ميسلون هادي

peshwazarabic21 نوفمبر، 20101

ما من مرة استمعت أو شاهدت برنامجاً من برامج الفتاوى، المنتشرة على الفضائيات والإذاعات العربية، إلا واتصل أحد المستمعين أو المشاهدين وسأل سؤالا مفاده: هل المصافحة حلال أم حرام؟ وهل هذه المصافحة تجوز مع ارتداء قماش حاجب كالقفازات؟ وهل تنقض الوضوء أم لا تنقضه، ومن هم المحارم الذين تجوز مصافحتهم؟.. وما إلى ذلك من هواجس تقض مضاجع المسلمين، كان من بينهم من سأل أن ابنة عمة أمه في السبعين من العمر تقبّله أثناء السلام عليه، فهل يجوز ذلك؟؟
وغالبا ما يجيب المفتي بإجابة أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب، وهي أن الأصل في الوجود هو الإباحة وأن الممنوعات هي قليلة، وفيما يتعلق بالمصافحة فقد أفتى الامام أبو حنيفة بكذا وكذا وأفتى الامام الشافعي بكذا وكذا وأفتى الامام مالك بكذا وكذا عليهم السلام جميعا، ثم ينهي كلامه في الأغلب الأعم بتحريم المصافحة وعدم جوازها طلباً للأمان والسلامة.
الأمر نفسه يتكرر مع الموسيقى والغناء، ويتكرر السؤال كل يوم: هل سماع الموسيقى ومشاهدة الاغاني حلال أم حرام؟ وهل الفن حلال أم حرام؟ فيفتي البعض بجواز الإنشاد بدون آلات موسيقية، وإذا كان لا بد للمنشد من الموسيقى فيُكتفى بالدفوف. ويفتي البعض الآخر بشرعية الغناء حتى مع وجود الآلات الموسيقية، كما هو الحال مع الشيخ يوسف القرضاوي الذي يقول إنه ينظر إلى الغناء نظرة جادة إذا كان الغناء جاداً وأن الأصل في الوجود هو الإباحة خصوصاً الطيبات، فإذا كان الغناء طيبا وكلماته طيبة فلا ضير في ذلك مع وجود الضوابط في الموضوع وطريقة الأداء.  كذلك تخبرنا سيرة الشيخ جلال الدين الحنفي إمام جامع الخلفاء ببغداد، والمعروف بتنوّره واعتداله، أنه كان محباً لتعلم اللغات والاستماع إلى الموسيقى، ويذكر الباحث رشيد الخيون كيف أن الشيخ الحنفي تعرض للنقد على اهتمامه بالموسيقى، والذي تعدى الاستماع إليها إلى التعلم على عزفها عندما انتمى في العام 1940 الى معهد في الموسكي بمصر لتعلم العزف على العود، ويورد نقلا عن صديقه الرشودي أن هذا الصنيع يدل على أن الشيخ يرى رأي أبي حامد الغزالي في حلية السماع ما دام لا يشغلك عن عبادة ربك ولا يدعو الى المجون أو الفجور وأن الغناء ما هو إلا محاكاة لعندلة البلابل وهديل الحمائم وزقزقة العصافير. كما يورد الكاتب رأياً مشابهاً لعالم دين معاصر من أائمة الشيعة، هو الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في أن الغناء، سواء رافقته آلات الطرب الموسيقي أم لا، مباح ما لم يستخف السامع الى حد يخرج به عن الكمال.
إن هذا الاعتدال، الذي يتسم به فقهاء متنورون يجعلون في الدين فسحة من التفاؤل والأمل والفرح وينأوْن به عن اليأس والتجهّم والعبوس، يجعلنا نتوقف باستغراب أمام مواقف أخرى في الطرف الآخر من هذه المعادلة حيث يقف الرأي المتشدد من الموسيقى، ذلك الذي حجب جائزة الإنشاد العالمية عن سامي يوسف لأن القائمين على الجائزة كانت لهم ملاحظات شرعية على فنه فيما يتعلق باستخدامه الموسيقى التي لا يوافق عليها الإسلام برأيهم. كما نتوقف باستغراب أمام مواقف أخرى متطرفة ومتشنجة بحق المرأة نجدها غريبة عن الإسلام، هذا الدين الثائر الذي جاء ليمنح المرأة حقوقاً ما كانت لتخطر على بال الرجال، وليقول إن النساء شقائق الرجال وإنهما خُلقا من نفس واحدة وإن للمرأة الأهلية للإرث والتملك والتصرف بأملاكها والتعليم واتخاذ القرار في شؤون حياتها من زواج وطلاق، بل إن الإسلام جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. لكن من الرجال من ظلوا ولا يزالون يقاومون هذا الوضع الجديد ويمارسون قمعهم لهذا الكائن الرقيق ويغالون باعتباره  فضيحة يجب التستر عليها وإخفاؤها عن الناس بأغرب الوسائل وأكثرها قسوة، كالبرقع أو النقاب الذي وصل الى وجوه النساء من الحجيج في التفاف واضح على الدين والسُّنة النبوية الشريفة وعلى الملابس المخصصة للإحرام أداء مراسم الحج.
هذا البرقع أو النقاب يستشري، الأسود منه خصوصاً، بشكل غير مسبوق على وجوه النساء العربيات من المحجبات وفي مناطق معروفة من الجزيرة والخليج العربي، ولا أدري كيف سمح أصحاب الفتاوى الشرعية والفقهاء بانتشاره وجعله جزءاً حلالاً ومكملاً للحجاب، وهو الذي يسيء إلى صورة الرجل المسلم قبل المرأة المسلمة، ويقدمه بصورة غير إنسانية باعتباره وحشاً كاسراً لا يفكر بغير رغباته الحيوانية، وهو غير مسيطر عليها إلى الدرجة التي تجعل المرأة تمشي في الشارع ووجودها الإنساني ملغًى تماماً لكي لا يغوي وجهها هذا الوحش الكاسر أو يفتنه. وهنا أيضا تتكرر الملاحظة حول رجال الفتاوى في تلك البرامج الدينية، من الذين تطفو رجولتهم على السطح فيفتون بأنه لا ضير من ارتداء البرقع ويشجعون النساء على ارتدائه، متجاهلين الحديث النبوي الشريف بإظهار الكف واليدين، ومتطاولين على عباد الله الذين هم أمانة في أعناقهم، وعلى صورة الإسلام والمسلمين التي يجب أن ينقيها هذا المفتي من الشوائب لا أن يسمح لتعصبه الشخصي على تشويهها تحت شعار الدين والتقوى. ولو دخلت على أي موقع إسلامي للفتاوى الدينية لدخت وشاب رأسك من آلاف الإحالات والمصادر التي ينحتها كل واحد منهم حسب عصبيته وفهمه ودرجة انفتاحه أو تشدده.
التشدد الآخر الذي بدأ يستشري في مجتمعاتنا هو ارتداء الحجاب من فتيات صغيرات لا زلن بعدُ في سن اللهو والطفولة، وأذكر في هذا الصدد أبنة جارتي التي رأيتها ذات يوم وهي تلهو وتلعب مع صويحباتها مرتدية فانيلة وسروالاً قصيراً(شورت) من الذي يرتديه الأطفال الصغار، وفي اليوم التالي وجدتها ترتدي (الإيشارب) على شعرها وقميصاً عريضا يستر جسمها النحيف الصغير. ولما سألتها عن السبب قالت إن أختها أخافتها من السفور وحدثتها بأنها ستُحرق بالنار إنْ لم تتحجب.
هنا يجب أن نعترف ونقول إن (حرب الملابس الفاضحة) التي تشنها بعض الفضائيات، والابتذال الإعلامي الذي تمارسه، مع سبق الاصرار والترصد، القنوات التي تتحدى التقاليد، هو سبب من الأسباب التي أدت إلى انتشار مثل هذه الظواهر والرؤى المتشددة، وهو أيضاً يجعلنا نتعاطف مع قوانين الرقابة التي بدأت الحكومات تلوّح بها بوجه من أساء استخدام الحريات، وبعضهم، مع الأسف، من المخرجين المرضى والنجمات الفنانات اللواتي يقضين حياتهن الفنية في خرق العادات والتقاليد ثم يقررن فجأة الاعتزال والحج وارتداء الحجاب.  ولكن أليست أجواء الحريم التي يوحي بها البرقع الأسود والعباءة السوداء هي أيضا من المظاهر الحسية التي تحيل إلى المخادع وامتلاك الرجل لهذه المراة كجسد للمتعة ليس إلا؟ وأليس ذلك المفهوم الحسي للمرأة المسلمة، هو ما ركز عليه المستشرقون في اختيارهم للموضوعات واللوحات المأخوذة من قصور السلاطين مدفوعين بعنصر الإثارة التي أصبحت تمثله كلمة الحريم؟
إننا مع الأسف لا زلنا نعيد ونكرر مادعا اليه قاسم أمين ورواد النهضة من الإصلاحيين قبل مئة عام من الآن، ولا زال  حالنا مثل سيارة (تعتعت)، مرة تتوقف ومرة تمشي إلى الامام ومرة ترجع إلى الخلف…. ففي مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي قال الزهاوي وهو الشاعر الجريء، صاحب (ثورة الجحيم) الخارجة عن المألوف:
اسفري يا ابنة فهر، فالحجا   بُ داء في الاجتماع وخيم
كل شيء إلى التجدد ماض    فلماذا يقـر هذا القديـم؟
ثم تراجع عن دعوته إلى السفور بسبب ثورة رجال الدين ضده وضد آرائه ممن أسماهم مجايله الشاعر الرصافي، الذي لا يقل جرأة عنه، ببوليس السماء. ثم انتهت الحرب العالمية الثانية فأحس الناس بجمال الحياة وانفتح العالم على ثورة في الأدب والفن والأزياء، وصلت إلينا في الستينيات فأصبح السفور مظهراً من مظاهر الرقي الاجتماعي، وأصبحت حفلات أم كلثوم التي نشاهدها الآن في أغاني زمان قادمة من زمان المستقبل وليس الماضي، إذ لا تجد في الحضور امرأة واحدة ترتدي الحجاب. وفي السبعينيات بلغ الانفتاح مدًى غير معقول ولا مقبول، مع ظهور الميني جيب والسراويل النسائية وقصّات الشعر الرجالية وملابسهم المتأثرة بالهيبيز والبيتلز وما إلى ذلك من صرعات. ثم عادت الأمور إلى التوازن في الثمانينيات، ومع بدء الحروب والاضطرابات في الوطن العربي، عادت ظاهرة الحجاب من جديد، فانتشرت مثل انتشار النار في الهشيم، وتفاقمت أشكالها فوق رؤوس النساء، حين أصبحت على شكل عمائم ولفّات غريبة عجيبة، وانتهت، كما أشرنا قبل قليل، الى رؤوس البنات الصغيرات ممن لا وعي لديهن ولا حيلة ويُربَّيْن منذ الصغر على كبح تلقائية الخلقة وإخفاء الضحكة والابتسامة والقوة والرأي الجريء، فهذه كلها فضائح يجب التستر عليها ووأدها منذ نعومة الأظافر.ان القول بانتقاد هذه المظاهر لا يأتي من اعتدال الدين الاسلامي وسماحته فحسب، وإنما من إحكام العقل والحس السليم الذي يقول إن حجاب العقل هو الذي يحول الرجال من وحوش كاسرة، إن كانوا كذلك، إلى بشر، وثقافة المرأة هي التي تحولها من حرمة الى إنسانة محترمة في المجتمع، وهي التي تصونها من الخطأ
.
© منبر الحرية، 19 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لا أظن أن أحداً من عظماء الإسلام قد تخيل أن يأتي حينٌ من الزمان ندافع فيه عن بديهية من بديهيات الحياة السوية، وهي أن الطفولة يجب أن تُصان ولا تصادَر أو يساء إليها. وكما هو معروف فإن هذه المرحلة من حياة الإنسان هي الوحيدة التي يعيشها بلا هموم ولا منغصات حقيقية، بل في ملاعب اللهو وصفاء البال وخلو الحياة من المشاكل والمسؤوليات. وبالنسبة للمرأة تحديداً فهي المرحلة التي كثيراً ما تسبق دخولها في حروب لا تنتهي مع نفسها والأهل والمجتمع، لتبدأ من مرحلة البلوغ عذابات الطبيعة وآلامها من متاعب الحيض ثم الحمل والولادة فالإرضاع.. ولا تنتهي عند سن اليأس حيث أعراض الاكتئاب والضيق وترقّق العظام، ناهيك عن حربها مع المجتمع الذكوري الذي لا يريدها في الأغلب الأعم إلا راضخةً مستكنةً في أغلال عبوديةٍ وراضية بواقع ثانوي، مهما نوضل للارتقاء به فهو يبقى دون واقع الرجل الذي لو كانت يده مطلقة في الأمر لتمنى أن يحبسها داخل بيت مغلق وطبقات من أشكال الملابس الداكنة. واليكم ما نقرأه على موقع شبكة الفتاوى الشرعية(1) مثلاً عن مواصفات ملابس المرأة، عندما يُسأل فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الحجي الكردي عن  جواز الألوان في شروط الحجاب الشرعي، إذ يجيب:
“فالأفضل للمرأة أن تحافظ خارج بيتها، بالنسبة للباس الخارجي، على اللباس الأسود اللون، أو الكامد مطلقاً الذي لا يُلفت الأنظار إليها، بعيداً عن الألوان الفاقعة التي تلفت الأنظار إليها، لأن الحجاب وُضع للمساعدة على غض البصر عنها، لا للفت النظر إليها، وليس هناك لون معين محبذ، ولا لون معين محرّم، سوى ما تقدم، وأما سائر الألوان غير ذلك، فلها لبسها تحت العباءة، ولها اختيار اللون الذي تحبه عند ذلك. والله تعالى أعلم”.
وعندما تسأله إحدى سائلات عن كعب القدم، يقول الدكتور مستشار الموقع:
“قدم المرأة ما دون الكعبين اختلف الفقهاء فيها، فذهب البعض إلى أنها عورة، والبعض إلى أنها ليست بعورة، والبعض قال ظَهْر القدم عورة دون الأسفل منها. والأفضل لبس الجوارب مع اللباس الطويل خروجاً من خلاف الفقهاء. أما ما فوق الكعبين فعورة، يجب سترهما عند جمهور الفقهاء”.
إذن للخروج من خلاف الفقهاء، من الأفضل اللجوء إلى الحل الأكثر ظلاماً وتشدداً ، وليس الأكثر انفتاحاً وتسهيلاً. كما من الأفضل للمرأة أن تحافظ، خارج بيتها، على اللباس الخارجي الأسود اللون، أو الكامد مطلقاً بحجة أنه لا يلفت الأنظار إليها، بعيداً عن الألوان (الفاقعة) التي تلفت الأنظار إليها!!! وتخيلوا مع مضي التاريخ وتواتر الحقب كم من الحلول التي أفتى بها (الرجال) قد تراكم على مر العصور، وتحول من مظلم فاتح اللون إلى مظلم غامق (وهو مما يسميه محمد أركون بالجهل المؤسَّس)(2)، وما يعبّر عنه قاسم أمين(3)، في كتابه “تحرير المرأة” حين يقول : (تجده دائما يختار من فكرين أقلهما صوابا، ومن طريقين أصعبهما، ومن عملين أضرهما)، حتى انتهينا إلى اللون الأسود المظلم وإلى هذه الأشكال العجيبة من العمائم وطبقات اللفائف فوق الرؤوس، وأنواع الحجاب المحنك والمنقب والملثم التي يجافي بعضها المنطق ونعمة العقل السليم الذي يفترض بنا القول أن الوضع الاقتصادي في صدر الإسلام لم يكن يسمح للمرأة سوى باقتناء ثوب أو ثوبين، كما لم تكن هناك بدع مانراه الآن من كثرة الأغطية. فمن أين جاء بها وتبناها بعض المتشددين في قراءة الدين الاسلامي ليفرضوها على المرأة المسلمة؟. وليت تلك الأثواب حافظت على أشكالها العربية التقليدية الجميلة، ولكنها أصبحت هجيناً من السواتر والحُجُب، وانتهت إلى رؤوس البنات الصغيرات ممن لا وعي لديهن ولا حيلة، واللائي يُربَّيْن منذ الصغر على كبح تلقائية الذات وإخفاء الضحكة والابتسامة والقوة والرأي الجريء، بحجة أن هذه كلها فضائح يجب التستر عليها ووأدها منذ نعومة الأظافر.
ظاهرة حجاب الصغيرات في الوطن العربي تتخلق من جديد اليوم كشكل جديد ومعاصر من أشكال قمع الطفولة والإساءة اليها باسم الدين الإسلامي الذي كان من أوائل ما حققه للمرأة والطفولة أنه نهى عن وأد البنات حين حرم دفن الصغيرات وهن أحياء. واليوم يأتي من يدفن طفولتهن بالحجاب باسم الدين، والدين من ذلك براء. فإن ثمة آراء كثيرة تقول،  إن الحجاب لم يُفرض إلا على المرأة الراشدة عند بلوغها سن المحيض. وقد جاء في الحديث النبوي‏:‏ ‏”‏يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه”. وهذا الحديث تقوّيه بعض المواقع الإسلامية وتستأنس به مواقع أخرى أو تعتبره ضعيفاً أو تطعن به على إنه مرسل، ونحن نعرف أنّ كل موقع منها يأخذ ما يريد ويترك ما يريد من التأويلات وحسب درجة التشدد أو الإنفتاح.
إن انتقاد هذه المظاهر لا يأتي من اعتدال الدين الإسلامي وسماحته وعنايته بالعدالة ورفع الظلم عن المظلومين فحسب، وإنما من إعمال العقل والحس السليم الذي يقول كيفما تنظر إلى الشيء يكون هذا الشيء، فإذا نظرت إليه ببراءة يكون بريئاً وإذا نظرت إليه بنجاسة يكون نجساً، وإن هذا الهوس العربي المَرَضي بموضوع الجنس هو الذي يريد أن يتعامل أيضا مع الطفولة من وجهة نظر جنسية فتُكبح براءتها تحت العباءة بجريرة رجل غير بريء لا يستطيع السيطرة على شهواته. فبدلاً من نشر الوعي بالقوانين الرادعة ضد التحرش والاعتداء ومعاقبة الرجل المعتدي على توحش أهوائه وغرائزه تتم معاقبة النساء بتفعيل ثقافة العيب التي تُكمِّم أفواه الفتيات والنساء حتى وإن تعرضن إلى أبشع اعتداءات التحرش الجنسي. ليس هذا فحسب، بل يبدو أن رجل المخدع، الذي يمارس لحظاته الحميمية كيفما يشاء وبحرية  تامة، هو نفسُه، في نظر بعض رجال الدين، رجل الشارع الذي يمشي وحشاً كاسراً بين الناس، وليس شخصاً ثانياً يمارس حياته العادية في العمل والكدح وتوفير لقمة العيش، وكأنهم يريدون تعميم صورة رجل المخدع على كل الرجال وفي كل مكان، فيفترضون أنه لا زال مهووساً بالتحديق والملامسة. وبدلاً من تنويره أو تحجيب عينيه وتشجيعه على غض البصر، يلجؤون إلى تحجيب الفتيات الصغيرات حتى وإن كن لا زلن في سن اللهو والطفولة.
الفتنـة:
عن هذا الرجل، الضعيف في حضرة الأنوثة، يقول الباحث إبراهيم أزروال(4):
“فالإنسان المسلم المتشرّب للقيم والأخلاق الإيمانية، والمتفاني في أداء طقوسه والمتأهب للموت في سبيل رفعة عقيدته، غير قادر على الاستجابة الإسلامية المتعالية، لتحدّي الأنوثة، أي لاستقبال الجسد الأنثوي استقبالاً متعالياً. إن المسلم قادر على المجاهدة الفكرية في أرقى مراقيها وأحوالها، إلا إنه عاجز عن تجاوز احتواء بريق الجسد الأنثوي ونداءاته الشبقية المتأججة. فالمسلم يمكن، مبدئيا، أن يرتقي إلى مراتب العرفان والتقوى والإحسان، إلا إنه يبقى بعيداً عن تفعيل مبادئ التقوى في مواجهة الجسد الأنثوي. إن بين الأنوثة والقداسة، في المنظور الإسلامي، هوّة أنطولوجية لا تملؤها حتى التشريعات العازلة والحدود القاسية، مثل الرجم. إن الإيمان يجُبّ ما قبله إلا الشهوة، فهي باقية عالقة بالنفس إلى الموت! فالمؤمن قادر على استئصال الأوثان من مخيلته، إلا أنه غير قادر على عصمة نفسه من لهيب الجسد ومن نيران التوله والوجد. فالإيمان فعلٌ جذريّ، إلا إنه محصور الفاعلية في مضمار الرغبة والغواية. الغواية قابعة في قعر النفس، لا تجدي الحياة الطقوسية في محوها، مهما كان المتعبد منصرفاً عن الدنيا وعن متعها”.
وهذا هو إلى حد بعيد ما أكده الإمام محمد عبده (1849-1905)  قبل عشرات السنين، عندما تساءل:
“عجباً! لم يؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن. هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واعتبر الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه.. واعتبرت المرأة أقوى منه في ذلك حتى أبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال؟.(5)”
كما قال:
“لكننا لا نجد في الشريعة نصاً يوجِب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة، وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين، والدين منها براء.”
ليس هذا فحسب، ولكننا ندفن رؤوسنا بالرمال عند القول بتكفين المرأة بالسواد ومنعها من الزينة والتزين ونحن نعلم أن هذا يتعارض مع طبيعتها العاشقة للجمال والتجمل، فهي التي اكتشفت الكحل والحنة وأحمر الشفاه، وهي التي تُضفي الجمال على أي مكان تتواجد فيه. فإنك إذا دخلتَ غرفة ليس فيها سوى رجال ستجدها مظلمةً حتى لو كان الوقت نهاراً. فمع احترامي للرجال، إن هذه هي طبيعة الأمور.. ولنتأمل ما تقوله مصممة الأزياء العراقية هناء صادق، المختصة تحديداً بجماليات الزي العربي(6) :
“المرأة مثل الطبيعة، تتغير مع الفصول، ودورة الشمس، وانقلاب الليل والنهار. فهي كالأزهار تغير اللون، وتحاول أن لا تركن إلى الثابت، وهذا سمة الإبداع الذي اتصفت به المرأة منذ بزوغ التاريخ، وكانت تسعى إلى أن تكون خلاّقة في القصة والموديل والتزويق والزركشة بالإفادة من الطبيعة ذاتها.. ومن هنا بدأ الفن الذي يبعث الحركة والحياة. ولأن المرأة تمتلك إحساساً مرهفاً فهي، فضلاً عن استعارتها لمؤثثات الثوب من الطبيعة ، فإنها تحاول مواءمة الزي مع الفراغ المحيط والكتلة والمناسبة والطقوس والمواسم التي تبعث الفرح في النفس الإنسانية، وهي توظف الزي شارةً لقول ما يختلج في وجدانها من فرح أو حزن، أو حب”.
ملك الغابة:
أما ابن رشد، فيعلن عن أن النساء والرجال نوع واحد وأنّ لا فرقَ بين الرجل والمرأة في الغاية الإنسانية. والفرق الوحيد الذي يراه هو في احتمال الكد الجسدي الذي يَقدر الرجل عليه أكثر من المرأة، فيما أن النساء أكثر حذقاً في أعمال أخرى، كفن الموسيقى. وبما أنه لا فرق بين المرأة والرجل في الطبع الإنساني، وجب على النساء أن ينلن التربية نفسها التي يحظى بها الرجال وأن يشاركنهم سائر الأعمال، حتى الحرب والرئاسة. ويقول:
(( تختلف النساء عن الرجال في الدرجة لا في الطبع. وهن أهل لفعل جميع ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة ونحوهما، ولكن على درجة دون درجتهم، ويفقنهم في بعض الأحيان كما في الموسيقى، وذلك مع أن كمال هذه الصناعة هو التلحين من رجل والغناء من امرأة. ويدل مثال بعض الدول في إفريقيا على استعدادهن الشديد للحرب. وليس من الممتنع وصولهن إلى الحكم في الجمهورية[ الإشارة إلى جمهورية أفلاطون] أوَلا يرى أن إناث الكلاب تحرس القطيع كما تحرسه الذكور؟))(7).
ولو كان ابن رشد حياً يومنا هذا وشهد ما استجد من الاكتشافات في سلوك الحيوان التي رصدها العلم بدقة، لاكتشف أن مجتمع الحيوان برمته حريمي. فأنثى الفيل هي أحكم ما في القبيلة وهي التي تقودها إلى منابع الكلأ والماء، ومستعمرات النمل والنحل تقودها الإناث من الملكات ولن يبلغها الذكر إلا بقطع الانفاس فيموت، وإن اللبوة هي التي تصيد وتقنص بينما الأسد(ملك الغابة) مستلقٍ لا يُسمع منه سوى الزئير.
نعم، لقد ربط ابن رشد بين رقي المجتمعات وتحسين الوضع الاجتماعي للمرأة فيها، وقبله أقرّ الفارابي المساواة بين المرأة والرجل في امتلاك العقل والحس والخيال، وهو قد حصر الاختلاف بينهما في الأعضاء الجنسية المتصلة بالذكورة والأنوثة، مخالفاً بذلك آراءً معروفة لأرسطو، تنتقص من قيمة المرأة باعتبارها لا تصلح للسياسة والرئاسة، ويرى أن العقل لديها عديم الفاعلية معرفياً، كما أنها أخلاقياً أقلّ شأناً من حيث العفة والشجاعة. أما ابن عربي، في كتابه “فصوص الحكم”،(8) فيستفيض في شرح الحديث النبوي الشريف “حُبّبت إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجُعلت قرّة عيني الصلاة”،  مبيّنا أنّ حنين نبيّ الإسلام إلى النساء هو حنين إلى نفسه، وحبّه لهنّ حبّ لذاته. وكانت المرأة أيامَه، صلى الله عليه وسلم، تأتي إليه وهو جالس مع أصحابه، فتقول له زوّجني، أو تشكو له زوجها، أو تستشيره في أدق تفاصيل الحياة.
ومقابل هذا كله ثمة مواقف أخرى متشنجة بحق المرأة نجدها غريبة على الإسلام، هذا الدين الثائر الذي جاء ليمنح المرأة حقوقاً ما كانت لتخطر على بال الرجال، وليقول إن النساء شقائق الرجال، كونهما خُلقا من نفس واحدة، وإن للمرأة الأهلية للإرث والتملك والتصرف بأملاكها والتعليم واتخاذ القرار في شؤون حياتها من زواج وطلاق، بل إن الإسلام جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. وكانت نساء النبي من أمهات المؤمنين يشاركن في جميع مجالات الحياة ويتحدثن في أدقّ خصوصيات الحياة ويشرحن تفاصيلها. لكن من الرجال من ظلوا ولا يزالون يقاومون هذا الوضع الجديد ويمارسون قمعهم لهذا الكائن الرقيق ويغالون باعتباره  فضيحة وعورة يجب التستر عليها وإخفاؤها عن الناس بأغرب الوسائل وأكثرها قسوة، كالبرقع أو النقاب الذي وصل إلى وجوه النساء حتى من الحجيج، في التفاف واضح على الدين والسُّنة النبوية الشريفة وعلى الملابس المخصصة للإحرام أثناء أداء مراسم الحج. ومعروف أن ضمن ما يُقصد من الحج أنْ يقف المسلم عارياً بين يدي ربه كما لو كان يوم القيامة، وما أجمله من معنى روحي لهذا الطقس الذي لا وجود له في كل الديانات الأخرى.
إن كل طقوس الإسلام مهيبة وباهرة وتثير الإعجاب، ولو تُرك الدين الإسلامي بلا شوائب لانتشر انتشار النار في الهشيم في الغرب المادي الذي يعاني من أزمة روحية طاحنة. ولكن هذه المظاهر المسيئة للإسلام، كحجاب الصغيرات والبرقع أو النقاب، تشوه هذا الدين وتُنزله، في أعين الآخرين، من مكانه الرفيع إلى مستوى هذه التفاصيل الغريبة. وهنا أيضاً تتكرر الملاحظة حول بعض رجال الفتاوى، من الذين تطفو رجولتهم على السطح فيفتون بأنه لا ضير من حجاب الصغيرات أو ارتداء البرقع ويشجعون النساء على ارتدائه، حتى أصبح هذا التشدد بمرور الأيام ديناً، وليس فولكلوراً، في تبريرات لا تقنع ولا تنتهي، ولا يهمهم لو كان فيها تطاول على صورة الإسلام والمسلمين التي يجب أن ينقّيها المُفتون من الشوائب لا أن يسمحوا لتعصبهم الشخصي بتشويهها تحت شعار الدين والتقوى ودرء الفتنة التي نعرف أنها لا يمكن أن تكون لها حدود.
عقدة الرجل المقتضب :
وحسب حصيلة دراسية ضخمة قام بها معهد جالوب بين عامي 2001 و2007 وتضمنت عشرات الالاف من المقابلات في اكثر من 35 دولة أغلبها من المسلمين ونشرت في كتاب صدر حديثا بعنوان (كيف يفكر حقا مليار مسلم)(9)نقرأ “وإذا كان الغربيون ما زالو يعتبرون النقاب رمزاً لحالة النساء الدنيا في العالم الإسلامي، فإن المسلمين يرون أن تخلي النساء الغربيات عن الحشمة يشير إلى انحطاط مكانتهن الثقافية في الغرب.. الافتراض في كلتا الحالتين أن النساء يغطين أو يكشفن عن أنفسهن لإرضاء الرجال وإطاعتهم. وتدل استفتاءات أخرى في الشرق الأوسط وآسيا على أن أغلبية المسلمين في مصر والأردن وباكستان لا يعتقدون أن النساء في المجتمعات الغربية محترمات”.
ولعل هذا هو خير ما يمكن الخلوص إليه من هذا الموضوع.. (الافتراض في كلتا الحالتين أن النساء يغطين أو يكشفن عن أنفسهم لإرضاء الرجال وإطاعتهم). فالمبالغة في كشف الجسد والمبالغة في تحجيبه هما وجهان لعقدة واحدة أسميها (عقدة الرجل المقتضب). وفي الحالين، فإن الرجل المحّدق والمرأة موضوع التحديق طرفان في هذه المشكلة، وإحكام المنطق السليم يقول إن حجاب العقل هو الذي يحول الرجال من وحوش كاسرة، إن كانوا كذلك، إلى بشر، وإن ثقافة المرأة هي التي تحولها من حرمة إلى إنسانة محترمة في المجتمع.
لقد تصادفت كتابتي لهذا الموضوع مع تصريحات شيخ الأزهر الاخيرة بحظر دخول المنقبات إلى المعاهد الأزهرية. فهو كان قد انتقد إحدى الطالبات التي كانت ترتديه، ثم قرر منع النقاب في صفوف المعاهد الأزهرية. ولكن قراره ذلك أثار ضجة كبيرة في الشارع المصري وبين صفوف الإخوان المسلمين، الأمر الذي جعل المجلس الأعلى للأزهر يثنيه عن قراره، واقتصر القرار على منع الطالبات والمدرّسات من ارتداء النقاب داخل الفصول الدراسية الخاصة بالفتيات والتي تقوم بالتدريس فيها المدرسات من النساء فقط، سواء أكان ذلك في المراحل الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية. وهنا أود التوقف عند ما أكده المجلس الأعلى للأزهر من أنه ليس ضد استعمال المرأة للنقاب في حياتها الشخصية التي تتعلق بسلوكها في الشارع وفي عملها وفي بيعها وشرائها.  ولكنه “ضد استعمال هذا الحق في غير موضعه، لما يترتب عليه من غرس ذلك في عقول الصغار من الفتيات واتّباع رأي الأقلية المخالف لرأي جمهور الفقهاء الذي يقول إن وجه المرأة ليس بعورة”.
ساتوقف عند عبارة (عقول الصغار) في  بيان المجلس الأعلى للأزهر، والذي تلاه الدكتور الطنطاوي شيخ الأزهر في مؤتمره الصحفي. (عقول الصغار) هي بيت القصيد من هذه المقالة، وهي هدفها الأول والأخير، فأين هم من (عقول الصغار) من طالبات المدارس الصغيرات اللواتي يحجبن بإسم الدين والدين من ذلك براء ؟؟؟ وكيف ننجو بهذه العقول من التعقد والتشاؤم والغلو إذا كنا نضعها في هذا القيد وهي مازالت في سن اللعب والمرح والانطلاق ؟؟؟
ولا نحب هنا استعمال كلمة (منع) لوقف هذه الظاهرة، ولكننا نسأل وزارات التربية في الوطن العربي أجمعه: هل أجريتم البحوث والدراسات لتلمُّس أثر ما يمكن أن تؤدي إليه ظاهرة حجاب الصغيرات من عقد تربوية وأمراض نفسية قد تحول بينهن وبين الحياة السوية في المجتمع؟، وكيف يستقيم الأمر أن تكون تلك الوزارات ضالعة في تشويه وعي طفلة لم تبلغ سن الرشد بعد، فتربّيها على أن تكون عنصراً ثانوياً خانعاً شائها خائفاً ملغيَّ العقل، وهي تعلم أنه سيبقى خائفاً ملغيَّ العقل طوال حياته ما دام يُدرَّب ويُلقَّن على إلغائه منذ الصغر.
الهوامش:
(1)    شبكة ترعاها قناة إقرأ الفضائية ويفتي فيها فضيلة الشيخ أ.د أحمد الحجي الكردي عضو هيئة الإفتاء في الكويت.
(2)    قناة العربية، برنامج روافد مع احمد علي الزين يتاريخ 4-9-2006
(3)    قاسم أمين، تحرير المرأة منشورات وزارة الثقافة الأردنية، 2008
(4)    إبراهيم أزروال،  على موقعي الأوان والبديل الديموقراطي الالكترونيين.
(5)    محمد عبدة، الأعمال الكاملة- مصر
(6)    في لقاء أجرته معها جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 21-8-2009
(7)    فريد العليبي، موقع البديل الديمقراطي الالكتروني.
(8)     ابن عربي، فصوص الحكم، دار الكتاب العربي: بيروت، 1980.
(9)    جون اسبوزيتو وداليا مجاهد،  من يتحدث باسم الاسلام : كيف يفكر حقا مليار مسلم؟ ترجمة عزت شعلان. عمّان: دار الشروق، 2009.
© منبر الحرية،  13مارس/آذار 2010

منبر الحرية3 نوفمبر، 2010

 – مواليد بغداد.
– بكالوريوس إدارة واقتصاد من جامعة بغداد عام 1976.
– أصدرت ست روايات هي “العالم ناقصا واحد” و “الحدود البرية” و “العيون السود” و “يواقيت الأرض” و”نبوءة فرعون” . و”حلم وردي فاتح اللون”.
– أصدرت ست مجاميع قصصية هي “الشخص الثالث” و”الفراشة” و”أشياء لم تحدث” و”رجل خلف الباب” و”لاتنظر الى الساعة” و”رومانس”.
– عملت في الصحافة الثقافية بمجلة “ألف باء” و”الطليعة الأدبية” وتعمل حاليا في مجلة “الأقلام” العراقية .
– كتبت بالاضافة الى القصة والرواية في مجال النقد وأدب الأطفال والخيال العلمي والترجمة والعمود الصحفي.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018