احمد محمد الشرعبي

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

إن الحديث عن الوحدة في ملفات التاريخ اليمن وضميره تحمل معناً واحداً، أن مكنونات اليمن عندما تتضافر وتتآزر حضائره وقبائله وأماكنه  فإن يمناً آخر شهد له القرآن “وجئتك من سبأ بنبأ يقين”، وأذعنت له حضائر أُخَرْ “أهم خيرٌ أم قوم تبع”، هذا اليمن، الذي شهدت له حتى حضارات أخرى في العالم القديم،  يبقى هو الاستثناء…
الوحدة في التاريخ القديم
اليمن السعيد أو “أورابيا فليكس” حسب المؤرخين اليونان والرومان، يشمل جزئيه الجنوبي والشمالي وسلطنة عمان والمخلاف السليماني فتكون حدوده من مشارف مكة إلى إقليم ظفار جنوباً.
وهو ذاته من تناسلت بقيه حضاراته القديمة من لدن سبأ، ولذلك فدولة سبأ  تعتبر الدولة المحورية في مسيرة دول أخرى حتى القرن الخامس قبل الميلاد، ويعود أكبر تجلي للوحدة في عصر  سبأ في عهد أعظم ملوكها وهو “كرب إيل وتر بن ذمار” الذي تمكن من توحيد اليمن وسجلت انتصاراته وجهوده العمرانية على نقش سمي “نقش النصر”، رغم أن أول حكام سبأ يقال له قريب الوطر. ولذلك التوحد علاقة بألقاب الحكام في سبأ فمن لقب بالملك فهو من يحكم شعبا واحدا أو قبيلة واحدة  بينما المكرب فهو المجمع أو الموحد لعدة شعوب تحت حكمه، ويؤكد نقش بناء معبد بيت أكينو في أشور أن كرب آل وتار بن ذمار هو أعظم  ملوك سبأ حيث ذكر النقش أنه بعث بهدية إلى الملك الآشوري سنحريب، حوالي 685 ق.م، ويرَجَحْ أنه نفسه صاحب نقش صرواح الكبير الذي يفيد أن الملك كرب آل وتار قام بعدة حملات عسكرية داخلية خلال فترة حكمه يهدف منها إلى تثبيت السلطة المركزية لدولته وتأديب من خرج عنه، ويذكر النقش أنه كافأ الجهات التي بقت موالية مثل حضرموت وقتبان.
وكون الوحدة هي القاعدة فإن الدول التي وجدت إثر ضعف الدولة السبأية والتي كانت أحياناً تدور في فلك القرب والبعد من الدولة الأم، وفي عهد الدولة الحميرية التي ورثت مركزية سبأ حدث اندماج بين الكيانان الرئيسيان وهما “كتلة سبأ كهلان” وكتلة “حمير بنو ذي ريدان” وبالتالي ظهر اللقب الملكي “ملك سبأ وذو ريدان” في القرن الثاني قبل الميلاد ولعل أول من حمل هذا اللقب “الشرح يحصب الأول”، ولاحقاً تمكن “حميريو ذو ريدان” من  توحيد اليمن بأكملها تحت سيطرتهم بحلول القرن الثالث الميلادي في عهد “شمر يهرعش الثاني” الذي تلقب “بملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنه”، ويذكر نقش يمني أن عامل الملك (شَمّر) في صعدة ريمان ذو حزفر اشترك في حملات وجهها الملك كانت تصل إلى الحيرة، ويشهد نقش عامل شمر يهرعش على أن كل شبه الجزيرة العربية كانت امتدادا حيويا للدولة اليمنية،  بينما في عهد “أبي كرب أسعد بن ملكي كرب يهأمن” المشهور بأسعد الكامل أو التبع الأعظم، الذي حكم في القرن الرابع للميلاد وتلقب “ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنة وأعرابهم طودا وتهامة”، أما الطود فهو الحجاز كما يذكر ابن المجاور وتهامة هي كل الساحل الشرقي للبحر الأحمر، أي أن جميع الأعراب وهم القبائل البدوية في المشرق والحجاز وتهامة خضعت لحكمه، حتى أن سلطة وصلت إلى اتحاد كندة في وسط الجزيرة كمملكة تابعة له، وهناك من المؤرخين يرى أن إضافة ملك الأعراب في الطود والتهائم إلى لقبه، تعني أنه أصبح ملكا للجزيرة العربية كلها، وفي وادي مأسل الجُمْح بنجد قرب الّدّاودمي، عثر على نقش باسم أبى كرب أسعد، يذكر أنه حل غازيا مع ابنه حسّان في أرض معد وذلك يوافق ما ورد في كتب التاريخ والأخبار, وتذكر الأخبار أن اليمنيون تركوا الأصنام واعتنقوا اليهودية والمسيحية بعد اعتناقه لليهودية، ويرى أولو العلم أن أسعد الكامل هو المشار إليه بالقران “أهم خير أم قوم تبع”   وقد ارتبط بذكر هذا الملك مايشبه ملحمة تاريخية تمجد أعماله وفتوحاته، وتنسب إليه عددا من المدن التاريخية مثل ظفار وبينون وغيمان وخمر وغيرها، ولا زالت تنسب إليه الكثير من بقايا الآثار.
وعندما تتحقق الوحدة تنعكس آثارها التنموية فتزدهر الزراعة والتجارة العربية اليمنية وتقام منشآت عمرانية كبرى من طرق وسدود وشبكات ري ومعابد وقصور وتزدهر التجارة في ما كان يعرف بطريق البخور البري، ثم لاحقاً في الطرق التجارية البحرية، وما ارتبط بها من موانئ يمنية على بحر العرب والبحر الأحمر، والشيء الواضح في انه بحسب قوة وضعف السلطة المركزية وانسجام مكوناتها الداخلية يكون امتداد السلطة إلى الجزيرة العربية،  بينما في أواخر الدولة الحميرية أوصل والاختلاف اليمن إلى أن تفرق بين الأقيال والأذواء بعد سقوطها إثر الاحتلال الحبشي عام 525 ميلادية في عهد حكم يوسف ذو نواس من عائلة ذي يزن الحميرية، وبالتالي ذهبت ريحها.
الوحدة في تاريخ اليمن الوسيط
في ظل الإسلام كان اليمن جزءاً من الخلافة الإسلامية بانقساماتها وصراعاتها وما تلاها أو جاء خلالها من دول تحتفظ بالولاء الرمزي لدولة الخلافة، غير أن الإستقرار المتضمن مع توحيد اليمن تفيأته دولة بني رسول حيث أن مؤسسها الملك المنصور دانت لحكمه جميع جهات اليمن بما فيها القبائل والأئمة الزيدية، على عكس من سبقه، وبلغ ملوكها خمسة عشر تخلل دولتهم تمردات قوى مختلفة، أثمرت إنتهاء الدولة في 858هـ/1454م على أيدي الطاهريين بعد قرنين ونصف من الحكم.
حينها كانت الإمبراطورية العثمانية تكتسح العالم الإسلامي، وكان تطلعها لليمن تصنعه حملتها الأولى عام 945هـ التي قضت على طموحات الإمام شرف الدين الذي إتخذ المماليك مطية للقضاء على الطاهرين ومن ثم وراثة دولتهم بالإنتهاء من المماليك أنفسهم الذي أطلق عليهم وقتها “غزاة كرماء”، لكن بعد مايقارب مائة عام خرج العثمانيون بعد فترات من الإقتتال آخرها في زمن محمد إبن الإمام القاسم بن الهادي في 1045هـ/1635م، وبسبب تبوء الأئمة الزيديون للإقتتال مع العثمانيين تأسست دولة الأئمة الأولى (القاسمية) التي  استمرت 325 عاماً، وفيها  تمكن أحد أئمتها وهو المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم من توحيد اليمن بكامل مخاليفه التاريخية تحت حكمه وحتى مشارف مكة لفترة تزيد على الثلاثين عاماً، وبذلك تصير في تاريخها الوسيط قد وحدت مخاليفها تحت سلطة مركزية سبقتها، وحدة في زمن الرسوليين والصليحيين.
وبسبب تقاتل الأئمة واستشراء الظلم، من جهة وعودة الحملة العثمانية الثانية، ورغبة محمد علي باشا لتوحيد العرب تحت حكمه فعندما ضم الدولة السعودية الأولى وبدء تطلعه لضم اليمن احتل البريطانيون عدن لتأمين  مصالحهم التجارية وتطويقه ثانياً، الأمر الذي كان يؤدي إلى تفرق مخاليف اليمن،  فكان العثمانيون في الشمال على حساب دولة الأئمة التي أكلها الضعف والتصارع والبريطانيون في الجنوب.
وفي ظروف عالمية فرضتها نتائج الحرب العالمية الأولى من سقوط الرجل المريض ميتاً عام 1918م ومن ثم انسحابه عن اليمن، كان المخلاف العماني يتجه للإنسلاخ عن اليمن مسبقاً، إلا أن المؤسف حدوث تقسيم اليمن لأول مرة في تاريخه وفق صياغ قانون وتشريعي معترفاً به في القانون الدولي، بدءا ذلك بين عامي 1903، 1904م ليُضمن  لاحقاً في اتفاقية 1914م بوجود شطرين  منفصلين اقتضته مصلحة دولتان إحداهما دخيلة والأخرى محتلة، ولذا فإن لهذا التأسيس عاملاً جوهرياً في ذهاب المخلاف السليماني عن اليمن التاريخية.
الوحدة في تاريخ اليمن الحديث
بقي من اليمن التاريخي شطران شمالي ذو نظام جمهوري وجنوبي ذو نظام اشتراكي، ولذا فهما مختلفان فكرياً مما يزيد ذلك إلى شقة الانشطار الحدودي، لكن حلم اليمن الواحد ظل حاضراً رغم حروب حدودية بين الطرفين عامي 1972 و 1979م، حيث أن الجهود صوب الوحدة بمجهودات عربية كانت تتناهي صوب تقارب وحدوي، وأبرز خطوات هذه الفترة السبعينية، اتفاقية القاهرة في 28 أكتوبر 1972م، وثانيها بيان طرابلس الموقع عليه في 26 نوفمبر 1972م بين رئيسي البلدين لأجل وسائل تحقيق الوحدة، وثالثها كانت قمة الجزائر بين رئيسي البلدين في 4 سبتمبر 1973م والتي  شكلت أول مجلس مشترك للطرفين، وأخيراً لقاء الكويت الذي وقعت عليه في 30 مارس 1979م، إثر حرب ذات العام.
وبالفعل بعد ظهور الجدية في مضمار تحقيق الوحدة بعد لقاءات وحدوية بين بين الرئيسين علي عبدالله صالح وعلي ناصر محمد مع ظروف داخلية مناسبة لكنها تجمدت عام 86م إثر أحداث 13 يناير في الجنوب، التي أنتجت رئاسة للجنوب لعلي سالم البيض.
لكن عجلة التوحد بدأت بالتحرك بدءاً من العام 87م خاصة وأن ظروفاً دولية وداخلية خاصة مع تباشير انحسار الاشتراكية التي جعلت رغبة الطرفين نحو الوحدة، تتجلي سريعاً بلقاء عدن التاريخي في 30 نوفمبر 1989م، حيث جرى التوقيع على اتفاقية إعادة الوحدة، وريثما جاء الثاني والعشرين من مايو 90م تم الإعلان رسمياً عن دولة الوحدة، بعد مائة  وخمسين عاماً على تفرق مخاليف اليمن وحضائره مع الفارق بين هذا التفرق وبين تصدع سد مأرب الذي أفضى فقط تفرق أيادي سبأ،  وبين الفارقين بون كبير.
© منبر الحرية، 08 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

بات الممر المائي الهام في البحر الأحمر منطقة حساسة تتلاقى عبرها مصالح خطوط التجارة لقارات العالم القديم (آسيا- أفريقيا- أوروبا) و فوق ذلك ساحةً للبارجات والسفن العسكرية للدول النافذة في العالم، ووجود هذا العدد المتزايد من القطع العسكرية الأجنبية له تأثير خطير على الأمن الإستراتيجي للجزيرة العربية والقرن الأفريقي اللتان تتقاطع مصالحهما في هذه المساحة من العالم. وعلى اعتبار أن مضيق باب المندب يربط بين ثلاث قارات، ويزداد الاهتمام العالمي به منذ القديم، وخصوصاً بعد حفر قناة السويس عام 1869 ثم ظهور البترول وتزايد التجارة العالمية، ثم يأتي المستطيل البحري الممتد من خليج عدن والواصل إلى شواطئ جيبوتي في الأهمية التالية، ومع هذا التفاوت في الأهمية إلا أن منطقة البحر الأحمر الجنوبي برمتها تظل محل تطلع عالمي.
وأنتقل تحديداً إلى جنوب البحر الأحمر المتحكمة في مضيقه –باب المندب- اليمن وجيبوتي وإلى حد ما الصومال، والمعروف أن اليمن والصومال هما صاحبتا أكبر إطلالة مباشرة على المياه الإقليمية في خليج عدن، ويمتلكان سواحل بحرية طويلة؛ فلليمن 2800 كلم على البحر الأحمر والعربي والصومال 3500 كلم على البحر الأحمر والمحيط الهندي. وتمضي الأهمية الجيوسياسية لمنطقة جنوب البحر الأحمر إلى تأكيد أهمية كلاً من اليمن والصومال اللتان يرتفع لديهما مؤشر التهديد كلما ازدادت احتمالات العسكرة الأجنبية في البحر الأحمر، وبالتالي فإن اليمن يصبح في صدارة الاستهداف كون الصومال غارق في الفوضى منذ العام 1991، الأمر الذي يضع كثيراً من التكهنات والاستفسارات عن ثمة أحداث دراماتيكية قادمة تضع هذا المستطيل البحري في صدارة الأحداث.
وتصير الجزيرة العربية والقرن الأفريقي هما الشق الآخر المتأثر مما يجري لدى اليمن والصومال، فاليمن يقع في الكفة الجنوبية من الجزيرة العربية وبالتالي فهو الحامي الجنوبي للخليج العربي بعد تدمير العراق الحامي الشمالي وما يجري في الصومال سينتقل بتأثيره إلى البقية في القرن الأفريقي، في حين أن الأحداث المكوكية –عمليات القرصنة- في السواحل اليمنية والصومالية سيتجاوز الجزيرة والقرن الأفريقي إلى التجارة الدولية المستفيدة من سلامة الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وسلامة آبار النفط في الجزيرة والقرن الأفريقي، ويأتي تكهن أساسي أن التجاهل الدولي للحرب الأهلية في الصومال ثم عمليات القرصنة الناتجة عن الفوضى الصومالية مفاده إيجاد مبرر لفرض وجود عسكري أجنبي في البحر الأحمر –وهو بحر عربي- يكون له ما بعده، حيث ستكون المنطقة برمتها عرضة مباشرة للإملاءات والسيناريوهات القادمة من الدول النافذة التي يروق لها انتقاص –أو انتفاء- السيادة العربية –خصوصاً اليمنية- على مياه وجزر البحر الأحمر.
واليمن منذ وقت باكر كان يدعو إلى جهود جماعية تقف على ما يجري في جنوب البحر الأحمر، واستدعت دواعي الحرص على الأمن والسلم اللذين يتوجب توفرهما في البحر الأحمر والقرن الأفريقي إلى جهود يمنية حثيثة كانت وراء ميلاد تجمع صنعاء بإيجاب وتعاون سوداني أثيوبي عام 2002 يدعو ميثاقه التأسيسي إلى انضمام دول جنوب البحر الأحمر والقرن الإفريقي، حيث وصل المشاركون خمسة دول (اليمن، السودان، إثيوبيا، الصومال، جيبوتي) في القمة الأخيرة في كانون الأول/ ديسمبر الماضي بالعاصمة السودانية الخرطوم. واليمن عموماً -بغض النظر عن ما يمكن أن يقدمه له تجمع صنعاء أم لا- كانت عرضة لتأثر والتأثير بما جرى من أزمات وتوترات في هذا الجزء من العالم، يمكن وصفها في التالي:
أولاً: الحرب التي دارت بين إثيوبيا وإريتريا من العام 1998 إلى العام 2000 وإثره توصل الطرفان (الاريتري- الأثيوبي) إلى قرار يرسم الحدود بينهما بناءاً على توصيات لجنة مستقلة لترسيم الحدود بينهما في العام 2002..
ثانياًُ: النزاع اليمني الإريتري في العام 1995م بشأن أرخبيل جزر حنيش الإستراتيجي الواقع على البحر الأحمر، وقد حسمت محكمة لاهاي النزاع بين الطرفين بأحقية اليمن لجزرها التاريخية.
ثالثاً: القضية الصومالية التي ابتدأت بحالة انتهاء الدولة منذ العام 1991 ومروراً بحكم الإسلاميين وانتهاء بالغزو الأثيوبي المنسحب مؤخراً.
وجراء تلك الأحداث كانت الأراضي اليمنية تستقبل موجات من النازحين من البلدان الثلاثة –الصومال واثيوبيا واريتريا- وخصوصاً اللاجئين الصوماليين الذين تجاوزت أعدادهم الستمائة لاجئ صومالي.
ناهيك عن أن الفوضى الصومالية قد أسفرت عن ظاهرة القراصنة التي تركت للتداعي، الأمر الذي يفتح المجال للتكهن عن وجود أجندات خارجية تقف وراء التزايد والاتساع الملفت لعمليات القرصنة التي قد تجاوزت البحر الأحمر إلى المحيط الهندي وسواحل كينيا والسواحل اليمنية في البحر العربي. ويحذر معهد “شاتام هاوس” في اكتوبر 2008 بأنه لابد من التعامل مع القراصنة، إذ أن انعكاسات ارتفاع التكلفة ستؤدي بالسفن إلى تجنب الإبحار في خليج عدن لتسلك الطريق الأطول عبر أوروبا وأميركا الشمالية ورأس الرجاء الصالح.
ويفضي القلق والتساؤل المتراكم منذ دخول منطقة القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر في حلقة أحداث أمنية ومواجهات عسكرية وأخيراً عمليات القرصنة التي أسفرت عن تداعي عشرة دول أوروبية في حلف الأطلسي لإرسال قواتها البحرية لمواجهة القراصنة إلى القول بأن مخاوف اليمن القديمة بخصوص مايجري في المنطقة كانت طبيعية. فقد كرراليمن نداءاته لأميركا والعالم الغربي (وحتى العالم العربي والخليجي تحديداً) بضرورة مكافحة القرصنة ومنذ وقت باكر، ناهيك عن تأكيداتها منذ سنوات الفوضى الصومالية الباكرة أن ذلك سيخلف تداعيات وانعكاسات على المنطقة برمتها.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

أيـما دولة في التاريخ الإنساني تكون على شقين، نظام يَحْكُم وشعبٌ يُحْكَم بينهما تفاعلٌ نسبي، بمقداره يكون مدى تميز الدولة بين الأمم.. وإذا ساء الحُكم وجنح إلى فشلٍ تسوء على إثره مقادير المحكوم وحظوظه، وأيضاً تفتقر إلى أمانٍ تعوزه طاقات ترنو إلى النِّتَاجِ والنماء، عندما تُقصَرْ عنهما تصير طاقات عنف ودمار.
يقول ديورانت في موسوعته «قصة الحضارة»: “الحضارة تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا أمن الإنسان من الخوف تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلي فهم الحياة وازدهارها”، وعلى النقيض منه يصير السقوط حاضراً في دولة الخوف، في حضرة نظامٍ يدَحضُ الفكر ويقوض الطاقات، وفي أسوا الأحوال يستأصلُ القوى الحية في المجتمع.
وفي ذات الإطار، مقولة لابن خلدون بأن العدل أساس لبقاء الدولة واستمرارها، بينما الظلم أساس النهاية والانقضاء، وعنده أيضاً، أن العمل والإنتاج والكسب أساس رئيس للدولة، وانتفاءه يفضي إلى حيف اجتماعي يتفاقم مع ما يقترفه النظام بحق المضطهدين، ومع ذلك تظل السلطة لا تدرك المخاطر، وإذا شاءت الظروف لها أن تستفيق من الوهم فسيكون الوقت قد فات.
إن استمرار الجور يجعل السلطة مترفة غير أنها ضعيفة سياسياً، إذ سرعان ما تعصف ببنيانها الأزمات، وتتفاقم سوءات النظام ويتوحش الفساد، بالتالي لن تظل الجماهير حبيسة الخوف والصمت، عندها لا سبيل لردها عن ثورتها مهما بلغت أفانين القهر والاستبداد، وللإمام علي-رضي الله عنه- مقولة مؤداها.. أن الكفر يتواجد في المكان الذي يتواجد فيه الفقر.
لذا يكون الكثير من العنف في مواجهة سلطة الخوف تبريراً حاجياً تتجه إليه القوى المعطلة، علاوةً على أن الإسقاطات النفسية لتراكمات الإحباط والاحتقانات النفسية لمكبوتات القهر عبر سنوات طوال، ُجيرت لحساب عنفٍ يطغى على كل شيء، إلى أن يقوض الدولة، وفي أحايين يكون للعنف المفرط قوالب فكرية يبرر بها تصفية نظم سياسية واجتماعية وثقافية، بدواعي القضاء على الرجعية أو الطبقية …. الخ.
ويقول لينين في وصف الحركة الثورية: “لا حركة ثورية من دون نظرية ثورة”، حيث قد تغدو انتفاضة وثورة الضعفاء إرهاباً لا ينفك من التكرار في ماضي التاريخ الإنساني وحاضره. وبمناسبة الحاضر، فإن الاستبداد قد تعدى الأنماط الملكية في قوالب استبدادية جديدة، غير مسبوقة بدءاً بحقبة الثورة الفرنسية، التي جعلت من الأبعاد التنويرية مصوغات لممارسات النظام الثوري للقمع والإرهاب، بدءاً بمجزرة سبتمبر  1792م  (عقب الثورة) إلى غاية سقوط دكتاتور الثورة “روبسبيير” في يوليو 1794، ورغم إعدام النظام الثوري لثائر روبسبير، إلا أن الفوضى (أو ماشابهها) استمرت عقب سقوط النظام الملكي عقوداً تقارب مائة عام.
غير أن العنف المفرط الذي حصل في حقبة الثورة الفرنسية ووري جانباً، مقارنة باستبداديات أنظمة الثورات الفاشية والنازية والشيوعية، فروسيا الشيوعية في عهد الدكتاتور ستالين، لم يسلم من استبداده رفقاء الدرب، إلى درجة أن التقرير (حسب الأستاذ هيكل) الذي قدمه خورتشوف عن حقبة ستالين السوفييتية كان صاعقاً ومؤثراً لاحقاً في الإتحاد السوفييتي نفسه.
المقصود هنا: “ذلك النمط من الحكم الذي يستدعي القوة والحسم الجذري في التعاطي مع السياسة وقضايا الاجتماع باسم ادعاءات حداثية وتنويرية، وهو إرهاب يتراوح بين الاستخدام الفج والصريح للعنف المنظم من طرف مؤسسات الدولة وأجهزتها، وبين العنف “الصامت” الذي يقوم على سن تشريعات قانونية تعسفية وحامية لإرهاب الدولة المنظم”.
فحين تسهم سياسات الدول الفاشلة في الفوارق السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع، باتخاذها للقمع طابعاً سياسيا وبديلاً عن مؤسسات مجتمعية ومدنية تستفرغ طاقات نخب تبغي في أقل مقاصدها إيصال الحاجات الإنسانية للنظام، فإن حالتي التضييق والخنق المتفاقم تعني أن توظف قوى المجتمع في دورة عنف متبادل، حيث يصير العنف حينها تفكيراً استدعائنا لكل ما تمثله الدولة المستبدة التي توصد أبوابها وآذانها في وجه الجمهور، فلا تجد الشكاية مستساغاً لتصريفها سوى الأدوات الأمنية التي بمعدل استخداماتها تتوالد أطوار العنف التي لا تجد بداً من استمرار دوامة العنف بقوالبها السياسية، المذهبية، الثقافية وحتى التجمعات القبلية.
العنف (بالتالي) يصبح تشريعاً سياسياً لأجل ممارسة الضغوط السياسية بواسطة مظاهر عنيفة تحدث أضراراً أحياناً بمكونات حكومة الدولة التي تكون في الغالب متربعة على سياسات فاشلة، ويشيع في هذه الدولة، حسب موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، الجو التسلطي حيث يصير الجو الاجتماعي استبدادياً، إذ أن الزعيم المستبد يصنع كل القرارات الاجتماعية ويقلل اتصالاته بأعضاء الجماعة إلى أدنى الحدود.
ويتعاظم الاستبداد كلما توقعت الشخصية المستبدة إن خطراً سيأتي به خروج المجتمع من قوقعته ومغلف البؤس الذي تستنكف خططه السياسية خروجاً عن تلك الظروف، ولذوي علم النفس أبحاث في طرازات الشخصية المستبدة، فقال أدورنو وفر ينجل وليفنسو وسانفورد عام 1950م بعد قيامهما ببحث تاريخي خلصا منه إلى أن الشخصية المستبدة أو المتسلطة هي نمط من الشخصية التي ينمو صاحبها وسط أبوين يكونان مسيطرين، بما ينمي لديه حب التسلط، حيث أن الطفل إزاء تلك السيطرة ينمو في نفسه شعور الكراهية التي يكبتها مقابل جبروت الوالدين، وما ينبغي أن يكنه من حب لهما، لكن الكراهية يسقطها نفسياً على الآخرين، وخصوصاً الضعفاء غير القادرين على الرد، والقلة الأجناسية والدينية في مجتمعه، حيث أن المستبد يحترم القوة ويخشاها، ويحترم القوى الأكبر منه التي يخضع لها، بل ويتجه نحوها، وشعور الاستبدادي نحو الأقوى ثنائي فهو يكرههم لقوتهم ويمتثل لهم لأنه ذاته النفسية تعودت على الخضوع للأقوى ولتوجيهاته، وهو أيضاً عاجز عن التصرف بمفرده، إذ هو دائم الاحتكام إلى رؤسائه لو كان مرؤوساً، وإلى القوانين واللوائح ينفذها تنفيذاً صارماً، وعندما يجتهد في أمر مستقبلي فلا يحيد عنه قيد أنملة، أو يفسر أمراً ما فلا يتنازل عن تفسيره ولا يرجع عنه أبداً وإن خسر كل شيء، وبالتالي فطراز الشخصية المستبدة تصير كارهة للتغيير السياسي والاجتماعي، ومقاومة لكل جديد، لأن ذاته الراكدة يقلقها أن التغيير سيهدد وجودها.
في الدولة المستبدة تختفي مظاهر العمليات العقلية، فيصبح الأفراد بمقتضاها مغيبين عن إدراك البيئة الداخلية والخارجية، حيث يجري تلغيم عمليات المعرفة من إحساس أو إدراك و انتباه وتذكر وربط وحكم وتفكير ووعي، فقد أثمرت الدعايات السوداء المنظمة في التأثير السلبي على اتجاهات وآراء الآخرين ، غير أن الاستقراءات التاريخية تدل على أنه كلما طغت ظروف الكبت والاستبداد الاجتماعي كلما أفضى ذلك إلى دورات من العنف والإحترابات تجرف كل شيء عندما تجد مساحات أو مجالات للتحرك والقفز من العتمة والظلمة المستبدة إلى واجهة الأحداث، إذ أن واقعاً استبدادياً يجني في بدأه على ثوابت النهوض وعند انقضائه تتكفل الظروف بما ستؤول إليه دورة العنف، وحينها يكون للتيارات الفكرية فرصاً للتحرك كحال فكرة الشيوعية التي تحرك قطعانها عندما آن أفول القيصرية عن روسيا، أو الثورة الشيعية بإيران عندما حان أفول الشاه، الذي انشغل بذاته فكانت تسيطر رغباته الفردية وحاجاته الذاتية على تفكيره الواقعي الذي يفترض أن يراعي الأعراف والتقاليد المجتمعية الإيرانية، التي اجتاح هيجانها أدوات القمع تحول بينه وبين شعبه. لذا، الدولة الفاشلة لا تعقل أين تفضي بالمجتمع سياستها!، ففي ظلها تتهيأ وتنتشر سلوكيات فكرية تستثمر حالات التآكل في بنية المجتمع الواحد لتسويق الخلاص، منها الإدعاء بالانكفاء على الماضي.. ورغم ادعاءاتها إلا أنها حيال تيارات فكرية مغايرة، تتعامل معها بذات المبدأ الاستبدادي والإقصائي الذي تدعو الناس للتخلص منه.
وأحسبُ أن طغيان الخوف بين الحاكم والمحكوم في مجتمعات عربية وإسلامية يعزز من وهن تلك الدول، التي تتجسد أنظمتها في فردية الحاكم الذي سيكتشف حقيقة مرة، هي انفضاض الشعب والقوات العسكرية عنه، حينما تجد أن نظامها الحاكم لم يعد موجوداً. ولعل سقوط بغداد المدوي في مواجهة الغزاة يغني عن الكثير من الحديث حول ما جرى وقتها وبعدها، (أو ما زاد  من تناميه أطراف الاحتلال)، إذ طغى عنف طوائف وجماعات لا تكاد تستسيغ الآخر عبر تراكمات أحقاد سابقة وذرائع دينية تبرر من خلالها إرهاباً لا يكاد ينتهي.
© منبر الحرية، 28 فبراير 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018