جون بيزل أتلي

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لم تحقق معظم الديمقراطيات في العالم الثالث رخاء كبيراً. ومن هذه الديمقراطيات ما يتسم بالفساد والفشل والفوضى والعجز عن السيطرة على الجريمة أو أداء أبسط وظائف المجتمع المدني.
ومع قيام واشنطن بوضع دستور للعراق وبالضغط على الحكام العرب من أجل إجراء الإصلاحات يصبح حرياً بنا أن نحلل الأسباب التي تجعل بعض الديمقراطيات تعمل بصورة أفضل من البعض الآخر.
إن قواعد التنمية الاقتصادية والحكم الفعال ثابتة ومعروفة تماماً؛ إلا أن أسباب إحجام العديد من المجتمعات عن تنفيذها غير مفهومة. ويعزى الفشل في ذلك غالباً إلى ثقافاتهم أو إلى الفساد، لكن البلاء العام يكمن في بناها السياسية، فكلها تقريباً تقوم على التمثيل النسبي.
ولكي تدرك معنى التمثيل النسبي عليك أن تتخيل أن الكونجرس (أو البرلمان) يتألف من أربعة أحزاب أحدها للمحافظين، وآخر للاشتراكيين، وثالث لليسار الراديكالي (أو لحزب ديني كما هو الحال في بعض الدول)، والرابع للخضر، وأن كلاً من الأخيرين له خمسة بالمئة من مقاعده. تخيل أيضاً أن كل حزب يديره كبار في السن أمضوا عقوداً طويلة في أماكنهم. لن يكون ثمة فكر جديد، والخلافات السياسية المستحكمة ستحسمها الأصوات المتأرجحة –الراديكاليون أو الخضر. وهذا النوع من نظم الحكم، وغالباً ما يكون بعدد أكبر من الأحزاب صغيرة الحجم، ابتليت به أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية. وأي حزب يتمكن من تحقيق خمسة بالمئة من الأصوات على الأقل يصبح ممثلاً في الكونجرس.
ويزيد الأمر سوءاً بتقدم كل حزب للترشح على المستوى القومي حيث تحدد مرشحيه قوائم تسيطر عليها آليات كل حزب –وهى عادةً من رجال الحرس القديم من أصحاب المحسوبية والضغائن. فيضع هؤلاء العجائز أسماءهم على قمة القائمة بينما يأتي الأصغر سناً في ذيلها لو وافق رؤساؤهم على وجودهم أصلاً. وإذا فاز الحزب بأربعين مقعداً بالكونجرس يقع الاختيار على الأسماء الأربعين الأولى بالقائمة. وهو نظام يحبذه الساسة القدامى، فهم لا يفقدون مقاعدهم إلا فيما ندر. والإصلاحيون أيضاً—وهم يعتبرون مثيرين للمتاعب في الغالب—يمكن إقصاؤهم بمجرد استبعادهم من القوائم أو وضعهم في ذيلها. ويتوطن الفساد ويحظى بالحماية حيث لا يتمكن الناخبون من استبعاد مرشح فرد. وطالما فاز الحزب بخمسة بالمئة من الأصوات فإن عجائزه المتربعين على قمة القائمة ستكون لهم دائماً مقاعد في الكونجرس ويحددون من يُوضَع معهم بالقوائم. وفى نظم الحكم النيابي يتلو ذلك تصويت الائتلاف الفائز لأحد أكبر زعمائهم سناً ليتولى رئاسة الوزراء.
أما في النظامين الأمريكي والإنجليزي فيمثل كل عضو بالهيئة التشريعية منطقة جغرافية محددة، ويمكن التصويت له في الانتخابات التالية. ويمكن لمرشحين جدد أن ينافسوا أحد أصحاب المقاعد الأقوياء في المجلس. وفي نظام التمثيل النسبي نجد أن من يمثلون الشعب كله أو قطاعات عريضة منه يمثلون الكل ولا أحد. فيمكنهم أن يتحدثوا في عموميات ونادراً ما يساءلون عن عدد معين من الأصوات، أو عن سياسات، أو عواقب.
وتعد فنزويلا مثالاً واضحاً في هذا الصدد، وتعتبر نموذجاً للنظم في أمريكا اللاتينية. فمن سبعينيات القرن العشرين وحتى التسعينيات نجد أن كارلوس أندريه بيريس ورافائيل كالديرا فاز كل منهما برئاسة الجمهورية مرتين حيث لم يكن للناخبين أي اختيار آخر: فرفْض أحدهما معناه فوز الآخر. وفى غمار يأسهم للخلاص من الأحزاب الفاسدة، غير الكفؤة، الجامدة، والقديمة، صوتوا لصالح المنظر اليساري والرئيس الحالي هوجو شافيز. يصف فلاديمير شيلمينسكى المدير السابق لغرفة التجارة الفنزويلية الوضع في مقال بصحيفة الوول ستريت جورنال بقوله:
“ظل مستوى المعيشة في تدهور طوال عقود. ولم تكن العملية الديمقراطية تعمل إلا لمصلحة الساسة وأعوانهم. والحزبان اللذان تداولا السلطة منذ 1958—الديمقراطيون الاجتماعيون والمسيحيون الاجتماعيون لم يختلفا كثيراً في ذلك، إذ آثر كلاهما النهج الاشتراكي والحرية السياسية. كانت سياساتهما تتملق الفقراء ولكنها كانت تنتهي بالفشل دائماً. ولم يكن للمُلكية الخاصة والعقود الخاصة مكان في قوانينهما. وكان ثلثا العمال المستعدون للعمل لا يجدون عملاً في الاقتصاد الرسمي.”
وتمثل حكومة إسرائيل نموذجاً آخر للتمثيل النسبي على المستوى القومي. فبإمكان أي حزب أن يفوز بمقاعد في الكنيست إذا فاز بما لا يزيد عن 1.5 بالمئة من أصوات الناخبين على المستوى القومي، أي بعدد 55 ألف صوت. ويعطي النظام قوة كبيرة للأحزاب الدينية—وهي أقلية محدودة—فتحصل على حوالي 20 بالمئة من الأصوات. وباعتبارهم المعسكر المتأرجح الذي يمكن أن يتحالف مع حزب العمال أو مع الليكود لتشكيل حكومة، فلهم سلطة سياسية كبيرة تصل إلى حد إعفائهم من الخدمة العسكرية، وكثير منهم لا يعملون ولا يدفعون ضرائب.
وقليل من الدول تعمل بها نظم التمثيل النسبي بشكل جيد، كالدول الاسكندنافية، ومؤخراً سلوفاكيا، مثلاً. إلا أن هذه الدول إما أنها متجانسة إثنياً وصغيرة للحد التي يمكّن الحكومة فيها من التفاعل محلياً أو أنها حديثة العهد حيث لم يضمر البرلمان فيها بعد ولم يُصَب بعد بالشلل الذي أصاب حكومات التمثيل النسبي الأقدم. ويلاحظ في الوقت نفسه أن ديمقراطيات شرق آسيا الناجحة (والهند) لا تعتمد نظام التمثيل النسبي، ولو أن بعضها يعتمد نظاماً مختلطاً حيث يتم انتخاب نسبة 10 إلى 20 بالمئة من أعضاء المجالس التشريعية بنظام التمثيل النسبي. أما البرلمان الروسي (الدوما) فيتم انتخاب 50 بالمئة من أعضائه بنظام التمثيل النسبي، والمكسيك 40 بالمئة. وتعد شيلي من دول أمريكا اللاتينية القلائل التي لا تعتمد هذا النظام.
تحدثت روث ريتشاردسون، وزير مالية نيوزيلندا السابقة ومهندسة حرية السوق والرخاء بتلك الدولة بأوائل التسعينيات، في مؤتمر أقامه معهد كيتو العام الماضي بموسكو، وقالت إن العديد من الدول التي “ابتليت بنظام التمثيل النسبي” تتسم بالسوء النوعي للسياسات العامة وتواجه مصاعب جمة في إقرار إصلاحات ناجحة. واستشهدت بأوروبا الغربية كمثال حيث ثبت عجزها—باستثناء بريطانيا—عن إصلاح قوانين العمل الجامدة والأنظمة الطاردة للأعمال التجارية المُبادِرة.
وتناول هرناندو دي سوتو، العالم الاقتصادي البيروفي الفذ، أيضاً هذه المشكلة في كتابه بعنوان “الطريق الآخر” حيث يرى أن الديمقراطية تنجح بصورة أفضل في الدول الأنجلوساكسونية لأنها لا تعتمد نظام التمثيل النسبي.
وعلى الرغم من دراية الولايات المتحدة بهذا الدرس العالمي في علم حقوق المواطنة نجدها تختار نظام التمثيل النسبي للتطبيق في التجربة العراقية في مرحلة التحول الديمقراطي. فالنظام لا يحدد مناطق انتخابية بتمثيل إقليمي محدد كالكونجرس الأمريكي الذي يعطى سلطة متوازنة للولايات والدوائر الانتخابية الأصغر. وهذا النظام ذو المجلسين المطبق في الولايات المتحدة كان سيساعد على حل مشكلة حماية أقليات كالأكراد والسنة والمسيحيين في دولة أغلبية سكانها من الشيعة. وكان القلق من منع الإرهابيين الناس من التصويت في المناطق السنية سيزول لو كانت هناك مناطق جغرافية محددة لكل منها نائب يمثلها في البرلمان. حينئذ لم يكن ضعف نسبة التصويت سيصبح أمراً ذا بال؛ لأن أهالي كل منطقة سيكون لهم من يمثلهم في كل الأحوال.
يقول المحلل الأوروبي فرانك جلوديك في رسالة إلى سينترال يوروب ريفيو بتاريخ أيار 2000:
“إن التمثيل النسبي له خطره في أية دولة تعانى تقسيمات إثنية أو إيديولوجية أو دينية، فهو يدفع الناس للتصويت وفقاً لهذه القواعد المستقرة سلفاً بغض النظر عن مدى درايتهم بما إذا كانت هدّامة، وعن إيثارهم لغيرها. حتى هامش الخمسة بالمئة من الأصوات اللازم لأي حزب لكي يحتل مقاعد بالبرلمان ليست عقبة أمام هذه الأنماط الانتخابية وتأثيرها السلبي.”
لِمَ؟ لأنك حين تعتمد نظام التمثيل النسبي عليك أن تفترض أن ’الآخرين‘ سيصوتون بناءً على الخلفية الإثنية، ما يضعك في موضع المخاطرة. والسبيل الوحيد لكي تحمي نفسك هو أن تفعل بالمثل .
وفي ظل نظام التمثيل النسبي، نرى كيف أن سلوبودان ميلوسوفيتش أصبح سلطة رئيسية من خلال نسبة خسيسة تبلغ 20 بالمئة من الأصوات في صربيا.
إن نظام التمثيل النسبي لا يساعد على توحيد الشعوب والأمم المتباينة العديدة بشكل فعال، فهو بطبيعته ميال للتطرف، وعدم الاستقرار، وعدم الاعتدال، والفشل. والناس تنسى أن الولايات المتحدة كانت منذ نشأتها بلد متعدد الأعراق والديانات.
إن الديمقراطيات الفاشلة مناخ لعدم الاستقرار والبؤس في معظم بقاع العالم. فهي تمثل خطراً على المصالح الأمريكية والرخاء العالمي. ومع أن هناك عوامل ثقافية أخرى—كاتجاه الولاء الأسمى نحو الأسرة والقبيلة بدلاً من الأمة—تلعب دوراً حيوياً فإن واشنطن، في جهودها لبناء حكومات معتدلة ناجحة في العراق والعالم العربي، بحاجة لتشجيع النظم التي ثبت نجاحها فى دول أخرى.
© معهد كيتو، منبرالحرية، 7 شباط 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018