كما هو حال العديد من العملات، فإن سعر صرف البوليفار الفنزويلي يتمتع بشيء من الثبات. وربما يبدو بالنسبة للبعض أن تحديد سعر صرف ثابت للعملة أمرا عاديا تماماً، بل وحتى طبيعي. فأسعار صرف العملات يبدو أنها تتحرك دون أسباب ظاهرة أصلاً. فلماذا لا نتخلص من اللُّبس الذي تتسم به الحركات اليومية لأسعار العملة صعوداً وهبوطاً؟ لكن، كما هي الحال بالنسبة لأية سلعة، هناك سعر “حقيقي” لكل عملة، وهو سعر دالّ على العرض والطلب. وحين تُطبع كميات إضافية من الأموال فإن هذا يقلل من قيمة تلك العملة، بسبب زيادة العرض. والحقيقة التي تقول إن سعر النفط مقوَّم بالدولار تعزز هذه العملة من خلال زيادة الطلب عليها.
الأسعار الاصطناعية تدفع الناس إلى إيجاد وسيلة لتنفيذ التعاملات بالسعر الذي يعتبر دالا على قيمة السلع أو الخدمات بالنسبة إليهم. والعملات لا تختلف عن ذلك. وفي حين أن سعر الصرف الرسمي تم تثبيته عند مستوى 2.15 بوليفار للدولار، فإن السعر السائد في السوق السوداء حسب الأنباء وصل إلى معدلات عالية عند مستوى 7.1 للدولار. بعبارة أخرى فإن دولة فنزويلا بالغت في قيمة عملتها بنسبة تصل إلى 325 بالمائة. بالتالي لا عجب أن الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز أعلن يوم الجمعة الماضي عن سعر جديد مزدوج للبوليفار، وهو 4.3 بوليفار لمعظم السلع، و 2.6 إلى واحد للسلع “ذات الأولوية”، مثل المواد الغذائية والكتب.
يشتمل البيان الرسمي الذي أعلن فيه شافيز عن تخفيض قيمة العملة على تعليقين لهما أهمية خاصة. الأول هو أن التخفيض من شأنه تقليص الواردات. وعلى حد تعبير شافيز: “في السنة الماضية استوردنا 90 مليون زوجا من الأحذية. هل هذا معقول بالله عليكم؟ نستطيع أن نصنع كل هذه الكمية بأنفسنا.” الثاني هو أنه أعلن أنه “لا يوجد سبب لدى أي شخص يجعله يرفع الأسعار”، وطالب المواطنين “بإدانة المضاربين علناً”. أية شركة يثبت عليها أنها ترفع الأسعار تكون معرضة لاستيلاء الحكومة عليها.
ملاحظات شافيز حول الواردات تشي بإخفاقه في فهم قيمة التجارة والمنافسة. فهو يخفق في استيعاب السبب الذي من أجله اشترى الفنزويليون هذا العدد الكبير من البضائع الأجنبية، وهي الأحذية في هذه الحالة. ليس السبب في ذلك هو أنهم لا يحبون وطنهم، وإنما لأن الأحذية المستوردة تلبي حاجاتهم على نحو أفضل من غيرها بالأسعار التي يرغبون في دفعها. بطبيعة الحال فإن تخفيض قيمة البوليفار ستجعل الأحذية المصنوعة في فنزويلا أرخص (طالما أنها تستخدم مدخلات الإنتاج المحلية). فإذا لم تستطع الشركات العثور على نوعية جيدة من الجلود أو الأربطة في السوق المحلية، فإنها ستختار أمراً من اثنين: فإما أن تصنع منتَجاً ذا قيمة متدنية، أو منتَجاً ذا سعر أعلى. في نهاية الأمر سيقرر المستهلكون الفنزويليون ما هو المركّب السليم بين هذين الأمرين. لكن إذا استمروا في شراء الأحذية المستوردة فإن السبب في ذلك هو أن صانعي الأحذية الأجانب أفضل من (صانعي الأحذية المحليين) في تلبية رغبات المستهلكين.
لكن الأمر المثير للقلق حتى أكثر من ذلك هو هجوم شافيز العنيف على أصحاب المشاريع من الفنزويليين. خلال العقد الماضي أو نحو ذلك كانت قيمة البوليفار تتناقص بمعدل سنوي يبلغ حوالي 30 بالمائة، وهي أعلى نسبة، كما تشير بيانات بلومبيرج، بين البلدان الثمانية والسبعين التي ترصد بياناتها الاقتصادية. وفي حين أن التضخم يمكن أن ينشأ عن عوامل متنوعة، إلا أن نسبته إلى “الجشع” على هذا النحو البسيط هو أمر غير سليم أبدا. على سبيل المثال، إن السبب الذي أضر كثيراً بجمهورية فايمار في ألمانيا وجعل الناس يحملون أموالهم في عربات صغيرة لم يكن حدوث موجة هائلة من الجشع، وإنما بسبب طباعة كميات ضخمة من الماركات الألمانية.
في فنزويلا المعاصرة يمكن أن نتوقع أن تكون إحدى عواقب التخفيض هي ارتفاع معدلات التضخم. الواردات المرتفعة الأسعار تعني سلعاً مرتفعة الأسعار، على المستوى الأجنبي والمستوى المحلي، كما هي الحال في الأحذية المصنوعة من جلود مستوردة. ورغم إصرار شافيز على أنه “ليس هناك سبب” يدعو لرفع الأسعار، فإنه حتى وزير المالية الفنزويلي يقر بأن سعر الصرف الجديد سيؤدي إلى تضخم الأسعار. من المؤكد أن المستهلكين الفنزويليين يفهمون هذه الظاهرة، على اعتبار أنهم بدأوا في الاصطفاف لشراء السلع الأجنبية قبل أن يبدأ سريان الإجراءات الجديدة.
يستطيع الرئيس شافيز أن يشن هجوماً عنيفاً على “المضاربين”، لكن حين تقوم إحدى الشركات برفع الأسعار بسبب ارتفاع التكاليف فليس هذا من الشر، تماماً مثلما أنه ليس من الشر أن يرتفع منسوب الماء في حالة المد مع ظهور القمر. وكما هي الحال مع البوليفار، فإن الانخفاض المصطنع في أسعار السلع في المحلات في فنزويلا من شأنه أن يؤدي إلى نشوء سوق سوداء أو إلى نقص السلع. وعلى حد تعبير أحد المراقبين المحليين “فإن من المستحيل عدم حدوث تعديل في الأسعار. لأنه إذا لم يتم تعديل الأسعار فإن مصيرها هو الاختفاء.”
لكن ما هو أسوأ حتى من ذلك هو أن إصرار شافيز على الأمور التي تؤلف السعر العادل يحمل معه ثمناً خاصاً به. ذلك أن تهديده باستخدام الجيش لم يكن تهديداً فارغاً، حيث أن الأنباء أفادت أنه تم إغلاق 70 محلاً بسبب تغيير الأسعار بطريقة غير قانونية. إن التهديد باستخدام القوات المسلحة يبعث القشعريرة في النفوس، حين ترى رجالاً في ملابس عادية تخفي هوياتهم الحقيقية وهم يغيرون على الشركات بصورة خاطفة لارتكابها جريمة بيع السلع. فضلاً عن ذلك، فإن هذا يؤدي إلى نتائج عكسية، لأن تقلص العرض الناتج عن إغلاق المحلات من شأنه فقط أن يؤدي إما إلى أن ترفع المحلات الأخرى أسعارها أو أنها لا تعاود عرض منتجات جديدة، وبالتالي تترك زبونها خالي الوفاض، وهو الأمر الذي سيحدث على الأرجح في ظل المناخ الحالي.
حين فشلت محاولات كسرى الفرس سرخيس في ردم مضيق الدردنيل بسبب الأمواج العاتية، قيل إنه أمر بجَلد البحر. والرئيس شافيز، شأنه في ذلك شأن الحكام الآخرين، يبالغ في تقدير قوته حين يقلل من مدى قوة وعناد قوانين الطبيعة، وهي في هذه الحالة الطبيعة البشرية. والمفارقة هي أن قرار التخفيض نفسه هو إقرار مُكْرَه بحدود نفوذه وإشارة على قبوله لحقائق السوق. وفي حين أن من المؤكد أن الاقتصاد الفنزويلي سيستفيد حين يتم التداول في عملته عند مستويات أقرب من ذي قبل إلى سعره “الحقيقي”، فإن الأمية الاقتصادية لمهندس هذا الاقتصاد هي نذير شؤم لجمهورية فنزويلا البوليفارية.