
ذ. عزالدين أبرجي* ج 1
يعتبر الدين ــ كمنظومة معتقدات جمعية ــ عنصرا قويا في حياة الإنسان منذ القدم إلى الآن، لكن هذه المعتقدات الجمعية المختلفة باختلاف العصور والمصادر الدينية والأجناس والثقافات، أنتجت تصورات دينية بلغت حد التناقض والصراع.
شكل اللجوء إلى الدين، حلا سهلا لإخضاع المجتمعات وممارسة التسلط، وصل أقصى تجلياته المعنوية في المجتمعات الإسلامية إلى استغلال الخوف ــ حد الرّهاب ــ من عذاب القبر ومن جهنم، لممارسة التسلط بمختلف مستوياته؛ دينيا وسياسيا واجتماعيا بل وحتى اقتصاديا (مسألة الكنوز نموذجا). هذه الوضعية دفعتنا إلى الحديث في هذه المقالة عن “سلطة المخيال الديني”، ونقصد بها مجموعة من المعتقدات ذات الإنتاج البشري عبر تأويل النصوص الدينية، أو ما يسميه بعض الباحثين “ليّ أعناق النصوص” بما يتماشى والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لظرفية التأويل والغرض منه، مقابل تهميش آيات قرآنية ونصوص دينية تدعوا بشكل صريح إلى حرية المعتقد والممارسة الدينية، ولعل أبرز هذه النصوص قوله تعالى في آخر سورة الكافرون “لكم دينكم ولي دين” وقوله تعالى ” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” (البقرة الآية 256).
برزت محاولات تنويرية عملت على عقلنة المعرفة الدينية داخل البيئة الإسلامية والعربية في فترات زمنية متقطعة ومن مشارب فكرية متعددة، إلا أننا نستطيع الجزم بأن طرح هذه المعرفة على المحك العلمي بما يقتضيه ذلك من شروط أكاديمية وجرأة ثقافية وسياسية، لم يتم إلا في خضم الحراك الديمقراطي العربي؛ حيث أصبحت القناعة مشتركة بضرورة تحرير العقليات الإسلامية من الكهنوت ووضع مقاربة تمايزية بين المعرفة الدينية العقلانية وبين الثقافة الدينية المنتجة بشريا في ظروف سياسية معينة.
إن طرح المسألة الدينية بهذا الزخم الكمي والكيفي في الفترة الراهنة لم يأتي اعتباطا ، بل تحكمت فيه مجموعة من المتغيرات تداخلت لتفرز أسئلة وإحراجات تواجه العقل الديني ولعل أكثرها بروزا ما يرتبط بحرية المعتقد وبحرية ممارسة الشعائر الدينية من عدمها، بشكل آني ودون تأخير، ونسوق في هذه المقالة بعض المتغيرات التي نراها مفصلية في تاريخ النقاش الديني بالوطن العربي بعد الربيع الديمقراطي.
يرتبط المتغير الأول بإزالة حاجز الخوف إثر الحراك الديمقراطي؛ حيث أصبح المواطن العربي أكثر جرأة وحرية في الجهر بمعتقداته والنقد وإبداء المواقف الخاصة من السياسة والدين وغيرهما دون مركب خوف، ومن الأهمية بمكان الإشارة في هذا الصدد إلى مسألة الجرأة في المطالبة بعلمنة الدولة والتنصيص دستوريا على حرية المعتقد في الدساتير العربية والجهر بالإفطار العلني نهار رمضان وبالإلحاد والمثلية… رغم المحاصرة الشديدة من طرف السلطة الدينية التقليدية المؤسّسة على فتاوي ناتجة عن التأويل البشري المحكوم بظروف سياسية واجتماعية واقتصادية، للنصوص الدينية والعمل على تبيئتها داخل المجتمعات العربية الحالية. مع التنويه إلى أننا لا ننتصر لأحد الطرفين بقدر ما ننتصر ونؤصّل لأهمية الحرية داخل المجتمعات العربية.
ثاني هذه المتغيرّات يرتبط بإجبار العلماء الرسميين (فقهاء السلطة السياسية) وغير الرسميين على الانخراط في النقاش العام حول المسألة الدينية، ففي المغرب مثلا وعلى غرار كل دول الربيع الديمقراطي أجبرت مؤسسات العلماء والحركات الدينية على الدلو بدلوها في المطالب المرفوعة بضرورة التنصيص في الدستور على مبدأ “الدولة المدنية” والعلمانية لكونهما داعمتان أساسيتان لحرية المعتقد باعتباره من الحقوق الطبيعية المكفولة للإنسان (المغرب، مصر، تونس)، نفس الأمر سيتكرر مع مسألة الإفطار العلني لمجموعة من الشباب المغاربة في نهار رمضان ومسألة المثلية الجنسية وغيرها من المواضيع التي تقتضي الإجابة الدينية الصريحة. هذا النقاش سيتولد عنه صراع بين تيارين راديكاليين واضحي المعالم؛ تيار ديني يدافع على ضرورة الامتثال للمسلمات الدينية دون جدال، وتيار علماني يدافع عن الحرية الفردية في المعتقد دون تدخل أي سلطة مادية أو معنوية. يدفعنا هذا التدافع “العقدي” إلى التساؤل عن أسباب هذا الصراع، هل الخلاف مرتبط بمسألة الدين في حد ذاته؟ أم مرتبط بسلطة المخيال الديني؟. إن الحسم في هذه التساؤلات يرتبط بأهمية انفتاح علماء الدين والمؤسسات الدينية على العلوم الإنسانية (الانتربولوجيا والتاريخ والفلسفة وعلم النفس…) في مقاربة السؤال الديني، للتمييز بين ما هو ديني ذو مصدر إلهي، وما هو ذو إنتاج بشري مرتبط بمراحل سياسية أقحم فيها الدين للحسم في السلطة وغيرها.
* كاتب وباحث من المغرب
منبر الحرية، 1 مارس/آذار 2017