لابد من وقفة موضوعية جادة لرصد ظاهرة المراكز العلمية ومراجعة أدائها في دول الشرق الأوسط، وفي منطقة الخليج على نحو خاص، حيث راحت مثل هذه المراكز تنتشر كـ”الفطّر” على نحو ملفت للنظر في الجامعات والمؤسسات الحكومية ووسائل الإعلام، ولدى القطاع الخاص في حالات معينة.
المهم في هذا السياق هو الإعتراف بأن هذه الظاهرة صحية وواعدة بقدر تعلق الأمر بإعداد مثل هذه المراكز وبحقول تخصصاتها وتشعباتها التي تمتد لتحتضن مديات واسعة من الحقول العلمية: إبتداءً من دراسات السيرة والسنة النبوية الشريفة، مروراً بالبحوث الإستراتيجية والسياسية، وإنتهاءً بأبحاث التمور وألعاب الأطفال التراثية. ولكن مع هذا التوكيد على فوائد هذا النوع من النشاط، ينبغي رصد جدواه ومعطياته ومخرجاته الواقعية الملموسة تجنباً لتحول مثل هذه المراكز إلى مجرد ” تقليعة ” تعبر عن “حمى” لتأسيس مراكز غير مجدية أو مراكز بأسماء وأقنعة علمية مغرية يراد لها إخفاء الترهل والتغطية على قنوات صرف الأموال وإستحلابها من الرعاة بلا إنتاج حقيقي ملموس يرقى إلى المتوقع والمرجو.
ولكن قبل مباشرة مثل هذه الإستفهامات الحساسة، التي يمكن أن تستثير حفيظة البعض، يتوجب التسليم بحقيقة أن ظاهرة المراكز العلمية التخصصية إنما هي من إفرازات “محاكاة” المؤسسات العلمية الغربية، ذلك أن الأقاليم العربية لم تكن على معرفة وتجربة ملموسة بمثل هذه المراكز، اللهم بإستثناء تجربة قديمة ومنسية، وهي تجربة “بيت الحكمة” البغدادي الذي تاسس على عهد الخليفة العباسي المأمون لرصد وترجمة وأرشفة النتاجات العلمية للأمم الأعجمية، من أجل إفادة رأس الدولة والمختصين في الطب والفلسفة وسواهما من علوم ذلك العصر. بإستثناء هذه الحالة العتيقة والنادرة، لم تشهد حركة الثقافة والعلوم في البلدان العربية مراكزاً من هذا النوع، نظراً لعدم وجود الرعاية Sponsorship أو المؤسسات الأكاديمية والسياسية التي تحتاج إلى مثل هذه المراكز عبر العصور المظلمة بعد سقوط بغداد على أيدي هولاكو خان عام 1258م. لذا يمكن أن نخلص إلى أن هذه المراكز حديثة العهد في منطقتنا لأنها لم تكن سوى صدى للمراكز العلمية الغربية، صدى جاء إلينا بسبب الإحتكاك بالغرب ونتيجة لزيادة أعداد خريجي الجامعات الغربية في الأقطار العربية والإسلامية.
لذا فإن الظاهرة هي نوع من أنواع التشبث بالتقدم العلمي الذي أحرزه الغرب كي يتحقق مثله في الدول العربية. ويبدو أن الإنتشار السريع والواسع للظاهرة في مختلف دول الخليج يتصل بقوة بفوائض الموارد المالية الآتية مع تصدير البترول. لقد حضيت مقترحات تأسيس مثل هذه المراكز العلمية بالدعم والرعاية من قبل الممولين في المنطقة على نحو مشجع، وربما غير متوقع، الأمر الذي يفسر تسابق البعض إلى “إبتكار” الأفكار والموضوعات لتقديمها للرعاة كي تتم الموافقة عليها ويتم تأسيس المركز المطلوب على اسس مالية واعدة. وقد كانت الحكومات العربية (نظراً لإهتمامها التقليدي بالحقول التنموية والعلمية) وراء تمويل مثل هذه المراكز، الأمر الذي حدا (فيما بعد) بالمستثمرين والميسورين من الأفراد والشركات إلى تأسيس ودعم مراكز علمية من هذا القبيل، إما لخدمة مصالحهم وأهدافهم الحرفية الخاصة، وإما من أجل الصالح العام، حيث لاحظت في رصد إحصائي لمثل هذه المراكز ثمة ممولين أرادوا تخليد أسماءهم عبر تأسيس مثل هذه المراكز المختصة بالتراثيات والمأثورات أو بالدراسات الدينية، كنوع من أنواع “الأعمال الخيرية”. ومن ناحية أخرى، حاولت بعض الحكومات التعبير عن رعايتها لأصحاب الكفاءات من حملة الشهادات التخصصية العليا عن طريق تأسيس مثل هذه المراكز على أساس “ضرب عصفورين بحجر”، من خلال إجراء المكافآت والمرتبات السنوية لهؤلاء المتخصصين من ناحية، والإفادة من معارفهم وأبحاثهم على سبيل توظيفها في عملية صناعة القرار السياسي (كنشاط إستشاري)، من الناحية الثانية. أما الجامعات العربية، فقد إضطلعت بمشاريع من هذا النمط المؤسسي، بيد أنها بقيت أدنى مما كان مرسوم لها، ذلك أنها لم ترقَ قط إلى مستوى المراكز العلمية التخصصية ومراكز الدراسات الإقليمية في الجامعات الأميركية والأوربية الغربية عامة. ويرد سبب ذلك إلى إنهماك بعض الجامعات العربية بعمليات التخريج بالجملة، زد على ذلك ضعف التمويل الذي تحظى به مثل هذه المشاريع التي تعد “فرعية” في بعض الأقطار العربية. بل أن مثل هذه المراكز العلمية الجامعية وصلت حداً من التدني أنها صارت نوعاً من “المنفى” للتدريسيين من الجامعيين غير المرغوب بخدماتهم في قاعة المحاضرات، أما لأسباب فردية أو لأسباب سياسية أو لسواها من الأسباب. لذا لوحظ وجود مراكز علمية متخصصة بأسماء كبيرة ولكن بمخرجات مجهرية صغيرة في عدد من الجامعات العربية التي تفتقر أصلاً لما يكفي من الكوادر العلمية الرفيعة القادرة على الإبتكار والأصالة في البحث.
وفي مقابل هذه الحال، برزت ظاهرة الإندفاع الواسع الذي عبر عنه العديد من حملة الشهادات العليا والمتخصصين نحو الإنضمام أو الإلتحاق بمثل هذه المراكز العلمية (في الدول الغنية) نظراً لأنها تقدم المرتبات العالية والإيفادات العلمية المغرية دون الحاجة إلى العمل المثابر لساعات طوال وعلى نحو دوام رسمي، بإعتبار أن المنتمي إنما هو “باحث” لا يحتاج إلى مثل هذه التعقيدات الشكلية. وهكذا صارت بعض المراكز العلمية “لا علمية”، بل غدت نوعاً من أنواع البطالة المقنعة. ومن ناحية أخرى، شهدت وسائل الإعلام حالة من الإنجراف في تيار تأسيس المراكز والنوادي العلمية على سبيل تجهيزها بالمواد الصالحة للنشر أوللضخ الإعلامي، الأمر الذي يبرر إعلانات الفضائيات العربية وبعض الصحف تاسيس مراكز من هذا النوع، ليس فقط من أجل تحقيق مثل هذه الأهداف، وإنما كذلك من أجل منح وسيلة الإعلام المذكورة مسحة من “الرصانة” العلمية وشيئاً من “الوجاهة” أو السمعة التي قد ترقى بها إلى مصاف (نيويورك تايمز) أو الـ(CNN). بيد أن الملاحظ هنا هو إساءة توظيف مثل هذه العناوين الكبيرة عبر نتاجات أدنى مستوى من المتوقع والمأمول. إن هذا، بطبيعة الحال، ليس بتعميم أعمى لأنه لا ينفي وجود مراكز بحث ودراسات إعلامية متخصصة بدرجة عالية من الجدوى و الفائدة الملموسة.
ولكن من منظور آخر، تبقى حالة هدر الأموال والتغطية على غياب الجدوى العلمية حالة مغرية لمتابع هذا الموضوع في بعض الدول العربية. والدليل هو تحول بعض هذه المراكز العلمية، بأسمائها المبهرجة والكبيرة، إلى مجرد “مكاتب” وسكرتيرات وحواسيب لجمع الغبار. بل أن بعض المراكز التي تعد نفسها أكثر نشاطاً هي تلك التي “تتوج” عملها العلمي بإصدار مجلة أو دورية متخصصة فصلية أو شهرية أحياناً من أجل أن تقدمها للجهة الراعية أو الممولة كتوكيد على نشاط المركز الذي يشبه نشاط وحيوية عمل النحل في بناء خلاياه. ولكن رصد المؤلفات والأبحاث المنشورة في مثل هذه الدوريات يبرهن على أن المركز لا يؤدي ماهو متوجب عليه من دراسات وأبحاث لأنه يستعين بأقلام باحثين من خارج المركز، من هؤلاء الذين يريدون نشر أبحاثهم في أي إناء علمي معتمد أكاديمياً. مثل هذه المراكز كثير للغاية: فعلى الرغم من فوائد أنشطة النشر من هذا النوع، على سبيل تشجيع حركة النشر العلمي، تبقى المراكز “ستائر” لإخفاء البطالة المقنعة بداخلها.
هذا هو ما يسحبنا تلقائياً إلى ضرورات التمييز بين مراكز البحث العلمي من ناحية، وبين دور النشر من الناحية الثانية. وهذا مأزق طالما أرّق القياديين الأكاديميين الجادين الذين كانوا يريدون للمراكز العلمية التي يؤسسونها أن تكون مراكز بحث علمي بحق (بباحثين جادين ومثابرين، وبمكتبات كبيرة، وبمشاريع علمية مخططة ومدروسة مركزياًُ، بأهداف رصينة ومفيدة)، وليس دوراً للنشر تبحث عمن يضنيه البحث عن الناشر كي تنشر كتابه أو بحثه ضمن سلسلة أوراق أو أبحاث يصدرها المركز، مقابل مكافآت مالية. ومن أجل المقارنة والمقاربة، على المطلع أن يلاحظ أن مراكز البحث الرفيعة في الجامعات والمؤسسات الغربية تخصص أموالاً طائلة وربما أسطورية من أجل إضطلاع باحثيها بدراسات عالية ودقيقة التخصص، ليس من أجل النشر بحد ذاته، بل من أجل تقديمها للراعي (حكومة أو مؤسسة خاصة) على نحو سري أو محدود التداول. بيد أن هذه الظاهرة قلما تحدث في العديد من الدول العربية، نظراً لتباين المنظور (منظور الجهة الراعية) وبسبب تدني المستوى العلمي والدافعية البحثية في حالات عديدة منظورة. بل أنني قد لاحظت، عبر تجارب وزيارات شخصية عديدة أن بعض مراكز البحوث والدراسات “الإستراتيجية”، أن هذه المراكز إنما هي في جوهرها مجرد يافطات للإعلان، لأنها لا تزيد عن مكتب مستأجر في بناية، زائداً موظف او موظفة مع شيء من المرطبات الساخنة شتاءً، والباردة صيفاً.
هنا تكمن المعضلة الجوهرية في ظاهرة “محاكاة” الغرب شكلياً، ولكن بدون محاولة تحقيق ذات النتائج المرجوة من عمليات تأسيس المراكز العلمية المتخصصة لدينا في الأقطار العربية. إن هذه المراكز الموجودة، أو المزمع إقامتها، حيث نتلقى دعوات الإسهام بها هذه الأيام، هي بحاجة ماسة إلى المراجعة الشديدة والدقيقة من قبل الجهات الراعية والعاملين بها أنفسهم على سبيل تفعيلها وإحالتها من مراكز لجمع شحوم الترهل والتكاسل، إلى مراكز مجدية ونابضة بالحياة ترقى بصانع القرار السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي إلى مستوى المرجو من العطاء.
© منبر الحرية، 30 دجنبر/كانون الأول2009