منذ انهيار الحرب الباردة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي في العقد الأخير من القرن الماضي، وصعود ما يعرف بالعالم الجديد، ينحكم العالم، في مجمله، إلى السياسة الأمريكية وحراكها في كل مكان، بحيث ينعكس هذا الحراك في كل خطوة أميركية، سواء أكانت ذات اتجاه سلبي أم ايجابي. هذا الواقع يجعل العالم، دائما، مشدودا إلى الرئاسة الأمريكية، ومن سيكون على رأسها، وهو الواقع نفسه الذي يدفع العالم إلى تقويم دوري لهذه السياسة في عهد هذا الرئيس أو ذاك، وهو أمر لا يحظى به أي رئيس آخر في أي بلد في العالم. لذا اكتسب، ولا يزال، الرئيس الأمريكي أوباما، في العام الأول على عهده، اهتماما استثنائيا في التقويم، وتعيين الايجابيات والسلبيات في هذه الفترة الزمنية، التي تؤشر عادة إلى مسار السنوات اللاحقة من عهده.
يرتبط التقويم لعهد أوباما الأول بالآمال أو الأوهام التي علقت على سياسته التغييرية الموعودة، في الداخل الأمريكي وفي الخارج العالمي. من الطبيعي أن تشكل هذه “الآمال” قياس النجاح والفشل، وتدفع إلى استعادة الثوابت الأمريكية. ترافقت حملة ترشيح أوباما مع وعود التغيير والخروج من المشكلات التي زج الرئيس بوش الولايات المتحدة بها. كان شعار التغيير تعبيرا عن حاجة موضوعية، في الداخل الأمريكي والخارج أيضا، وهو تغيير يفرضه حجم المشكلات البنيوية في الاقتصاد الأمريكي وحاجات المواطن، من مثل مشكلات البطالة والانكماش الاقتصادي وقانون الحماية الصحية.. وغيرها من المعضلات السائدة. أما خارجيا، فتنتصب في وجه الولايات المتحدة مسائل الحرب والسلم التي “تغرق” الولايات المتحدة في وحولها، من قبيل الحرب في أفغانستان والعراق، أو من قبيل التدخل في الصراع العربي الإسرائيلي ومشكلات البرنامج النووي الإيراني، وغيرها من القضايا المتصلة بصلب السياسة الأمريكية خارجيا. وهي جميعها معضلات، كان المجتمع الأمريكي والعالم الخارجي، يشكوان من سياسة الرئيس السابق في التعايش معها.
في خطابه عن “حال الاتحاد” الفيدرالي، يعترف الرئيس أوباما ببعض ما واجهه عهده حين يقول :”كانت حملتي الانتخابية مبنية على وعد التغيير، وشعار التغيير الذي يمكن أن نؤمن به .. والآن أنا أدرك أن هناك العديد من الأمريكيين ليسوا واثقين من أننا نستطيع أن نتغير أو نحقق التغيير.. حكومتنا تعرضت لبعض النكسات السياسية هذه السنة، وبعضها استحققناها..”. وهي اعترافات تخاطب المواطن الأمريكي بشكل أساسي، فيما تستوجب شعارات التغيير في السياسة الخارجية نظرة مدققة إلى ما يدخل في الثوابت الأمريكية التي تحكم كل عهد، أكان ديمقراطيا أم جمهوريا، والبناء على هذه الثوابت في رؤية الحقائق والأوهام التي علقت على مشجبها آمال الكثير من القوى السياسية في العالم العربي، الرسمية وغير الرسمية. يكاد جميع القارئين بموضوعية لعهد أوباما الإقرار بالفشل أو المراوحة في مواجهة الملفات المتصلة بسياسة السلم أو الحرب في الشرق الأوسط، وهي معضلات تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، الحرب في العراق، الملف النووي الإيراني، الحرب في أفغانستان، مكافحة الإرهاب… وغيرها الكثير، حيث لم تقدم السياسة الخارجية الأمريكية حلولا متقدمة للحد الأدنى من هذه المعضلات.
خلافا للأوهام التي علقت على التغيير في السياسة الأمريكية في الشرقالأوسط وسعيها لإيجاد حلول”عادلة”، ظلت سياسة أوباما ملتزمة ثوابت أميركية تعود إلى عقود من الزمن تتصل بقضيتين مركزيتين هما : حماية نفط الخليج وتأمين سلامة إنتاجه وتصديره إلى الخارج، وتثبيت مواقع الشركات الأمريكية في هذا المجال، والثاني التزام امن إسرائيل وحماية موقعها ومنع قيام تسويات على حساب مصالحها، ودوام تفوقها وهيمنتها على العالم العربي المحيط بها. في ضوء هاتين الثابتتين نقرأ ما تحقق على صعيد السياسة الأمريكية الخارجية لعهد أوباما. في الجانب الأول، وتحت حجة مكافحة الإرهاب، تسعى السياسة الخارجية إلى توظيف السياسات العربية، بل وتوجيهها، لجعل هذا الموضوع في رأس اهتماماتها، من دون أن تعالج الأسباب الموضوعية التي تجعل من العالم العربي أرضا خصبة لازدهار هذا الإرهاب. ونظرا للثقة الضعيفة بقدرة هذه الأنظمة على مواجهة هذا الملف، تحتل سياسة الوجود الأمريكي العسكري المباشر في أكثر من منطقة عربية أولوية حاسمة تجعل الولايات المتحدة قادرة على التدخل الفوري لمنع حصول أي خلل يؤثر على امن النفط في المنطقة، وهو موضوع لم يرد في خطابات أوباما أي وعد بانسحاب وخروج الجيوش الأمريكية من المنطقة. أما في الصراع العربي الإسرائيلي، فخلافا لكثير من الأوهام “الساذجة” حول تغيير أميركي لصالح إيجاد حل يعطي العرب والفلسطينيين حدا من الحقوق المشروعة، تراجعت السياسة الأمريكية عن الوعود، والتزمت سياسة إسرائيلية بالكامل، لا تقل في فجاجتها عن سياسة الرئيس بوش لجهة الانحياز المطلق للسياسة الإسرائيلية، برز في الموقف من الاستيطان الصهيوني والطلب إلى الفلسطينيين تقديم التنازلات، وبلغ أوج تعبيره في تجاهل الرئيس أوباما لموضوع الصراع العربي الإسرائيلي في خطابه عن حال الاتحاد.
مقابل هذه الثوابت الأمريكية خارجيا، تجب رؤية الثوابت التي تتحكم بالقرار الأمريكي وسياسة الإدارة الأمريكية. عل رغم الصلاحيات الواسعة للرئيس الأمريكي، إلا أن عوامل “خفية” تمثلها قوى مقررة تفرض نفسها على كل رئيس أميركي، من هذه الثوابت المؤسسات المتمثلة بالمجمعات الصناعية والعسكرية التي تحتاج إلى “مدى حيوي” لإنتاجها، وتصريف مخزونها تمهيدا لتجديده في ضوء ما استجد من تقنيات جديدة. من هنا، وخلافا لما يعتقده كثيرون، تبدو الحاجة إلى الحروب خارج الولايات المتحدة حاجة ضرورية وماسة لهذه المؤسسات، في وصفها شرطا لتطورها واستمرار تفوقها التقني على سائر الدول. لا تهتم السياسة الخارجية الأمريكية بحلول السلم في الغالب، بمقدار انشدادها إلى “حروب صغيرة” تساهم في تطوير وتجديد الصناعة العسكرية الأمريكية. أما القوى الأخرى المقررة للسياسة الأمريكية الخارجية، فهي الشركات الأمريكية العابرة للقارات والتي تشكل أخطبوطا حقيقيا يتحكم اليوم في الكثير من مصائر الشعوب. تقتضي مصالح هذه الشركات تحكما بالبنى السياسية للكثير من الأنظمة، وإقامة سلطات سياسية متوافقة مع مصالحها، وهي أمور تفسر الكثير من الانقلابات العسكرية أو التمردات التي تقف الشركات الأمريكية وراءها في أكثر من مكان في العالم العربي وسائر مناطق العالم.
لا تهدف هذه المقاربة إلى نعي أي إمكانية في تعديل السياسة الأمريكية عربيا، بمقدار ما تشير إلى أن العرب في إمكانهم التأثير على هذه السياسة والحد من انحيازها لصالح العدو القومي، وهو أمر ينجم عن مصادر القوة التي يملكها العرب، خصوصا منها المواقع المالية التي تلعب دورا في استقرار ما للسياسة العالمية عبر الأرصدة الموظفة في الخارج، أو من خلال النفط العربي الذي يظل يشكل نقطة القوة الأهم. لكن ذلك يستوجب سياسة عربية مختلفة وتضامنا على الحد الأدنى من هذه المصالح العربية.
© منبر الحرية ، 27أبريل /نيسان2010