بعدما مرّت منطقة الشرط الأوسط بفترة انتقلت فيها عدوى الخطابات من مسؤول إلى آخر، تتوّجت بخطاب الرئيس الأمريكيّ باراك أوباما في القاهرة، ثمّ خطابات عديدة تلت خطابه، فيما يشبه الحمّى الخطابيّة، التي كانت استعراضيّة أكثر منها واقعيّة، حيث بدت المنطقة على مفترق خرائط طرق خطابيّة، تضع النقاط الرئيسة، ومناهج العمل المحتمَلة، لتوجّه ركب الشعوب المغلوبة على أمرها..
كانت مرحلة الخطابة السابقة، التي حفلت بالكثير من المثاليّات التي يستحيل أن تسمو إليها السياسات التي تُوصَم بأنّها تنطلق دوماً من المصالح فقط. جاءت بعدها مرحلة التأنّي والتدبّر ثمّ الكتابة والتحليل، وها نحن نجد – وهذا احتمال – أنّ بعضها بدأ يتجلّى واقعيّاً على الأرض، فخطاب الرئيس أوباما بدأ يؤتي أُكُله في إيران، كأنّما وجد الإيرانيّون في كلماته دافعاً للمطالبة بالحقوق المهضومة، المذابة في بوتقة الإسلامويّة الفارسيّة، أو لربّما هكذا شاءت المصادفات التاريخيّة، أن يسبق أحدها الآخر، كي يُنسب إليه.. أو لربّما، وهذا احتمال آخر، أنّ ما كانت إدارة بوش قد خصّصته من مبالغ ضخمة، قبل سنوات، لإثارة الأقلّيات في إيران قد بدأ ينتج تداعيات سيكون لها تأثيرها الخطير في مستقبل إيران التي ظلّت منظومتها الأمنيّة عصيّة على الاختراق طويلاً..
مع الوقائع الخطيرة على الأرض، تتناسى السلطات الإيرانيّة ممثّلة بالمرشد الأعلى للثورة، الأسبابَ الرئيسة، لتلتفت إلى اتّهام الغرب علناً بالتدخّل، تمهيداً لتفتيت إيران، وهذا ما كان مُبطَّن الخطاب، علاوة على التهديد والوعيد اللذين كان الخطاب/ الخطبة، مشبعاً بهما.. عدا القدسيّة المضفاة على كلّ رؤاه التي تأتيه من علياء مظنون.. وهو بذلك لا يتّهم الغرب، بل يخوّن شريحة كبيرة من أبناء الشعب؛ شعبه، رفضت الانقياد للتزوير الذي قرّرت التشهير به وفضحه.. كما أنّه يتناقض في جوهره مع نفسه، عندما وصف المرشّحين كلّهم بالأهليّة والاستحقاق، لكنّه تعدّى الافتراض إلى نفي الاعتراض، ووجوب القبول بالنتائج، والاعتماد على الوليّ الذي يكون ملاذ المعترضين. كما جاء وصفه للمتظاهرين بالمشاغبين، تتويجاً لنجاد، وتمجيداً لسياساته المتّبعة، والمستقبليّة.
بمقارنة جسامة ما يحدث على الأرض في إيران، مع ما ينقل منها وعنها، فإنّ وسائل الإعلام لا تتمكّن من الحصول إلاّ على النذر اليسير، حيث مشاهد قليلة، صور محدّدة، مقاطع فيديو قصيرة، تهرَّب، بطريقة أو بأخرى، لتنقل جانباً من الواقع الذي يبحر فيه الإيرانيّون.. صور قتلى وجرحى وانفجارات، تذكّر بالحرب الكارثيّة على غزّة، أو بصور التفجيرات المتكرّرة في العراق، مع اختلاف بين الأطراف هنا، حيث الاقتتال الدائر، يشكّل شرارة للحرب الأهليّة التي تكاد أن تبدأ، ولا تتوانى السلطات الإيرانيّة عن تخوين «المارقين»، واتّهامهم بالعمالة للغرب، ذلك أنّهم يحتجّون على القداسة التي تُضفَى على كلّ الأفعال والتصرّفات التي تصدر عن الإمام، الذي لم يعد معصوماً عن الخطأ عند هذه الفئة التي توصَم بالضلال والإرهاب..
الصور والمشاهد التي تعرض جانباً ممّا يجري في الشارع الإيرانيّ، تمثّل اختراقاً للمنظومة الإيرانيّة التي تعتبر بمثابة حصن حصين ظلّ عصيّاً على الاختراق طويلاً، ثمّ جاءت الدعوات الإصلاحيّة والانفتاحيّة من قلبه، ساعية إلى تغيير تفترضه المستجدّات..
اختلف التعامل والتعاطي من قبل وسائل الإعلام مع الأخبار القادمة من إيران، لكنّها التقت في نقطة المنع المفروضة على كلّها، بقي الإنترنيت سيّد الحدث، ذلك لتحرّره الجزئيّة من الرقابة المُحكَمة، فنقلت معظم وسائل الإعلام أخبارها وصورها عن موقع «تويتر»، هذا مع الحرص الدؤوب من السلطات الإيرانيّة على تصدير الأزمة، ونقل الجمرة التي رقدت تحت الرماد، لتحرق بها أعداءها..
جنّيّ القمقم الإيرانيّ ينعتق من إساره، تتحوّل إيران إلى ملعب للأحداث لا لاعب بها، أو متلاعب، أو محرّك لها عن بعد في الساحات الإقليميّة التي كانت تدير فيها حروبها من خلف حجاب..
هل ما نشهده اليوم من صور الحرائق والنيران والتفجيرات والرصاص والدماء هي ثورة على الثورة.. أم أنّ النظام الإيرانيّ أصلب من «المؤامرات»..؟!
ذاك القمقم الإيرانيّ المغلق على الأسرار، المسكون بالمحظورات، انكشف، فهل يروَّض الجنّيّ القابع فيه، أم أنّه قد تحرّر ولن يعود إلى سجنه..؟!
© منبر الحرية، 28 يونيو/حزيران 2009