يوسف عبد الرحيم أحمد ربابعة

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

يبدو الخطاب الإسلامي اليوم في مرحلة تاريخية من مراحل عمره الطويل، وهذه المراحلة تشكل نقطة تحول غير محسوسة، لكننا مع ذلك نرى أن اللحظة التاريخية تتشكل في أعماق الوعي الإنساني، وأن ملاحظة هذا التغير تكون عادة غير واضحة لأنها خفية وبطيئة، وتتحرك بثقل التراث الكبير الذي تشكل خلال قرون عديدة، وإن ما حدث في السنوات الأخيرة منذ احتلال العراق ومرورا بلبنان وانتهاء بغزة كلها نقاط مفاصل توقف الخطاب الإسلامي عندها حائرا مترددا لا يعرف أين يتوجه، فعندما كان رجال الدين يعتقدون أن بعض الدول تحكم باسم الإسلام وأن حكامها يستحقون لقب أمير المؤمنين، كانت هذه الدول نفسها تقف مع المحتل ضد دولة مسلمة، وقد استطاع الخطاب الإسلامي في ذلك الحين أن يجد ما يبرر وقوفه عاجزا، وذلك بالقول إن نظام البعث هو نظام كافر، ولا يجوز مناصرته، وعلى قاعدة( ضرب الظالم بالظالم)، وعندما أقدمت إسرائيل على ضرب لبنان والمدنيين فيه وقف الخطاب الإسلامي موقفا جديدا هذه المرة وكان عليه أن يتخذ موقفا أكثر وضوحا لا تأويل فيه، إلا أن بعض القوى الإسلامية استطاعت أن تتخلص من وخز ضميرها وذلك بمبررات طائفية، فحزب الله هو حزب شيعي يبطن خلاف ما يظهر، ولكن آخر المفاصل ما حدث في غزة فقد أثار الكثير من الأسئلة الحائرة في نفس الإنسان الذي يرى ويسمع، وظهرت هناك رؤية جديدة للعالم الإسلامي، تتناقض مع ما استقر في وعي المسلم حول العقيدة الإسلامية وتصنيفاتها للمسلم وغير المسلم، وتصدعت مقولات الأمة الواحدة، بل ربما تغير مفهوم الأمة، وهذه التصنيفات باتت هشة أمام الواقع المؤلم تحت وطأة ومأساة الصورة والخبر، ولما كان المسلمون يعتقدون أن القاعدة الشرعية تقول : ” المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله”، هذه القاعدة التي كانت توحد بين المسلمين على اختلاف منابتهم ومشاربهم، وهي قاعدة يواجهون بها أعداءهم، ويلجؤون إليها عندما تقع بهم المصائب وتحيق بهم الأخطار، وفي اللحظة التي كانوا أحوج ما يكونون إليها لم تصلح هذه القاعدة لآمالهم وطموحاتهم، ولكن الذي حدث هو على غير المتوقع، فإن تقسيمات العالم لم تعد متطابقة مع هذه التصورات، فالذين أبدوا تضامنا مع المسلمين في غزة لم يكونوا كلهم من المصنفين في دائرة الأمة الإسلامية، حسب التصنيف العقدي الموروث، بل الذي حصل هو العكس تماما، فإن كثيراً من القوى الفاعلة في العالم والتي كانت تسعى لوقف العدوان وإبداء التضامن بكافة أشكاله كانت من غير المصنفين إسلامياً، والدول غير الإسلامية كانت أكثر تعاطفا وأكثر تأثيرا من بعض الدول الإسلامية، والأكثر من ذلك أن المظاهرات التي كانت تخرج في دول العالم غير المسلم – حسب تصنيفات العقيدة – كانت أكثر وأكبر من المظاهرات التي تخرج حتى في الضفة الغربية،ومن هنا كيف لنا أن نصنف الناس بناء على هذه المواقف؟ وهل يمكن للخطاب الإسلامي أن يخضع لمراجعات جذرية حول تعريف المسلم والكافر؟ وهل سنخرج من هذه التصنيفات التي تختزل الإنسان إلى مقولات قانونية خالية من الروح؟.
إن الخطاب الإسلامي اليوم مطالب أن يوسع دائرة النظر إلى مفهوم الأمة الواحدة، وهي الأمة التي تضم المسلم وغير المسلم تحت تصنيف جديد يقوم على مبادئ الحق والباطل، ويستند إلى العدالة ويرفض الظلم، وهي مبادئ إنسانية لا بد من النظر إليها على أنها هي الإسلام الذي يسعى إلى تحرير الإنسان والدفاع عن حقه في الحرية والكرامة والحياة، وهذه المبادئ سوف توسع دائرة الإسلام ليرقى إلى دين عالمي يقف مع المظلومين في العالم كله دون النظر إلى التصنيفات العقدية التي تخرج الناس وتدخلهم في أطر ضيقة غير قادرة على استيعاب التطور، ويبدو أن تحولات هذا الخطاب بدأت ملحوظة من خلال ما نسمعه على شاشات الفضائيات من بعض العلماء المسلمين.
إن مفهوم الأمة الواحدة الذي تحدث عنه القرآن الكريم يختلف عن المفهوم المتوارث، فمن الناحية اللغوية في قوله تعالى” إن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاعبدون” تفيد دلالة تركيب الآية من خلال توكيد الخبر والحال بأن الأمة تكون أمتكم في حال كونها موحدة، فإذا كانت متفرقة فهي ليست أمتكم، ثم إنه ليس هناك محددات للوحدة، فربما تكون أمة واحدة على اختلاف أديانها، وهذا ما يظهر جلياً  في وثيقة المدينة، حين كتبها الرسول محمد عليه السلام فقال:” أهل المدينة أمة من دون الناس” وكان فيها المسلمون واليهود في ذلك الوقت، أي أن مفهوم الأمة الواحدة كان مبنيا على أسس جغرافية و إستراتيجية، ومصالح مشتركة، ولم تكن مبنية على الأساس الديني.
ومن هنا يبدو أننا أمام حالة جديدة من المفاهيم التي يمكن أن يتعامل معها الخطاب الإسلامي بطريقة أقدر على استيعاب المفاهيم الإنسانية التي جاء بها القرآن الكريم وحث عليها، دون النظر إلى الحيثيات التاريخية التي ضيقت المفهوم عبر صراع طويل من المصالح والأهواء السياسية المتسلطة والآفاق الضيقة.
© منبر الحرية، 29 مايو 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

يقول ابن خلدون :” التأريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم… وهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكّبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا اعتُمد فيها على مجرد النقل .. فربما لم يُؤمَن فيها من العثور ومزلة القدَم والحَيَد عن جادة الصدق” لقد ظل التاريخ على قِدمه علماً مشكوكاً بعلميته وسرداً مشكوكاً بصحته وأحداثاً مشكوكاً بصحتها، وهو مع كل ذلك يسير ويتطور ولا تستغني عنه الأمم في جميع مراحلها. ومن هنا فإن السؤال الذي يراودنا دائماً: من أين حصل التاريخ على هذا البريق؟ ولماذا يبقى الإنسان ينبش الماضي ويبحث فيه عن ضالته التي لا يجدها؟ .
إن الفلسفة التي تقف خلف بحث الإنسان الدائم عن معرفة الماضي لا يمكن أن تعود فقط إلى حب الاستطلاع والفضول الذي يتميز به الإنسان عن غيره بل لا بد من سبب آخر أكثر عمقاً وأقدر على تفسير الظاهرة، لقد قال المؤرخون ” إن الإنسان واعٍ بالعيش في التاريخ ولا يكتفي بالخضوع للزمن وكأنه قدر محتوم فماهية الإنسان هي وعيه بالتاريخ” فالإنسان ليس ابن اللحظة الراهنة فقط بل هو ابن الزمن الممتد ولا يتحقق وجوده إلا لكونه متصلا مع الماضي وأي انقطاع يسبب له الضعف والتقهقر، ولذا فإن الأمم تسعى دائما إلى كتابة تاريخها والتغني به، وإذا لم يكن لديها تاريخ فإنها تصنعه لإثبات حق أو نفي شبهة أو تعميق وجود.
وإذا كان الإنسان متعطشاً في حاضره لمعرفة ماضيه فإن ذلك يقودنا إلى التساؤل حول صدق التاريخ بوصفه عملية نقل لما حدث، لأن ما حدث لا يمكن معرفته على الوجه الذي كان عليه تماماً، فليس هناك تطابق بين الماضي ومعرفة الإنسان له، فالتطابق مرهون بما يتوفر للمؤرخ من وثائق وشواهد وقدرة على الإلمام بالماضي وسبر أغواره على أن التطابق التام صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً. وهو بوصفه عملية تقريب بين ما حدث في الماضي والماضي ذاته فإنه يصبح عملية معقدة غير قابلة للقياس والموضوعية، لأن الحدث التاريخي عندما يتحول إلى عملية تأريخ فإنه يكون للمؤرخ عندئذ دور ذو أهمية بالغة فيه، إذ لم يعد الحدث موجوداً للحكم عليه، بل تصبح رؤية المؤرخ هي القراءة الجديدة المتوفرة، فهل لدى المؤرخ القدرة على الانفكاك من ذاتيته وعواطفه وأحاسيسه ليدرس الماضي دراسة موضوعية؟ وما هي العلمية التي يجب على المؤرخ أن يتقيد بها عند دراسة الماضي؟ هل هو العلم كما يفهمه علماء الطبيعة، وذلك باستنتاج الوقائع والأحداث من علاقات حتمية علمية وقوانين موضوعية؟ فحتى العلوم الطبيعية لا تؤمن بوجود تفسير شامل وكامل ونهائي للظواهر الطبيعية، وكما يقول ( كارل بوبر) : ” إن أي حقيقة علمية ليست حقيقة لأن التجربة أثبتتها بل لأننا لم نتوصل بعد إلى إثبات عكسها”، وإذا كان الأمر كذلك فهل مهمة المؤرخ تنحصر في سرد الأحداث ووصف الوقائع؟ ومن ثم تنتفي عن التاريخ صفة العلمية التي تقتضي التقنين والموضوعية، ويتحول إلى عمل سردي لا يتميز كثيراً عن الأدب. وإذا كانت أحداث التاريخ لا تتكرر بالمعنى العلمي للظواهر الفيزيائية والكيميائية فإن المؤرخ لا يستطيع وضع نظرية يطبقها على كل الأحداث المتشابهة؛ لأن أي حدثين مهما كانت أوجه التشابه بينهما كبيرة سيبقى هناك اختلاف حتى لو كان قليلاً، وحتى لو اتفق المؤرخون على مضامين أحداث معينة ونتائجها فهم ليسوا قادرين على التنبؤ بالحدث المتوقع في المستقبل، كما هو الحال عند علماء الفلك مثلاً حين يتمكنون من تحديد زمن كسوف الشمس قبل حدوثه، لأن قوانينهم منطقية ومبنية على سبب ونتيجة،وهذا غير متوفر لعلماء التاريخ.
ورغم ذلك كله فإن المؤرخ مطالب بأن تكون صناعته علمية ومنهجية، وعليه أن يتجرد من ميوله ونزعاته ورغباته، وقد أثبتت التجارب أن كثيراً من المؤرخين – رغم ادعائهم الالتزام بالموضوعية – عجزوا عن الانسلاخ من بيئاتهم وقاموا دون أن يشعروا بإسقاط أفكار حاضرهم على الماضي، ولو قدر للمؤرخ أن يعكف على دراسة الحاضر فهل بإمكانه بلوغ الحقيقة؟ وله ما له من ذلك الكم الهائل من الوثائق والإحصاءات والمعلومات والصور والتقارير التي بإمكانه الحصول عليها من الفاعلين الذين صنعوا الحدث. فهل سيعطينا الحقيقة بعلمية وموضوعية أم أنه سيتحول إلى صحفي جيد لا غير؟
وإذا كانت علمية التاريخ مستحيلة التحقق فإن ذلك يدعو إلى النظر في الهدف منه، ومدى جدواه وفائدته للحاضر. ومن هنا نرى أنه ليس مطلوباً من المؤرخ أن يكون علمياً وموضوعياً لأن ذلك صعب التحقق ولكن مطلوب منه أن يكون على مستوى الحدث من حيث القدرة على القراءة والنقد والتحليل وإعادة الإنتاج، فالعملية التاريخية كما قال ابن خلدون ليست نقلا محايداً، وكل قراءة في التاريخ هي إعادة إنتاجه ليخدم الحاضر، فالمؤرخ الجيد ليس محايداً بالمعنى العلمي المطبق في العلوم الطبيعية، بل هو مشارك في صناعة الحدث القادم من خلال استنفار القوى المحركة في الحدث الماضي، وإذا كان الإنسان ابن الحلقات المتصلة في الزمن كما قلنا سابقاً فإن ذلك يعني أن على المؤرخ البحث عن حلقة الاتصال التي تربط الحاضر بالماضي ليكون فاعلاً ومؤثراً، وإلا فما الفائدة من نقل الأحداث، كما صنع كثير من المؤرخين العرب كالمسعودي والطبري وابن كثير، فالتاريخ لم تعد أهميته تكمن في معرفة أخبار المدائن والدول والممالك والحروب والغزوات والانتصارات والهزائم، بل هو بحث دائم عن النص الغائب في كل حدث من خلال المقارنات والمقاربات، ثم إعادة إنتاج النص الغائب بما يوقظ الحاضر ويجعله قادراً على التأثير، وليكون محفزاً للواقع فيحرره من وهمه ويدفعه إلى الأمام.
إن مهمة الحدث للمؤرخ ليست في معرفته حقيقته وليست في معرفة صادقه من كاذبه، بل هي في استدعائه للمساعدة في اللحظة المناسبة ليصنع منه نصاً جديداً  قادراً على التفاعل مع الواقع، ومن ثم ليكون الماضي مؤثراً في الحاضر.
© منبر الحرية، 6 مارس 2009

منبر الحرية3 نوفمبر، 2010

 حاصل على دكتوراه في اللغة والنحو من الجامعة الأردنية و أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية – جامعة فيلادلفيا – الأردن. كما أنه رئيس اللجنة الثقافية لكلية الآداب – جامعة فيلادلفيا وعضو اللجنة التنظيمية لمؤتمر فيلادلفيا الدولي.


فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018