قبل بدء تحليل مفهوم الانتقال الديمقراطي والوقوف عند حقيقته، نقر بدءا بأنه إلى جانب مفاهيم كــالعهد الجديد، الحكامة الجيدة، دولة الحق والقانون، التنمية المستدامة … شكلت وما تزال بضاعة مزجاة يتغذى بها المسؤولون والإعلاميون دون أن يتحقق منها شيء على أرض الواقع من جهة، ومن أخرى قبول انسياق السياسيين وراء هذه المفاهيم و المقولات بالنظر إلى الثقافة السياسية السائدة التي تشكل التبعية و الانتظارية العنصرين الثابتين فيها، لكن الأمر غير المستساغ هو موقف جل المثقفين الذين انخرطوا في تعويم هذه المفاهيم التي تم التعامل معها كوعاء فارغ بإمكاننا وضع ما شئنها فيه من الوقائع والتحولات.
مقولة “الانتقال الديمقراطي” تدل على جملة من التحولات المتعاقبة والممكن حصرها زمنيا ـ نسبيا فقط ـ وفيها يتحول أساس نظام السلطة من الإكراه إلى الإقناع والاهتمام بديمقراطية الجوهر بدل تحصيل جمالية الشكل، قصد الشرعنة للنظام القائم أمام العالم الخارجي والحصول على تأييد الجماهير دون الاكتراث بالحصيلة. ومن خلال معاينة بعض التجارب الدولية (جنوب إفريقيا، البرازيل، البرتغال، إسبانيا) تم حصر مراحله في ثلاث محطات أساسية، رغم ما قد يقال عن محدودية التقسيم لكونه مستنبطا من تجارب معينة غير أن اعتمادنا له قائم بالأساس على اتسامه بالعمومية والتجريد.
مرحلة الانفتاح: فيها يوسع هامش الحرية وتظهر الليبرالية الحقيقية وتبدأ خطوات تفكيك الأجهزة السلطوية المسيطرة.
مرحلة الاختراق: يسطع دستور جديد يؤسس لنظام ديمقراطي جديد يقوم مقام النظام الآفل يفرز سلطة جديدة منبثقة عن انتخابات نزيهة.
مرحلة الترسيخ: هي الأخيرة تحتوي على جملة من العمليات أبرزها:
1/ تنظيم انتخابات نزيهة بشكل دوري .
2/ سعي هيئات المجتمع المدني لحماية الديمقراطية وقواعدها التي أضحت ثقافة سيـاسية سائدة.
3/ التباين على مستوى الأهداف بالتركز على جوهر الممارسة الديمقراطية.
4/ بطء الخط الزمني لهذه المرحلة.
وقد يقول قائل بأن هذه التقسيمات ضرب من العبث لاتسامها بالغموض والتداخل فيما بينها من جهة، ومن أخرى اختلاف شروط كل تجربة انتقالية، فالظروف المؤثرة في الانتقال ببلدان أوربا الشرقية ليست نفسها في دول أمريكا اللاتينية.
ورغم كل ما يقال يبقى السؤال المطروح وبإلحاح هو موقع المغرب وكل متغيراته في هذا المسار؟ وإن صح الحديث عن انتقال ديمقراطي فهل نحن في أولى مراحله أم آخرها؟
إن التأمل العميق في المحطات الأساسية للتاريخ السياسي المغربي الحديث يفضي بنا وقائع لا يمكن اعتبارها نقطة ارتكاز (Le point zéro) لبدء الانتقال، والحقيقة أننا أمام لمسات “روتوشات” هدفها تلميع الصورة أمام الرأي العام العالمي وتحصيل جمالية الشكل في مواكبة للتغيرات التي يعرفها المحيط الداخلي والخارجي للبلاد (إفرازات للضغط)، أكثر مما هي تحولات جذرية في سبيل الديمقراطية.
فلنتوقف في هذا الإطار على بعض من هذه التحولات و نذكر منها:
– إنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1991 لتفادي النقد الموجه للنظام من قبل المنظمات الحقوقية، كما أن ملف حقوق الإنسان يتخذ ورقة رابحة لدى البوليساريو.
– إحداث وزارة حقوق الإنسان سنة 1993.
– إطلاق صراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين في غشت 1991 و يوليوز 1993 و مايو 1994.
– صعود نقاش حول الإصلاح الدستوري المفضي لدستور 1992 ودستور 1996.
– الانتخابات التشريعية لسنة 1997.
– دخول المعارضة التاريخي إلى الحكومة وتجربة التناوب سنة 1998.
– انتقال العرش في يوليوز 1999.
– إقالة وزير الداخلية إدريس البصري.
– الانتخابات التشريعية وحكومة التكنوقراط سبتمبر 2002.
– تجربة الإنصاف والمصالحة سنة 2003 وصداها وطنيا ودوليا.
ـ ترسانة قانونية تكشف عن رياح التغيير في نصوصها فقط (مدونة الأسرة، قانون الأحزاب، قانون الصحافة،…).
ـ الانتخابات التشريعية في سبتمبر 2007 وديمقراطية تعيين الوزير الأول.
قد نوصف بالعدميين إذا قلنا بأن استقراء هذه الحالات لا يكشف عن واحدة قد تعد نقطة البداية، لكننا نقر في ذات الوقت بوجود إصلاحات لم ترقى لتكوين حلقات مسلسل الانتقال الديمقراطي. فما موقعها ضمن الخريطة إذن ؟
عملية الإصلاح هذه تعكس في جوهرها انتقالا سلطويا لا انتقالا ديمقراطيا، إذ معظم الإصلاحات هدفها تجديد آليات اشتغال النظام السلطوي و ملاءمته للمتغيرات داخليا وخارجيا للزيادة في وسائل الحكم وتجديد المشروعية، فالتأمل العميق في الواقع يفضي بنا إلى العناصر الرئيسية المتداخلة في تحديد إستراتيجية الانتقال السلطوي أبرزها:
– تدجين وأدلجة الانتقال الديمقراطي
أي تحويره عن دلالته الحقيقية ليصير طبلا أجوف قابل لاحتواء كل الوقائع والتحولات، وبالعودة إلى مرحلة التسعينات نجد ترسانة من المؤسسات أنشئت بهدف تصريف اختيارات النظام في مختلف القضايا دون تقديم تنازلات مما يكشف عن سعيه لتكيف مع المتغيرات بلا تغيير ذاتي. ولا غرابة في كون معلني الانتقال الديمقراطي بهذا المعنى ليست لديهم أية مطالب إزاء النظام القائم وثقافته السلطوية، بل كل مطالبهم و خطاباتهم موجه لمن يشكك في المشروع الانتقال.
– تكريس الإصلاح من الأعلى
التوفق فيما سلف يسهل ضبط إيقاع وتيرة الإصلاحات التي تسوق على أنها مظاهر الانتقال المنشود، وبناء عليه يستطيع النظام التحكم في عمليات الإصلاح وتنويع أشكالها و طرقها. حيث نجدها ذات منطق استعادي (الاسترجاع) كما هو الحال مع إحداث ديوان المظاليم أو منطق استباقي (السبق) كمبادرة التنمية البشرية، أو هما معا في تجربة التناوب التوافقي التي لم تكن سوى تسوية سلمية وتصالحية أفضت إلى “كشكول” حكومي أفرزته تظاهرة انتخابية لا أقل ولا أكثر، المستفيد الأول منها هو المؤسسة الملكية التي أضعفت منافسيها(الأحزاب) مكرسة الانتظارية والتملق والانتهازية.
لا غرابة البتة أن نكون إذن أمام إصلاح علوي أحادي القطب من جهة، وجزئي ومرحلي من جهة أخرى.
– الإصلاح وفق منطق الاختيار
إن المقاربة الاختيارية من أولويات الإصلاح باعتباره مدخلا لتكيف النظام مع تحولات المجتمع وتحديات الاندماج في المنظومة الدولية، محاولا الاستجابة لمتطلبات الظرفية الراهنة والآنية أي دون تخطيط ودراسة مسبقة لتلك الإصلاحات التي تظل مردوديتها محدودة جدا، في غياب مسلسل مترابط يفضي لنتائج ملموسة. كما أن تجاهل إصلاحات جوهرية من قبيل الإصلاح الدستوري والإداري و العسكري يكشف بساطة المنجز.
الانتقال الديمقراطي بالمغرب يتطلب إرادة حقيقة هي إرادة الانتقال، ولن يتأتى هذا بدون ترسيخ ثقافة المشاركة والاختلاف، وبدون إصلاح العقليات و البنيات الفكرية أولا في إشارة لمقولة كارلوس ألبرتو مونتانير: يجب تنظيف السياسة بعض الشيء، من أنماط معين من المسؤولين والسياسيين الذين لا يحملون من هذه الصفات غير الاسم. وترسيخ المؤسسات ودمقرطتها وإعادة الثقة بها ثانيا. أمران يتطلبان توافق إرادتين: إرادة سياسية لدى المسؤولين وإرادة شعبية تحمل في ثناياها ثقافة الممانعة والتضحية لدى المثقفين وكل من يحمل هموم هذا الوطن الجريح ، سواء اشتغل في الحقل المدني أو الأكاديمي أو الحزبي.