ألفارو فارجاس لوسا

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

رواية أوغستو بينوشيه الطويلة، ربما تكون بعيدة عن نهايتها—فسياسات أمريكا اللاتينية هي غرفة كبيرة مليئة بالأشباح من الماضي—بيد أن وفاة دكتاتور تشيلي تعطينا على الأقل فرصة لاستعادة أحد أهم الدروس المستقاة من تاريخ بلاده الحديث.
الدرس الأول، هو أن المثاليات الاجتماعية تنتهي دائماً بالدموع. لقد كان لدى تشيلي تراثاً ديمقراطياً عندما جاء الماركسيون اليساريون إلى الحكم في عام 1970 بيد أن هذا التراث لم يكن قوياً بدرجة كافية تمكنه من الوقوف أمام الطريق الثورية التي اختار الرئيس سلفادور أليندي أن ينتهجها. لقد سخر اليسار بالمؤسسات التي أتاحت له الوصول إلى السلطة ودفع بالنظام الجديد إلى ما بعد حدوده وبالتالي تسبب في رد فعل عسكري شديد القساوة. واليوم، فقد تعلم الاشتراكيون في تشيلي الدرس من تلك التجربة.
الدرس الثاني، هو أنه لا يوجد شيء اسمه “الدكتاتورية الطارئة”. إن أولئك الذين دعوا إلى تدخل عسكري، وكان من بينهم الديمقراطيون المسيحيون من يمين الوسط، كانوا قد ارتكبوا خطأً فادحاً في ظنهم بأن القوات المسلحة سوف تعود أدراجها إلى ثكناتهم بمجرد أن تنتهي “حالة الطوارئ”. وما أن وُضع حكم القانون جانباً وتم التخلي عنه، حتى لم يبق من شيء يقف أمام بينوشيه وتعزيز قبضته على السلطة—وبالأخص، وكما هو الحال في كثير من الحالات، في قارة تعشق القادة والحكام الأقوياء، وبالتالي استندت السلطة على تأييد شعبي كبير.
وقد دفع كثير من الديمقراطيين المسيحيين ثمناً باهظاً بتأييدهم لبينوشيه، وقد سعوا فيما بعد لتصحيح سوء التخطيط ذاك بتحالفهم مع الاشتراكيين منذ عودة الديمقراطية إلى البلاد في عام 1990.
الدرس الثالث، هو أن الأسواق الحرة والحكومات الدكتاتورية هما في نهاية المطاف لا يلتقيان، ذلك لأن نظاماً اقتصادياً حراً يتطلب توزيع السلطة، وهذا من شأنه في النهاية أن يحد من قدرة أولئك الذين يتولون زمام الحكم من مواصلة حكمهم. نعم، لقد كانت الإصلاحات الاقتصادية في عهد بينوشيه ناجحة جداً. بيد أنها خلقت جيلاً من الطبقة الوسطى كرهت أن يحكمها العساكر. ومن السخرية أن الذين خلفوا بينوشيه قد أثبتوا أنهم ضامنون أفضل للاقتصاد الحر من الجنرال بينوشيه نفسه. فمنذ عام 1973 كان معدل النمو الاقتصادي السنوي أربعة أضعاف، في المعدل، مما كان عليه بين 1810 وتاريخ وقوع الانقلاب العسكري. وفي الوقت ذاته فقد تراجع التأييد لبينوشيه بشكل منتظم على امتداد العقدين الماضيين. فقد نال 43 بالمئة من الأصوات في الاستفتاء الذي خسره في عام 1988، وكان مرفوضاً على نطاق واسع عند وفاته.
أما الدرس الرابع، فهو أن حقوق الإنسان ليست اختراعاً حققته جماعات حقوق الإنسان، مهما كان الكثير من تلك الجماعات منحازين (إنهم لم يوقعوا نصف الضغط على دكتاتورية فيديل كاسترو الذي وضعوه على بينوشيه). لا شيء يمكن أن يبرر قتل 3197 إنساناً، وتعذيب أكثر من 29000 وإرسال الآلاف إلى المنافي، كما جاء في تقرير اللجنة الوطنية للحقيقة والتصالح في عام 1991. ذلك السجل الوحشي لم يكن الثمن الذي دفع من أجل الاستقرار—والذي جاء بالفعل مع نهاية النظام العسكري—بل كان نتيجة حتمية لحكم رجال يرتدون الزي العسكري. لقد فشلت إدارة نيكسون في أن ترى هذه الحقيقة، وكان من شأن ذلك تأجيج المشاعر المعادية لأمريكا في الهمسفير الغربي. لقد تم تطوير حكم القانون لأن أي إنسان يملك قوة كبيرة قادر على ارتكاب أعمال مشينة.
إن جيشاً يتحكم في أمة تحكماً غير مقيد، سواء كان يقوده بينوشيه أو كاسترو، سوف يرتكب على الدوام القتل والخطف وتعذيب المواطنين الذين يراه مهددين لنظامه. إن نتائج السماح لذلك سوف يستمر في إلقاء ظلاله الداكنة على شعب بعد زمن طويل من نهاية حكم ذلك النظام. فالجروح المفتوحة ما زالت تُرى في المجتمع التشيلي وهي تشهد بهذه الحقيقة.
الدرس الخامس، أنه لا يوجد هنالك شيءٌ يمكن تسميته بالدكتاتورية الخالية من الفساد. فعلى امتداد سنوات كان ينظر إلى بينوشيه على أنه جندي “أخلاقي”. وكان مؤيدوه يزعمون بأنه خلافاً للكثيرين غيره من الحكام العسكريين، فإنه لم يسرق أي مالٍ أبداً. ولكن في عام 2004 كشفت لجنة تحقيق أمريكية منبثقة عن مجلس الشيوخ الأمريكي النقاب عن أن بينوشيه قد أودع عدة ملايين من الدولارات في بنك ريغز في واشنطن وفي غيره من المؤسسات، مستخدماً هويات مزورة. وتبع ذلك اكتشافات أخرى.
وآخر درس هو أن الانتقال إلى حكم القانون يجب أن يهدف إلى تحقيق عدالة جزئية على الأقل إذا لم يكن بالإمكان تحقيق العدالة الكاملة وانسجامها مع الحفاظ على الفترة الانتقالية. لقد تحركت محاكم تشيلي متأخرة كثيراً ضد بينوشيه بسبب خشيتها من إثارة المؤسسة العسكرية، ولم يكن إلا بعد أن سمحت السلطات البريطانية له بالعودة إلى سانتياغو بعد 503 أيام من التوقيف في لندن أن تحرك النظام القضائي في تشيلي. نعم، لقد تم رفع الحصانة عن بينوشيه ما مجموعه 14 مرة، وكان عليه أن يقضي معظم سنوات حياته الباقية مناوراً لتفادي السجن، ولكن لم يحكم عليه أبداً وكانت فترة الانتقال التشيلية في اتجاه حكم القانون مليئة بشعور بالذنب الأمر الذي سيجعل من الصعب مكافحة شبح بينوشيه في المستقبل المنظور.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 23 كانون الأول 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018