أبو وصال

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

بعد المقالات الأربع السابقة حول التنمية الضائعة في مجالات الفكر، السياسة والمجتمع ثم أخيرا الاقتصاد، نخصص المقالة الخامسة والأخيرة للدين.
لقد بدأت أوربا في تحقيق حداثتها الدينية منذ عصر النهضة الذي شكل فيه الإصلاح الديني أحد أهم مظاهره إلى  جانب الحركة الإنسية والتطور الفني، وبالتالي فتح المجال أمام العقل دون قيود وذلك بوضع حد لسيطرة الكنيسة، بينما ظل الدين أداة استخدمته القوى الحاكمة في العام الإسلامي للحفاظ على الوضع السائد وتبريره (خاصة بعد عهد الخلفاء الراشدين ) ومحاربة أي تحديث في البنيات التقليدية للمجتمع العربي بدعوى الخصوصية الدينية والهوية الإسلامية .
لقد كان تسلط الكنيسة كبيرا واتخذ أشكالا ومستويات متعددة، فقد كان تسلطا دينيا (فرض عقيدة الثأليت، ترويج صكوك الغفران، الرهبانية …)، وكان تسلطا سياسيا (فرض الوصاية على الملوك والأمراء ) وكان كذلك تسلطا ماديا ( فرض ضرائب، أعمال السخرة، امتلاك عقارات …). إلا أن التحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها أوربا مع بداية عصر النهضة كان لابد أن تؤدي إلى تحول في المجال الديني.
فقد بدأت معالم الرغبة في الثورة على الكنيسة ووصايتها تنمو تدريجيا، وتغذيها مظاهر الفساد الأخلاقي والمادي لعدد كبير من رجال الدين، وحاولت الكنيسة بكل أساليبها وأدواتها قمع وإقبار هذه الرغبة في مهدها، واتهام دعاتها بالهرطقة ومحاكمتهم وإعدامهم لإثارتهم الفتنة. يقول مارتن لوثر:( كيف تحملنا نحن الألمان هذه السرقة والنهب لأموالنا..وما هذا النظام البابوي ؟ إنه نظام شيطاني .. إنه يقود المسيحيين نحو الخراب الجسدي والنفسي ..فمن واجبنا مواجهته….).
إن التحولات الفكرية التي شهدتها أوربا في إطار الحركة الإنسية، والتي أفرزت عدة نظريات، خاصة في مجال علم الفلك أدت إلى اقتناع العقل الأوربي بعدم امتلاك الكنيسة للحقيقة، وبالتالي ليس لها الحق في احتكار تفسير الكتاب المقدس والوصاية على الجانب الديني للإنسان. لقد أدى هذا التطور إلى بروز عدة مصلحين نددوا بابتعاد الكنيسة عن دورها الروحي الحقيقي والاهتمام بالمسائل الدنيوية، وأيد هذا الموقف عدد كبير من المفكرين الأنسيين، وكذلك الأمراء الذين كانوا يرغبون في الحصول على ممتلكاتها (الكنيسة )، فالدولة القومية الناشئة تتعارض ومفهوم الكنيسة العامة التي تدعي الوصاية على السلطة السياسية، وتصطدم كذلك مع الشعور القومي المتنامي خاصة لدى الطبقة الوسطى. وفي هذا الإطار جاء المذهب البروتستانتي ( لوثر، كالفان …) لينتشر في  نصف أوربا تقريبا خلال أربعين سنة، ويؤيد الشعب الإنجليزي الملك هنري الثامن في انفصاله عن الكنيسة الكاثوليكية، هذه الكنيسة التي أعطت لنفسها طابعا تنظيميا أكثر مما هو ديني. ورغم الحروب الدينية الطويلة وبشاعتها إلا أنها كانت ثمنا لفرض التحديث الديني الذي واكب التجديد الحاصل في مختلف المجالات. لقد شكلت حركت الإصلاح الديني ثورة ضد الاستبداد الكنيسي كما شكل الفكر الإنسي ثورة ضد القيود المفروضة على العقل، وهذه الثورات كانت تستند إلى طبقة اجتماعية ناشئة تملك مشروعا حداثيا  متكاملا.
إذا كانت الكنيسة قد فرضت سلطة مطلقة على كل جوانب الحياة وتحكمت في قوانينها باعتبارها مالكة للحقيقة المطلقة ( والاعتقاد بامتلاك الحقيقة يولد الاستبداد )، وبالتالي كان من الواجب الثورة عليها والتخلص من سيطرتها، فإن العالم العربي لم يعرف جهازا دينيا متحكما ويعتبر نفسه واسطة بين العبد والرب. كما أن الدين في عالمنا العربي لم  يعارض  أبدا سعادة الإنسان وبحثه عن الحقيقة واستعمال العقل  ( كما كانت الكنيسة  تروج لفكرة الشقاء والخطيئة ومحدودية العقل البشري )، ورغم ذلك ظلت التنمية غائبة وعوض أن يشكل الدين باعثا على النهضة وتحقيق الحداثة العربية ثم استغلاله لتبرير واقع متخلف والحفاظ عليه .
ونعود كما فعلنا في المقالات السابقة لنطرح السؤال، لكن بشكل مختلف قليلا : هل نحتاج في عالمنا العربي لإصلاح ديني ؟
لقد ظلت أي دعوة إلى التحديث أو الإصلاح الديني تقابل بالتشكيك أحيانا وبالرفض أحيانا أخرى، وظل دعاة الإصلاح يتهمون خصومهم بالتزمت وقمع الأفكار والإبداع ومحاربة التحديث …، وهؤلاء يتهمون الفريق الأول بمحاربة الدين وجر المجتمع إلى الهاوية وهدم قيمه الموروثة، بينما ابتعد الفريقان عن جوهر المشكل : كيف نجعل الدين عاملا من عوامل تحقيق الحداثة، واعتباره مكونا من مكوناتها كالفكر والاقتصاد والمجتمع ….؟
خلال القرن 19 طرح رواد الحركة السلفية إشكالية تخلف المجتمع العربي بعد الاصطدام بالحداثة الأوربية ( مع الحملة الفرنسية على مصر )، ورغم اتفاق هؤلاء الرواد على ضرورة فهم الدين فهما صحيحا والعودة به إلى ينابيعه الأولى، إلا أن الهاجس لديهم ظل هو التوفيق بين الدين والعلم ( الحداثة باعتبارها عملية تعتمد على العقل )عوض الفصل بينهما دون المساس بالثوابت الدينية الكبرى. (فإذا كانت أحكام الشريعة تقوم على مستويين : مستوى الأحكام الثابتة وهي قليلة ومحدودة ومستوى الأحكام القابلة للتغيير والاجتهاد  بتغير الزمان والمكان والإنسان، فذلك يساعد على جعل الدين دافعا للتحديث وليس عائقا أمامه) وقد حاول هؤلاء السلفيون توظيف الدين في خدمة العلم (محمد عبده، الأفغاني، الكواكبي ..) وحاول آخرون توظيف العلم لإقصاء الدين (شبلي شميل، فرح أنطوان …) وهكذا لم ينجح أي فريق في تحقيق حداثتنا الدينية.
إن عدم تحقيق هذه الحداثة الدينية جعل التحديث الاقتصادي والاجتماعي والفكري يصطدم دائما بمعارضة رجال الدين المحافظين، وظلت الطبقة السياسية رهينة هذه الفئة مادامت تستمد مشروعيتها منها، لذلك ليس غريبا أن يكون العالم العربي أكثر المناطق أمية (رغم دعوة الدين للتعلم ) وأشدها ركودا ( رغم أن الإسلام دعا إلى السعي والاجتهاد ).
ونتساءل أين الخلل؟ كيف نحقق ثورتنا وحداثتنا الدينية؟ هي أسئلة يجب أن نطرحها، وعلينا أن نتحلى بكثير من الصبر والشجاعة والتخلص من الأحكام والاتهامات المسبقة، وعدم استغلال الدين لفرض الوصاية، وعدم اعتباره جامدا بل عنصرا متطورا لا ينفصل عن التطورات التي تحصل في باقي المجالات. نحن في عالمنا العربي لا نحتاج إلى ثورة على الدين كما وقع في أوربا، لأن ديننا لم يكن يوما كابحا للتجديد، لكن استغلاله السياسي والاجتماعي هو العائق. ثورتنا الدينية تحتاج إلى فهم جديد يساير الزمان والمكان، يساير التطورات الحاصلة حولنا. الدين ليس ملكا لأحد ( ليس فيه وصاية كما كانت تفعل الكنيسة)، وليس لأحد الحق في احتكار تفسيره ( كما فعلت الكنيسة ). بل عنصر اندماج وتكامل وتضامن لتسهيل تنظيم المجتمع وتجديد بنياته.
© منبر الحرية، 24 مارس/آذار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

خصصنا المقالات الثلاث السابقة لترسيخ الحداثة الفكرية والسياسية والاجتماعية في أوربا، وكيف عجزنا نحن في عالمنا العربي عن تحقيق ذلك. وبالتالي استمرت البنية الفكرية تقليدية ( عدم القدرة على تحرير العقل العربي من جموده المركب ) و البنية السياسية ( استمرار الدولة القبلية عوض الدولة الأمة الحديثة ) وظلت البنية الاجتماعية جامدة (غياب أي صراع طبقي قادر على إفراز التغيير).
وفي هذه المقالة الرابعة سنواصل الحديث عن نجاح أوربا في تحقيق وترسيخ حداثتها الاقتصادية، هذه الحداثة التي انطلقت منذ  أواخر القرن 13 م من المدن الإيطالية، وأصبحت واقعا مع الاكتشافات الجغرافية وبداية عصر الرأسمالية التجارية، ثم ترسخت مع الثورة التقنية وولوج أوربا عصر الرأسمالية الصناعية في النصف الثاني من القرن 18 م، وأخيرا انطلاق أوربا نحو الهيمنة على العالم في إطار الحركة الإمبريالية في العقود الأخيرة من القرن 19 م، وبداية مرحلة الرأسمالية المالية، في حين استمرت البنيات الإنتاجية في عالمنا العربي تقليدية، ولم تشهد ثورة جذرية في تقنياتها وأساليب عملها.
لم يمنع سيادة النظام الفيودالي ذو الاقتصاد الإنتاجي  المغلق والمتمحور حول الأرض كوسيلة لإنتاج الثروة ( الريع ) من بروز تحولات عميقة في آليات وأنماط الإنتاج. هذه التحولات كان لها دور كبير في تفكك وتصدع أسس النظام الفيودالي ووضع اللبنات الأولى لنظام جديد بدأ يتبلور تدريجيا، ونعني بذلك النظام الرأسمالي الذي ارتبط به تطور أوربا في مختلف المجالات، وشكل بداية انطلاق الحداثة الاقتصادية الأوربية.
بدأت هذه التحولات في عدة مدن إيطالية ( فلورنسا، جنوة، البندقية…) حيث لم يعد اقتصادها يعتمد على الأرض كمصدر للثروة والسلطة، بل ظهرت أنشطة أخرى أصبحت تنمو وتستقطب عدد كبير من المغامرين الباحثين عن الربح بعيدا عن الأرض. أهم هذه الأنشطة التجارة، فقد شكل البحر الأبيض المتوسط مركز العالم القديم قبل الاكتشافات الجغرافية، واكتشاف العالم الجديد والطريق البحري نحو الهند، لذلك استغل الإيطاليون موقع مدنهم وانفتاحها على شرق وغرب المتوسط فاحتكروا النشاط التجاري مع المسلمين، وقد أدى ذلك إلى تحقيق هؤلاء التجار أرباحا كثيرة وراكموا الثروات من خلال توزيع بضائعهم في إيطاليا وباقي أوربا. ولم يكتف الإيطاليون بالنشاط التجاري بل استغلوا تراكم المواد النفيسة لتطوير النشاط المالي ( الصيرفة )، وهكذا برز إلى جانب التجار الصيارفة الذين بدأوا في وضع أساليب و تقنيات المعاملات المالية وتطويرها، وشكل ذلك بداية ظهور النماذج الأولى للأبناك ومؤسسات القرض. وإلى جانب التجارة والصيرفة بدأ النشاط الصناعي يتبلور من خلال تطوير تقنيات الإنتاج وأساليبه.
أفرزت هذه التحولات نخبة حضرية غنية تمكنت من الوصول إلى الحكم في بعض المدن الإيطالية كأسرة( آل ميديتشي )هذا الازدهار والرفاه الذي أصبحت تعيشه إيطاليا، دفع دول أوربية أخرى إلى محاولة التخلص من وساطة التجار الإيطاليين خاصة البرتغال وإسبانيا، وكان ذلك أحد أهم العوامل التي ساهمت في انطلاق الاكتشافات الجغرافية. وقد شكلت هذه الاكتشافات مرحلة جديدة في ترسيخ الحداثة الاقتصادية الأوربية، فقد أدى تراكم المواد النفيسة والمواد الأولية إلى دخول أوربا عصر المركانتيلية الذي شكلت البداية الفعلية للنظام الرأسمالي في مرحلته التجارية.
خلال القرن  16 و17م دخلت دول جديدة حلبة التوسع، ونتج عن ذلك توفر كل مقومات الثورة الصناعية : المواد النفيسة ( رؤوس الأموال) والمواد الأولية والنمو السكاني، وأصبح المشكل المطروح هو ضعف التقنيات المستعملة في عملية الإنتاج الصناعي. وهكذا وجهت البورجوازية كل اهتماماتها لتشجيع الابتكارات والاختراعات والبحث عن طاقة جديدة بديلة، وفي هذا الإطار ظهرت عدة اختراعات تقنية ( خاصة في مجال النسيج والتعدين ) كما ظهرت طاقة جديدة ( الطاقة البخارية ) وأدى تطبيق هذه الابتكارات في مجال الإنتاج إلى انطلاق الثورة الصناعية الأولى في النصف الثاني من القرن 18 م، وشكل ذلك مرحلة أخرى من مراحل تطور النظام الرأسمالي تجلت في التحول من الطابع التجاري إلى الطابع الصناعي. وبدأ القطاع الصناعي ينتقل تدريجيا من نظام الورشة إلى نظام المعمل حيث التنظيم المحكم للعمل وتوزيعه والبحث عن أساليب جديدة لرفع الإنتاجية وتخفيض التكلفة. ولم تكتف البورجوازية بذلك بل استمرت طيلة القرن 19م في تحديث الأساليب مما أدى إلى انطلاق ثورة صناعية ثانية، استفاد منها القطاع الفلاحي والصناعي والمواصلات، وواكب ذلك سيطرة القطاع المالي (الأبناك )على معظم الأنشطة الاقتصادية وبالتالي انتقلت الرأسمالية إلى مرحلتها المالية، هذه المرحلة التي تمظهرت في حركة استعمارية واسعة ذات طبيعة اقتصادية ومالية( الإمبريالية ). لقد كان التحديث الاقتصادي الأوربي متواصلا ومسترسلا وموازيا لكافة التحولات الأخرى في مختلف الميادين، وشكل البحث العلمي المحرك الأساسي لعمليات التحديث وتعددت الاختراعات وتنوعت، ولم يكن القرن 20م سوى امتدادا لهذه التطورات مادامت الحداثة الاقتصادية أصبحت واقعا ومنهجا في تنظيم كل عمليات الإنتاج.
ونعود لنطرح السؤال نفسه كما طرحناه في المقالات السابقة : هل عرف عالمنا العربي حداثة اقتصادية وسعى إلى وضع أسسها وترسيخها كما فعلت أوربا ؟
الواضح أن المجتمع العربي لم يعرف ثورة صناعية وتقنية، واستمرت آليات الإنتاج تقليدية وأساليب تنظيم العمل قديمة، ورغم أن الإنتاج الفلاحي والحرفي وفر الحاجيات الضرورية للاستهلاك إلا أن النمو السكاني أدى إلى اتساع الفجوة بين الإنتاج والطلب. وقد استغلت أوربا هذا الخصاص في القرن 19م لإغراق الأسواق العربية بالبضائع المصنعة ذات الجودة العالية والتكلفة المنخفضة، وكانت النتيجة انهيار حتى الحرف التقليدية التي لم تعد قادرة على المنافسة. وحاربت أوربا أي تطور تقني وكل محاولات الإصلاح والتحديث ( كما وقع في مصر مع محاولة محمد علي ). لقد ظلت المجتمعات العربية أسواقا للبضائع ومصدرا للمواد الأولية الرخيصة، ولغياب طبقة بورجوازية تحمل مشروعا تحديثيا وفكرا عصريا استمرت البنيات الإنتاجية تقليدية، واكتفت بورجوازيتنا المحلية بدور الوسيط ودعم التغلغل الاقتصادي الأوربي. واستمرت البنيات كما كانت عليه، و بعد استقلال المجتمعات العربية   انصب الاهتمام على الصناعات الخفيفة أو الإستخراجية والتي احتكرتها الشركات الأجنبية. لقد دخلت عدة دول أوربية حاليا عصر ما بعد المجتمع الصناعي، ولم تعد الصناعة المقياس الأساسي للتطور وأصبحت صناعتنا أشبه بالحرف بالمقارنة مع  الصناعات العالية التكنولوجية.
لازالت طبقتنا الصناعية تخضع في تنظيم عمليات الإنتاج لمنطق الربح السريع وفي توظيف العنصر البشري للقرابة والقبلية عوض الكفاءة والاستحقاق، وتلجأ إلى المصاهرة للحفاظ على قوتها المادية في نطاق ضيق، إنها بورجوازية في معظمها جشعة ومغرورة تعتقد أن الكل يستهدفها. وعوض أن تحترم القوانين وتفي بالتزاماتها المالية وتساهم في تمويل مشاريع تنموية لا تستهدف الربح، نجدها أكثر خرقا للقانون معتمدة على قوتها المالية، ومستظلة بحماية سلطة حاكمة لا تقل عنها خرقا للقوانين وتكرس الوضع السائد.
إن الحداثة الاقتصادية لن تتحقق إلا بوجود إرادة حقيقية في إعادة تفكيك البنيات السائدة، وذلك من خلال إقرار أنظمة ديمقراطية ذات مؤسسات قوية، وتشجيع الطبقة الوسطى ودعم البحث العلمي والانتقال من اقتصاد الريع والامتيازات إلى اقتصاد ليبرالي اجتماعي منتج.
© منبر الحرية،  23 مارس/آذار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

خصصنا المقالة الأولى للفكر والثانية للسياسة، وهذه المقالة الثالثة للمجتمع، من خلال دور التحول الاجتماعي في ترسيخ الحداثة الأوربية واستمرار التقليد في عالمنا الإسلامي. لقد ارتبط دخول أوربا عصر النهضة /الحداثة على الصعيد الاجتماعي ببروز طبقة جديدة غنية  (البورجوازية ). لقد شكلت هذه الطبقة رمزا للحداثة  الاقتصادية لاشتغالها بأنشطة غير الفلاحة، ورمزا للحداثة  الفكرية بتبنيها للحركة الإنسية، ورمزا للحداثة السياسية بدفاعها عن الدولة الأمة ومبادئ الديمقراطية.
الانطلاقة الأولى لهذه الطبقة بدأت في المدن الإيطالية التي عرفت تطورا اقتصاديا ولم يعد اقتصادها يتقوقع حول الأرض، كما هو الشأن في باقي أوربا. لقد نمت المعاملات التجارية والمالية لهذه المدن وتوسعت وامتدت إلى القارتين الأسيوية والإفريقية، مما سمح ببروز نخبة حضرية شكلت نواة البورجوازية، هذه النخبة التي ارتبط بها تطور أوربا في مختلف المجالات طيلة القرنين 13و14 الميلاديين. أما الانطلاقة الثانية لهذه النخبة فقد ارتبطت بالاكتشافات الجغرافية أواخر القرن 15م، والتي أدى توسع التجارة وتراكم الأرباح إلى   دخول أوربا عصر المركانتيلية، أي عصر الرأسمالية التجارية بامتياز وعصر البورجوازية كطبقة اجتماعية. لقد بدأ دور الأرستقراطية يتراجع تدريجيا رغم محاولة بعض أعضائها مسايرة الواقع الجديد والاستثمار في مجال التجارة والاعتماد على الربح بدل الريع(ويعرفون بالنبلاء الليبراليين). هكذا سيشكل القرن 16 و17م الهيمنة التدريجية للبورجوازية على الاقتصاد والتحكم في دواليبه والتطلع للمساهمة في  الحياة السياسية، من خلال التسرب إلى مجموعة من المناصب العليا والضغط على قرارات السلطة الحاكمة خاصة في مجال الاقتصاد.
كان لابد لهذه الطبقة أن توسع أنشطتها التجارية لذلك ساهمت بشكل كبير في تشجيع العلوم والابتكارات خاصة في مجال الملاحة والمواصلات، ولم يكن ذلك غريبا على هذه الطبقة فهي وريثة الفكر الإنسي لعصر النهضة. إن ازدهار التجارة مع مختلف القارات أدى إلى تراكم المواد النفيسة والمواد الأولية، وواكب هذا التراكم نمو سكاني كبير، وكان من الضروري لهذه الطبقة البحث عن أساليب جديدة لتلبية الحاجيات المتزايدة للسكان، سواء في أوربا أو باقي  القارات وكان الحل طبعا هو تطوير تقنيات الإنتاج وأساليب تنظيم العمل.
الانطلاقة الثالثة لهذه الطبقة كانت في القرن 18م، فقد أدت رغبة البورجوازية في تلبية الحاجيات من المواد المصنعة إلى تمويل أبحاث المخترعين، وكانت النتيجة ظهور عدة اختراعات تقنية وطاقية ثم تطبيقها في مجال الإنتاج،  وبالتالي دخول عصر الثورة الصناعية. لم تعد البورجوازية تقتصر في استثماراتها على التجارة، بل اهتمت بالنشاط الصناعي كقطاع جديد مربح (شكل الربح محركا لكل عمليات الإنتاج) وشكلت القاطرة الأساسية للاقتصاد الأوربي وتطوره وفرض هيمنته على العالم. لقد أصبحت هذه الطبقة الأقوى اقتصاديا لكن مشاركتها في الحياة السياسية ظلت ضعيفة، لذلك كان عليها أن تضغط بكل الأساليب لتقسيم السلطة مع الطبقة المحافظة الحاكمة التي لازالت تحتكر كل السلط. وإذ تمكنت البورجوازية من انتزاع الاعتراف بحقها في المشاركة في الحياة السياسية سلميا ( كما حدث في إنجلترا ) فإنها في فرنسا فرضت ذلك بالعنف عن طريق التحالف مع الفئات الشعبية وتأطيرها لاندلاع الثورة الفرنسية.
الانطلاقة الرابعة لطبقة البورجوازية كانت في النصف الثاني من القرن 19م ودخول أوربا عصر الإمبريالية، لم يعد طموحها يقتصر على  احتكار النشاط التجاري والصناعي والمالي داخل أوربا، بل أصبحت لها رغبة أوسع هي السيطرة على الاقتصاد العالمي من خلال استعمار المزيد من الدول ورفع حجم استثماراتها وجمع الثروة، هذه الثروة اعتبرتها البورجوازية مكافأة لمجهوداتها باعتبار عملها أعلى من عمل العامل  وأفضل من خمول الأرستقراطي المحافظ. ولم يكن أمام السلطات الحاكمة سوى تلبية مطالب هذه الطبقة وتحقيق طموحها وذلك بالشروع في حركة استعمارية واسعة شملت مختلف القارات، ورغم التناقض الذي كانت تعيشه على المستوى الأخلاقي (دعوتها للحرية    والمساواة وحقوق الأفراد والشعوب…واستغلالها للعمال واستعمار الشعوب…) فإنها دافعت عن ذلك بمبررات اقتصادية وثقافية وأحيانا عرقية، هكذا نمت البورجوازية وأصبحت هي المهيمنة على كل القطاعات، ولها القدرة على مواجهة  الأزمات، لذلك استمر نموها طيلة القرن 20م،  وصمدت أمام الحربين العالميتين كما صمدت أمام  أعدائها  الاشتراكيين. ولازالت البورجوازية الأوربية تطور نفسها باستمرار ولها قدرة كبيرة على التكيف مع المستجدات: ونعود كما فعلنا في المقالين السابقين ونطرح السؤال هل عرف عالمنا العربي بروز طبقة جديدة لعبت نفس الدور الذي لعبته البورجوازية في أوربا؟
ظل المجتمع العربي محافظا على بنيته الاجتماعية التقليدية منذ القرن الخامس عشر م، وهي الفترة التي انطلقت فيها أوربا نحو ترسيخ الحداثة  الفكرية والسياسية والاجتماعية. وتمكنت أوربا من الاستغناء عن وساطة التجار المسلمين، وتراجع دور هذه الفئة وفقدت أهميتها وتوارت إلى الخلف. وبالتالي حافظ المجتمع العربي على ثنائيته المكونة للبنية الاجتماعية، فئة غنية تملك المال والسلطة (وليس طبقة بمفهومها التاريخي ) وفئة فقيرة  مكونة من باقي أفراد المجتمع غير قادرة على إفراز طبقة وسطى تستطيع حمل لواء الحداثة كما فعلت البورجوازية. لقد استمرت بنية المجتمع تقليدية وتحولها رتيب ولا تعرف صراعا طبقيا كما حدث في أوربا ( صراع بين النبلاء والفلاحين  ثم بين النبلاء والبورجوازية ثم بين هذه الأخيرة والعمال) فهذا الصراع كان يمد المجتمع بطاقة متجددة قادرة على إحداث تغييرات عميقة وثورات كبرى فكرية وسياسية واقتصادية. فهل عرف مجتمعنا العربي هذا الصراع الطبقي ؟ وهل هناك أصلا طبقات بمفهومها التاريخي المادي حتى ينمو هذا الصراع ويتطور ويفرز تغييرات جذرية في المجتمع .
لم يعرف عالمنا العربي ظهور بورجوازية خلاقة ومنتجة، بل نمت فئة غنية  ليست لها من البورجوازية سوى الاسم، فئة تسعى إلى تحقيق المزيد من الأرباح لإرضاء طموحها الشخصي عوض الطموح الطبقي والمجتمعي. وسارت هذه الفئة  دائما في ركاب السلطة الحاكمة المستبدة تستظل بحمايتها، ولم يكن لها  أي مشروع عصري بديل للمشروع التقليدي القائم، ولم تضع ثروتها في خدمة تنمية اجتماعية شاملة. هكذا تحالف الإقطاع السياسي مع الإقطاع الاقتصادي المكون من عائلات محدودة تحتكر معظم الثروة أما البورجوازية الصغيرة الطموحة (التي تكونت في معظمها من المثقفين ) والتي تحمل مشروعا  حداثيا وتحلم بتحقيقه، كان ينظر إليها كجماعة خارجة عن الإجماع وتهدد الاستقرار، لذلك كان أغلب ضحايا القمع والاغتيال والنفي من هذه الفئة الاجتماعية.
لقد أدركت البورجوازية الأوربية أن نمو أرباحها رهين بارتفاع الاستهلاك، وهذا الاستهلاك لن يتحقق إلا بتحسين أجور العمال. بينما لازالت بورجوازيتنا حبيسة النظرة التقليدية القائمة على الاستغلال المتوحش لقوى الإنتاج، واعتبار العامل أداة من أدوات الإنتاج لا يختلف عن أي جهاز من أجهزة المعمل، بدل اعتباره شريكا في هذه العملية. إن تاريخنا للأسف لم يعرف بروز طبقة جديدة حملت لواء الحداثة العربية وقادت عملية التغيير. فالسلطة الحاكمة التقليدية في جوهرها وهي المالكة لمعظم وسائل الانتاج لم تكن لتسمح بذلك  حفاظا على واقع تقليدي تتحكم في كل خيوطه، وتمنع التغيير باسم الدين أحيانا والأخلاق والأعراف أحيانا أخرى.
© منبر الحرية،  21 مارس/آذار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

سبق في المقالة الأولى أن طرحنا دور الحركة الإنسية وفكر الأنوار في ترسيخ الحداثة الفكرية الأوربية، وهي حداثة لم يعرف عالمنا العربي للأسف مثيلا لها، إذ ظل الفكر العربي جامدا، واستمرت بنيته مقيدة على المستوى الفردي ومحجورا عليها على المستوى الجماعي وبالتالي كان الجمود مركبا.
وسنخصص هذه المقالة للحداثة السياسية، من خلال طرح سؤال بسيط :  كيف حققت أوربا حداثتها السياسية بينما عجز عالمنا العربي عن ذلك .
لقد سعت الدول الأوربية إلى وضع أسس الميثاق السياسي والدولة الأمة بهدف خلق حداثة سياسية تواكب الحداثة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تشهدها خلال 15 و16، وعملت هذه الدول على إدماج الشعور القومي للفرد في إطار محكم، وضمان المجتمع المتماسك الذي حاولت هذه الدول فيما بعد ترسيخه في إطار سياسة جهوية تراعي الاختلاف. لقد بدأت الدولة الفيودالية تحتضر وفي مقابل ذلك كانت الدولة الأمة تخطو خطواتها الأولى، فقد رسمت لنفسها حدودا أكثر مثانة قامت على التأطير السياسي والتنظيمين العسكري والجبائي.
وساهم فكر الأنوار في هذا التطور ،إذ انتقد فلاسفة الأنوار الأنظمة الاستبدادية ووضعوا تصورا جديدا لمفهوم الشعب وحاولوا ضبط طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. ولعب فكرهم دورا كبيرا في اندلاع الثورة الفرنسية التي شكلت إحدى مظاهر ترسيخ الحداثة السياسية، وامتد تأثيرها إلى باقي الدول الأوربية رغم معارضة القوى المحافظة لمبادئها.
وشكل القرن 19 بدوره مرحلة جديدة في التطور السياسي نحو ترسيخ الديمقراطية كسلوك يحافظ على وحدة الدولة وكيانها، ورغم التأخر في المجال كالاعتراف الكامل بحقوق الفرد السياسية وإقرار نظام الاقتراع العام المباشر، فإن التطور السياسي كان متواصلا وثابتا في طريق بناء الدولة الحديثة التي ركزت على التوفيق بين الدولة كنظام سياسي والأفراد كمجموعة تشترك في خصائص ثقافية مكتسبة .
تمكنت أوربا تدريجيا من وضع حد لعصر كانت فيه السلطة في يد النبلاء والأقليات الأتوقراطية، وبناء أسس المجتمعات السياسية العصرية القائمة على الديمقراطية كنظام ضامن لحقوق الأفراد.وكان لابد أن تطرح بعض المشاكل أمام تطور الدولة الأمة ووحدتها ،ومن أهم هذه المشاكل قضية الأقليات (كألمان سويسرا وبلونيا وشرق فرنسا…) .هذه الأقليات أصبحت اليوم تدين بالولاء السياسي لدولهم بحكم الدولة الموحدة الضامنة لحقوقهم وبالولاء الثقافي لدولهم الأصلية، لقد حاولت الدول الأوربية من خلال التأكيد على مبادئ الديمقراطية ( خاصة الحرية ) التوفيق بين الشعور السياسي والشعور الثقافي، وبالتالي ضمان الوحدة والاستقرار.
إن سعي أوربا إلى بناء المجتمعات السياسية الحديثة كان لابد أن يفرز بدوره تطورات جديدة ( الدولة الأمة الحديثة خرجت من رحم الدولة الفيودالية ). هذه التطورات سيتم استغلالها لتحقيق المزيد من قوة الدولة. في هذا الإطار جاءت الوحدة الأوربية التي حررت الفرد من ضغط الشعور بالولاء للدولة الواحدة وفتحت أمامه مجالا أوسع للولاء المزدوج، وهو ولاء لا يشكل تناقضا بل تكاملا بين الشعور الوطني الخاص نحو الدولة الأمة وشعور عام نحو الإتحاد الذي هو عضو فيه. إن تطور أوربا في إطار الوحدة قد يتجه بدوره تدريجيا نحو عصر ما بعد الدولة الأمة ،عصر الاندماج السياسي الكامل في إطار دولة سياسية واحدة ذات حدود موحدة و جهاز سياسي واحد، لكن ذات تنوع ثقافي وبشري، عندها يمكن الحديث عن أفول الدولة الأمة.
وكما في المقالة السابقة نطرح سؤالا مهما:  هل مجتمعاتنا العربية تمكنت من بناء الدولة السياسية الحديثة؟
إن عالمنا العربي لم يدخل بعد مرحلة الدولة الحديثة، شأنه شأن العديد من الدول الأخرى. فإلى غاية القرن 19 و 20 حيث خضع العالم العربي للحركة الاستعمارية، كانت أنظمة الحكم أقرب إلى نظام الدولة القبيلة، وظلت السلطة المطلقة في يد الأمير أو السلطان أو الشيخ، وشكل الصراع حول الحكم قاعدة، ونادرا ما كان انتقال الحكم يتم بسلاسة، وكان الصراع في الغالب يستند على الدعم القبلي ،وشكلت القوة الوسيلة الوحيدة لشرعية الحكم. إن مجتمعاتنا العربية لم تعرف ثورة فكرية أو صناعية كما حدث في أوربا، وبالتالي فالوضع السياسي ظل راكدا، وكانت “الدول” تسير كما تسير الإقطاعيات، والحاكم ظل الله في الأرض يعطي بأمره ويمنع بأمره، وقنعت الشعوب بذلك واعتبرته قدرا مفروضا. ورغم بعض المحاولات التي ظهرت في عالمنا العربي للخروج من هذا الواقع السياسي الجامد، كما حصل في مصر مع محمد  علي فإن السيطرة الاستعمارية أجهضت هذه المحاولة.
لقد ظل المجتمع العربي يعيش دائما تخلفا سياسيا في كل مراحله ، والحاكم لا يستند إلى الشرعية بل إلى القوة وتوظيف الدين. وحتى عندما حصلت الدول العربية على استقلالها بدأت الطبقة الحاكمة في بناء جهاز سلطوي للتحكم في المجتمع عوض بناء جهاز سياسي حديث، يستند على مبادئ الديمقراطية كأساس ومنطلق ويهدف إلى تحقيق المجتمع السياسي الحديث.
إن المجتمعات العربية لا زالت خارج الدولة الحديثة وإن كل مظاهر الديمقراطية ليست سوى مساحيق كاذبة تخفي الحقيقة المؤلمة، حقيقة الدولة القبلية التي تدبر أمورنا وحقيقة الدولة الحديثة التي نفتقدها، والتي نتوهم وجودها. إن هذا الواقع لن يؤدي إلا إلى تغيير عن طريق العنف واغتصاب السلطة، ويعاد إنتاج نفس شكل السلطة في مظهر مغاير. إن تحقيق الدولة الأمة الموحدة ليس حتمية تاريخية بل إرادة شعبية تنمو بشكل طبيعي وتختم، وبالتالي أصبح تحقيق الدولة الأمة مطلبا ضروريا في عالمنا العربي الذي يعاني من هشاشة مكوناته البشرية، هذه المكونات التي تتوزع ما بين ما هو إثني، طائفي وقبلي .
ونتساءل في الأخير عن الواقع الذي نعيشه اليوم : هل أشكال السلط في العالم العربي شرعية ؟ هل مؤسساتنا المنتخبة لها القدرة على المراقبة والمحاسبة ؟ هذه المؤسسات كيف تم انتخابها ؟ والشعوب هل  هي قادرة  على مراقبة ممثليها ؟ كيف يمكن أن نضع أسس الدولة الأمة الموحدة : هل على الإسلام كمرجعية ضرورية أم نقوم بنقل النموذج الغربي؟
© منبر الحرية،  19مارس/آذار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

شكلت الحركة الإنسية إحدى أبرز مظاهر النهضةا/الحداثة الأوربية إلى جانب الإصلاح الديني. فقد جاء الفكر الإنسي كرد فعل ضد التصورات السائدة، هذه التصورات لم تكن لتخرج عن الإطار الذي حددته الكنيسة. لقد كانت الكنيسة هي مالكة الحقيقة المطلقة ـ أو هكذا كانت تعتقد بحسن نية أو سوءها ـ وحال انغلاق الكنيسة ورفضها للحقيقة التي يؤمن بها الآخر دون الانتباه للتحولات التي عرفها الاقتصاد والمجتمع. وهي تحولات لابد أن تؤثر في وعي وشعور الإنسان الأوروبي .
لم تستطع الكنيسة أن تبدي مرونة أكبر، وتساير هذا التحول وبالتالي امتصاص نزعات الرفض التي بدأت تنبثق وتنمو تدريجيا. لقد أدى تشدد الكنيسة وجمودها ورغبتها في الحفاظ على الواقع السائد إلى تزايد حدة الرأي الأخر، ومحاولة فرض وجهة نظره واحترامها .
كان على الإنسيين أن يغيروا مفاهيم كثيرة ظلت راسخة لعقود طويلة، وظلت جزءا من الإيمان الحقيقي كفكرة الشقاء والخطيئة وإشاعة مفاهيم جديدة كالسمو والكمال والتفاؤل، وكان عليهم تغيير النظرة إلى العالم وتوسيع مصادر الإلهام وتجديد البيداغوجية ونقد التقاليد والمؤسسات. وقد تجلى ذلك بوضوح في عدة مجالات أبرزها الفن ( خاصة الرسم والنحت)، من خلال أنسنة المواضيع والخروج من تحت جناح الكنيسة إلى مجال أرحب وأوسع، مجال ينطلق من حرية الإنسان ومسؤوليته وكونه أفضل المخلوقات. فالحرية والسعادة والجمال واحترام الذات هي القيم الكبرى للأخلاق الفردية التي تصب في الأخلاق الجماعية المؤسسة على التسامح والسلم. شكل هذا التحول الفكري إحدى أهم عوامل بداية انهيار دعائم الكنيسة التي ظلت رغم ذلك تدافع عن ماض لم يعد قائما وتصورات أثبتت الاكتشافات العلمية عدم صحتها.
جاءت نظرية كوبرنيك حول الكون كضربة موجعة للكنيسة القائلة بمركزية الأرض في المجموعة الشمسية ـ واعتبار هذا جزءا من الإيمان ـ لقد أثبت كوبرنيك العكس وبالتالي كان لابد للإنسان الأوربي أن يطرح سؤالا جوهريا وبديهيا : هل تملك الكنيسة الحقيقة ؟ وإذا كانت لا تملكها فمن يملكها إذا ؟
وكان الجواب بسيطا : لا أحد يملكها، العقل والعلم وحدهما قادران على البحث عنها واكتشافها.
هكذا انطلقت الثورة على الكنيسة، والتي لم تعد قادرة على الوقوف أمام هذا السيل الجارف المتمثل في رغبة الإنسان الأوروبي في البحث عن الحقيقة بنفسه عوض أخذها من رجال الدين.
من هذا المنطلق بدأ الوعي الأوربي يتشكل تدريجيا خلال القرنين 15 و16 معتمدا على مبدأي العقل والعلم، وبدأت أسس البحث العلمي تتضح. وإذ ا كان الفكر الديني السائد لم يقدم لهؤلاء الإنسيين أدوات  ومناهج البحث، فكان من الضروري البحث عنها في التراث القديم خاصة الروماني والإغريقي.
مع القرنين 17 و18 بدأت مرحلة جديدة، صحيح أنها كانت امتدادا للفكر الإنسي إلا أنها متميزة وذات خصوصيات، ونعني بذلك فكر الأنوار. وإذا كان الفكر الإنسي انطلق من إيطاليا وغلب عليه الطابع العلمي والفني فإن فكر الأنوار انبثق من فرنسا وإنجلترا وطبع بطابع فلسفي واضح. لقد حاول فلاسفة الأنوار التجرد من كل الخلفيات ووضع المجتمع بأكمله موضع نقد ودراسة، رغم ارتباطهم بطبقات اجتماعية مختلفة ( فولتير بالبورجوازية، مونتسكيو بالنبلاء، روسو بالفئة الشعبية ).
لقد حاول هؤلاء الفلاسفة إعادة النظر في دلالات المفاهيم الرائجة كالسعادة والفضيلة والحرية والشعب ..، ورغم الانتقادات التي يمكن أن توجه لهم، خاصة مواقفهم السياسية إلا أن فكرهم وكما عبر عن ذلك  إمانويل كانط ” خروج الإنسان من حالة القصور العقلي التي هو مسؤول عنها وحالة القصور العقلي هي العجز عن توظيف العقل دون توجيه من الآخر، فلتكن لك الشجاعة لاستعمال عقلك. هذا هو شعار الأنوار”.
لقد اعتبر الإنسيون والمتنورون سلسلة متواصلة من البحث عن أساليب تحرير الإنسان من القيود التي تعيق استعمال ملكاته وقدراته العقلية وتقديس العلم باعتباره الأداة القادرة على اكتشاف قوانين الطبيعة .
وهكذا لم يكن القرن 19 سواء حقلا لتطبيق المفاهيم الجديدة والتي أصبحت أكثر رسوخا، وتراجع الفكر الديني إلى الخلف وسلم بأهمية العلم وحاول مسايرته والاستفادة منه. ولم يكن القرن 20 إلا استمرارا لترسيخ الحداثة والدفاع عنها والإيمان بأهمية الإنسان وحرية توظيف قدراته العقلية دون قيود.
والسؤال المطروح :أين نحن في عالمنا العربي من هذه التحولات ؟ لماذا  لم نستطع خلق حداثة عربية والعمل على ترسيخها ؟
إذا شكل القرن 15 بداية دخول أوربا عصر الحداثة، فإنه في العالم العربي كان بداية للتراجع وسيادة التقليد. وحتى التطور الذي عرفه العثمانيون والسعديون في بلاد المغرب كان يطغى عليه الطابع العسكري التوسعي، وبالتالي ما لبثت هذه الدول أن تراجعت بسرعة أمام تطور أوربا الفكري، الاقتصادي والاجتماعي…، لقد ساد الجمود الفكري ولم يستطع عقل الإنسان العربي الرازخ تحت وطأة الإقطاع والاستبداد أن يحقق ثورة فكرية شبيهة بحركة الإنسيين. ورغم أن المجتمع العربي لم يعان من سيطرة جهاز ديني كما حدث في أوربا، إلا أن عدم القدرة على تحرير العقل من جموده ظل هو السمة الغالبة على بنية العقل العربي. ولم يشهد عالمنا العربي أي رجة أو ثورة قادرة على خلخلة وتفكيك مكوناته ومساعدته على الانطلاق والتحرر، هكذا ظل الفكر التقليدي هو السائد، فكر قنع بواقعه واعتبره قدرا لا يمكن تغييره إلا بمعجزة سماوية. وحتى عندما انتبه مفكرونا لهذا الواقع وامنوا بإمكانية تغييره خلال القرن 19، كان قد فات الأوان، واختلت موازين القوى وأصبحت أوربا قوة استعمارية سيطرت على العالم العربي وكرست الجمود والتقليد بالتواطؤ مع الفئات المحافظة الحاكمة .
إن واقع القطبية الواحدة الذي نعيشه، ومن أبرز معالمه ظاهرة العولمة جعل الانطلاق نحو حداثة عربية أكثر صعوبة. كيف نحقق ثورتنا الفكرية؟ كيف نحقق حركتنا الإنسية وعصر أنوارنا؟ هل ننطلق من مرجعيتنا الدينية الإسلامية واعتبار الإسلام هو الحل؟ أم من مرجعية أوربية من خلال تبني قيمها، هل يلزمنا قرون عديدة لتحقيق هذه الحداثة، أم يمكن فعل ذلك في زمن أقصر؟
إن الحداثة العربية بخصوصياتها أصبحت أمرا ضروريا، ألم تحقق اليابان ذلك في وقت أقل؟، ألا تسير الصين في الطريق نفسه؟. كل شيء ممكن، يجب فقط رفع الوصاية الفكرية عن الشعوب وترك التاريخ يقوم بعمله.
© منبر الحرية، 18 مارس/آذار 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018