قد تكون أزمة اليونان المالية الحالية، التي بدأ يمتدّ هشيمها إلى دول أوروبية أخرى، استرعت انتباه المشرفين على تنفيذ مشروع الوحدة النقدية الخليجية، واحتكرت مجهرهم خاصة وأنهم مكلّفين بإنجاح مشروع مماثل للوحدة النقدية الأوروبية في منطقة الخليج.
وبدون أدنى شك فإن هؤلاء يحرصون بالتأكيد على تجنّب الوقوع في هكذا مأزق مستقبلا الذي قد يجرّ المنطقة إلى عواقب وخيمة مثل الأزمة التي تتخبط في براثنها حاليا دول الاتحاد الأوربي، بعد أن أشعل فتيلها ارتفاع عجز ميزانية اليونان ليمثّل أكثر من 13 % من قيمة اقتصاده مقابل نسبة قصوى لا تتجاوز 3 % من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة أوروبية، اشترطها الرّاسمون للسياسة النقدية الأوروبية للانخراط في منظومة الوحدة النقدية الأوروبية.
وكما هو معلوم، يتهيأ التكتّل الخليجي المعروف بـ”مجلس التعاون لدول الخليج العربية” إلى إطلاق عملته الخليجية الموحّدة، التي لم يتم إلى حد الآن تسميتها رغم بلوغ المشروع، وحسب وثيقة اتفاقية الاتحاد النقدي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية التي دخلت حيز التنفيذ منذ 27 فبراير المنقضي، بلوغه المرحلة ما قبل الأخيرة لطرح هذه العملة إثر انعقاد الاجتماع الأول لمجلس النقد الخليجي في شهر مارس من العام الحالي.
وينضوي تحت لواء التكتل الخليجي العربي الذي يعود تأسيسه إلى بداية ثمانينات القرن الماضي في إطار الاتفاقية الاقتصادية الموحّدة، ست دول خليجية تتمثّل في السعودية، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، قطر، سلطنة عمان والبحرين، إلا أنّ عضوين من هذه المجموعة الخليجية، وهما الإمارات وسلطنة عُمان، آثرا عدم الانخراط مبدئيا في منظومة الوحدة النقدية الخليجية مع مواصلة الانضمام إلى باقي المشاريع الاقتصادية الموحدة والالتزام بها وهي أساسا السوق الخليجية المشتركة والاتحاد الجمركي.
وحسب وثيقة اتفاقية الاتحاد النقدي الخليجي التي تم الإعلان عنها نهاية عام 2008، فإن مهمة مجلس النقد الخليجي تكمن في الإعداد لتأسيس بنك مركزي خليجي يهدف إلى رسم وتنفيذ السياسة النقدية الخليجية وتحديد سعر الصرف للعملة الخليجية الموحّدة.
وانطلاقا من تجربة العُملة الموحّدة الأوروبية التي أثمرت الـ”يورو”، وهي تجربة لا يقدر التّكتل الخليجي على تجاهلها، فإنّ التّداول الفعلي للعملة الخليجية، وعلى بلوغ المشروع المرحلة ما قبل الأخيرة، لن يكون بين عشيّة وضحاها.
فبالرّجوع إلى مشوار الوحدة النقدية الأوروبية، فإن التنفيذ الفعلي لمشروع اليورو، وبدون اعتبار المراحل السابقة للوحدة الأوروبية التي بدأت تتلمس طريقها نحو التبلور منذ بداية خمسينات القرن الماضي، بدأ منذ 1990 بإقرار التحرير الكامل لرؤوس الأموال وتطوير التعاون بين البنوك المركزية الأوربية، إضافة إلى حرية الاستعمال الافتراضي فيما بين البنوك الأوروبية لعملة الـ”إيكيو” التي تم تطويرها بعد 10 سنوات تقريبا إلى عملة الـ”يورو”.
هذه المرحلة التمهيدية تطوّرت إلى مرحلة إطلاق مؤسسة النقد الأوربي، التي تعادل خليجيا مؤسسة مجلس النقد الخليجي. وتم ذلك عام 1994 بالتوازي مع إعلان إنهاء دور البنوك المركزية الأوروبية في تمويل القطاع العام ومواصلة دعم التنسيق بين السياسات النقدية بين الدول الأوروبية المعنية وتقوية التقارب الاقتصادي فيما بينها والاتجاه نحو استقلالية البنوك المركزية المحلية، لتندثر هذه المؤسسة في مرحلة لاحقة بعد تسليمها المشعل إلى البنك المركزي الأوروبي الذي تم تأسيسه عام 1998.
وقد تركّز دور “المركزي” الأوروبي على وضع الآليات الممهّدة لمرحلة إطلاق عملة “اليوور”، والتي انقسمت بدورها إلى مرحلتين بدأت الأولى منها عام 1999 من خلال تحديد سعر العملة الموحدة وآلية الصرف الأوروبي. كما تجسدت هذه المرحلة عمليّا من خلال القيام بالعمليات النقدية الافتراضية ما بين البنوك الأوروبية وإصدار سندات الدين باليوور قبل طرحه فعليا، وفي مرحلة ثانية، بين المستهلكين العموم منذ عام 2002.
انطلاقا من هذا التذكير المختزل لمراحل إطلاق اليورو، يتبيّن أن هذا المشروع تطلّب 12 سنة تقريبا من الاستعدادات الفعليّة قبل أن يلمس المستهلك داخل أوروبا وخارجها ورقة اليوور بين يديه.
وبسبب اختلاف المعايير الهيكلية والظرفية بين أوروبا وبين دول الخليج في نواحي عديدة وعلى رأسها السياسيّة منها والاقتصادية، فإنه لا يمكن التكهّن بأن يتولّى التكتل الخليجي نسخ ما قام به الاتحاد الأوروبي ومحاكاة تجربته في إطلاق عملته الموحّدة وتطبيقها بكل حذافيرها وفي أدقّ تفاصيلها.
في المقابل يمكن الاستنتاج بالقول إن دول الخليج ستنتهج المعايير ذاتها والشروط الاقتصادية نفسها التي اتّبعها الاتحاد الأوروبي، لمنطقية هذه العوامل ومشروطيّتها لإنجاح مشروع عُملة موحّدة. وتتعلق هذه المعايير أساسا بالتضخم، معدل الفائدة، سعر الصرف، نسبة عجز الميزانية من الناتج المحلي الإجمالي ومعدل الدين العام من القيمة الإجمالية لاقتصاد كل دولة معنية بالاتّحاد النقدي.
أيضا، وفي السّياق ذاته، فإنه لا يمكن التّخمين بأن يكون إطلاق العملة الخليجية الموحّدة بعد 8 سنوات منذ بداية أعمال مجلس الاتحاد النقدي، انطلاقا من التدّرج ذاته الذي انتهجه الأوروبيون منذ إنشاء مؤسسة النقد الأوروبي عام 1994 وصولا إلى طرح عملة اليوور بين العموم سنة 2002.
أوجه الاختلاف
بالرجوع إلى الواقع الخليجي، ومقارنته بالتجربة الأوروبية، فإن أوجه الاختلاف تكمن أساسا في عدم الإعلان، وإلى حد الآن، عن اسم العملة الموحدة للتكتّل الخليجي مستقبلا، وبالتالي فإن عملية ترويج المنتوج الجديد، ونقصد به العملة الموحدة، داخل رقعة الخليج وخارجها، غير ممكنة في الوقت الحاضر، في حين أن الأوروبيين قد أعلنوا عن اسم عملتهم المستقبلية وبدأو التّسويق لها قبل سبع سنوات من طرحها بالسوق.
أيضا، لم تتوضح، وإلى حد الساعة، معالم الأجندة الخليجية لإطلاق العملة الموحدة، خاصة بعد تراجع الخليجيين عن طرحها في موعدها المحدد سابقا والذي كان من المفروض بدءا من 2010 مثلما تم التّخطيط إليه من خلال إعلان قمة مسقط عام 2001 حول الجدول الزمني لإطلاق العملة الخليجية الموحدة والذي سبقه بعام واحد قرار قمة البحرين بتثبيت سعر عملات دول الخليج الست وربطها بالدولار. وحول نقطة الاختلاف ذاتها، فإنه تجدر المقارنة هنا أن الأوروبيين ضبطوا منذ البداية رزنامة زمنية دقيقة وتفصيلية حول آجال تنفيذ مشروع عملتهم الموحدة.
على مستوى آخر، يلاحظ أن دول مجلس التعاون الخليجي لا تزال بعدُ في مرحلة المشاورات والاستعدادات لتطبيق منهج ضريبي متقارب. كما اقتصرت التّسريبات الرسمية في هذا الصدد على إمكانية تطبيق دول الخليج بداية من 2012 نظام الضريبة على القيمة المضافة. وهي خطّة مالية ترمي إلى سد ثغرة تراجع المداخيل الجمركية نتيجة دخول دول الخليج في علاقات واتفاقات التجارة الحرّة، وكذلك تفاديا لتداعيات تذبب أسعار النفط بالأسواق العالمية وما يعنيه ذلك من عدم استقرار المداخيل لدول الخليج التي لا تزال تعتمد بصفة أساسية على عائدات الذهب الأسود.
في المقابل، تُصنّف الضرائب ضمن المصادر الأساسية لميزانيات دول الاتحاد الأوروبي، كما أن تقريب عملية تقديرها واحتسابها سهّل للأوروبيين إلى حد كبير عملية ضبط المعايير المتعلقة باحتساب هوامش عجز الميزانية والتضخم وإرساء تقارب هيكيلي أكبر على مستوى مناخ الأعمال والاستثمار في المنطقة الأوروبية.
أيضا يكمن الاختلاف بين المقاربتين الأوروبية والخليجية في تقارب أسعار أغلب العملات الخليجية لارتباطها بالدولار باستثناء الكويت التي ارتأت اعتماد سلة عملات لتقليص مخاطر تراجع سعر الدولار في السنوات الماضية. في المقابل فإن أسعار العملات الأوروبية كانت شديدة التفاوت والاختلاف قبل توحيدها إلى اليورو، وهو ما كان يسبّب تكلفة ومخاطر إضافية على مستوى التجارة البينيّة الأوروبية وتنقل رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية.
الاختلاف الأخير، وربما الأساسي بين المنظومتين الأوروبية والخليجية، يتمثل في مدى اعتماد دول الخليج على الثروة النفطية الناضبة والمهددة بالزوال، وبنسبة تفوق 50 % من ناتجها المحلي الإجمالي مقارنة بالدول الأوروبية التي تعتمد بالأساس على ثروة ذات قيمة مضافة طويلة المدى مستمدة من الصناعات التحويلية والخدمات بفضل تمكنها من المعرفة وامتلاكها التكنولوجيا بجميع مناحيها.
وانطلاقا من نقاط الاختلاف بين الشقّين الخليجي والأوروبي في الظروف والعوامل المؤطرة لاستعدادات التحوّل إلى عملة نقديّة موحّدة، فإن التكتل الخليجي قد يعتمد تجربة تتلاءم وظروفه وخصائصه الاقتصادية منها والسياسية، حتى وإن اضطرّ الرجوع إلى المعايير الاقتصادية ذاتها التي ضبطها نظيره الاتحاد الأوروبي في تنفيذه وحدته النقدية.
لكن في الوقت ذاته، وبالرجوع إلى أزمة منطقة “اليورو” الحالية، التي استهللنا بها مقالنا، فإن التكتل الخليجي قد يستقي الدرس الأوروبي بحذافيره ويتهيأ لدى استعداداته الحالية لإطلاق عملته الموحدة، إلى مثل هذه الأزمات من خلال وضع خطة طوارئ استباقية وإنشاء صندوق أزمات يمَوَلَ من طرف الدول الست المنخرطة فيه. وهي خطة قد تساعده على الوقوف في وجه أي طارئ “ثقيل الظلّ” مستقبلا قد يسبّب في اهتزاز كيان وحدته النقدية، كما قد تجنّبه فشل مشروع وحدته الاقتصادية خاصة في ظل اعتماد اقتصاده حاليا على ثروة نفطية ناضبة.
© منبر الحرية ، 2 يونيو / حزيران 2010