظلها في مسؤولية بنائها، وتحمُّلِهم لمسؤوليات تطويرها وازدهارها وتثميرها حضارياً وعلمياً، والاستفادة العادلة والمتساوية والمتوازنة من خيراتها وثرواتها ومواردها، وليس فقط تعيّش الجزء على حساب الكل في سياسات فئوية تمييزية، تكفّر الناس بالدولة من أساسها، حتى لو كانت دولة “نبويّة!”، وتجعلها كالريشة في مهب رياح السياسات الماكرة لدول النفوذ الإقليمية والدولية الكبرى التي تستغل هشاشة بنى مجتمعاتنا على المستوى السياسي والاقتصادي والبنيوي، والإرهاب (الذي يتسلّل إلى أجسام هشّة، فقدت جزءاً كبيراً من مناعتها السياسية والاجتماعية) لا يأتي من فراغ، أو ينمو في فراغ، بل يأتي دائماً في مرحلة بلغ فيها الانسداد السياسي، بل والتعفّن الأمني، مستويات كبيرة. ومن ثم، فالمشكلة ليست في قوة الجماعات الإرهابية، وإنما في ضعف الكيانات السياسية الذي يشكل تربة خصبة لنمو الإرهاب وتطوره().

    من هنا، عندما يشعرُ كلُّ مواطنٍ، ويتأكدُ بالممارسة، بأنّ له الحق القانوني الكامل في الانتفاع بثروات بلاده، وأنّ هناك عدالةً تسري بقوة القانون لتوزيع تلك الثروات والموارد الكبيرة عليه وعلى غيره دونما تمييز أو رجحان لكفة فرد على آخر، وأنه قادر على المشاركة الفاعلة في تقرير مصيره عبر المؤسسات الرسمية، عندئذ سيشعر لوحده بالمسؤولية العملية، وسيندفع بقوة وفاعلية إلى ميادين العمل وساحات الإنتاج المادي والرمزي.. لأن المحفزات والمحرضات توافرت، وهي الحرية، والعدالة، والقانون، والمساواة.. وهذه من أهم شروط تحقُّق التنمية والوصول إلى الازدهار.

    وإذا ما أنجزت تلك الشروط، وتوافرت مناخات العمل الصحيح، وتمَّ عبرُها تحقيق دولة الرفاه الاقتصادي، فسيتلاشى الإرهاب والتطرف تدريجياً، وبالتالي سيلقى مصيره المحتوم إلى طريق اليباس والموات.. بما يعني أن منطقتنا العربية لن تعود عرضةً لرسم خرائط جديدة، كما (يبشّرُ!) بعض الخبراء والمراقبين السياسيين العرب والدوليين، في ظل الصراعات المفتوحة المتعددة الأطراف، والتشابكات الإقليمية والدولية، ولعبة الأمم العالمية المستمرة في إقليمنا العربي المتميز بموقعه “الجيوسياسي” الحيوي، وثرواته الطبيعية الكبيرة، وطاقاته البشرية الهائلة، وهذا هو من أهم أسباب ودوافع اندلاع تلك النيران وحدوث تلك الأزمات، وما حركة “داعش”(التي هي نتاج لمرحلة غزو أمريكا للعراق مع غيرها من قوى وتنظيمات الإرهاب الأصولي المحلي) سوى أداة رخيصة الثمن، قليلة الكلفة عليهم، بل بالعكس هم يجنون من ورائها أموالاً طائلة ويحققون أرباحاً وفيرة، ويعقدون من خلالها صفقات لا تعد ولا تحصى على كل المستويات والأصعدة، فهم من جهة يثبتون–بالأدلة والبراهين المادية- لدول المنطقة الضعيفة سياسياً أنها في حالة تهديد “مصيري” دائم من قبل عدو متربص قوي ودائم الحضور، ولابد من توفير حماية لعروشهم وكراسيهم، وذلك عن طريق توقيع مزيد من الاتفاقيات العسكرية معهم (معاهدات دفاع مشترك)، وإقامة القواعد العسكرية الجديدة، أو بتأمين صفقات أسلحة خيالية لمصانعهم الحربية خاصة في ظل الجمود المالي الدولي بعد سنوات من الأزمة المالية التي مر بها العالم عقب أزمة الرهون العقارية الأمريكية 2008…. ومن جهة أخرى تبقى أمريكا حاضرة بقوة في كافة أوراق وملفات ومفاوضات ومساومات المنطقة العربية –كضابط إيقاع رئيسي- حفاظاً على مصالحها الإستراتيجية، ورعايةً لأمن إسرائيل، ومشرفاً مباشراً على تأمين خطوط إمداد الطاقة.

    ولهذا، هم يفكرون أنه لا مشكلة عندهم –بين وقت وآخر- في أن يتم التلاعب بمصائر البلدان والشعوب العربية، وخلخلة التوازنات الاجتماعية والسياسية، وتهديد وحدة الكيانات السياسية التاريخية القائمة المعروفة عربياً وإسلامياً منذ عقود، وربما قرون، إذا كان هذا التلاعب المصائري –إذا جاز التعبير- سيساهم في زعزعة استقرار تلك الدول (التي تختزن قابليات استجابة ذاتية لمثل هذه الخضّات الأمنية والعسكرية نتيجة عدم توافقها وانسجامها السياسي)، بما يفضي إلى تحطيم الدول المركزية، من خلال الاستثمار في الدين، وإذكاء مخاطر النزاعات الطائفية (السنية والشيعية) الممتدة في عموم المشرق العربي.. هذا ما يحدث باستمرار بين الفينة والأخرى عندنا نحن العرب، كما في حالة حرب العراق وإيران 1980-1988، وحرب الخليج الثانية 1990-1991، وغزو العراق عام 2003، وحرب تموز 2006 والصراع الأهلي والسياسي الدموي العنيف في سوريا والآن في العراق.. كل تلك الصراعات الدموية والحروب التقليدية وحروب العصابات التي وقعت (وتلك التي من الممكن توقع حدوثها في المدى القريب أو البعيد طالما بقيت أوضاعنا على ما هي عليه من ضعف واهتراء) تأكل من وجودنا ومصيرنا وثرواتنا()، بينما إسرائيل هي الدولة الوحيدة المتماسكة والقوية والمتوازنة، المعتمدة في قوتها على  تحطيم قوى كل من مصر وسوريا والعراق تطبيقاً لمقولة “ديفيد بن غوريون”() الشهيرة: “إنّ عظمة إسرائيل ليست في قنبلتها الذرية ولا ترسانتها المسلحة، ولكن عظمة إسرائيل تكمن في انهيار ثلاث دول: مصر والعراق وسوريّة”().

    هذا كله يطرح أسئلة مهمة أولاً، حول ظاهرة الدولة العربية الحديثة بنماذجها المتشكلة بعد عهود الاستقلال، والتي بنيت على أفكار وقيم الأيديولوجيات الشمولية والرؤى الاصطفائية، وأفكار الأحادية والمركزة والضبط والردع والاحتكار والعنف والانقلاب، وإلغاء حقوق المواطنة لأبناء مجتمعات تلك البلدان، من مختلف المكونات التاريخية.. وثانياً حول إمكانية إنتاج صيغ جديدة من تلك الدول، بعد فشل (أو تفشيل) نماذجها الوطنية الأولى، تتصف بكونها حكومات او دول لا مركزية مختلطة تعددية تسمح لكل مكوناتها الاتنية والدينية والمذهبية والأقوامية بتحقيق مطالبهم في الاستقلال الثقافي والتاريخي وحتى الطبيعي.. فهل هذا ما يبحثون عنه في مشرقنا العربي المأزوم؟!!… “تقسيم المقسّم وتجزئة المجزأ”.. وهل ستتفكك خرائطنا على وقع عصبياتنا العمياء، وأعلامنا المبللة بالكراهية والدم كما قال غسان شربل في الحياة مؤخراً()؟!..

    انظروا إلى واقع المنطقة اليوم، دولاً ومجتمعات، حكومات وأنظمة، معارضات وموالاة، أحزاباً وجماعات، منظمات وهيئات.. الكل غارق في عبثيته وغرائزيته الخاصة والعامة، إلا إسرائيل فهي الدولة الوحيدة التي لا تعاني من أية خضات أو أزمات سياسية أو أمنية كبيرة تتصل باستقرارها ووجودها… هي مطمئنة وآمنة ومستقرة، لا بل ومستفيدة من كل ما يجري عندنا من دمار وكوارث وويلات وصراعات واحترابات طائفية مقيتة.

    إنني أعتقد أن مواجهة السياسات “التدخلية” التي قد تفضي إلى واقع سياسي وجغرافي جديد من التقسيم والتفكيك المستقبلي، والتي تسلكها الدول والقوى ذات المصالح والمطامع الاستراتيجية في منطقتنا العربية، وخاصة في إقليمنا العربي المجاور لدول ثلاث متنافسة ومتصارعة على منطقتنا (وأعني بها إيران وتركيا وإسرائيل) لا تكون بتحطيم بنى المجتمعات من خلال اتباع سياسات العنف والقمع والاستبداد، ولا تكون بتعميق شروخ الفرقة والانقسام بين أهل الوطن الواحد، بل تكون فقط عبر قيم الشراكة الوطنية الصحيحة، وبناء المواطن السليم المعافى الحر والكريم والآمن في عيشه وفكره، وقبل ذلك تكون بإعادة الناس طوعياً إلى ممارسة دورهم السياسي المغيب قسراً وقهراً، وخاصة على صعيد صنعها بنفسها لقراراتها ومصائرها.. فتلك السنوات والعقود القليلة الماضية منذ عهود الاستقلال في منتصف القرن الماضي وحتى الآن، كانت أكبر شاهد على الفشل الذريع لدولنا العربية في إنجاز مشاريع النهضة والتقدم الحضاري، والعجز الفاضح عن تحقيق أدنى شعاراتها ومقاصدها في الحرية والعدل والمساواة، ونقل المجتمعات إلى مواقع أكثر رقياً وتطوراً في الفكر والممارسة، وفي مجمل السياسات وأساليب العمل والقرارات المصيرية التي طبقتها نخب الحكم قسراً ومن دون إشراك الناس في صنعها وتحمل مسؤوليتها.

فمتى سترتاح مجتمعاتنا من الأزمات المتلاحقة ونيران الفتن المشتعلة والمتنقلة من بلد عربي إلى آخر، والتي تكلفنا جميعاً أنهاراً من الدماء والدموع، وفشلاً تنموياً متواصلاً، وموارد وطاقات مبددة ومضيّعة؟!!…

*كاتب سوري

منبر الحرية، 13 يناير/كانون الثاني 2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018