عزيز مشواط10 نوفمبر، 20100

بيدها اليمنى تحرك فأرة الحاسوب بأحد محلات الانترنيت الشعبية، وباليد الأخرى تحاول جاهدة إغلاق برقعها الشديد السواد، خوفا من ظهور خصلة شعرها الثائرة من تحت حجاب. هكذا بدت إحدى ساكنات حي سيدي مومن الصفيحي الذي خرج منه أغلب منفذي انفجارات الدار البيضاء الدموية لسنة 2003 بالمغرب. غير بعيد عن المشهد شخص آخر بلباسه الأفغاني الغريب ينزل من سيارة مرسيديس منهمكا في اتصال هاتفي مستعملا آخر صيحة من الجيل الجديد لماركة نوكيا العالمية.
في الدار البيضاء المغربية، كما في القاهرة المصرية، وفي عمان الأردنية، أوجكرتا الأندونيسية يتكرر المشهد ذاته. إقبال منقطع النظير على التكنولوجيا والوسائل الحديثة للاتصال ورفض لقيم منتجيها في ثنائية صعبة تعكس تمزقا داخليا. إنه صراع حضارات بصيغة مختلفة، ليس كما نظر له هنتنغنون، كصراع بين ثقافات وحضارات وإيديولوجيات متباعدة. بل صراع فرضته تطورات العولمة، ويعيشه المواطن الواحد والأسرة الواحدة والبلد الواحد.
من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق يعيش العالم العربي الإسلامي الصراع ذاته. إنه صراع حضارات مختزل في نفس الفرد، وفي نفس المدينة. في المدن واجهات حديثة وشاشات عملاقة تعرض إشهارات أسماء كبرى الشركات العالمية، وفي الهامش أنماط حياة تتعايش مع الفقر وتجد ساكنتها في الدين ملاذا للاحتماء. وفي الفرد الواحد ازدواجية في التفكير بين ممارسات مغرقة في الحداثة وأصولية تعكسها السلوكات اليومية.
صاحبة البرقع قبالة شاشة الحاسوب وممتطي المرسيديس بجهاز نوكيا في اليد، مشهدان يختزلان صراعا حضاريا بين رغبة أكيدة في الاستفادة من أحدث الإنتاجات العالمية من جهة، ونزوع آخر نحو تكفير الغرب وحضارته “المارقة” من جهة أخرى. إنها ازدواجية تلفيقية تنبع من ضرورة انتقاء ما “هو مفيد وصالح للأمة فقط ودرء ماهو فاسد” بتعبير السلفيين المتطرفين.
يتصارع في العالم العربي الإسلامي ثلاثة تصورات متناقضة :أنصار الارتماء في أحضان الغرب بدون تحفظ، والإسلاميون المتزمتون الحاقدون على الحداثة بمختلف مظاهرها، والأنظمة الحاكمة التي لا يهمها سوى الحفاظ على الكراسي والامتيازات. أما الشعوب فمعظمها غارق في أحزان الفقر والبؤس والحرمان، مع غير قليل من الأمية والجهل والتضليل. عوامل تساهم مجتمعة في إعداد التربة الخصبة للتطرف والعداء غير الخاضع لأي منطق.
يساعدنا هذا التقسيم للشعوب العربية الإسلامية في فهم أسباب انتشار مشاعر العداء في صفوف الفئات المحرومة اتجاه ما هو حديث. وهنا لا بد من عكس أحكامنا لفهم الحقد الذي تكنه هاته الأوساط للغرب. إنه ليس حقد الذين أخذ منهم كل شيء، بل حقد من توجد على مقربة منهم كل المنتجات الغربية دون أن يكون لهم الحق في الاستفادة منها .
إنه حقد مرتبط  بنظرة اختزالية تصور الغرب كثقافة شيطانية تحض على الاستغلال وتنشر الرذيلة والفاحشة والتفرقة. بل هي مسؤولة عن كل المآسي والشرور. إضافة إلى هاته النظرة الاختزالية، أسهمت مشكلات ثقافية دولية في تعزيز هذا التباعد رغم كل المجهودات من أجل تقريب الشعوب فيما بينها، وهنا نستحضر أزمة الرسوم الدانمركية، وأزمة تصريحات البابا بنديكت السادس عشر، وأزمة الحجاب بفرنسا، وتصريحات بعض القيادات الغربية الدينية السياسية المسيئة للمسلمين.
ورغم تنامي قوى العولمة والاتصالات وسهولة عملية التواصل مع الآخر، فإن هاته المشكلات تعزز مواقف المتطرفين من الجبهتين، فيتحول الخلاف الثقافي بين المسلمين والغرب إلى خلاف حتمي. إن مسؤولية الفهم المتبادل تقع على عاتق الطرفين، لأن المؤسسات الغربية وخاصة الإعلامية منها وهي تقدم صورة نمطية للمسلم المتطرف المتعطش للقتل والدماء، إنما تزيد في تعميق التباعد.
وبالمقابل فإن تقصيرا كبيرا يشوب عمل القوى المتنورة في المجتمعات العربية الإسلامية، لأنها تعفي  نفسها من  مسئولية فهم المجتمعات الغربية وتفاصيل ما يدور بهذه المجتمعات وسبل توعيتها بصورة الإسلام الصحيحة، خاصة في ظل تنامي أعداد المسلمين بالدول الغربية، وانفتاح أعداد متزايدة من أبناء تلك المجتمعات على فهم الإسلام والمسلمين.
إن الخوف المرضي المتبادل يجب أن يكافح على مستويين أساسيين، أولهما تبني بعض البرامج العلمية المنظمة لتوعية المواطن الغربي على نطاق واسع ومدى طويل نسبيا بصورة الإسلام والمسلمين الصحيحة، والواضح هنا أن العالم الإسلامي مازال يفتقر بوضوح لبرامج تقدم الإسلام كدِين سلام وليس دينا عدوانيا. أما المستوى الثاني فيهم الغرب نفسه الذي يحتاج إلى أدوات جديدة لبناء الثقة مع المسلمين من خلال حوار بلغة وأدوات يفهمها العقل الإسلامي. إذاك فقط يمكن للحضارات الإنسانية أن تعيش في سلام دائم تحقيقا لآمال فيلسوف التنوير الألماني الألماني إمانويل كانط.
© منبر الحرية، 22 مارس 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018