كان للحرية الدينية في المجتمعات العربية والاسلامية ؛ اكبر الأثر الايجابي في تطور تلك المجتمعات خلال العصور الاسلامية المتلاحقة ، حيث شملت أوجه التطور والتحديث ؛ مختلف ميادين الحياة مثل علوم الطب والاقتصاد والفن و الفلك والفلسفة والترجمة والادب والرياضيات والكيمياء والملاحة البحرية وصناعة السفن ؛ وادوات التنمية الاساسية في قطاعات الزراعة والصناعة ولتجارة .
ولعل جُل ما طلبه المسلمون من اهل الكتاب وهم اليهود والنصارى؛ وكذلك الصابئة والمجوس والزرادشت ؛ اذا لم يرغبوا بدخول الاسلام ، دفع الجزية وعدم التعرض للاسلام والمسلمين بسؤ . واصبحوا يٌعرفون في بلاد المسلمين بأهل الذمة؛ سواء في صدر الاسلام زمن الخلفاء الراشدين ، اوفي العصور الاسلامية اللاحقة ؛ الاموية والعباسية وما تبعهما من خلافات وسلطنات وامارات ؛كالفاطمية والايوبية والمملوكية ؛ ثم الامبراطورية العثمانية. وكان ذلك إمتثالاً لقول الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبرّوهم وتقسطوا إليهم ان الله يحب المقسطين) – سورة الممتحنة الآية 8 – . ولقول رسول الله (ص) : “من آذى ذميا فقد آذاني “.
وقد امتدح الكتاب الاجانب مثل (آدم متز) ؛ مستوى الحرية الدينية في ظل الدولة الإسلامية، قائلاً : ” لم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل في الشعائر الدينية لأهل الذمة، بل كان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحضر مواكبهم وأعيادهم ويأمر بصيانتهم …” ، ويـضيـف ( متز) : ” قضت الضرورة أن يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين، فأعان ذلك على خلق جو من التسامح لم تكن تعرفه أوروبا في القرون الوسطى …” . ويقول (غولد تسيهر) :” إن المؤمنين بمذاهب التوحيد أو الذين يستمدون شرائعهم من كتب منزلة كاليهود والنصارى والزرادشت، كان بوسعهم متى دفعوا ضريبة الرأس (الجزية) ؛أن يتمتعوا بحرية الشعائر وحماية الدولة الإسلامية …”.
وفي العصور الوسطى ؛ وصلت الحرية الدينية ذروتها ، وبلغ التطور والتقدم والرقي داخل المجتمعات العربية والاسلامية القمة . فكان ذلك فكراً وممارسةً ؛ أي منهجاً نظرياً وتطبيقاً عملياً . كما ساهمت الحرية الدينية في ظهور حضارة ثقافية مترابطة الابعاد ، ذلك لأن الحضارة الاسلامية استقطبت المثقفين المسلمين والمسيحيين واليهود ، الأمر الذي ساعد على وجود أكبر حقبة فلسفية إبداعية في العصور الوسطى ، وذلك خلال فترة القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين .
ولعل من اهم جوانب تطور المجتمعات العربية والاسلامية والعالمية المعاصرة؛ التي تهتم بها اليوم ، ما يعرف بدراسات علوم البيئة كالتلوث والتي كانت سائدةً آنذاك . ومن الأمثلة على تلك الدراسات ؛ ما كتبه الكندي والرازي وابن الجزار والتميمي وابن النفيس ؛ حيث غطت كتاباتهم عدداً من الموضوعات المرتبطة بالتلوث مثل : التلوث الجوي وتلوث المياه وتلوث التربة ، وسؤ التصرف بالمخلفات الصلبة وتقييم التأثير البيئي في اماكن معينة . فقد شهدت قرطبة بالاندلس أول صندوق قمامة واول منشأة لجمع القمامة والتخلص منها . كما شٌيدت المؤسسات التعليمية المثيرة للدهشة في ذلك الحين ؛ كالمستشفيات العامة و المصحات النفسية و المكتبات العامة و المراصد الفلكية والجامعات. وذكر كتاب جينيس للارقام القياسية ؛ أن جامعة القيروان في فاس بالمغرب ، كانت اقدم جامعة في العالم ؛ إذ جرى تأسيسها في عام 859 م ، وجامعة الازهر التي تأسست في القاهرة في القرن العاشر الميلادي ، كانتا تمنحان شهادات اكاديمية متنوعة ، من بينها شهادت جامعية عليا .
وعند منتصف القرن الثاني للهجرة ؛ حينما بدأت حركة التدوين والتأليف لدى المسلمين بالنهوض ؛ اتجه بعض علمائهم للكتابة التخصصية في المقارنة بين الأديان، ومنهم النوبختي (202 هـ) الذي يعتبر أول من ألف في هذا المجال وكتب كتابه : (الآراء والديانات) ؛ وبعده كتب المسعودي (346 هـ) كتابين عن : (الديانات) ؛ ثم جاء المسبحي (420 هـ) فكتب كتابه : (درك البغية في وصف الأديان والعبادات) ، وهو كتاب مطوّل يقع في حوالي ثلاثة آلاف ورقة.
ثم نشطت حركة التأليف بصورة ملفتة للنظر ، وكان من أبرز الكتب المشهورة كتاب : (الملل والنحل) لأبي منصور البغدادي (439 هـ) ؛ وكتاب : (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الأندلسي (456 هـ)؛ وكتاب : (الملل والنحل) للشهرستاني (548 هـ)؛ وهناك كتاب : (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)؛ لأبي الريحان البيروني .
وفي ميادين البناء والادب ؛ كان بحلول القرن العاشر الميلادي في قرطبة – على سبيل المثال لا الحصر – سبعماية مسجداً ، وستين الف قصراً، وسبعين مكتبةً حوت أكبرها ستماية ألف كتاب ؛ كما نُشر ما مجموعه ستين الف دراسة وقصيدة ومؤلفة كل عام ، في حين كان يوجد في مكتبة القاهرة نحو مليوني كتاب.
لقد نبغ بعض العلماء المحدثين بجهودهم الذاتية الخاصة مستفيدين من مؤلفات السابقين ، كالعلامة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي (1282هـ ـ 1352 هـ) ؛الذي أتقن اللغة الإنكليزية والعبرية (بالإضافة إلى لغته العربية والفارسية)؛ فقرأ مصادر المسيحية واليهودية وناقشها بموضوعية وعمق في كتبه القيمة المتخصصة بذلك مثل كتابه : (الهدى إلى دين المصطفى) ؛ ويقع في سبعماية صفحة، وكتابه : (الرحلة المدرسية والمدرسة السيارة) ؛نحو ستماية صفحة ورسالته حول : (التوحيد والتثليث) ؛ وأخرى بعنوان : (أعاجيب الأكاذيب)؛ وكتاب : (أنوار الهدى) في الرد على الماديين؛ وكتاب: (نصائح الهدى والدين) حول البهائية… ، وكلها مطبوعة ومترجمة إلى مختلف اللغات العالمية.
وفي ايامنا هذه ؛ قال الفيلسوف الجزائري محمد أركون ، الحائز على جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2003 : ” لقد أٌنشأت المكتبات والجامعات في البلاد الاسلامية، وعلماء المسلمين هم الذين حافظوا على التراث العقلاني الاغريقي والروماني القديم ، هذا التراث الذي لم يكن غائباً عن عقول الغرب فحسب ؛ بل أٌهمل ذكره في العلوم الغربية على وجه الاجمال …” .
وفي الختام يمكن القول ان الحرية الدينية التي خيمت بسلام وأمن وطمأنينة على المجتمعات العربية والاسلامية خاصةً في العصور الوسطى ؛ كانت أحد العوامل الأساسية التي أظهرت ورعت ابداعات وعبقرية العلماء المسلمين الماثلة حتى اليوم ؛ مثل البيروني والجاهز والكندي والرازي وابن سينا والادريسي وابن باجه وعمر الخيام وابن زهر وابن طفيل وابن رشد وعلي بن حزم الاندلسي وغيرهم . وكان ذلك هو واقع الوضع العام للحضارة العربية الإسلامية؛ فكان عدد العلماء الذين تواجدوا في الحقب الذهبية للعصور الوسطى ملفتاً للنظر؛ وانتاجاتهم وانجازاتهم كانت مدهشة للعالم المتحضر حتى اليوم .