محمد سيف حيدر

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لا يبدو التحول الذي طرأ على استراتيجية تنظيم “القاعدة” في اليمن في الآونة الأخيرة، والمتمثل في تغيير زاوية التصويب من استهداف المصالح الغربية في البلاد إلى ضرب المؤسسات الحكومية اليمنية وأجهزة الأمن الداخلي، أمراً مستغرباً أو خارجاً عن المألوف وإن بدا للبعض كذلك؛ وكل متابع لتوجهات هذا التنظيم داخل اليمن وفي معظم الدول العربية والإسلامية لا يحتاج لكثير من الجهد حتى يلاحظ علامات ذلك التحول ومؤشراته التي ظهرت في وقت مبكر، لاسيما بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، وتكوّن جبهة جديدة أعادت لهذا التنظيم الإرهابي الهُلامي بعضاً من حيويته التي فقد جزءاً كبيراً منها خلال الفترة التالية لأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، بفعل توالي الضغط العالمي والضربات القاسية التي لحقت بالتنظيم في قواعده وامتداداته كافة من قبل الكثير من حكومات ودول العالم.

واليمن لم تخرج عن نطاق هذا التحول في استراتيجية “القاعدة” بل كانت في قلبه تماماً؛ فقد وجد التنظيم في هذا البلد الفقير الذي تتجذر فيه الروح القبلية والدينية المحافظة بقوة، بيئة ملائمة قابلة للاستغلال الفكري والتنظيمي وإمكانية إدارة حملة منظمة وطويلة الأمد للتعبئة الإيديولوجية والحشد العقائدي، وتالياً استقطاب كثير من الشباب الذين يشكلون الفئة الأكبر بين فئات سكان البلاد التي تنوء بحمل ديمغرافي ثقيل ومتسارع على نحوٍ يبدو وكأنه غير قابل للكبح أو الاحتواء.

والحقيقة أن أهمية اليمن راسخة في “تفكير” القاعدة منذ زمن ليس بالقصير، ورغم أن البعض يربط ذلك بأصول “أسامة بن لادن” الحضرمية، إلا أن هذه تبقى مسألة رمزية فحسب؛ فالتيار السلفي-الجهادي، بمختلف تلاوينه عموماً وتنظيم “القاعدة” بوجه خاص، يمتلك رؤية جيوبوليتيكية خاصة لليمن لعل أفضل من عبّر عنها، عمر عبدالحكيم المعروف بـ”أبي مصعب السوري”، وهو واحد من أهم منظري التيار، والمعتقل في باكستان حالياً. فقد كتب السوري في عام 1999 مؤلفاً صغيراً بعنوان “مسؤولية أهل اليمن تجاه مقدسات المسلمين وثرواتهم” أبرز فيه تلك الرؤية، فأشار إلى أن العامل الديمغرافي في اليمن، والمرتبط بالشكيمة اليمنية والفقر، في آن معاً، إضافة إلى العامل الجغرافي المرتبط بما تتميز به اليمن من طبيعة جبلية حصينة “تجعل منها القلعة الطبيعية المنيعة لكافة أهل الجزيرة، بل لكافة الشرق الأوسط، فهي المعقل الذي يمكن أن يأوي إليه أهلها ومجاهدوها”، فضلاً عن امتلاكها حدوداً مفتوحة “تزيد على أربعة آلاف كم”، وسواحل بحرية “تزيد على ثلاثة آلاف كم”، وتتحكم بواحد من أهم البوابات البحرية وهو مضيق باب المندب. وأيضاً عامل انتشار السلاح “نظراً للتقاليد القبلية”، إضافة إلى العامل الديني المرتبط بعدد من الأحاديث و”البشائر” المرتبطة باليمن، تمثل كلها، بنظر “السوري” و”القاعدة” عوامل أساسية، لتكون اليمن “منطلقاً” وقاعدة للجهاد “لتطهير المقدسات واسترجاع الثروات المنهوبة من أهل الجزيرة والمسلمين”. وبالتالي فإن “المطلوب تشكيل قوة إسلامية من أهل اليمن وشبابه ومجاهديه ومن لحق بهم من أهل الجزيرة وشباب الإسلام، تتمركز في اليمن… كقاعدة انطلاق، والتوجه لضرب الأعداء في الجزيرة عامة… فميدان الغنيمة كما هو ميدان الجهاد، كامل الجزيرة: أموال المرتدين من الأمراء والملوك والسلاطين والحكومات العميلة… وأموال الصليبيين والنصارى من الشركات الاستعمارية التي تشرف إما على نهب الثروات وإما على بيع منتوجات المحتلين، وهذه اليمن تشرف على واحد من أهم مضائق العالم وسفن وناقلات نفط الكفار تعبر كل يوم بالمئات بالرزق والمال”.

ومع أهمية الرؤية النظرية هذه التي بلورت المكانة الخاصة لليمن في عقول وقلوب منتسبي التيار الجهادي–السلفي، إلا أن السياق السياسي المحلي في هذا البلد خلال العقدين الأخيرين قد أضفى عليها أهمية مضاعفة وأبعاداً أكثر عملية. والعارفون بكواليس اللعبة السياسية اليمنية منذ مطلع تسعينيات القرن الفائت حتى اليوم يدركون تماماً الكيفية التي أُدير—ولا يزال يُدار—بها ملف الجماعات الجهادية-السلفية، لاسيما المقاتلين العائدين من أفغانستان، اليمنيين منهم وغير اليمنيين، وطبيعة التجاذبات والصراعات التي أُقحِم هذا الملف في إطارها، بغرض توظيف المنتمين إلى التيار الجهادي-السلفي بمختلف تشكيلاتهم، بما فيهم المنتمين إلى تنظيم “القاعدة”، واستغلالهم سياسياً من أجل دعم المواقف والمطامح السياسية لدى بعض اللاعبين الكبار في الساحة اليمنية.

وإذا كان هذا الأمر قد طرأ عليه نوع من التحوّل بعد بروز العديد من المتغيرات في الداخل كما في الخارج، وفي مقدمتها تداعيات الهجوم على المدمرة الأميركية (يو إس إس كول) في تشرين الأول/أكتوبر 2000 والهجمات الانتحارية في واشنطن ونيويورك في أيلول/سبتمبر 2001، وما خلّفته هذه المتغيرات من ضغوط هائلة على الحكومة اليمنية بحيث أصبح لا مناص لها من الانخراط في “الحرب العالمية على الإرهاب”، لكن هذا، في المحصلة، لم يمنع جهات يمنية معينة ومعروفة، ووفقاً لحسابات محلية صرفة، من المُضي في التكتيكات القديمة ذاتها المتعلقة بملف الجماعات الجهادية في اليمن، واللعب بأوتار التناقضات الكثيرة التي تتخلل هذا الملف الشائك. وكان من الطبيعي، والحالة هذه، أن تتعزز الرؤية الجيوبوليتيكية الخاصة التي تحملها الجماعات الجهادية، وعلى رأسها تنظيم “القاعدة”، تجاه اليمن بوصفها “حاضنة” مثالية للعمل الحركي والتعبوي تُشابه في أوجهٍ عديدة “الحاضنة الأم”، أي أفغانستان، وتقع على مرمى حجر من غايتها الأسمى “بلاد الحرمين”، أي العربية السعودية.

ويُثبِت رصد نشاط القاعدة في اليمن بوجهه القديم الذي تم احتواؤه (في ظل الجيل الأول) أو الجديد الحالي المستعصي على السلطات اليمنية (في ظل الجيل الثاني)، أنه لا يخرج عن سياق جَعْلها—أي اليمن—منطلقاً “للجهاد” في الجزيرة العربية، وهو ما حدث حين كان أغلب السلاح بيد “جهاديي” السعودية يأتي من اليمن، ومما يدلل على ذلك، أيضاً، أن اليمن والسعودية وقعتا اتفاقية للتعاون الأمني عام 2004، ومنذ ذلك الحين، تبادل البلدان تَسَلُّم (وتسليم) العشرات من المطلوبين والملاحقين أمنياً.

والظاهر أن هذا الأمر أخذ في الآونة الأخيرة زخماً أكبر في ظل الحديث عن بوادر “تحالف” وربما “اندماج” بدأت علاماته (بل وآثاره) في الظهور والتبلور بين فرعي تنظيم القاعدة اليمني والسعودي، واللّذين—على ما يبدو—يتوخيان الاستفادة من ذلك في تعزيز قوتيهما بالنظر إلى حاجة الفرع اليمني للقاعدة لاكتساب المزيد من الخبرة والدعم المالي، في مقابل رغبة الفرع السعودي في الحصول على ملاذٍ آمن يسمح بإعادة بناء بنيته المدمرة بفعل الإجراءات التي اتخذتها السعودية ضده ونتج عنها قتل واعتقال معظم أعضاء فرع تنظيم القاعدة في المملكة.

لقد أضحى من الجلي أن تنظيم القاعدة بفروعه كافة، والذي اضطر تحت تأثير الضربات التي تعرض لها في إطار ما يسمى “الحرب على الإرهاب” للعمل بشكل لا مركزي والاعتماد على الخلايا المحلية، بدأ يعيد تنظيم نفسه في سياق هذه اللامركزية، ولكن عبر سياسة تسعى إلى توحيد تلك الخلايا قدر الإمكان وفقاً للمنطقة الجغرافية، سعياً للتغلب على التشتت الذي تفرضه اللامركزية. ومن هنا بدأت “القاعدة” تعمل على تنشيط خلاياها في كل من أفغانستان، والعراق، وشمال أفريقيا، وآسيا الوسطى، واليمن، والصومال.

ومع اتساع نطاق ظاهرة “إعادة التوحد اللامركزي” لهذا التنظيم، فإنه من المتوقع أن تصبح “القاعدة” مصدراً رئيسياً للأخبار في مناطق متنوعة من العالم تحت إمرة هذه القيادات الجديدة، ولكن الخطورة تكمن في أن هذا الجيل الجديد من القيادات يعد من ذوي الخبرات المشتركة سواء في أفغانستان أو العراق أو غيرهما، مما يعني أن درجة التنسيق فيما بينها ستكون عالية، وبالتالي فإن “القاعدة” لن تعود للاعتماد على الخلايا المحلية، كما فعلت منذ هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001، بل سيكون لها قرار “شبه مركزي”، وستعمد إلى تنفيذ عمليات تتميز بالنوعية العالية والتأثير.

ومع أن عملية توحيد الجبهات التي يسعى إليها تنظيم “القاعدة” الآن، من خلال هذا الجيل الجديد من القيادات، تبدو مؤثرة في البنية الهيراركية للتنظيم، إلا أن خطورتها تكمن في تأثيرها في أسلوب العمليات التي سيتبعها التنظيم في المراحل القادمة؛ إذ يتوقع أن تكون من حيث الأهداف أو التكتيك المتبع في تنفيذها مؤثرة وذات صخب إعلامي كبير (وهو ما بدا واضحاً في عمليات “قاعدة اليمن” وعمليات “قاعدة المغرب الإسلامي” في الجزائر مؤخراً). ورغم سعي “القاعدة” إلى تجاوز حالة التشتت واللامركزية التي عانت منها في السابق وجعلت الخلايا المحلية تلعب دوراً سلبياً في الدعاية للتنظيم، نتيجة غياب القرار المركزي، فإن هذه “الخلايا المحلية” ستظل تؤدي دوراً مهماً في إظهار التنظيم كقوة متغولة تصعب هزيمتها، كما أن تلك الخلايا ستحافظ على لعب دور أساسي في تجنيد أعضاء جدد، بالإضافة إلى إثارتها القلاقل من حين لآخر، بينما تتفرغ “القاعدة الأم” لتنفيذ أهدافها الاستراتيجية الكبرى.

وفي اليمن يبدو النهج “القاعدي” الجديد، بكل مساوئه وتناقضاته، واضحاً، على أن إحدى الدلالات المهمة الخاصة للتحول الاستراتيجي في تكتيكات تنظيم “القاعدة” في اليمن من ضرب الأهداف والمصالح الغربية في البلاد إلى استهداف بُنى السلطة والحكومة ذاتها والأجهزة الأمنية الداخلية على نحو سافر كما بدا ذلك في العمليات الأخيرة، وبوجه خاص عملية سيئون الانتحارية أواخر شهر تموز/يوليو الماضي، تكمُن في محاولة عناصر التنظيم وقيادته الجديدة استغلال المناخ المحتقن الذي يطبع البيئة السياسية والاجتماعية والأمنية في بعض المناطق اليمنية، وعلى نحو خاص المناطق الجنوبية في البلاد التي يسودها نوع من التململ الشعبي والشعور بالسخط على خلفية سوء إدارة السلطات للكثير من الملفات الحيوية العالقة في هذه المناطق منذ ما يقارب العقد ونصف، أي منذ نهاية الحرب الأهلية القصيرة في صيف 1994.

والملاحظ، في هذا السياق، أن وتيرة الأعمال الإرهابية التي تطال بعض المناطق اليمنية الجنوبية قد أخذت في التزايد على نحو ملحوظ، وهذا يشير إلى حدوث نوع من “التمدد الاستراتيجي” لتنظيم “القاعدة” في جنوبي اليمن، وينبئ ذلك عن تمكن التنظيم في السنوات القليلة الماضية من الحصول على ملاذات/بيوت آمنة ومساعدات لوجستية تتضمن أموالاً وأسلحة وأدوات اتصال وبنية إعلامية متطورة نسبياً من الناحية التقنية، بالإضافة، وهذا هو الأهم، إلى عناصر وخلايا بشرية تتشكل منها شبكات التنظيم العنقودية المُستحدثة وتدعمها (بعض هؤلاء مقاتلون عادوا من العراق واستقروا في مناطقهم الأصلية كأبين وتعز ولحج أو في مناطق أخرى، كما يوجد مقاتلون آخرون من غير اليمنيين وبشكل خاص من السعوديين، الذين انتقلوا—في معظمهم—إلى اليمن على إثر توثيق كُلٍّ من فرعي “القاعدة” اليمني والسعودي عُرى التحالف بينهما خلال الأشهر الأخيرة الماضية)، الأمر الذي يجعل مهمة قوات الأمن اليمنية في محاربة التنظيم وخلاياه، النشطة منها والنائمة، صعبة بمكان وفي غاية التعقيد.

كما أن هذا التحول التكتيكي الذي طرأ على استراتيجية “القاعدة” يأخذ زخمه أيضاً من الطابع الدولي الفاقع الذي يمتاز به ملف الإرهاب المفتوح على مصراعيه في اليمن في الفترة الأخيرة، وهو الملف الذي “فشلت” حكومة صنعاء، بحسب التقديرات الأميركية المعنية مباشرة بقضية الإرهاب في الأراضي اليمنية، في إدارته بالشكل الكافي والحاسم، حتى يُمكن اقناع من ينبغي اقناعهم في واشنطن بأن ثمة انجازٌ ما قد تحقق في الحرب التي تشنها اليمن على الإرهاب. ويبدو أن الأميركيين قد أصيبوا بخيبة أمل كبيرة جراء الطريقة التي تدير بها السلطات اليمنية ملف الإرهاب والحرب عليه، وبدا ذلك واضحاً في تعليقاتهم وتقريراتهم الحكومية والصحفية على حد سواء، والتي تواترت في الآونة الأخيرة بصورة تثير الانتباه والقلق معاً والناضحة بكثير من النقد للحكومة اليمنية، مُتهمة إياها تارة بـ”التقصير” و”عدم الجدية” في مكافحة الإرهاب، أو بـ”التساهل” مع أخطر الإرهابيين والمطلوبين و”توفير الحماية لهم” تارة أخرى.

والواقع أن هذا المناخ الضاغط سلاح ذو حدين بطبيعته؛ فهو يدفع الحكومة اليمنية إلى محاولة “تبييض” سجلها في مكافحة الإرهاب بمختلف الأساليب والطرق، لكن هذا الأمر قد يتم على نحو تغلبه العجلة والتصرفات غير المدروسة في إدارة هذا الملف البالغ الحساسية، وربما يتطور الأمر إلى نوع من التطرف غير المحسوب في اتخاذ المواقف والسياسات بحيث ينقض بعضها بعضاً، وفي نهاية المطاف تدفع صانعي القرار الأمني كما السياسي إلى الإنزواء في زاوية حرجة وضيقة؛ فيضيع بذلك الكثير من الجهد في الداخل ودعم الحلفاء وثقتهم في الخارج، وفي الطريق نفسه تُهدر كثير من الدماء وتبدأ من ثمّ حلقة مُفرغة وشريرة من الانتقامات والثارات التي قد تضعضع الأمن في البلد، وتنعكس بالضرورة سَلباً على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأحوال المجتمعية المتأزمة أصلاً، وهو أمرٌ بات من غير الإمكان تقبّله، ناهيك عن تحمّله أو ضبط عواقبه الوخيمة إن حدث.

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 16 أيلول 2008.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

لا يكاد يوجد تحدٍّ يواجه اليمن، ويُلقي بظلاله المخيفة على حاضرها ومستقبلها، يُماثل التحدي الذي يفرضه شُحّ موارد المياه واستنزاف المخزون المائي للبلاد. وبالتأكيد فإن مُشكلة المياه التي تعانيها اليمن تظل الأخطر بما لا يقاس بأي مشكلات أخرى تواجهها، إذ أن لها أبعاداً وجودية كثيرة متداخلة وفائقة التعقيد كما العواقب والتّبِعات. فهناك بُعد قِلّة المياه قياساً بعدد السكان المتزايد والاحتياجات المتواترة لهذه السلعة الحيوية المرتبطة بكل مناحي حياتهم، وهناك بُعد القدرة على الوصول بشكل مستدام إلى مياه شرب نظيفة، وهناك بُعد متعلق بمعضلة تلوث المياه والتحديات الناجمة عنها.
إننا بالطبع لا نحتاج إلى التذكير بأهمية الموارد المائية للإنسان وللحياة برمتها، فهذا من بديهيات الأمور وطبائع الوجود، لكن ما نحتاج إليه حتماً وباستمرار هو دقّ ناقوس الخطر والتنبيه إلى العواقب الوخيمة الناجمة عن تجاهل مظاهر مشكلة فقدان الأمن المائي، لاسيما في بلدٍ يُصنّف ضمن أربع دول تواجه خطر الفقر المائي على المستوى العالمي ويُعدّ من بين الدول العشر الأفقر مائياً في العالم، إذ لا يتعدى نصيب الفرد، بحسب منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، 150 متراً مكعباً في السنة، بينما يحصل مثيله في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على 1250 متراً مكعباً سنوياً، وبالمتوسط العام الدولي 7500 متر مكعب. وإذا استمر تناقص نصيب الفرد من المياه بالوتيرة الحالية في ظل تنامي مضطرد لعدد السكان (يبلغ معدله السنوي 3.5%)، وذلك بالتوازي مع زيادة غير متكافئة في تنمية الموارد المائية، فإن الأمور ستسير نحو الأسوأ لا محالة.
لقد عمل اليمنيون منذ القِدم على ابتكار وسائل مختلفة تساعدهم على التكيّف مع شحّ الموارد المائية في هذه الأرجاء، ولذا ابتكروا نظام المدرجات الزراعية على سفوح الجبال ودأبوا في الحفاظ عليها من أجل استغلال مياه الأمطار بالشكل الأمثل، كما قاموا أيضاً ببناء السدود وحفر القنوات الخاصة لسحب مياه الفيضانات والسيول. لكن هذه الإستراتيجيات القديمة لإدارة المياه أصابها التصدّع في هذا العصر بسبب الزيادة غير المنضبطة في عدد السكان، ولم تعد مصادر المياه المتجددة تلبي حاجة اليمنيين السنوية من الماء، والتي زادت من 2.9 مليار متر مكعب في مطلع تسعينيات القرن العشرين لتصل إلى 3.4 مليار متر مكعب في الوقت الراهن. فضلاً عن أن التوزيع الديمغرافي للسكان لا يتوافق مع توزع مصادر المياه، حيث يتمحور التركيز الاقتصادي والأنشطة التجارية والكثافة السكانية في مناطق تفتقر إلى تلبية الاحتياجات المائية والمنزلية لسكانها، ناهيك عن متطلبات الزراعة والرعي والأنشطة الأخرى.
وعلى الرغم من سعي الحكومة اليمنية إلى القيام بواجبها تجاه مواطنيها في توفير المياه، لكنها حتى اللحظة لم تستطِع تغطية احتياجات السكان في المدن سوى بنسبة ما بين 56% إلى 60% ونسبة تصل ما بين 40% و45% من احتياجات السكان في الأرياف. وهذا لا يعني أن نسبة 40% من سكان المدن لا يحصلون على المياه، ولكن لا يحصلون عليها عبر المشاريع الحكومية وإنما عبر مشاريع للقطاع الخاص.
وتزداد قضية الأمن المائي تعقيداً في ظل تفاقم مشكلة تلوث المياه في معظم أرجاء البلاد. ويعد سوء الصرف الصحي، وعدم توفر محطات معالجة المياه العادِمة، وكثرة استعمال المبيدات والأسمدة ومخلفات المعامل والمصانع من أهم أسباب تلوث المياه في اليمن. ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة عام 2008 تحت عنوان “مياه الشرب والصرف الصحي”، فإن 34% من السكان يحصلون على مياه شرب غير مُحسّنة (آبار وينابيع غير محميّة وعربات محمّلة بخزانات صغيرة وحاويات متنقلة ومياه سطحية).
وبالنظر إلى كون اليمن بلد زراعي وريفي تاريخياً، فإن مشكلة ندرة المياه فضلاً عن تلوث نسبة لا يستهان بها من الكمية المتوفرة منها، أخذت تُلقي بظلالٍ ثقيلة على مستقبل الزراعة في البلاد. فوفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، تقدر مساحة الأرض التي يمكن زراعتها في اليمن بحوالي 3.6 مليون هكتار أي حوالي 6.5% من مساحة البلاد، إلا أنه وبسبب النقص الحاد في المياه فإن إجمالي المساحة المزروعة لا تتجاوز 1.6 مليون هكتار أي حوالي 2.9% فقط من المساحة الإجمالية لليمن. ومن المعروف أن الزراعة ظلت تؤمن للأسرة اليمنية الاستقرار والأمن الغذائي، لكن النزوح المستمر وحركة الهجرة من الأرياف إلى المدن ومن أهم أسبابها ندرة المياه وشحتها، أجبرت العديد من سكان الريف على ترك النشاط الزراعي والتوجه إلى ممارسة أنشطة اقتصادية أخرى بديلة.
وفي ذات الإطار، يبرز انتشار القات وزراعته كمشكلة وطنية كبرى تساهم بقوة في استدامة حالة الفاقة المائية التي تعاني منها اليمن وتجذّرها. فالقات، وهو من الزراعات المروية من المياه الجوفية والذي يزرع 85% منه في محافظات صنعاء وعمران وذمار وإب وحجة، يستحوذ على ما يقرب من 30% من كمية المياه المستخدمة في الزراعة على مستوى البلاد. وقد ارتفع الطلب على القات في العقود الثلاثة الأخيرة بسبب الارتفاع النسبي للدخول والتوسّع في حفر الآبار الجوفية؛ وتبعاً لذلك توسعت المساحة المزروعة بأشجار القات عاماً بعد آخر وهي تنمو حالياً بين 10% و15% سنوياً، وطبقاً لبعض المصادر، فإن عدد أشجار القات في اليمن يصل إلى حوالي 260 مليون شجرة تقطف في السنة الواحدة بين 3 و4 مرات مع ما يستهلكه هذا من كميات مياه مُعتبَرة في كل مرة.
والمؤسف حقاً أن الحكومات المتعاقبة، وباعتراف كبار مسئوليها، ساهمت في تقديم معونات لاستغلال المياه لزراعة القات عن طريق بيع وقود الديزل بأسعار منخفضة، وبتكلفة سنوية تقدر بـ 3.5 مليار دولار أو بنسبة 14% من إجمالي الناتج المحلي، والذي بدوره أثر في نضوب المياه في أراضيها الجوفية، وكانت النتيجة مدمرة في صنعاء وما حولها. فقد كان المزارعون قبل أربعة عقود يستخدمون المعاول لحفر آبار المياه، لكنهم الآن يستخدمون الحفارات لتحفر أكثر من ألف قدم في باطن الأرض قبل أن تصل إلى المياه الصالحة للشرب دون معالجة ارتفاع الطلب. فضلاً عن أن الحكومة، كما أعترف وزير المياه والبيئة في أحاديث صحفية مؤخراً، لا يمكنها تطبيق قوانين استخراج المياه والري على كبار المستهلكين، مثل زعماء القبائل والمشايخ وضباط الجيش والأثرياء حتى إن حاولت، مؤكداً أن 99% من عمليات استخراج المياه تتم من دون ترخيص.
باختصار، فإن اليمن تعاني من انكشاف مائي يبعث على القلق بالفعل، وهذا الانكشاف لابد من معالجته بأسرع وقت ممكن؛ فهناك قليلٌ من المياه يقابله انفجار سكاني كبير، ولا شك في أن آخر قطرة ماء ستصبح قيمة للغاية. لقد عملت السياسات الحكومية جاهدة خلال السنوات الماضية على ردم الفجوة المائية التي تعاني منها البلاد، لكنها لم تعدُ – في المحصلة – أن تكون حلولاً مؤقتة، وفي أحيان كثيرة عقّدت المشكلة عوضاً عن حلّها. فعلى سبيل المثال، لجأت الحكومة وما تزال إلى بناء السدود في الكثير من المناطق بالرغم من أن سياسة بناء السدود – كما تبين للمسئولين أخيراً – ليست مجدية في بلد حار وجاف مثل اليمن، وحيث ينتهي الحال بالمياه إلى التبخّر. والحقيقة الجديرة بالإشارة، في هذا السياق، أن ما تحتاجه البلاد ليس بناء المزيد من السدود بل إقامة منشآت مائية تتولى تحويل المياه دون التفريط بحقوق الملكية في المناطق المستفيدة.
ويجادل البعض بأن مشكلة المياه في اليمن تتمثل في الزراعة، وأنه إذا استطاع كل من الحكومة وعموم أفراد المجتمع ترشيد استخدام الماء في الزراعة ستكون البلاد قد قطعت شوطاً كبيراً في حلّ هذه المشكلة, فالمهم هنا – كما يعتقد هؤلاء – هو كيف نُدير الطلب والعرض على المياه بطريقة صحيحة تؤدي إلى الاستخدام الأمثل للمياه. وحيث أن حوض صنعاء هو المهدد الأول بالجفاف، فإن هناك من يرى أن أفضل طريقة للتعامل مع أزمة المياه في الحوض تكمن في تخفيض استهلاك المياه قدر الإمكان، والحدّ من التوسع الزراعي، لاسيما في الزراعة المروية. وقد استبعد العديد من الخبراء خيار تحلية مياه البحر ونقلها إلى صنعاء كحل للمشكلة، لأنه في نظرهم خيار مستحيل فنياً واقتصادياً، لكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أنه قابل للتحقيق بالنسبة للمدن الساحلية كالمكلا وعدن والحديدة وتعز.
وفي اتجاه موازٍ، تركز توصيات خبراء الموارد المائية والخاصة بطرق مواجهة أزمة المياه في اليمن على تولي الحكومة إدارة الموارد المائية المتوفرة بكفاءة أكبر، واعتماد اللامركزية في إدارة هذه الموارد، والاستفادة من مياه الصرف الصحي بعد معالجتها، والاهتمام بالزراعة المطرية والحفاظ على المدرجات الزراعية، واختيار محاصيل زراعية تتناسب مع مخزون المياه المتوفرة في كل حوض، مع ضرورة إدخال التقنيات الحديثة في الرّي الزراعي لتقليل الهدر، والسيطرة على العوامل الملوثة للمياه، وتوظيف البعد البيئي في التخطيط الحضري، ووضع تشريعات تلزم المباني الإنشائية بمعايير ومواصفات تراعي البعد البيئي وتستغل مياه الأمطار. وأخيراً وليس آخراً، رفع الوعي المجتمعي بمشكلة المياه من خلال وسائل الإعلام.
© منبر الحرية، 12 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic1 نوفمبر، 2010

حاصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من كلية التجارة والاقتصاد بجامعة صنعاء عام 2003. يعمل حالياً باحثاً في برنامج الدراسات الاستراتيجية بمركز سبأ للدراسات الاستراتيجية، ومدير تحرير مجلة “مدارات استراتيجية” التي يصدرها المركز نفسه. كما يعمل مديراً لإدارة البحوث والإصدار بمركز البحوث والمعلومات التابع لوكالة الأنباء اليمنية (سبأ).
من مؤلفاته المنشورة:
اليمن ومجلس التعاون لدول الخليج العربية: البحث عن الاندماج، سلسلة دراسات استراتيجية؛ 150 (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2009)؛
البقاء للأصغر: الدور الجديد للدول الصغيرة في النظام العالمي (صنعاء: مركز سبأ للدراسات الاستراتيجية، 2009)؛ نظرية “نهاية التاريخ” وموقعها في إطار توجهات السياسة الأمريكية في ظل النظام العالمي الجديد (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2007).
كما حرر، وشارك في تحرير وتأليف عدد من الكتب، منها: القرصنة البحرية في خليج عدن والمحيط الهندي: التهديد والاستجابة (صنعاء: مركز البحوث والمعلومات بوكالة الأنباء اليمنية “سبأ”، 2010)؛ حرب صعدة: قراءة في أبعاد التمرد وتداعياته (صنعاء: مركز البحوث والمعلومات بوكالة الأنباء اليمنية “سبأ”، 2010)؛ منظومة الإصلاحات الوطنية: الواقع وآفاق المستقبل (صنعاء: معهد الميثاق للتدريب والدراسات والبحوث، 2007)؛ الوحدة اليمنية في عامها السابع عشر (صنعاء: معهد الميثاق للتدريب والدراسات والبحوث، 2007)؛ الأصوليات الدينية وحوار الحضارات (صنعاء: المركز العام للدراسات والبحوث والإصدار، 2002). كما نُشرت له العديد من الدراسات والمقالات ومراجعات الكتب في الدوريات والصحف اليمنية والعربية.


فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018