سلمى الرحوتي

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

هدأت مدافع إسرائيل، ولو إلى حين، في غزة. وعادت طائرات الأباتشي والإف 16 إلى قواعدها، في استراحة لا أحد يمكن أن يتكهن بمدتها، خاصة مع توالي خرق التهدئة من الجانبين. و بالمقابل انطلقت المناورات من هذا الجانب وذاك لحصد النتائج السياسية أو على الأقل تقليص الخسائر، ولو على حساب ألام ومآسي المدنيين من الجرحى والمعطوبين والأيتام والأرامل.
اختلفت عناوين حرب غزة بين الطرفين، وتضاربت التفسيرات بين إرجاعها إلى مبررات إقليمية ودولية وبين ربطها بالواقع الداخلي والانتخابي للمتحاربين. خاضت إسرائيل الحرب بأهداف انتخابية معلنة وأخرى مستترة، فيما جابهت حماس الموقف تحت مسميات مختلفة أقلها فرض واقع الأمر في القطاع مع نهاية ولاية محمود عباس، و التحول إلى القوة الأولى في معسكر المواجهة لمزيد من الشرعية التمثيلية.
من الجانب الإسرائيلي عناوين كثيرة يمكن أن “تصوغ” القتل و الدمار، بدءا من مبررات الرد على صواريخ حماس، وقضية جلعاد  شاليط وصولا إلى تهريب السلاح، مرورا باستعادة هيبة قوة الردع بعد تجربة المواجهة مع حزب الله وغيرها. ومن الجانب الآخر تطل مبررات من قبيل : الدفاع عن النفس، ورفع الحصار وفتح المعابر ووقف الاستيطان ووقف استهداف الكوادر وغيرها من الأمور التقنية.
قطعاً، ليست هاته هي المحركات العميقة والمشكلات الحقيقية بين الطرفين، رغم ما تكتسيه تلك العناصر من أهمية. ثمة هناك مشكل أعمق لم يقو الجانبان على مواجهته بالجرأة والشجاعة اللازمتين. إنه صراع الهوية القاتل، حيث يشعر الطرفان بخوف فظيع ومريع وخوف وجودي لا يوازيه سوى الخوف من العدم.
على المدى القريب على الأقل، ليس هناك من أمل في تجاوز هاته المخاوف، بل إن الحرب الأخيرة زودتها بقوة إضافية، وعززت في الأجيال القادمة ولمدى غير منظور صورة الآخر المتوحش والمتعطش لسفك الدماء. تتداخل في هذا الصراع عوامل التاريخ و الجغرافيا و الدين و اللغة ، لكن المشكل يصير أصعب عندما يرتبط ذلك بمصالح من طبيعة اقتصادية تتغذى على الصراع وتعتاش منه.
إن الأمر الوحيد الذي يجب الاتفاق حوله هو ما طرحه مفكر إسرائيلي شتيرنغر في ندوة نظمتها صحيفة هارتس لمناقشة ما بعد عملية الرصاص المصهور في غزة حين تساءل” كيف نضع المريض، أي المنطقة بأسرها، بشكل صائب في المستشفى. وهل سيوافق أوباما، الأوروبيون والسعوديون للدخول إلى هنا بقوة، لتقديم الدعم السياسي والاقتصادي، وحينها تنتظم هنا عملية علاج يمكن أن تغطي كل المرضى، بخليط ثقافاتهم وأديانهم”
خليط الثقافات والديانات في المنطقة هي الكلمة المفتاح في صراع الشرق الأوسط، وما عداه مجرد مظاهر خادعة. طبعا، لا يمكن لأحد أن يشكك في حقيقة معاناة اليهود على امتداد التاريخ الإنساني، لكن حالة آلاف الأطفال  الفلسطينيين الذين فقدوا أطرافهم وأبصارهم، “على الهواء مباشرة” بفعل قنابل الفوسفور الأبيض لا يمكن أن تحجب حقيقة مستوى العنف الذي يمكن أن تصل إليه المنطقة.
أكدت هاته الحرب مرة أخرى أن هناك لغة لم يتحدث بها الطرفان بعد. وما ينقص المنطقة بأسرها لغة حضارية، لا تتجاوز على الاختلافات الدينية، بل تحتضنها على أساس هوية جديدة للمنطقة. لقد حاولت إسرائيل منذ نشأتها أن تقدم نفسها حامية النموذج الغربي في المنطقة رغم عيشها بين ظهراني المسلمين. هل نجحت في ذلك؟
ربما لكن النجاح الحقيقي يقتضي تطوير لغة يهودية ـ إسلامية تقطع من حيث المنطلقات مع الهوية الغربية لهاته الدولة. وهنا فقط يمكن لهاته اللغة أن تشكل منطلقا لكل التفاهمات الممكنة في المنطقة. لغة يمكن أن تقبلها ليس فقط حماس بل حتى إيران و سوريا وحزب الله. إن الخطوة الحقيقية والصحيحة هي البحث عن المواضع التي لا تكون فيها هوية الطرفين متناقضة حد تهديد الوجود الآخر.
لا
يمكن في ليلة وضحاها أن نحلم بنقلة تجعل المنطقة تعيش في أمن وسلام. لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن صراع المنطقة ليس على المعابر والأنفاق، ورفع الحصار. إن الصراع أعمق من ذلك بكثير.  إنه ليس صراع معابر بل صراع من أجل قضايا الهوية والوجود. أما خطورة القضية فتعود إلى أن الطرفين مدفوعان بإيمان ديني صارم بعدالة قضيته، ليبقى السلام الحقيقي معلقا إلى أجل غير مسمى، أو على الأقل إلى أن يطور المتنازعون لغة حضارية جديدة. لغة أصيلة ليست بـ”الغربية” ولا “الشرقية”.
© منبر الحرية، 27 مارس 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

مع كل انتخابات تجري في البلدان العربية ويحصل فيها “الزعيم” أو “من يسبحون باسمه” على نسبة تأييد تتجاوز 90 في المائة، يعود السؤال الأزلي إلى الواجهة: لماذا تأبى طبائع الاستبداد على الاختفاء من المنطقة العربية؟ هل حكم علينا بالعيش المؤبد تحت حكم ديكتاتوريات أزلية؟ وهل الاستبداد ماركة عربية مسجلة؟
للاستبداد تفسيرات كثيرة، ربطه البعض بكونه ظاهرة مرضية في المجتمعات، مثل ما هو ظاهرة مرضية في نفسية المستبد. ووصفه د. أنطوان سيف في كتابه “وعي الذات وصدمة الآخر” بـ “إنه فيروس شديد الخطورة يدمر كل خلايا الجسم الاجتماعي ويشل حركتها المبدعة.كما يشل الجسم السياسي فتعم قيم الانتهازية والتملق، وتعم الفوضى والفساد مما يتيح الفرصة لمزيد من تغلغل وتقوية فيروسات جديدة وهذا بدوره يضعف المناعة”.
مهما تعددت التفسيرات واختلفت، إلا أن الذين تجشموا عناء تفسير استبداد المنطقة قسمان، الأول يرى أن القراءات الخاطئة والتراثية للإسلام مسؤولة عن إرساء “طبائع الاستبداد” من خلال مجموعة من الأطروحات المتمثلة أساسا في ضرورة طاعة أولي الأمر وما رافقها من قراءات أيديولوجية للدين للتحكم في رقاب الناس وغيرها.. والثاني يربط الاستبداد بتعرض المنطقة لموجة استغلال بشع مع فترات الاستعمار وما أفرزه ذلك من ربط مصالح المنطقة بالخارج، الذي لا يزال يدعم نخبا سياسية غير ديمقراطية، تحفظ مصالحه ويحافظ على بقائها في السلطة.
التفسيران على وجاهتهما يعانيان من الكثير من الاختزال، لأن المتمعن في طبيعة السلطة السياسية القائمة في الوطن العربي يكتشف أن هناك سلطتان أساسيتان تتحكمان في سلوك المجتمعات العربية  هما السلطة الدينية، التي تفرض نفسها على المجتمع من خلال التعاليم اللاهوتية والأخلاقية فتضبط سلوك الناس بثنائية الخير والشر، والجنة والنار،والحلال والحرام…وسلطة الدولة الدنيوية التي تفرض أعرافها وقوانينها للتحكم بسلوك المجتمع من خلال استخدام آلية العنف (الشرطة؛ والجيش؛ والمخابرات؛ والأمن..) فمن يخرج عن الأعراف والقوانين الوضعية التي أقرتها الدولة يستحق العقاب ويزج في السجون والمعتقلات.
ما بين الآليتين استغلال متبادل، لا يمكن الفصل بينهما، إنهما وجهان لعملة واحدة، فأدعياء الدين يجدون في الدولة وسيلة لحفظ الامتيازات والسيطرة على مقدرات الناس، وتأبيد الجهل والأمية والتفسيرات الخرافية للواقع.. في حين تسخر الأنظمة السياسية، رغم زعم بعضها فصل الدين عن الدولة، الدين ومؤسساته بحثا عن شرعية شعبية مفقودة. هذا التداخل في مستويات الاستغلال يحول الاستبداد العربي إلى ظاهرة مركبة، ويدخل الشعوب في حلقة مفرغة تستعصي على التوقف جارفة معها آمال المنطقة في أنظمة ديمقراطية تعلي من شأن الإنسان المبدع والخلاق وتمنح للمواطن كرامته الإنسانية.
إن تدقيق البحث في أعماق المجتمعات العربية الإسلامية لا يكشف فقط تغلغل ثقافة الاستبداد في كل ركن من أركان الإنسان العادي، بل إن الاستبداد مكون عضوي في التربية والاقتصاد والسياسة، إذ يمارس كل استبداده في مجال اختصاصه: الرجل في أسرته، والمدرس في قسمه، والمدير في مؤسسته، والمسؤول مهما كان منصبه وصولا إلى قمة الهرم السياسي. مما يدفعنا إلى التساؤل” كيف يمكن إنتاج مؤسسات ديمقراطية، كبنيات فوقية بتعبير الماركسيين، في حين تنضح البنيات التحتية بالاستبداد؟
إن اختراق الاستبداد لكل البنيات المجتمعية يجعل استئصاله مهمة عسيرة، بدون الوقوف على جذوره العميقة، والمتمثلة في عقلية القطيع التي تكرست عبر قرون من الوصاية والاحتقار لقيمة الإنسان، واعتباره مجرد رعية تابع، لم يصل بعد إلى سن الرشد. إن المشكلة الأساس التي تواجه العديد من العرب اعتقادهم بأن الديمقراطية مكسب إنساني سهل لا يحتاج إلى مكابدة ومعاناة، في حين أنه قيمة سعت وراءها الشعوب والأمم، عبر تاريخ طويل من التأسيس الفلسفي والسياسي والاجتماعي.
لقد نشأت الديمقراطية في الغرب كمسؤولية وكوعي اجتماعي، ترافق مع انحسار المد الإقطاعي في أوروبا خلال القرنيين الثاني عشر والثالث عشر وما أعقبها من صراعات سياسية وثقافية أفرزت نتائج جعلت من الديمقراطية مسؤولية بالدرجة الأولى تجسدت في الثورات العديدة التي شهدتها أوروبا طلبا لتحقيق المواطنة وهي الثورات التي بلغت ذروتها في الثورة الفرنسية.
وبالمقابل فإن “الديمقراطية” في صيغتها “العربية” لاتزال منتوجا مستوردا، حيث لم يشهد الوطن العربي تطورا سياسيا مماثلا فقد تحولت السلطة من الخلفاء إلى السلاطين وعاد الناس إلى الارتداد إلى أصولهم القبلية والطائفية بحثا عن الأمان من السطو والاستعباد. وحتى مبدأ الشورى الذي سنه الإسلام لم يعد ذو قيمة سياسية فاعلة، بعد أن تحولت العلاقة بين الحاكم والمحكوم إلى علاقة سلطوية يؤطرها تصور الإنسان ليس كمواطن بل كتابع و مريد .
مجمل القول، أن المجتمع العربي يعرف اليوم تغيرات سريعة، لكنها لا تسير دائما في اتجاه تأسيس المجتمع الديمقراطي، إنه يتطور، ولو نسبيا، في منسوب التصنيع وربما البنيات التحتية والاقتصادية الجاهزة، لكنه يمضي في ميادين الحرية بمختلف أنواعها إلى مزيد من الانغلاق الذي يكرسه تقاطع مصالح بعض الأنظمة الحاكمة والحركات المتطرفة في استغلال الدين لتأبيد التبعية والوصاية على الإنسان… لكن رغم سوداوية الواقع، فإن الثابت وجود أرضية في المنطقة تقبل التغيّر وإشاعة روح الديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة والقيم العالمية في نفس الوقت الذي توجد فيه مقاومات ترفض التجديد الذي تعتبره متعارضا مع القيم والعناصر الثقافية “الدخيلة”. وهنا يلزم التفكير في صيغ مقبولة لا تلقى هذا الكم الهائل من المقاومات المتزايدة.
إن فهم فشل المجتمعات العربية في التحرر من الممارسات الاستبدادية والمكرسة لقيم الوصاية والتبعية، لا يستقيم إلا من خلال عمل تكاملي تتضافر فيه مقاربات من تخصصات مختلفة، التي يجب أن تنصب على دراسة الأنظمة التربوية والعائلية والمجتمعية. أما الهدف الإنساني فيتمثل أساسا في التقليص من “المقاومات” التي تتخذ صيغا مصلحية وتتخذ رداء الوطنية أوالدين أوالخصوصية. صحيح أنه لا يمكن أن نحلم بانتهاء هاته “المقاومات” الزائفة في الأمد القريب، لكن عملا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا وعلميا يقتضي تشجيع أصوات المفكرين العرب والمسلمين الذين يعانون من كثير من الإقصاء، خاصة وأن الهدف الأساسي هو” الدفع بالإنسانية في اتجاه الأفضل عبر تحقيق شرط “حرية الوعي “.
© منبر الحرية،11 يونيو/حزيران 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018