أكرم شلغين

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لا يصعب على المتتبع بشكل عام لحال الإسلام والمسلمين أن يدرك مدى التداخل الوثيق وخاصة في السنوات الأخيرة بين مسألتي:
1. علاقة الإسلام كأيديولوجية دينية ظهرت في القرن السابع الميلادي في شبه الجزيرة العربية مع عالم اليوم وما يتميز به من تقدم علمي وتقني وأسس معرفية
2. علاقة أتباع الدين الإسلامي المتوترة مع الشعوب الأخرى،  إذ أن المسألة الأولى تطفو على السطح متصدرة خطاب غير المسلمين كحصيلة لتفاصيل توترات الثانية، وتبدو كما لو أنها الأكثر إلحاحاً منها إلى التناول من أجل حصول نقلة نوعية تساهم في مد جسور التفاهم أو التوصل إلى صيغة تعامل مرضية بين المسلمين وبقية شعوب العالم.  في الواقع، لا يبتعد عن الدقة من يهتم بإبراز نسْب الإسلام إلى عصر نحن عنه بعيدون، بل ويقترب من الصواب أكثر حينما يقول بضرورة إجراء إصلاح ديني على غرار ما حصل في الأديان الأخرى كي يصبح الإسلام متناسباً، ومتماشياً، مع متطلبات العصر ومستلزماته (مع العلم أن عوائق الإصلاح الديني في الإسلام كثيرة حالياً)، بيد أن الوجه الحقيقي للمشكلة ليس فقهياً متأصلاً في تعاليم الإسلام بقدر ما هو اجتماعي وسياسي يتعلق بواقع المسلمين.
لعل التناقض بين رؤيتي المعنيين خارج الدائرة الإسلامية وبين المسلمين في قراءة علاقة الدين الإسلامي بالعنف يلقي بعض الضوء على المشكلة المطروحة، ففي حين يرى البعض أن الدين الإسلامي هو مصدَر للعنف، يشدد المسلم على أن دينه يدعو للسلام وعدم العنف.  ويتعقد الأمر عند تناول نصوص قرآنية معينة أو مفردات كـ”القتال” و”الجهاد” ، على سبيل المثال، فتعني لأصحاب الرأي الأول آنف الذكر غير ما تعنيه للمسلمين الذين يرفضون الدلالة الحرفية والمعجمية للكلمة والنص ويظهرون عوضاً عن ذلك تفسيرات تنحصر في دائرة العبادة والفروض الدينية والعلاقة بين المؤمن وربه.  إلا أن الأمر يصبح أكثر إثارة للجدل حين يظهر التناقض في فهم ذات النص وذات التعابير بين مسلم يلجأ إلى العنف (لأسباب اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية) فيُكيّف مفاهيمه لتتناسب مع خطواته ومسلم آخر يُبقي على فهمه ونهجه بأن الإسلام ليس مصدراً للعنف فيبدو الأمر محيراً للمراقب الذي يتناهى إليه مفهومين متناقضين لنفس النص وتأثيره على إنتاج العنف أو عدمه من قبل طرفين مسلمين. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة هنا يتمثل في الدافع إلى اكتساب ذات النص أو التعبير معنيين متناقضين بنفس الوقت.
لا نحتاج للفحص الدقيق لإدراك أن وضع المسلمين، أفراداً كانوا أم جماعات، ليس هو الأفضل وخاصة في أيامنا هذه، إذ أنه آخذ في التدهور من سيء إلى أسوأ في ظل الأنظمة اللاديمقراطية الحاكمة إلى أمد لا تلوح نهايته في الأفق بفعل استماتتها للحفاظ على أنفسها وتوريث كراسي الحكم، وغياب الديمقراطية وانعدام الحريات العامة، ناهيك عن سوء توزيع الثروة وانتشار الفساد والفقر والجهل والبطالة، إضافة إلى ما يواجهونه من نزاعات وصراعات إقليمية تبدو حلولها أكثر من مستعصية.  وسط هذا المناخ المحمل بالضغوط والكبت والقمع واليأس من عدم حصول تغيير، لا يبقى للفرد أو للجماعة، إلا البحث عما يمكنهم الاستناد إليه والتعبير من خلاله عن امتعاضهم وتذمرهم مما هم فيه، فمن الواضح أن جدار الاستناد وتسجيل الاحتجاج يصبح، في معظم الحالات، الدين.  والدين، بهذا السياق، ما هو إلا بُعد رمزي لعمل اجتماعي والإلتفات إليه لا يعني بأي شكل من الأشكال الهروب من المعضلات الوجودية للحياة عامة إلى عوالم سماوية مجردة من عواطف الدنيا بل إنه، وعلى العكس تماماً، انخراط في وسطها.  والدين يغدو الأداة التي يطورها الإنسان وهذا التطوير يتحدد، كما ذكرنا أعلاه، طبقاً للوضع السياسي والاقتصادي والنفسي للمطوِّر وبالتالي للشكل الذي سيأخذه “دينه”، فإما أن يأخذ منحى إيجابياً يتعامل بموجبه مع بقية البشر، ما يجعل مسلماً يرى المسيحي واليهودي “أهل الكتاب” فيُجيز التعامل والتزاوج معهم ومنهم وإما أن يكون سلبياً وعدائياً يصل حد التطرف والإرهاب تجاههم، ما يجعله يرى في المسيحي واليهودي أعداء “كفاراً”  يتوجب “الجهاد” ضدهم. من الناحية النفسية يحمل اللجوء إلى الدين لتبرير التطرف شيئاً من مواساة الذات.  ولهذا فإن الدين هنا موقع للتطرف وليس مصدَراً له.
بكلام آخر، تحمل نظرتنا كثيراً من الاعتباطية وتغريباً للواقع حين نميل إلى رؤية الدين الإسلامي (أو أي دين آخر) كعلم اجتماعي قائم ونبحث عن قوانين ومعان في ذلك العلم اعتقاداً منا أنها المحددة لسلوك ونهج معتنقيه، بل، وعلى العكس تماماً، فإن “القوانين” و “المعاني” ليست مثبتة وجاهزة وإنما تُكتَسَب وفقاً للمكان والزمان ومجمل الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها هذا الإنسان العالق بشبكات مفاهيم أهميتها كانت بالمطلق من نسجه واستنباطه، والدين يصبح بالتحديد منظومة مفاهيم مكتسبة وليس علماً تُحدِّد قوانينه أنماط سلوك معتنقيه.
أخيراً، إن المشكلة تكمن في أن التمترس بالدين كملاذ أخير يفرض تناقضاً ـ بل وانفصاماً، لا يمكن تجاهله ـ بين المرء ذو الوضع الساكن (إذا جاز التعبير)، في الشكل الذي عرضنا له أعلاه، وبين العالم دائم الحركة، ما يُبرز الأسئلة التي تتمحور حول تشخيص الحالة وطرق إيجاد الحلول لها!  فنرى بيننا من العلمانيين من يلجأ لأسلوب الصدمة، ليس فقط عبر محاولة إبراز العلاقة بين التطرف والنص الذي اتخذه المتزمت كموجّه لآليات عمله وبالتالي الطلب بتغيير النص الديني والمناداة بضرورة إيجاد إصلاح ديني، بل وأيضاً بمواجهة الشخص المعني بفداحة نهجه.  إلا أن الحل الحقيقي يكمن في تحديد مواقع الغبن والظلم والعمل الحثيث على إزالتها لتكون النتيجة تهيئة أفراد وجماعات تنتمي إلى الدنيا وتوازن بطيب خاطر ما بين دينها ودنياها.
© منبر الحرية، 21 أغسطس/آب 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

إذا كان العالم، بعد صدمة الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، قد أعلن بصوت واحد وضع مسألة “محاربة الإرهاب” وتجفيف منابعه في طليعة أهدافه، فإن الحرب في غزة بالصورة التي شهدها الجميع وتداعياتها تدل على أن هذا الأمر يبقى طي نسيان المحافل الرسمية العالمية، إذ أن نواقيس الخطر يجب أن تُقرع لتفادي ما جرى في غزة. فالشروط الملائمة للتطرف ولتفريخ “إرهابيي المستقبل” هي اليوم أكثر ازدياداً من ذي قبل.
لنتذكر أن محاربة الإرهاب أعنت لغالبية المتابعين المعنيين بهذه المهمة التركيز على جوانب محددة منها عسكري واستخباراتي يتمثل بالعمل السريع على تعقب الإرهابيين وملاحقتهم وإخماد تحركاتهم الساعية إلى الإرهاب ويرمي كذلك إلى ضبط مواردهم المالية ومحاولة تجفيفها عبر تضافر علاقات تعاون دولية لتحقيق الهدف المنشود. فالهدف الأيديولوجي يتلخص في التصدي للنهج التربوي، وللخطاب، الذي يحض، بشكل ما، على العنف والكراهية ونفي رؤية الآخر. إلا أن الثغرة التي لا يزال العالم يخفق بسدها لبتر دوافع الإرهاب فإنها، وللمفارقة الكبرى، تتسع بمساهمة دولية رسمية حين يفشل العالم في أن ينفذ إلى الجانب النفسي للأفراد والجماعات المغبونة التي تشعر بأنها عاجزة عن القيام بما يزيل غبنها وترى العالم صامتاً حيال ضيمها. ولعل في ما عبر عنه المظلي الإسرائيلي بن موكا والاحتياطي الإسرائيلي “نوعيم ليفنا” لصحيفة الغارديان (تاريخ 17 يناير) يكمن بعضاً من الوصف لما يجري وبنفس الوقت خوفاً، عقلانياَ ومشروعاَ، من نتائجه نظراً للحالة النفسية للفلسطينيين، فيقول بن موكا في تبرير رفضه للخدمة في غزة إنه “انضم للجيش الإسرائيلي على اعتقاد أنه سيحارب “منظمات إرهابية”، ليجد نفسه يقمع تطلعات الفلسطينيين للحرية واحتجاجات المزارعين الفلسطينيين ضد السرقة التي لا تنقطع لأراضيهم” ويتابع بن موكا بقوله إنه قد “شاهد انتهاكات مثل إرسال الجنود الإسرائيليين للنساء والأطفال الفلسطينيين ليدخلوا بعض المنازل للتأكد من خلوها من الألغام، ومثل استخدام المدنيين كدروع بشرية”. وأما ليفنا فإنه يعبر عن مخاوفه من آثار هذه الحرب مستقبلاً إذ يقول: “فقتل المدنيين الأبرياء لا يمكن تبريره، لا شيء يمكن أن يبرر هذا النوع من القتل، إنما هي الغطرسة الإسرائيلية المستندة إلى منطق أنه إذا ما أكثرنا الضرب فسيكون كل شيء على ما يرام، لكن الكراهية والغضب اللذين نزرعهما في غزة سيرتدان علينا”.
لابد من الاستباق للتأكيد على نقطتين: الأولى تتلخص في رفض استخدام العنف، أياً كان شكله أو مصدره، بالتلازم مع نبذ أية لغة أو خطاب أو أيديولوجيا، دينية كانت أم غيرها، متزمتة ترفض الآخر وتستعلي عليه؛ والثانية أن هذه الأسطر لن تتطرق للجانب السياسي البحت للعنف الدائر، فقد أُطنب آخرون في تغطيته وتحليله، وإنما الغاية تنحصر هنا في محاولة استقراء وفهم من وجد نفسه في غزة وسط القصف والتدمير والقتل دون أن يكون مسلحاً أو متحزباً ولكنه عانى من العنف الدائر وكأنه طرف منه وما هي تداعيات ذلك عليه في المستقبل، وهذا لا يخص فقط أطفال غزة ومن سينجو منهم “جسدياً” وإنما يشاطره أيضاً في مشاعر الغبن والإحساس بالعجز من يراقب عن بعد الصورة المريعة لما تفعله آلة الحرب بالأطفال والمدنيين عموماً وقد مزقت أجسادهم أو أحرقتها آله الحرب بدباباتها وطائراتها وصواريخها.
خلافاً لنظيره الفلسطيني، يحظى الطفل الإسرائيلي الذي يتعرض لصدمة نفسية ويعاني منها بالعناية اللازمة من قبل الأخصائيين، فهناك مراكز تدريب مختصة وورشات عمل متعلقة بذلك ويتم تقديم الخدمات والاستشارات والعناية المتطورة في مجال معالجة اضطرابات ما بعد الصدمة. أما الطفل الفلسطيني الذي يفتقد، في الأحوال العادية، للمساعدة المناسبة والعلاج اللازم، فيبقى فريسة للقلق والخوف، وإذا كان الكبار محصنين عموماً بعامل السن والخبرة، فإنه يتعذر على الطفل بمفرده المقدرة على مواجهة ما يعيشه من مآس ستنتج، لامحالة، اضطرابات نفسية عميقة وحالات من التوتر والاكتئاب. وسيبقى عرضة للخوف والقلق و الكوابيس جراء شعوره بتهديد حياته وتعرضه للأخطار ونتيجة لقصف المكان الذي يعيش فيه والدمار والخراب في كل مكان من حوله وهلع الموت بافتقاده لواحد أو أكثر من أفراد أسرته.
يجب أن تتمحور الأسئلة، التي يفترض أن تشغل بال الكثيرين الآن، حول المستقبل واحتمالاته. من المؤكد أننا لا نستطيع أن نقرأ بدقة مستقبل الطفل الفلسطيني الآن وهو يتعرض لما نشاهده، لكن من البديهي، والواقع هكذا، أن نقدّر أن احتمال نزوعه إلى العنف قائم وبقوة، فما من أحد يستطيع أن يخمّن ليس فقط كم ستبقى في ذاكرة الفلسطيني مشاهد العنف والدمار والقتل والانفجارات والبكاء والعويل بل وأيضاً إلى أي حد ستطبع حياته أو كيف ستؤثر عليه مستقبلاً، ناهيك عن الشعور بأن طفولته قد سُرقت واغتيلت، ويبقى احتمالاً مرجحاً أن تفكيره سيدور بحلقة يشعر بها أن أحداً لم يقدر طفولته ولم يرحمها وأنه عومل، وسط صمت العالم، كما لو كان ناضجاً ومحارباً، وهو طفل يريد أن يلعب ويلهو.
في كتابه (From the Wings) ـ كما في مقابلات معه ـ يوضح جوزيف هارماتز (مواليد ليتوانيا 1926) وهو أحد الذين أثرت في حياتهم آلة الحرب النازية بتدميرها وقتلها لليهود أنه خطط، ومجموعة انتظمت، لقتل الملايين من الألمان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بطرق إرهابية (وأفلح في الواقع بقتل بضعة مئات) ويبرر ذلك أنه أراد أن ينتقم من أي كان لأن صمت الألمان عامة لما جرى قد أعنى له، بشكل أو بآخر، المشاركة فيما حدث، أو أن من بقي صامتاً إنما كان مقتنعاً، على الأقل، وأعطى موافقته الضمنية على استمرار القتل. ختاماً، المأساة يعيشها البعض والبعض الآخر يتعاطف مع من تحل عليه وأما تأثيراتها على الاثنين فهذا ما سيبينه المستقبل.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 يناير 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

يتناول عدد من مثقفي منطقتنا مسألة المساهمة العربية في هذا العصر من تاريخ البشرية باعتبارها مشكلة حين يشددون وبقلق على غياب العرب وذلك من منطلق ضعف الأداء في الحاضر أو تقلصه إلى درجة انتفاء دور العرب على الساحة العالمية. ومع أن هذا الرأي لا يعاني من صعوبة الارتكاز على أسس قوامها الأمثلة والمفاهيم والأسئلة، إلا أن طرح المشكلة هذه، في كثير من الحالات، يتسم بشيء من الابتعاد عن التعاطي العقلاني معها حين يميل المثقف إلى رؤيتها بمعزل عن صيرورة سياسية اجتماعية تاريخية من جهة، وحين يتضمن تقييمه، بشكل غير مباشر، ما فيه تنكّر لمساهمة الفرد العربي ما لم يكن الأخير يقطن جغرافياً، ويعمل، في المنطقة العربية من جهة أخرى.
من الواضح أن النقطة المحورية للكثير من المدققين في واقع ما يقدمه العرب للعالم اليوم هي مقارنة حاضر العرب بماضيهم وما كان له من أثر، مباشر أو غير مباشر، على العلوم والفلسفة في عصر لاحق. أي استذكار العصر “الذهبي” للعرب في الفترة الممتدة مابين القرن الثامن والثالث عشر الميلادي وما زخم به ذلك العصر من إنتاج في مجالات العلوم عامة: في الكيمياء والطب والبصريات والفلك وغيرها إضافة إلى الفن والفلسفة مقابل عقم إنتاجهم في هذا العصر.  بيد أن استحضار هذه الحقيقة قد يلعب دوراً سلبياً فيما لو كان يرمي بالمطلق إلى صدم الحاضر بالماضي، وما لم نستحضر، بنفس الوقت، ونؤكد على ما تعلمه قراءة التاريخ من أن أياً من الشعوب لم يكن لينتج بشكل فاعل ومؤثر في مسيرة البشرية وتطورها لولا توفر مجمل شروط ذاتية وموضوعية مهدت، أو سمحت، بحينها بارتقاء هذه المجموعة البشرية أو تلك إلى  ما كانت عليه يوماً من تقدم ونهضة وحضارة (مع التذكير بأن طبيعة الشروط تتغير أيضاً تلاؤماً مع متطلبات زمنها).  يضاف إلى ذلك حقيقة تاريخية لا يمكن تجاهلها وهي أنه في ذروة عطاءات العرب في الفترة آنفة الذكر لم يكن كل من أبدع وابتكر وأنتج شيئاً في ذلك الحين قد ولد عربياً أو في المنطقة العربية لكنه عاش وكتب وقدم اكتشافاته باللغة العربية. إذ كانت الأخيرة حينها لغة النخبة السياسية، ومع ذلك فقد كانت مساهمات هؤلاء المبدعين تنسب للعرب؛ الأمر الذي يقودنا إلى أن نسحب ذلك على واقع اليوم بإضاءة هذا الجانب فيما يخص مساهمات الأفراد العرب ممن يعيشون خارج المنطقة العربية (لأسباب متعددة في طليعتها انعدام الديمقراطية في المجتمعات العربية عامة). إذ يُنسب إنتاجهم في المجتمعات المتقدمة صناعياً والمتطورة ثقافياً وحضارياً بالتحديد إليها فهي من توفر لهم الشروط اللازمة لعملهم. وإذا ما أضفنا أيضاً ما نقله العرب تاريخياً من الشعوب والحضارات أخرى عبر الترجمات فإن ذلك يدفعنا إلى تذكر حقيقة أن الفترة المتميزة بتاريخ العرب كانت عهد اتصالات وتبادل بين الثقافات وانفتاح واستعارات في كلا الاتجاهين.
حينما نستعرض ما هي عليه البشرية جمعاء من إنجازات في كافة المجالات العلمية والمعرفية وما هو بتناول الجميع في وقتنا الحالي، لا نمتلك إلا أن نبوّب لحقيقة أن ما ينتج عبر التاريخ، من قبل هذا أو ذاك ـ وحيثما كان ـ يصبح ملكاً للجميع وليس وقفاً أو حكراً لفئة ما أو لشعب محدد دون غيره. مما يعيد إلى الأذهان مشهداً وصفه مراقب غربي بالمحيّر حين نظر إليه للوهلة الأولى لا بتفكير “من يساهم بماذا” بل من زاوية الربح والخسارة للشعوب. ففي مشهد تتداخل تداعيات مدلولاته، حيث يتجمع عدد من الأفراد العرب حول جهاز تليفزيون ياباني الصنع ويراقبون فيلماً أمريكياً، تعذر على ذلك المراقب الغربي الجواب عن سؤال من يغزو من فيما يراه!؟ أهي التكنولوجيا اليابانية المتطورة في جهاز التليفزيون التي تغزو العرب؟ أم أن الثقافة الأمريكية في المادة المقدمة تليفزيونياً هي التي تغزو العرب!؟  أم العكس تماماً؟ أي أن العرب هم من يغزون اليابانيين بحصولهم على التكنولوجيا اليابانية الحديثة بمقابل مالي زهيد مقارنة بالجهد البشري الياباني (والعالمي) في المجال التقني والذي وصل إلى ما وصل عليه من تقدم. كما ويغزون الأمريكيين بإطلاعهم على المنتج الثقافي الأمريكي والذي يعبر عن فكر متطور يأتيهم عبر ذلك الجهاز الصغير وتفصل بينهم وبين أمريكا مسافات كبيرة!؟ وتداخلت الأسئلة في رأسه أكثر حينما تذكر أن التليفزيون ليس اختراعاً يابانياً في الأساس وأدرك صعوبة الجواب عن سؤال يحدد بدقة “من يغزو من!؟” في المشهد الذي رآه خصوصاً عندما فكر بما كان من أثر لما قدمه العرب تاريخياً للبشرية وفي أكثر من مجال، وسرعان ما تخلى عن النظر للموضوع من باب الغزو أو قياسه بأية مقاييس أخرى غير تلك التي تُرجع تاريخ وحياة البشرية جمعاء على مر العصور إلى مساهمات وأخذ وعطاء بين شعوب الأرض في كافة المجالات، وأن ما تنتجه فئة من الناس في مكان ما هو ربح للبشرية في أماكن أخرى.
باختصار شديد، يخرج طرح مشكلة المساهمة العربية عن إطار التوصيف البنّاء فيما لو ترافق ذلك بخطاب يمجد بماض غني ويتحسر على حاضر عقيم، إذا جاز التعبير. ولن يكون له من الأثر إلاّ ما فيه المزيد من الشعور بالعجز والتصدع النفسي الفردي والجمعي يتمخض عنه حيناً نزعة إلى الانعزال، وربما يلعب ذلك دوراً هدّاماً فيما لو تم التعرض للمسألة بإلقاء اللوم على “الآخر” النشط الفاعل والبارز بدلاً من تشخيصها بشكل دقيق يعزي قصور أو اضمحلال ما تنتجه الكتلة البشرية في المنطقة العربية إلى صعوبات داخلية شتى في طليعتها ـ كما نوهنا أعلاه ـ غياب الديمقراطية في الدول العربية والقيود السياسية والاجتماعية عموماً، إضافة إلى انعدام عامل الأمن الأهلي في بعض منها، ما يغيّب الكوادر عن بلداننا ويجفف أدمغتها.

© معهد كيتو، مشروع منبر الحرية ، 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018