محمد الدعمي

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لا يمكن للمرء أن يخفي شعوره بالحيرة حيال ما يذهب إليه البعض من رأي غريب حول العمل لتحقيق “مصالحة” بين الإسلام والمسيحية. الكلام عن “المصارحة” ثم المصالحة بين هذين الدينين الكبيرين (باعتبار عدد الأتباع والإنتشار الجغرافي) تنطوي على وجود ثمة “خصومة”. ولا يدري المرء من أين أتت هذه الخصومة: هل هي من أصول وسيطة تضرب بجذورها في عصري الفتوحات الإسلامية ثم الحروب الصليبية، أم أنها من أصول معاصرة متطرفة تشتق فكرة العمل السياسي من إفتراض وجود صراع ديني؟ هذه أسئلة تستحق المناقشة، ذلك أنها تفرض على الصراعات الجارية اليوم أطراً دينية وحيدة الجانب. وهذه ليست حقيقة أو جوهر الأمر.
إن فكرة “الخصومة” بين الإسلام والمسيحية لا يمكن أن تكون مقبولة إلا بحسب معايير مختلة وخطيرة تنتشر هذه الأيام، ومن أهمها المعيار المعتمد على تقليص صراع الحضارات أو الحوار الثقافي إلى جزئية دينية مبتسرة ومخلة. فإذا ما كان هذا التقليص المشوب بالعصبية الطائفية وبالخلل يعتمد الإختلاف في الأنظمة الدينية، نكون قد قدنا أنفسنا نحو خصومات جديدة لسنا بحاجة إليها ولا تخطر على بال أحد. إن ثنائية التنافر/الخصومة قد تقودنا إلى حال من نوع أننا في خصومة مع الديانات العالمية الكبرى الأخرى كالهندوسية والبوذية والكونفشيوسية، من بين سواها من الأنظمة الدينية القديمة والتي يحتضنها الملايين من البشر. ولكننا ندرك جيداً أننا كمسلمين لسنا أعداء للهندوس ولا للبوذيين ولا للقبائل البدائية التي تؤمن بأنظمة روحية من أنواع مختلفة. إذاً، هل تنطلق المصالحة مع المسيحية من حقائق جغرافية/تاريخية قادت إلى إرتطامات بين كينونات مسلمة وأخرى مسيحية، نظراً لحقائق الجوار الجغرافي بين العالمين الإسلامي والأوربي المسيحي. ولنا في فتح الأندلس والبقاء العربي/الإسلامي المتحضر في شبه جزيرة إيبريا لثمانية قرون نموذجاً للطبيعة “الدورية” للتاريخ التي ترفع الأمم وتخفضها (حسب معايير التفوق والتقدم) على إيقاع أنماط تكرار تقدمها حركة الزمن في تيار التاريخ. ولنا، ثانية، في العصر الذهبي للكولونياليات الأوربية نموذجاً آخر يتغذى على حقائق وقوع العالم العربي والإسلامي تحت إحتلالات ووصايات إمبراطوريات أوربية، كبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، ذات تركيبات سكانية مسيحية.
ولكن لماذا يخلط المرء بين التفوق الذي تفرزه حركة التاريخ عبر هرمية وجود الأمم المتنوعة من ناحية ثانية، وبين التنوع الديني، من الناحية الثانية. مثل هذا الخلط يمكن أن يقودنا إلى مشاكل فكرية وسياسية يصعب الإفلات منها. إن الأدلة عديدة على أن حركة الإستعمار الأوربي كانت تتحاشى الإحتكاك بالإسلام، ديناً ونظاماً روحياً وإجتماعياً. بل أن اية دراسة متعمقة لتاريخ الإمبراطورية البريطانية في الهند تعكس إنحيازاً واضح المعالم من قبل الإدارة الإمبراطورية البريطانية للمسلمين الهنود على حساب الهندوس. وقد كرس اللورد ماكولي Macaulay، برغم نظرته الدونية للحضارات الشرقية عامة، هذا الإنحياز عندما وقف أمام الإختيار بين المسلمين والهندوس (في مناسبة خلافية) داعياً إلى نصرة المسلمين لأنهم “أقرب إلى معتقداتنا”، بمعنى أنه إعتمد عقائداً مثل التوحيد والإيمان بالآخرة وسواها من العقائد الدينية المتشابهة مع العقائد المسيحية كتبرير لذلك الإنحياز. وتدل المدونات التاريخية للإمبراطوريات الأوربية أنها كانت تتحاشى وبدقة متناهية الإساءة للإسلام في الأمم التي فرضت عليها الوصاية. لقد كان ضباط الإحتلال يسارعون دائماً إلى الإتصال بطبقة العلماء المسلمين من أجل تهدئة المخاوف الدينية وتجنب الإحتكاكات ذات الطابع الطائفي. لذا لم تعتمد أهم حركات التحرر من الإستعمار الأوربي على خطاب ديني وحيد الجانب.
إن الجدل الذي إستعر في العصر الذهبي للإمبراطورية البريطانية حول الإسلام إنما كان مهماً للغاية. ويمكن تتبعه من خلال السجال الذي دار بين المستشرق المهم رتشارد بيرتن Burton (أفضل مترجم لألف ليلة وليلة) وبين التبشيريين. لقد دعا التبشيريون الإنجيليون إلى أن يسبق المبشرون جنود الإحتلال البريطاني في الأصقاع الأفريقية التي يتم إحتلالها. وعلى نحو معاكس لذلك، دعا العلمانيون (ومنهم بيرتن نفسه) إلى أن يسبق الجندي المبشرين، خشية إثارة الحساسيات الدينية. وهذا ما حدث فعلاً، بالرغم من أن الخوف الهاجسي الذي كان يستشعره رجال الدين في بريطانيا وفي سواها من الدول الأوربية حيال الإنتشار السريع للإسلام في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا، خاصة بين القبائل الوثنية. بيد أن علينا أن نتوقف عند حقيقة إستبعاد التبشير الديني المسيحي من “وليمة الإستعمار” عبر القرنين التاسع عشر والعشرين.
لم تكن الإدارات الإمبراطورية في باريس أو لندن ترنو إلى “سحق” الإسلام، ديناً ونظاماً إجتماعياً، ذلك أنها كانت تريد الهيمنة الإستعمارية والإقتصادية، وليس إلحاق “الهزيمة” بدين معين. والأدلة كثيرة على ذلك، ولكن أهمها كان قد قدمه أول المستعمرون القادمون إلى شرقنا العربي الإسلامي، نابليون بونابرت، الذي سارع فور وصول القاهرة إلى الإدعاء بأنه قد إعتنق الإسلام، واضعاً العمامة على رأسه ومتردداً على بعض الزوايا الصوفية هناك! لقد كان الجنرال الفرنسي يتصرف في مصر على أساس مصالح باريس، وليس على أساس مصالح الفاتيكان الذي تهيمن عقائده الكاثوليكية على أكثرية الشعب الفرنسي.
إن البناء على إفتراض خصومة أو نزاع ديني إسلامي / مسيحي قد يقودنا إلى معضلات خطيرة أخرى إذا ما وسعنا مداركنا، ومن أهمها معضلة طريقة التعامل مع الأقليات المسيحية الموجودة في العالم العربي الإسلامي، تلك الأقليات التي لا تشوب وطنيتها ودورها الإجتماعي البنّاء اية شائبة. والأدلة على ذلك أكثر مما يتوقع المرء. بيد أنه من المهم إستحضار نظرية الكاردينال “جون هنري نيومن” Newman Cardinal في كتابه المهم (تصويرات تاريخية: الترك وعلاقتهم بأوربا) Historical Sketches، ذلك أنه كان يصب جام غضبه على المسيحيين الشرقيين (الأتراك والعرب) لأنهم كانوا أخطر أعداء الكنيسة الكاثوليكية (حسب تعبيره) عبر سنوات الحروب الصليبية. لذا فأنه كان يكنيهم بأقسى النعوت، ذاهباً إلى أنهم كانوا أكثر خطورة في الحملات الصليبية على الأوربيين، مقارنة بالمسلمين أنفسهم. هذا الرأي هو الذي قاد نيومن إلى خلاصة مفادها أن الحملات الصليبية نفسها كانت قد فقدت بعدها الديني، الأمر الذي يبرر رأياً آخر يفضي إلى أن تشجيع الملوك الأوربيون للحملات الصليبية كان قد نبع، ليس من إيمأنهم الديني، وإنما من شعورهم بضرورات عسكرة المجتمع والتخلص من فائض القوة وطاقات التمرد من خلال إطلاق الحملات الصليبية نحو عالم آخر وتحت شعارات دينية عاطفية. وهكذا فقدت الحملات الصليبية، حسب هذا الرأي الحصيف، حتى معناها الديني لتغدو إجراءً سياسياً يعكس تحالف السلطة مع الكنيسة لخدمة أهداف أوربية داخلية لا صلة حقيقية لها ببيت المقدس، الأمر الذي يفسر الإحترام والتقدير العالي الذي خص به ملوك أوربا القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، حيث أنهم عدّوه مثالاً لفروسية رفيعة تفتقدها أوربا الآرية المسيحية آنذاك!
إن التاريخ يعكس شيئاً مثيراً للدهشة في تعامل الثروة والسلطة مع العواطف الدينية، حيث يوظف رأس المال هذه المشاعر لخدمته. وهذا يقود المرء إلى أن آليات الصراعات التي جرت وتجري بين أقاليم العالم الإسلامي والجوار الغربي لم تكن في جوهرها دينية، بقدر ما كانت ذات طبيعة سياسية وإقتصادية ركبت موجة العصبيات الدينية والطائفية لخدمة أغراضها الخاصة. وهذا حسب المعطيات المعاصرة الأكثر دقة هو ما يجري اليوم، ذلك أن رأس المال، الباحث عن المكاسب المادية، يرنو إلى دفع العالم نحو غياهب الصراعات الدينية والطائفية من أجل إرتقائه قمة الهرم الكوني.
© منبر الحرية، 1 مارس 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

إذا كان رصد وتحليل الظواهر الفكرية والسياسية التي تطفو على السطح من مهمات المراقب السياسي، فإنه لمن الغريب أن تمر الحالات الغريبة في عالمنا العربي دون ملاحظة أحد. ليس هذا مدعاة للإستغراب بقدر تعلق الأمر بظاهرة يمكن أن نطلق عليها عنوان الـ”نوستولجيا العثمانية” التي تنتشر بشكل غريب بين أعداد كبيرة من الشباب العربي، بين الإسلاميين خاصة. ومفاد هذه الظاهرة هو الأسف (المتأخر) على سقوط الإمبراطورية العثمانية بمساعدة فئات كبيرة من العرب، إذ يذهب هؤلاء إلى أن هذه كانت “دولة خلافة” إسلامية، ما كان على الشعوب العربية خذلانها للإنسياق وراء “الإستغفال” الذي قادته الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية لوضع العرب، في وقت لاحق، تحت رحمة أنواع الإحتلالات والوصايات بذريعة قيادتهم نحو الإستقلال. ربما تكون الأوضاع الحالية المرتبكة والمتردية في العديد من الأقطار العربية وراء هذا النوع من “الرجوعية” الغريبة، خاصة وان ما لا يقل عن ثلاثة أجيال سابقة كانت قد ثقفت وثقفت على اساس النيل من “النير” العثماني الذي ظل جاثماً على الشعوب العربية طوال قرون.
إن المفارقة، المدعاة للتندر، تتمثل في أن تركيا الحديثة، العلمانية اليوم، تجري وراء القيادات الأوربية من أجل ضمها إلى الجسم الأوربي كدولة أوربية حديثة تمتاز بالعلمانية وبالنظم الليبرالية الديمقراطية. الأتراك يريدون أوربا، والبعض منا يحلم بإعادة الخلافة العثمانية إلى الأستانة! لا ريب أن الإسقاطات والإرهاصات الكامنة وراء هذا الحنين إلى  الماضي العثماني ينبع من شيوع التردي والنكوص النفسي بين شرائح الشبيبة والنشء في بعض الدول العربية درجة إعادة قراءة التاريخ بطريقة تفضي إلى “رجوعية” من هذا  النوع غير المتوقع. وربما وجد البعض في جاذبية عناوين من نوع “الخلافة” والرابطة الإسلامية غطاءً للترويج إلى هذا النوع من التفكير بهدف إمتطائه لتمرير رؤى أخرى تحمل عناويناً أكثر جاذبية وعاطفية بالنسبة للإنسان العربي المسلم.
إن الإرتجاع للماضي، وبغض النظر عن سيئاته ومثالبه، إنما هو من معطيات عصور اللايقين والخوف من المستقبل: فبدلاً من أجيال شابة تتطلع إلى بناء المستقبل من خلال التوثب إلى المبادرة الحضارية التي تجمع بين الحداثة والتراث، يرتمي العديد اليوم في أحضان رؤى إرتدادية لا يمكن إلاّ أن تبلور مقدار اليأس والقنوط الذي ينتاب فئات واسعة في بعض البلدان العربية.
ويبدو أن واحداً من أهم مسببات هذا النوع من التعمية التي يفرضها البعض إنما يعود إلى الجهل بالتاريخ وإلى عدم التمييز بين “الحقيقة التاريخية” و “الخيال التاريخي”، ذلك الخيال الذي يتجاوز مسببات إنهيار “الرجل المريض”، الدولة العثمانية، أمام الغزو الكولونيالي الأوربي، بمساعدة عربية كانت ترنو إلى ما وعد الأوربيون به العرب من دول مستقلة يقودها رجال من ابناء جلدتهم. لقد تجاوز الداعون لإعادة أمجاد الدولة العثمانية الإختلالات “القاتلة” التي ألمت بها، إبتداءً من من سراي الباب العالي الذي كان يضيق بالجواري والغلمان، وإنتهاءً بالحياة المتخلفة التي كانت تعيشها “الممتلكات العربية” للدولة العثمانية، تحت وطأة الأمية والجهل والأمراض الفتاكة. لذا يعد المؤرخون المنصفون الحياة العربية في العصر العثماني جزءاً لا يتجزأ مما يسمى بـ”العصر المظلم”.
ويبقى المرء في حيرة حيال الكيفية التي يمرر بها البعض تمجيد الإمبراطورية العثمانية إلى عقول شابة غضة على طريق الإبقاء على العقل العربي الشاب حبيساً في مجموعة أكاذيب وخيالات تقتل روح المبادرة الحضارية ودوافع التطلع إلى بناء مستقبل من النوع الإستثنائي العربي المميز. وعلى المتابع أن يستحضر الحال المأساوية التي كانت تعيشها الأقاليم العربية بضمن تلك الدولة الزائلة: فقد كانت “الممتلكات” العربية ممزقة على نحو ولايات، بينما كان الولاة الذين يتحكمون بها لا يزيدون عن جباة ضرائب و “خاوات” لإرسال حصة الأسد منها إلى الأستانة (إسطنبول اليوم) والإبقاء على شيء من هذه الثروات للوالي نفسه، مع شيء لحاشيته. صحيح أن العصر العثماني قد شهد ظهور بعض الولاة المصلحين في الأقاليم العربية، من نوع محمد علي باشا في مصر ومدحت باشا في العراق، بيد أن على المؤرخ أن يلاحظ أن هؤلاء المصلحين لم يقدموا على الأعمال العمرانية الجيدة إلاّ كإشارة تعبر عن تمردهم على الأستانة. وبكلمات أخرى، لم يكن المصلحون سوى حكاماً محليين يريدون الإنفصال أو الإستقلال الذاتي بما أغدقته عليهم الأستانة من أراضٍ وأقاليم. لذا حقق محمد علي باشا إستقلالاً واضح المعالم في مصر ثم في بلاد الشام، بينما لم يتمكن مدحت باشا من المضي قدماً في خطته لأنه عزل واستدعي إلى العاصمة ليبدأ رحلة أخرى في “تمرده” على الدولة العثمانية، عسكرياً وسياسياً، حتى تمت تصفيته.
وإذا كنا اليوم نمتلك المدارس، بل والجامعات في كل مدينة، وربما حتى في القرى، فإن أوضاع العرب في ذلك العصر الذي أسدل الستار عليه كانت مدعاة للإبتئاس. لقد كانت الأمية منتشرة على نحو فظيع في الأقطار العربية، بينما لم يكن العرب “المثقفون”، حسب معايير القرن التاسع عشر، سوى كتبة يعملون تحت سوط الوالي والجندرمة والإنكشارية الملتفين حوله. أما المحظوظون، للغاية، فقد كانوا ابناء الأقطاعيين وجباة الضرائب الذين كان يسمح للقلة من ابنائهم بالدراسة في الأستانة على سبيل تعيينهم ضباطاً في جيش الإمبراطورية “المقدسة”. الطريف أن هؤلاء العرب المحظيين من الذين تدربوا على السلاح وإرتدوا البزات العسكرية التركية هم الذين قادوا الثورة، مع لورنس العرب، ضد الدولة العثمانية. ومن هؤلاء نوري السعيد باشا (رئيس وزراء العراق المزمن والمقرب من جلالة المرحوم الملك فيصل الأول): فلو كان هؤلاء المستفيدون من سخاء الأستانة مقتنعين بهذه الدولة لما حاولوا إشعال التمرد عليها والإستعانة بالعشائر والقبائل العربية لإسقاطها.
لقد كانت هذه الأوضاع المتردية في الأقاليم العربية وراء التمرد على الدولة العثمانية التي كانت توظف الإسلام، يافطة، من أجل إبقاء الشعوب العربية ضحية للإستغلال، مع توظيف الإسلام والخلافة شعارات لتحقيق هذا الهدف. لقد عملت الدولة العثمانية بكل قسوة على الإقلال من شأن “لغة القرآن” العربية، حيث سادت سياسة “التتريك” على حساب إهمال اللغة العربية، بينما فرضت الأفكار الشوفينية التركية الطورانية على العرب والأكراد والأرمن، من بين سواهم من الأقوام الواقعة تحت هيمنة الدولة، من أجل الإقلال من شأن هذه الأقوام ومعاملتهم كمواطنين ولكن من درجات أدنى. والأدلة كثيرة على ذلك: فلم يكن أي مواطن عربي يستحق الإحترام والقبول إلاّ إذا ما كان يتكلم اللغة التركية، بينما سيق عشرات الآلاف من العرب جنوداً في حروب الدولة العثمانية التي تحالفت مع دول المحور. ولم يزل الشيوخ يتذكرون حرب القرم (السفر بر) حيث فقد وقتل آلاف الجنود العرب وهم يحاربون “المسقوفية” اي أهل موسكو. أما الولاة الذين كانت مصائر العرب بين ايديهم وتحت رحمة نزواتهم فلم يكونوا عرباً، وإنما شركسية أو جيورجيون أو كرجيون، من هؤلاء الصبية الشقر المسيحيين الذين كانوا ينتزعون من أحضان أمهاتهم صغاراً كي يؤخذوا للإستعمال كغلمان ثم ليتدربوا عسكرياً وإدارياً كي يحكموا الأقاليم العربية.
إن ما يجري اليوم من الترويج النوستالجي لدولة “الخلافة” العثمانية “الرشيدة” إنما ينطوي على حرف الحقائق وعلى محاولة حرف الشبيبة عن طريق التشبث بالمستقبل وبالإستنارة الفكرية. إن النوستالجيا العثمانية تعكس إمتطاء العابثين بالأفكار وبالتاريخ والأسطورة والخرافة على سبيل تبرير الإرتجاع إلى الخلف بدلاً من التطلع إلى الأمام.
© منبر الحرية، 14 فبراير 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تتراوح العلاقة بين الأذهان الذكية من ناحية، وبين الاستبداد، من الناحية الثانية، بين الشد والجذب، التوافق والتنافر، الأمر الذي قاد دائماً إلى شيء من الجفاء بين العبقريات والاستبداد عبر التاريخ البشري. بيد أن هذا الجفاء ينطوي على مفارقة تستدعي التندر أحياناً في حالة أغلب دول الشرق الأوسط خاصة، حيث أن حكومات هذه الدول غالباً ما انبثقت بعد نهاية العصر الذهبي للكولونياليات الأوربية، أي بعد ما يسمى بمرحلة الاستقلال السياسي الذي مرت به أغلب هذه الدول الشرق أوسطية عبر أواسط القرن الزائل، حيث تبلور التنافر بين العقل العبقري وبين السلطة في حالات الاغتراب والغربة الاختيارية، الأمر الذي يلقي الضوء على حقيقة مفادها: أن العقول الذكية غالباً ما تكون عقولاً متمردة، ميالة إلى التحرر والتنائي عن المفروض عليها من الأعلى. لذا إذا ما شئنا تورخة محايدة وصادقة للعقل العربي المثقف، فإننا يمكن أن ندعي، بلا مبالغة، أن العصر الحديث قد شهد حالة مفزعة ومخيفة من الطرد، حيث طردت أنظمة الاستبداد العقول الذكية الميالة للحرية باتجاهات مختلفة، الأمر الذي يبرر حالتين لا يمكن لأي مؤرخ أفكار أن يخطئهما، وهما:
(1) حالة الهروب إلى دواخل العالم الذاتي، حيث طفت بثور الخوف من السلطة والإستبداد على بشرة الثقافة العربية، بعدما خبرته العبقريات من حالات إضطهاد وضغط قادت إلى تعمد العبقريات المبدعة الحقيقية إدارة ظهرها نحو السلطة وعدم الاكتراث باهتماماتها الأنانية؛
(2) حالة الهجرة الاختيارية إلى خارج الوطن: وقد كانت العقود الأخيرة هي العصر الذهبي للاغتراب الجسدي والروحي الذي عاشته العقول العربية الذكية، من أرفع العقول الأكاديمية المتخصصة التي فضلت العمل في الأكاديميات الغربية، (حيث تحترم آراؤها وتقدر خلاصاتها الفكرية)، إلى أعظم شذرات الإبداع الفني، من أعظم شعراء العصر الحديث كـالشاعرين (محمد مهدي الجواهري، من العراق والشاعر أدونيس، من سوريا)، إلى أرقى الكتّاب الخياليين (ومنهم كتّاب فضلوا العيش والموت في المنفى، ومنهم الأستاذ إدوارد سعيد، من بين أسماء لامعة أخرى، كسعدي يوسف ومظفر النواب، وآخرون).
إن أهم ما يمكن أن يلاحظه المتابع في هذه الآصرة المتقلبة بين العبقريات والسلطة في الشرق الأوسط هي مفارقة مفادها: أن السلطة في أغلب دول الشرق الأوسط غالباً ما ترتكن إلى إستذكارات حقبة الاستقلال السياسي لتتحدث عن الحرية وترفعها شعاراً مزيفاً من أجل سحق من يمارسها في حالة تجاوز حدوده، الأمر الذي يفسر إمتلاء السجون بالعديد من الكتّاب والمفكرين والعلماء تحت ظل الأنظمة الاستبدادية، وامتلاء مقاهي مدن المنفى الاختياري في أوربا والولايات المتحدة وأميركا الشمالية بأعداد مهولة من الكتّاب والباحثين والفنانين الهاربين من جحيم الإستبداد والوصاية الأبوية المفروضة على الإنسان، منذ نعومة أظفاره حتى شيخوخته، ناهيك عما تقاسيه المرأة المفكرة أو المبدعة من ضغط وظلم مضاعف في مثل هذه المجتمعات الذكورية التي تخصها بنظرة دونية بوصفها مخلوقاً ضعيفاً يستحق المزيد من الاستضعاف والاستهانة، بإسم فروسية الصحراء العائدة للقرون الوسطى المظلمة، عندما لم تكن المرأة سوى وسيلة لتوالد السلالة عبر القرون المظلمة. لاحظ أن رائدة الشعر العربي الحديث، نازك الملائكة، عاشت معظم حياتها في الغربة حتى توفت قبل بضعة أشهر خارج وطنها العراق، وتنطبق ذات الحال على الشاعرة المبدعة لميعة عباس عمارة التي غادرت العراق في عهد الاستبداد البعثي لتقضي خارج الوطن ما تبقى لها من سنوات.
إن المفارقة تتجلى في أن أغلب الأنظمة الإستبدادية، ومنها الثيوقراطيات Theocracies (دكتاتوريات رجال الدين) غالباً ما تحاول تقديم نفسها كراعية للثقافة وللفنون والعلوم، بينما تكون الحقائق معاكسة لهذا الإدعاء، حيث تهرب أعمدة الثقافة أو تهاجر باحثة عن تربة أكثر تنوعاً وحرية وخصوبة، بعيداً عن الأوطان الزاخرة بالبوليس السري، إضافة إلى احتقانها بالثروات الطبيعية المهدورة في التسليح وبناء أدوات القهر والقسر التي تستخدمها الدكتاتوريات لسحق الإنسان.
© معهد كيتو، مشروع منبر الحرية ، 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لم تكن دعوة الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، عام 2006 الشبيبة الأميركية لتعلم اللغة العربية بالجملة سوى الرأس الصاعد والمرئي لإندفاع غربي، بل وكوني، لدراسة هذه اللغة وللإلمام بطرائق التحدث بها والتعاطي مع متكلميها خاصة في المشرق العربي الإسلامي. لذا يتوجه النشء والشبيبة في الولايات المتحدة إلى أنواع المعاهد والمراكز اللغوية، التي تنتشر هناك كالفطر، لإكتساب هذه اللغة والتمكن من أسرار الفاظها وتركيباتها النحوية من أجل خدمة مصالح فردية وقومية في ذات الوقت. وترد هذه الظاهرة إلى أن لغة الضاد إنما صارت نوع من “رأس المال”، تأهيلاً فردياً مهماً وشرطاً مسبقاً لكل من يرنو إلى تطوير قدراته الإقتصادية والثقافية والسياسية، خاصة بعد بداية عصر البترول في منطقة الخليج، الأمر الذي برر شيوع ظاهرة الإندفاع والوقوف في طوابير بالملايين من أجل إكتساب هذه اللغة بوصفها “جواز سفر” إلى دول المنطقة حيث تنتشي أسولق العمالة وفرص الإثراء وجمع المال المتبقي من “فضائل” وفضلات النفط العربي وخطط التنمية الخليجية الكبيرة. الملايين من الصينيين والهنود وبقية سكان جنوب شرقي آسيا، سوية مع ملايين أخرى من سكان أوربا وبقية أنحاء العالم يتزاحمون اليوم وراء كل من “ينطق” اللغة العربية على أمل الحصول على شيء منها.
أما دعوة الرئيس الأميركي السابق لتعلم اللغة العربية فهي لا تختلف كثيراً في دوافعها وإرهاصاتها المصلحية عن دوافع التايلنديين والصينيين والهنود وسواهم. بيد أن الفرق كبير من ناحية أخرى، ذلك أن يدفع رئيس أغنى وأقوى دولة في العالم شبيبة بلاده لتعلم العربية أمر يتجاوز التشبث الفردي والمحاولات الشخصية؛ لأنه يعني، من ناحية أخرى، نوعاً من “الإستثمار” والتخصيصات المالية المهولة لمشروع تعليم الأميركان اللغة العربية. هذا هو الفرق بكل دقة. فإشارة من الرئيس ومن هذا النوع تعني الكثير: فهي ربما تعني فتح أبواب وفرص العمل لأعداد غفيرة من العرب الأميركان الذين لم ينسوا العربية كي يعملوا في عشرات وربما مئات مراكز ومعاهد تدريس العربية بين البحيرات العظمى وجنوب فلوريدا وكاليفورنيا. وبذلك تغدو هذه اللغة نوعاً من التأهيل الضروري الذي يساعد على توظيف متكلمي هذه اللغة في دوائر مهمة لا تبتعد كثيراً في إرتباطاتها عن وزارات مثل الدفاع والخارجية، وعن مراكز الدراسات العربية ومعاهد دراسات الشرق الأوسط والشرق الأدنى والإسلاميات، وهي مراكز قد تحولت إلى ظاهرة لابد من رصدها وإستقصائها في الجامعات والأكاديميات الأميركية بسبب أهمية العالم العربي الإستراتيجية.
إن واشنطن تدرك جيداً أن الأميركان القادرون على التحدث بالعربية إنما يمثلون شرطاً مسبقاً لآمال ولمشاريع الولايات المتحدة في بقعة تشكل مركز العالم، جغرافياً وإقتصادياً، الخليج العربي والشرق الأوسط. هذه المشاريع أنما تجسد مصالح كبرى بحساب الحجوم والآفاق، ذلك أن أميركا تحتاج إلى المئات من الدبلوماسيين الذين يتحدثون العربية للتعيين في سفاراتها وممثلياتها عبر عواصم ومدن العالم العربي الكثيرة. كما أنها بحاجة أكثر فورية إلى المئات من ضباط المخابرات والإتصالات والمعلومات القادرين على فهم العربية كوسيلة إتصال عبر القنوات السرية والمعلنة من أجل الإطلاع “على كل شيء”. لذا فإن هذه الحاجة تتنامى حتى داخل المجتمع الأميركي بفضل “قانون الوطنية” Patriot من أجل الإنصات والإطلاع وجمع المعلومات داخل المجتمع الأميركي وخارجه. ولأن الولايات المتحدة تقود مشروعاً قوياً لتعزيز قيادتها الثقافية والإعلامية في عالم أحادي القطبية، فإنها ستكون بحاجة ماسة إلى القراء والمذيعين والمتابعين من الأميركيين المتمكنين من أسرار هذه اللغة الجميلة. وليس أدل على هذا إنتشار المراكز الثقافية الأميركية والجامعات الأميركية والقنوات الفضائية الأميركية عبر العالم العربي الذي يمتص سوقه الثقافي بنهم كل طاريء، خاصة إذا ماكان قادماً من لاعب رئيس في سياسات الشرق الأوسط كواشنطن. ولن يقف الموضوع عند هذا الحد فالضباط الأميركان الموجودون في العراق وبعض دول الشرق الأوسط بحاجة للتكلم بالعربية نظراً لإتصالهم وتعاطيهم المباشر بالعرب هنا وهناك. حتى بعض الأكاديميين الأميركان من باحثين وكتاب يريدون إتقان العربية لقراءة تاريخ العرب وأحوالهم المعاصرة وتراثهم الثقافي من أجل خدمة مصالح أميركية. وقد أخذت هذه الجهود والأموال تعطي أكلها من الآن، ليس فقط في إنتشار الفضائيات الأميركية (بالعربية)، ولكن كذلك من خلال أعداد المتحدثين الرسميين والعسكريين الأميركان الذين يظهرون على الشاشات بلسان عربي ملكون، لا يشبه لغة بني أسد ولا لغة قريش أو تميم، بالرغم من إيصاله الرسالة المطلوبة للمستمعين.
بيد أن المتوقع من التدافع على تعلم العربية في الولايات المتحدة سيكون أكبر بكثير بسبب حجم الإستثمار في هذا الحقل. وللمرء أن يستذكر حقيقة قد تغيب عن بال الكثيرين، وهي أن “علم اللغة” Linguistics ذاته لم يتمكن من الإنتشاء والتطور السريع أواسط القرن العشرين إلاّ بعد أن لقي رعاية ودفعاً مادياً من البنتاغون بسبب توسع حاجة المؤسسات العسكرية الأميركية، ليس فقط لتحليل ودراسة نحو اللغات الأجنبية عبر العالم، بل كذلك على طريق تطوير ذلك التشعب المهم من هذا العلم، وهو علم اللغة التطبيقي Applied Linguistics، بمعنى كيفية توظيف فقه اللغة ودراسة النحو لتعليم المحليين والأجانب اللغات المختلفة. لهذا السبب حقق علم اللغة في الجامعات الأميركية قفزات مهولة على حساب الدراسات المناظرة والمكافئة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. فلا تستغرب، أخي العربي، أن تصادف شابة أو شاب أميركي يتحدث العربية بطلاقة هنا أو في أي مكان من العالم !
وعودة إلى علم اللغة ودراسة النحو فإنه، كما يبدو، يعود في تاريخه الأولي إلى إسهامات عربية فريدة بسبب ظهور الإسلام وإعتناقه من قبل الأمم غير العربية، الأمر الذي برر ملاحظة الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إنتشار اللحن والخطأ في قراءة القرآن الكريم وفي العبادات بين الأعاجم من المسلمين. وهكذا ظهرت أولى وأقدم محاولات دراسة النحو وقواعد اللغة العربية عندما أملى الإمام على أبي الأسود الدؤلي مباشرة هذا الحقل العلمي المهم. وقد شهد العصر الوسيط إنتشار اللغة العربية عبر العالم القديم، خاصة الإسلامي، لأسباب دينية وعقائدية، ثقافية وسياسية، وهي أسباب مدعومة بالتيقن من أهمية العربية بوصفها لغة القرآن الكريم ولغة الرسالة ولغة أهل الجنة، إضافة إلى أنها وسيلة العبادات. ثم جاوزت اللغة العربية هذه الحدود على نحو يذكرنا بدور اللغة اللاتينية (رحمها الله) في أوربا القرون الوسطى، إذ كانت هذه اللغة هي لغة الدراسات والبحث والثقافة. أما اللغات الأوربية القومية الأخرى، فكانت النظرة إليها متدنية ودونية بوصفها لغات محلية لا يمكن إستعمالها في الثقافة والبحث العلمي الأوربي الشامل. وقد إمتدت هذه النظرة الدونية للألمانية والفرنسية والإنكليزية وسواها من اللغات القومية، كلغات أدنى مرتبة من اللاتينية، حتى ظهور الروح القومية، ثم الدولة القومية التي دفعت باللاتينية إلى الأرشفة لتقام أعمدة اللغات الوطنية بديلاً عنها. مثل هذا حدث في الشرق عامة، حيث تدنت أهمية اللغات المحلية من الصين حتى إسبانيا، كي ترتقي اللغة العربية الموقع الأعلى في المدونات الثقافية والفكرية والعلمية، ليس فقط كإناء لهذه الأنشطة الفكرية، بل كذلك كإطار وطريقة تفكير مستوحاة من الدين الحنيف.
وإذا كان سقوط بغداد على أيدي هولاكو خان عام 1258م قد أذن بتراجع شيوع اللغة العربية وتقدم لغات شرقية أخرى، كالفارسية والهندية والتركية، لتحل محلها في الأبيات المهمة، فإن العصر المظلم المستطيل الذي تبع قد راكم المزيد من الأخطاء والمفاهيم غير الصحيحة حول هذه اللغة: فكانت الأفكار الشائعة بأن العربية لغة صعبة ويستحيل تعلمها، زيادة على إنها غير مهمة بقدر تعلق الأمر بلغات “العصر”، قد إنتشت وسادت. وهكذا جاء عصر التتريك والتفريس والفرنسة والأنكلزة عبر العصر الذهبي للهيمنة الأجنبية الذي تلاه العصر الذهبي للكولونياليات الأوربية. لهذا صار حتى بعض العرب يعكسون ثقافتهم ومعارفهم بإستعمال الألفاظ الفرنسية والإنكليزية كنوع من أنواع إستعراض المعرفة والتباهي بها.
أما اليوم فإن الأمر سينقلب رأساً على عقب بطريقة أو بأخرى، فالأميركان والفرنسيون والإنكليز يستعملون الألفاظ العربية في كلامهم أو كتاباتهم لعكس إطلاعهم على عالم هذه اللغة المشحون والزاخر، لذا فإن الفاظاً عربية من نوع “إنتفاضة” Intifadha أو “مجاهد” Mujahid  أو “آية الله” Ayatullah وسواها ألفاظ بالعشرات أخذت تزحف إلى اللغات الأوربية عن طريق الإستعارة loan words لتغدو علامة على إطلاع مستعمليها على ثقافة ولغة أهم بقاع العالم على الإطلاق، المشرق العربي الإسلامي.
لقد تحولت اللغة العربية اليوم إلى أداة عملية وإستراتيجية، خاصة في التعاطي مع شؤوننا، إضافة إلى أنها قد صارت “تقليعة” يتشبث بها الغربيون من خلال تزويق لغتهم بما ينطوي على المعرفة باللغة العربية. وهكذا تدور الدوائر وتعمل عجلة التاريخ عبر أنماط تكرار لتعيد لهذه اللغة الحية والحيوية ما تستحق من أهمية واهتمام.
© منبر الحرية، 10 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تنحو الصراعات العالمية الرئيسة اليوم منحى غريباً، وكأنها يمكن أن تختزل على نحو “حرب باردة” جديدة، بين الإسلام والغرب، هذه المرة. وتشير الأنماط السلوكية للإعلام و لاستطلاعات الرأي العام إلى ثمة أيادِ خفية تعمق (على نحو واع أو غير واع) من هذا الإنشطار، وكأن العالم قد إستبدل الكتلة الشيوعية بالعالم الإسلامي كي تدور رحى الصراع القائم اليوم حول محور جديد. واحد من الأدلة على صحة هذه الملاحظة تقدمه اليوم مؤسسة “غلوب” العالمية الأكثر شهرة في حقول إستطلاع الرأي العام، حيث أنها قدمت خلاصات “سوداوية” شديدة التشاؤم حول “الشرخ” بين الإسلام والغرب، بوصفه شرخ متسع، متنوع، مدمر!
على الرغم من أنن الكثير كتب عن تعقيدات هذا الموضوع فإن علينا الإعتراف بأن المقصود في هذا السياق هو تتبع أصول وتبرعمات الصورة الأكثر شيوعاً في الثقافة الغربية للإسلام وللعالم الذي يعتنقه. أما أن تحال الصراعات العالمية السائدة إلى كينونتين مفترضتين غير متجانستين، فإن في ذلك خطأً مفهومياً يستوجب التأشير. الإسلام ليس دولة أو كتلة دولية منافسة قائمة، كما كانت عليه الكتلة الإشتراكية على سنوات الحرب الباردة. كما أن الغرب لم يعد كما كنا نراه في عصر الكولونياليات والوصايات الأوربية وما بعده. لذا ترتكب مؤسسة غالوب خطأً عندما تتحدث عن “العلاقة” بين الإسلام والغرب نظراً لسيولة المفهومين وتجريديتهما الزائدة: فهل أن المقصود بـ”الإسلام” هو الحكومات القائمة في دول العالم الإسلامي، وهي (كما ندرك جيداً) تحتفظ بعلاقات طيبة (عامة) مع مثيلاتها في العالم الغربي. ثم هل أن المعني بالإسلام الحركات الراديكالية الأصولية التي ترجمت أفكارها إلى برامج مضمخة بالدماء وبالعنف والإرهاب؟ هذا سؤال آخر يسري عبر الكثير من التشعبات والإنحناءات. إن الحديث عن “الإسلام” نظاماً دينياً عقائدياً، كما هي عليه الحال مع الأنظمة الدينية الأخرى كاليهودية والمسيحية وسواهما، فإن الموضوع يحتاج إلى شيء من التأمل المتأني، ذلك أننا لا يمكن أن نقرن أو نرصد علاقة بين كينونتين غير متجانستين: يمكن أن ندرس العلاقة بين الإسلام والهندوسية في شبه القارة الهندية، بإعتبارهما دينين شائعين هناك، ولكن من غير اليسير أن ندرس العلاقة بين مفهوم هلامي كـ”الغرب” وبين دين كبير: ليس هناك تجانس يسمح بمثل هذه الدراسة أو المقارنة.
ثمة تعقيد آخر في الشرق العربي الإسلامي: فالغرب في الجزائر عموماً يعني فرنسا، في مراكش هو يعني فرنسا وإسبانيا، في ليبيا هو يعني إيطاليا خاصة، في المشرق العربي الإسلامي كان الغرب يعني بريطانيا وفرنسا حتى دخول الولايات المتحدة الأميركية معترك صراعات الشرق الأوسط لتكسب صفة “الغرب” غير الواضحة. هل أن الغرب هو صفة جغرافية تشير إلى كل ما يمتد إلى اليسار على الخارطة؟ هذا مفهوم مضحك لأنه يلغي كروية الأرض وحركتها الدورانية حيث يكون مفهوم “شرق / غرب” مفهوماً نسبياً متغيراً. ثم كيف يمكن لنا أن نصنف الدول إلى “غربية” و “شرقية”، وأي الأسس يمكن أن تعتمد في هذا السياق: فهناك تعقيد شائك آخر هنا: هل أن الغرب أسلوب حياة وتقنيات عالية وعلاقات مجتمعية من نوع خاص، هل لنا أن نعد اليابان جزءاً من العالم الغربي؛ ثم ماذا عن أستراليا أو نيوزيلاندا وحتى إسرائيل، هل لنا أن نضع هذه الأسماء في “سلة” العالم الغربي، نظراً لمعطيات هذا المعيار، بالرغم من أنها (جغرافياً) تتموضع في الشرق التقليدي القديم؟
أما إذا كان المقصود بـ”الغرب” بعداً روحياً دينياً، بمعنى أن الغرب هو “العالم المسيحي” Christendom، فلماذا نخجل من الكلام عن هذا العالم بصفته الدينية هذه؟ وكيف يمكن لنا أن نصنف المسيحيين الموجودين بين ظهرانينا في العالم الإسلامي؟ وبطبيعة الحال، ثمة إضطراب على الجانب الآخر من هذه المعادلة الإفتراضية الخاطئة، ذلك أن العالم الغربي هو الآخر غير متجانس لأنه مجموعة كبيرة من الدول والحكومات والأمم أو الأقوام التي تدين غالبيتها (ولو إسمياً) بالمسيحية. هذه دول تأسست أو تبلورت على أسس قومية في القرن التاسع عشر كألمانيا وإيطاليا وفرنسا، ولكنها سرعان ما طلّقت الفكرة القومية ثلاثاً كي تحتضن فلسفة علمانية لا صلة لها بالقومية ولا بالأديان. لهذا تكون الحوارات عن الغرب والإسلام بلا أسس فكرية مقبولة، خاصة وإن حكومات الدول الغربية وشركاتها الكبرى لا تعاملنا على أساس ما نعتنق من دين بقدر ما تعاملنا على أساس المصالح وحسابات الربح والخسارة. إن الحكومات القائمة في الدول الغربية من أوربا إلى الولايات المتحدة وحتى اليابان وأستراليا هي حكومات علمانية تخص الأديان عامة بنظرة ملؤها التسوية والتحجيم كي تدفعها إلى الخلف، الأمر الذي يفسر التسامح الواضح حيال إنتشار الإسلام داخل العالم الغربي، خاصة في أوربا وحتى في الولايات المتحدة وكندا.
وتأسيساً على ما تقدم من جدل لا يمكن للمرء أن يجد مسوغاً منطقياً كافياً كي يخدم لتأسيس وتهويل علاقة متوترة بين كينونتين غير متجانستين، حيث يتطلب هذا منا أن ندير ظهورنا لهذا الجدل المفتعل كي نقف بدقة أشد على المفاهيم الصحيحة التي يمكن أن تقودنا نحو إدراك أفضل لما يجري في العالم اليوم. فإذا ما أردنا تسوية الصراع على نحو مفهومي ديني نقع في مطب الكلام عن “صليبية” جديدة؛ أما إذا ما حاولنا أن نبتسر المفاهيم إلى فلسفات دينية مقابل فلسفات علمانية مادية، فإننا نقترب إلى شيء من الصواب، ولكننا نبقى بعيداً عن ملامسة الحقيقة كاملة. ثمة سيولة مرهقة ومربكة في المفاهيم ينبغي أن تباشر بشيء من الثبات والقدرة الواضحة على رؤية الأشياء.
© منبر الحرية، 22 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

ثمة مفارقة تستحق عناء التأمل المتأني تنطلق من عنوان “عصر الحوارات” الذي فضل عدد من المفكرين إطلاقه على عصرنا الجاري، استذكارا لعناوين أخرى من نوع حوار الشمال/الجنوب، الشرق/الغرب، الدول الصناعية/الدول النامية أو “النايمة”. وإذا كانت جميع هذه الحوارات تصب في هدف واحد، وهو بلوغ عالم مزدهر تسوده قيم السلام والمحبة واحترام الإنسان لأخيه الإنسان بغض النظر عن العقيدة واللون، الأصل والفصل، إلخ. أما المفارقة، فإنها تتجلى في أن هذا يمكن أن يسمى “عصر الحوارات الدامية” كذلك، إذ آثر الإنسان، كما يبدو، أن ينزف، سوية مع أخيه الإنسان، دماً على طريق حوار تشوبه النيات المبيتة والضغائن القديمة والأهداف المتعاكسة.
ضمن هذا السياق المؤسف الذي نلاحظه حال متابعة أية نشرة للأخبار، يأتي الحديث عن حوار الأديان، وهو حديث طيب بقدر تعلق الأمر بأهدافه السامية التي تتبلور في رؤيا إنسان “معولم” قادر على أن يحيا مع سواه من البشر دون ملاحظة الفروقات الدينية أو المذهبية، كدافع للعداء أو للإرهاب والجريمة. ومع هذه الرؤيا السامية ينبغي أن نباشر عدداً من الأسئلة المهمة، ومنها: (1) ما معنى حوار الأديان، وماهي الأديان التي ينبغي أن تدخل الحوار الآن؟؛ (2) من يحاور من؟؛ (3) ما الهدف النهائي لمثل هذا الحوار؟
إن أول ما يقفز إلى رأس المتأمل في مثل هذه الأسئلة هو أن مثل هذا الحوار ينبغي أن يقوده رجال الدين الذين يمثلون كل معتقد أو نظام روحي. وللمرء أن يتوقع أن مائدة حوار، إذا ما فرشت اليوم، ستكون مثالاً للمحبة والتعايش والأواصر المشتركة، خاصة إذا ما عقدها كبار رجال الدين من أديان متنوعة. وقد حدث مثل هذا النشاط عبر التاريخ، كما هي عليه الحال في “برلمان الأديان” الذي عقد في مدينة شيكاغو في القرن التاسع عشر، على هامش معرض شيكاغو التجاري، إذ تمكن المضيفون الأميركان من استقدام عدد من رجال الأديان الكبرى من آسيا وأفريقيا وأوربا للجلوس سوية وللقيام بمناظرات دينية أمام الجمهور الأميركي حين كانت الولايات المتحدة لم تزل جمهورية فتية ترنو لأن ترى “العالم القديم” بمنظور “العالم الجديد” المتعالِ. كما أن حواراً آخر شبيها قد حدث في نفس القرن بين الطوائف الإسلامية، برعاية وتنظيم الوالي العثماني في بغداد، وقد سمي الاجتماع بـ”مؤتمر النجف” الشهير الذي أرخ له العلامة الراحل الأستاذ علي الوردي في أحد مجلدات (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث). ولكن يبقى السؤال قائماً: هل تمكنت هذه الأنشطة من تجاوز تفاهمات رجال الدين (على جلال قدرهم) كي تشيع مفاهيم المحبة والتعاون بين سواد الناس من أتباع الأديان المختلفة؟
إن أية قراءة متأنية للعقائد الأساس لجميع الأديان الكبرى في العالم ستقودنا إلى حقيقة لا غبار عليها، وهي أن جميع الأديان تدعو إلى التسامح والمحبة والتعايش في جوهرها. إلاّ أن الاختلاف يأتي من الجهلة الذين يركبهم شبح التعصب والعصبية درجة الانجراف في تيار الكراهية و الضغينة. لذا يكون حوار رجال الدين فيما بينهم حواراً محدود الجدوى بقدر تعلق الأمر بتعميم دلالاته ومعانيه على أتباع المعتقدات المختلفة. إن المشكلة لا تكمن في رجال الدين الراسخين في العلم، ولكنها تكمن في الجهل وفي شعور كل فرد بأنه هو لوحده ينتمي إلى الفئة غير الضالة أو الفئة الناجية، بعونه تعالى.
إن أهم مسببات التنافس الديني الذي غالباً ما يؤججه أفراد غير متدينين (وهذه المفارقة تستحق المعاينة كذلك) هو أن اغلب الأديان الكبرى في العالم هي أديان تبشيرية، أي أنها أديان مفتوحة لكسب المزيد من الأتباع والمؤمنين. وهكذا يكون التنافس عنيفاً، ليس بين الأديان، وإنما بين الأتباع الأقل إستنارة، من أجل الإنسان.
وللمرء أن يدعي بأن أجواء التقدم والرفاهية تحت هيمنة مركز سلطة قوي كافية لجعل الناس يؤمنون بأنهم إنما ينتمون لأديان مختلفة وأن مفاهيم التعايش والتضامن الاجتماعي ممكنة الاحتضان ضمن حركة المجتمع الشاملة. هذا ما حدث في التاريخ دون حوارات بين رجال الدين، ودون الحاجة إلى بيانات وتفاهمات وبلاغات مشتركة يمضي عليها ممثلو الأديان المتنوعة. وعلينا الاعتراف في هذا السياق أن عصراً ذهبياً للتنوع والتعايش الديني كان قد تحقق في بغداد العباسية عبر العصر الوسيط، إذ أجتمع في هذه المدينة الكوزموبوليتان أتباع مختلف الأديان تحت مظلة الإسلام المتسامح، باحثين عن لقمة العيش وعن فرص التفوق والإبداع، بالرغم من أن غير المسلمين كان يتوجب عليهم ارتداء ملابس خاصة تفرقهم عن عامة المسلمين. وقد كان “بيت الحكمة” العباسي أنموذجاً لهذا التعايش، إذ أنه كان يضج باليهود والمسيحيين وحتى الزرادشتيين والمجوس والهندوس من مترجمين وأطباء وعلماء وفلكيين تحت خيمة الخليفة العباسي المأمون الذي كان يهدف من وراء توظيفهم الإفادة من علوم الأعاجم وغيبيات الجميع على طريق بناء واحدة من أرقى حضارات التاريخ، الحضارة العربية الإسلامية، وهي الحضارة التي حفظت لأوربا تراثها الكلاسيكي الإغريقي عبر التعريب، إذ عادت أمهات الكتب الإغريقية والرومانية إلى أوربا عبر الأندلس وجزيرة صقلية بواسطة المسلمين العرب لتطلق عصري الأنوار والنهضة في أوربا.
أما الآن، فإننا نلاحظ ثمة يقظة للتعصب الديني والفرقي والفئوي، وهي من نتائج التنافسات السياسية التي تقود دوماً إلى سيادة قانون “فرق تسد” Divide and Rule الذي غالباً ما يستعمله المتنفذون والمهيمنون، إما على المستوى الكوني أو المحلي، من أجل فرض سيادتهم وإدامة سيطرتهم على المجتمعات من خلال توظيف التعامي المتعصب للتنافس بين الإنسان والإنسان، المعتقد والمعتقد. إنه عصر يقظة الولاءات الصغيرة والمجهرية التي تبقي القوي قوياً والضعيف ضعيفاً إلى ما لا نهاية.
© منبر الحرية، 06 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

ربما كان “الابتكار” أحد أهم أسباب ومقومات تفوق الحضارات، إذ أن الأفكار المبتكرة، مترجمة إلى برامج وأدوات وأجهزة وطرائق حياة، كانت دائماً متلازمة مع الحضارات النامية الواعدة. وعلى نحو معاكس، تسود الحضارة الراكدة أو المتراجعة حالة غياب الابتكار، الأمر الذي يبرر محاولة أبناؤها الالتزام بالموروث حد العبادة المتعامية! لذا نجد حضارات تتقدم، وأخرى تركد وثالثة تتراجع. وهكذا يكون المعيار متاحاً بأيدي المؤرخين الحقيقيين: ما درجة الابتكار وأعداد المبتكرات التي تقدمها حضارة معينة، وما درجة وطبيعة إستقبال العقول الابتكارية العبقرية القادرة على توليد المبتكرات. إن الحضارة المتطورة تستقبل الابتكار بحفاوة وتكريم، بينما ترتجع الحضارات الآسنة إلى المحافظة، فهي تقاوم الجديد المبتكر وتضطهد العقول المبتكرة وربما تنفيها إلى عوالم الجمود والتحجر. لقد اعتُمد هذا المعيار في تقييم وتقويم الحضارات القديمة والحديثة، إذ ينظر إلى الحضارة السومرية (في بلاد الرافدين) بوصفها حضارة متقدمة بسبب ما ابتكره الإنسان الرافديني آنذاك من أفكار جديدة لم تكن متاحة لحضارات معاصرة لها ولكنها كانت حضارات جمود وتخلف. لقد فكر العقل السومري القديم بزيادة كميات الغلال من خلال اكتشاف الزراعة وتحويل نفسه من مخلوق جامع للقوت إلى مخلوق منتج له، الأمر الذي أطلق سلسلة أخرى من المبتكرات ابتداءً من الأدوات الحادة للحرث والحصاد وانتهاءً بتحريك الأواني الكبيرة بواسطة العجلات.
ربما كان هذا وراء سك وإضافة فعل جديد إلى اللغة الإنكليزية، فعل مشتق من كلمة “فكرة” Idea. الفعل بحد ذاته ابتكار لأنه إضافة جديدة للقاموس الإنكليزي، ولأنه كذلك يعني صناعة أو إنتاج الأفكار “ideate”. الطريف هنا هو أحد الإعلانات التجارية التي تقدم عدداً من الشبان والشابات الأميركيون وهم مضطجعون أرضاً وقد سدوا عيونهم في هدوء تام، لأنهم في حالة إنتاج أفكار جديدة “ideating”. وهذه حالة قد تكون مثيرة للتندر لدينا: فكم واحد منا يترك لنفسه فسحة من الزمن للتفكير بالجديد؟ لنلاحظ جداول أنشطة حياتنا اليومية: كذا ساعة عمل، كذا ساعة نوم وراحة، كذا ساعة استجمام وجلوس أمام التلفاز، وكذا ساعة تمارين رياضية، إن وجدت. ولكن من منا يفكر بتخصيص وقت معين لإنتاج الأفكار أو للتأمل، على الرغم من أن التأمل بحد ذاته ولذاته هو نشاط عقلي مهم نحتاج إليه لنرفع الغشاوة أو الغيمية التي تغلف أذهاننا والتي تفرضها متطلبات الحياة والهموم اليومية على أبصارنا وبصائرنا. نصف ساعة تأمل قد تكفي لتريك أين أنت؟ وهل أن ما تفعله صحيح، وهل ينبغي أن تستمر كما أنت أم أنك يجب أن تضفي شيئاً جديداً على حياتك، وما الذي يمكن أن تخرج به من مبتكر لحياتك العملية أو لمجتمعك أو للآخرين من الذين يحيطون بك أو يعتمدون عليك؟ هذه أسئلة غالباً ما نتعامى عنها، بالرغم من أن حضارتنا العربية الإسلامية كانت مملوءة بالأذهان التأملية العملاقة القادرة على بلوغ خلاصات مبتكرة من خلال التأمل، الأمر الذي يبرر ظهور ظواهر من نوع “الصومعة” حيث يختلي العقل المفكر بنفسه، أو “المعتكف” حيث يكرس الطالب نفسه، لوحده، للتأمل وللتعامل مع المكتوب والمطبوع من مبتكرات عقول الآخرين، القدماء والمحدثين. وقد بزّ الإمام الغزالي مجايليه في ميله إلى الإنفراد بنفسه وتوليد الأفكار العملاقة. ولم نزل نقرأ الإمام الغزالي ونرتجع إليه كنبع غزير للأفكار.
إننا إذا ما حاولنا أن نعدد الأدوات والآلات البسيطة التي ابتكرتها عقول من الأمم الأخرى وقد جاءتنا مستوردة، سنلاحظ أن هناك العديد منها كان يمكن أن نبتكره في مجتمعاتنا العطشى للمبتكر: فلماذا نستورد المبتكرات البسيطة، من فرشة الأسنان الهزازة إلكترونياً إلى الأفران الإلكترونية ولا نتوقع أن يبتكرها عقل محلي، على الرغم من بساطتها؟ هذه علامات الركود والإستكانة التي ينبغي أن ترصد بحذر والتي نعاني منها حيث لا تمنحها مناهجنا الدراسية لتلاميذنا، من مراحل روض الأطفال والتمهيدي إلى مراحل الدراسات العليا. ليس هناك ما يكفي من تدريب على التفكير الحر المولد للمبتكرات. إن مناهجنا الدراسية، في أغلب الحالات، مؤسسة على آليات الحفظ وإعادة إنتاج المعلومات في الامتحانات. لذا فإن أذكى العقول لدينا هي تلك التي تتمتع بذاكرة قوية، استرجاع للمعلومات المطلع عليها. هذه الآلية لا تنمي خلايا الدماغ القادرة على ابتكار الجديد من الأفكار، فالطالب يذهب إلى قاعة الامتحان لاجترار ما حفظه خلال اليوم السابق، وربما الليلة السابقة؛ أما إذا لم يتمكن من استرداد هذه المعلومات المطلوبة كإجابات على الأسئلة، فله الله! فدراستنا هي مذاكرة وحفظ واستذكار، ولا مجال للاجتهاد ولترويض العقل برياضات إنتاج الجديد والأصيل من الأفكار. أما إذا ما تجرأ أحد من تلاميذنا وحاول أن يقدم شيئاً جديداً فإننا نقابله بالتهكم وبالتصفير وربما بالتندر حد إعلانه التوبة من الفكرة الجديدة أو من محاولة التفكير بطريقة إبداعية.
وما دمنا نناقش قدرات الحضارات المتنوعة على الابتكار وتقديم الجديد والشجاع من الأفكار، فإن للمرء أن يلاحظ أن الإعلام يمثل أحد أهم البيئات أو الأواني المشجعة على الأفكار الجديدة، ابتداءً من سك وتركيب الكلمات الجديدة وتثوير اللغة إلى تقديم أفكار مفيدة ومهمة للمجتمع. هذا، بكل دقة، ما تحقق قبل بضعة أسابيع في نيويورك حيث تم ابتكار إسم جديد يضاف إلى قاموس اللغة الإنكليزية، وهو: Newseum، وهي لفظة مركبة من news بمعنى الأخبار، والنصف الثاني من كلمة museum بمعنى المتحف. وهكذا جاء العقل الإعلامي هناك بفكرة متحف الإعلام أو المتحف الإعلامي. هذا متحف طريف ومهم، ليس لطلبة أقسام الإعلام فقط، باعتباره يؤرخ للأدوات التي استخدمت في العمل الصحفي من بداياتها حتى اللحظة، ولكنه مهم كذلك بالنسبة للجميع لأنه يؤرخ للأحداث التاريخية التي رصدها الإعلام والتي حظيت باهتمامه: من صور وأخبار وتعليقات ومقالات وأجهزة واتصالات. هذا نوع مهم من الأرشفة الثقافية التي يتوجب أن تتوافر في بلداننا العربية. ولكن، مع هذا، يبقى المبتكر (إذا ما حاولنا محاكاته) مستورد. والسؤال الأهم هو: لماذا لم نبتكر مثل هذه الفكرة “هنا”، ولماذا ننظر إليها كفكرة أصيلة جديدة تستحق المحاكاة “هناك”؟
© منبر الحرية، 29 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

تشترك الغالبية العظمى من المؤسسات الأكاديمية العربية بمشاكل ومعضلات متناظرة أو متطابقة أحياناً. وبغض النظر عن التمايزات والإختلافات القطرية والإقليمية المحدودة التي غالباً ما ترد إلى تنوع ظروف كل بلد عربي على جهة، فإن التناظر يبقى هو السمة الأبرز للكينونات الجامعية العربية. وتدل العلاقة الشائكة والمنطوية على التنافر أو التجافي بين الجامعة والمجتمع في أغلب هذه الدول على ما نفترضه من “شراكة” جامعية عربية في الإشكالات والإخفاقات، الأمر الذي يبرر تصاعد الأصوات عالية في مرافق أغلب الحكومات العربية بالشكوى من أن المؤسسة الأكاديمية لا تلبي متطلباتها وطلباتها من ناحية، ومن أن مخرجات التعليم العالي في الدول المعنية، برغم سخاء الحكومات العربية عليها، تبقى دون المستوى المطلوب معرفياً وعلمياً وعملياً، الأمر الذي يبرر حاجة هؤلاء الخريجين إلى “تدريب جديد” أثناء الخدمة الوظيفية In- Service Training. لذا كانت ظاهرة الحديث الشائع عما يسمى بـ”الأمية المقنّعة” المنتشية في الدوائر الإعلامية والثقافية العربية من إفرازات هذا “الطلاق بالثلاثة” بين المجتمع والجامعة.
وللمرء أن يتريث حيال توظيف كلمة “الطلاق” في مثل هذا السياق المعقد، ذلك أن المقصود به هو ليس المسافة الواسعة الفاصلة بين الجامعات وجموع الجمهور والنشء والشبيبة، وإنما المقصود به هو تحول أغلب الجامعات العربية إلى “مكائن” صماء للإنتاج الواسع من الخريجين الذين نادراً ما يرقون بمستوياتهم الثقافية والمهنية التخصصية إلى مستويات المؤمل والمطلوب من قبل دوائر القطاعين العام والخاص على حد سواء. لذا، فإنه من ناحية أعداد الطلبة المنتظمين بالدراسة والمقبولين بصفوف المؤسسات الجامعية هي بدرجة من الإرتفاع أن المخرجات راحت تتدنى على نحو متوالية هندسية نظراً لغياب المفاهيم الأكاديمية الصحيحة والعريقة، وبسبب غلبة إهتمام القيادات الجامعية بالكم وليس بالنوع، على طريق إرضاء القيادات السياسية من خلال تقديم “أرقام” صماء بأعداد الدارسين والخريجين.
وتبقى القيادات الجامعية في الدول العربية حبيسة لهذا النوع من “التخريج بالجملة” الذي يزيد من تدهور العلاقة بين الجامعة والمجتمع، ذلك أن الأخير عندما يقتطع جزءاً كبيراً من مدخولاته وإيراداته من أجل الإستثمار الأكاديمي البعيد المدى، فإنه ينتظر أن يحصد الفوائد من السنابل المعطاء الثقيلة. بيد أن السنابل المنتشرة عبر أراضي واسعة كأقطار العالم العربي غالباً ما تظهر ضعيفة ومنحنية، ليس بسبب ثقلها، وإنما بسبب الأمراض المعرفية والثقافية والإجتماعية التي تخترقها. ويمكن أن تُرد هذه الظاهرة المؤسفة إلى غياب فلسفة تربوية جامعية واضحة المعالم بأهداف صلدة يمكن توخيها في العمل الأكاديمي. إن غياب مثل هذه الرؤية بين العديد من القيادات الجامعية هو الذي سوّغ لها سياسات القبول الواسعة وسياسات التوسع في فتح التخصصات والدراسات العليا الجديدة دون دراسة وافية للإمكانيات وللكوادر المؤهلة للإضطلاع بمثل هذه التوسعات الخرافية احياناً. في جامعة بغداد، على سبيل المثال، يشكل عدد طلبة كلية واحدة فقط رقماً أكبر بكثير من عدد طلاب جامعة كاملة بكليات وفروع متنوعة النخصصات في الولايات المتحدة الأميركية أوكندا أو ألمانيا. وفي الوقت ذاته، برزت في الكليات العربية ظاهرة تحول الصف الدراسي أو ما يسمى بقاعة المحاضرات “تجاوزاً” إلى شيء أشبه ما يكون بعلبة الساردين، حيث يزدحم الطلبة والطالبات في الصف، جلوساً ووقوفاً قبالة أستاذ مسكين مستباح، منهك من تكرار ذات الجمل وذات المعادلات على السبورة صباحاً وظهراً ومساءً. هذا ما يبرر ظاهرة غياب الحاجة إلى حضور المحاضرات وتعاظم حالة أعداد الطلبة المتغيبين الذين لا يجدون الفائدة المرجوة من الإستماع إلى المحاضرة أو من المشاركة في النقاشات العلمية التالية لها. في مثل هذه القاعات المكتظة والمحشوة بالطلاب والطالبات تتلاشى الحاجة إلى المناظرات الفكرية وإلى الأسئلة والأجوبة والمشاركة الصفية، خاصة وإن جملة واحدة من كل طالب تكفي لتمديد مدة المحاضرة لساعات. وهكذا برزت ظاهرة تفضيل “المذاكرة” في البيت أو الدراسة “على الحساب الخاص” بين جموع غفيرة من الطلاب الذين لا يرومون من الإلتحاق بالجامعة سوى الحصول على “وجاهة” الشهادة الجامعية التي تؤهلهم للتعيين ولركوب مركب الدولة الكبير الذي يجهزهم بالوظائف وبالمرتبات المناسبة لتأهيلهم للزواج ولتأسيس عائلات، وهكذا. هذه دورة شريرة من “التنمية المتراجعة” أو العكسية التي نعاني منها، والتي تخفت أصواتنا عند الحديث حولها، خشية تناهي هذه الأصوات إلى مسامع الوزراء والمسؤولين الكبار.
إن من يطلع على المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش الجامعية الإقليمية والعربية لابد وأن يتفاجاً (إن كان غير عارف بالحقائق على الأرض) باعدادها وتعقيدات موضوعاتها، الأمر الذي يعطي إنطباعاً بالتقدم المهول للمؤسسات الجامعية. بيد أن الحقيقة تختلف عن مثل هذه “اليافطات” والأنشطة الإعلانية والإعلامية التي يراد منها الترويج للإيفادات ولتغيير الجو بالنسبة لبعض المشاركين بها. أما المنظمات الأكاديمية الإقليمية، فإنها لم تعد سوى عناوين لهيئات أو منظمات شبحية لا تزيد عن مكاتب مهجورة مزودة بالضرورات المكتبية وبالسكرتيرات اللائي لا يُحسّن سوى المهاتفات والمناقشات حول أسعار المواد الإستهلاكية في الأسواق المحلية. ويبدو أن “إتحاد الجامعات العربية” غير قادر على الإضطلاع بتفعيل دور محسوس وقوي على سبيل الإتساق والتطوير العربي في حقول الجامعات الرسمية والخاصة، ذلك أن الدوائر الأكاديمية لم تسمع منه عن أي نشاط حقيقي فاعل، بل أن بعض الأساتذة حتى لا يعرفون بوجود مثل هذا الإتحاد !
إن القيادات الجامعية والقيادات السياسية في كل دولة عربية بحاجة إلى الإلتقاء للإرتقاء بمستوى الأداء الأكاديمي. هذا ما لا يمكن أن يتم عن طريق إقتصار رؤية القيادات السياسية كـ”ممول” فقط، ممول لبناء وتأسيس جامعات وكليات جديدة لا يهمه سوى الأرقام والمخرجات المجردة. إن الحاجة تبدو اليوم ماسة لأن تضطلع هذه القيادات، بنوعيهما، على الإلتزام بفلسفة أو بعقيدة جامعية تجيب على عدد من الأسئلة المهمة، ومنها: (1) دور الجامعة في المجتمع كمركز مستنير للتطوير والتقدم؛ (2) دور الجامعة في دعم وتكريس خطط التنمية الوطنية والقومية، كمنهل ومصدر للأفكار والمشورة والخطط والكوادر؛ (3) ما هي المؤسسة الأكاديمية، هل هي مركز للبحث والإستقصاء العلمي فقط، أم إنها مصدر لتخريج الكوادر والخريجين ؟ (4) من هو خريج الجامعة، هل هو الإنسان العارف والمتقن لمهارة ما، أم إنه الإنسان المهذب The Gentleman المجرد ؟ (5) هل يمكن للجامعة الإضطلاع بأدوار في دعم الحكومة في المجالات الإستشارية ومجالات إعارة الخدمات، أم إنها ينبغي أن تحافظ على مسافة “جمالية” مقدسة بينها وبين دوائر الدولة ؟ (6) كيف يمكن الإستفادة من التجارب الأكاديمية في الدول المتقدمة، هل يتحقق هذا عن طريق الإستنساخ المجرد أم عن طريق “النسخ” الأعمى للتجارب الأجنبية بإعتبارها دخيلة وغير موائمة للواقع المحلي؟
إن مناقشة هذه وسواها من القضايا الحساسة يمكن أن تساعدنا في بناء فلسفة لمؤسسات أكاديمية رفيعة ترقى بنفسها إلى تأملات المجتمع وآمال العاملين فيها من أساتذة وطلبة وموظفين. بدون مثل هذه الفلسفة تبقى الكليات والمؤسسات الأكاديمية، التي تنتشر في المدن والقرى العربية كما ينتشر “الفطر”، من نتاجات فائض الأموال والتفاخر بالكم على حساب النوع، الأمر الذي يحيلها من جامعات بمعناها الفلسفي الكوني الصحيح إلى ساحات أو إقطاعيات للتشبث الفردي وللإجتهاد الشخصي الذي يباشر الكلية أو الجامعة وكأنها مشروعاً إستثمارياً مسجلاً بإسم الفرد أو بإسم الموقع.
© منبر الحرية، 02 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لا يفلت الذين تابعوا الثقافة العربية عبر العقود الخمسة الأخيرة من القرن الزائل، إمتداداً إلى هذا اليوم، من الإنطباع القاضي بأنها ثقافة قد سقطت في فخ أو دوامة الإجترار والتكرار. وتتجلى هذه الظاهرة المؤسفة على نحو لا يقبل الشك عبر أية مراجعة، مهما كانت سريعة، لما يسمى بالدوريات الثقافية الرئيسة التي كانت تصدر في بيروت، ثم ما لبثت وأن راحت تنتشر كالفطر في مختلف العواصم العربية التي غالباً ما أرادت حكوماتها أن تبدو مواكبة لركب الثقافة العربية المعاصرة أو راعية لها عبر التودد إلى أبرز كتابها ودعاتها وممثليها عن طريق إنتاج وإعادة إنتاج ثم تسويق مجلات ثقافية من هذا النوع الذي وقع ضحية لتكرار الأفكار ولإجترار القضايا المثيرة للجدل اللانهائي الذي يملأ الرأس بالضجيج اللامجدي، ناهيك عن رعاية هذه العواصم لأنواع المؤتمرات والمهرجانات والمنتديات الثقافية والأدبية التي، هي الأخرى، تقدم البينة تلو البينة على عِنّة ثقافة وجدت نفسها حبيسة بين جدران زنزانة إختارها لها “أساطين النهضة العربية” منذ نهايات القرن الماضي لتبقى هناك تجتر ذات الأفكار وذات اللازمات عبر لغة غدت “محنطة” بسبب هذا النمط من التكرار ونظراً للعجز الذي أبداه هؤلاء “الرواد” عن إيجاد أو إبتكار مصطلح عربي موازي للتطورات المعاصرة مصطلح فكري، لا مترجم ولا معرب، بل من معطيات عقل ذكي قادر على إيجاد موطيء قدم لنفسه في عصر متغير مشحون بالجديد والمشرق.
ربما يستفز هذا المدخل هؤلاء الذين قدموا أنفسهم كفلاسفة للعالم العربي في عصره الراهن، وأغلبهم (للأسف) كانوا ناقلين أو معربين لما إكتسبوه عبر حضورهم في صفوف المدارس الأوربية، ثم الأميركية مؤخراً. لقد قدم هؤلاء أنفسهم وكأنهم “أبناء رشد” أو “ابناء خلدون” جدد، خاصة في المغرب العربي حيث كانت لعبة المصطلح المترجم أو المعرب من أكثر الألعاب إثارة وأغراء للقراء العرب من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي قاد إلى ظهور جيوش من الكتّاب أو “المحاكين” على سبيل إجترار ذات الأفكار، وذات المصطلح المرة تلو الأخرى حتى ضقنا ذرعاً بهذا التكرار الذي عبر عن نفسه في مختلف حقول وفضاءات الثقافة، إن فكراً وفلسفة، أو أدباً وشعراً: وهكذا بقينا نراوح في ذات البقعة عاجزين عن فك الإرتباط بقضايا أصبحت مدعاة للتندر والإستهزاء من قبل الغربيين المتابعين لثقافتنا الحائرة منذ يقظة النهضة حتى اليوم بين الحداثة والتراث، التراث والمعاصرة، بين الشعر الحر والشعر التقليدي، بين قصيدة النثر ونثر القصيدة، وكأن العالم ينتظر بياناً يقدمه أحد خريجي الجامعات الفرنسية لحل هذه الأزمات والأسئلة والإستفهامات الكبيرة التي أعيت جميع المثقفين العرب منذ بداياتهم عبر قراءات مجلات وصحف بيروت المختصة بهذا النوع من المجادلات اللامجدية في زمن يناقش العالم فيه قضايا ومسائل أكبر وأوسع، بينما نبقى نحن نئن ونشكي من ويلات الإستعمار والإمبريالية، ناكرين معنى لفظة “إستعمار” التي صارت بدرجة من العجمة والغموض أمام أعيننا، أنها غدت قادرة على حمل جميع أعبائنا المثقلة بالتراجع والنكوص، وجميع خطايانا دون أن تبقى قادرة على حفظ المعنى الجوهري كما إستقر في قعر العقل العربي، راسباً على نحو تصعب معه إزالته أو إقتلاع شأفته.
لقد إعتادت ثقافتنا وصفحاتنا الإعلامية والفكرية التكرار والإجترار حتى صار الأخير هو وسيلتنا الوحيدة لتغذية العقل العربي الذي إمتص كل ما يمكن أن يمتص من المكرور والمجتر درجة أنه راح يعاني من سوء تغذية وفقر دم بسبب إستحواذ عدد من الأقلام والأسماء على هذه الثقافة باعتبارها هي “أنوار اليقين” لثقافة قابعة في نهاية نفق لا ضوء فيه ولا فتحة ضوء يمكن أن تقود إلى أجواء الإنفتاح على العالم وعلى الثقافات الأخرى التي تحررت مما يشغلنا ويستحوذ على عقولنا من قضايا ومصائب جعلتنا ندور في فراغ وحلقات مفرغة منذ سقوط الدولة العثمانية حتى الآن، درجة ظهور من يدعو لعودتنا إلى العثمانية وإلى ذلك العصر الذي ثرنا عليه وإستبدلناه بالكولونياليات الأوربية ثم بالإستعمار الإستيطاني الذي قدم لنا “أم المشاكل”، ثم “أم المعارك” التي لم نزل في إنتظار انفضاضها حتى نباشر مرحلة تكرار وإجترار جديدة!
لقد دأبت الدوريات الثقافية الشهيرة التي غالباً ما تنتهي عناوينها بلفظة “العربي” أو “العربية”: الثقافة العربية، قضايا عربية، آفاق عربية، العالم العربي….إلخ، نقول بقيت هذه الدوريات والمجلات تحتكر الخطوط العامة لتوجيه التفكير الثقافي في العام على نحو يؤول إلى لجم التجديد والإبتكار وبترهما وإلى وضع العقل المبدع في صومعة مظلمة لا مخرج منها. وهكذا إحتكرت بعض الأقلام أهم التوجيهات بطريقة أنها تحولت إلى ديكتاتوريات ثقافية، أشبه ما تكون بالديكتاتوريات الحكومية، أو “الديناصورات” الثقافية التي توجب التمرد عليها وإزالتها كي تدفع الثقافة في عالمنا العربي بنفسها إلى عالم جديد، عالم شجاع لم يعد يقبل بالتكرار وبالعِنّة غير القادرة على التوليد والتجدد.
© منبر الحرية، 09 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لاشك في أن أهمية العلوم والمعارف تكمن في خدمتها لأغراض إنسانية، خاصة عندما تتعلق خلاصاتها وتطبيقاتها بالكشف عن الحقائق والإفادة منها. ولكن حينما “توظف” هذه المعارف والعلوم لأهداف سياسية وحيدة الجانب، فإنها لابد وأن تنحرف عن طبيعتها وأهدافها الإنسانية السامية لتتحول إلى “خادمة” منصاعة للحاكم أو للطبقة الحاكمة أو للموقف السياسي المقصود. وللمرء أن يلاحظ هذه المسلمات قبل مناقشة شيوع ظاهرة إستخدام علم الإحصاء في العالم العربي لخدمة أهداف سياسية تحت عناوين مغرية من نوع “إستطلاع الرأي”، وهي عناوين يراد لها أن تخدم تمرير رأي معين، بإسم الجماهير، على أنه رأي غير قابل للنقاش لأنه رأي الغالبية. وهكذا إنتشرت في وسائل الإعلام العربي ظاهرة إستطلاعات الرأي على نحو ملفت للنظر في الفترة الأخيرة، ليس كمحاكاة للإستطلاعات التي تقدمها معاهد علمية متخصصة في الولايات المتحدة الأميركية (كمعهد غالوب)، ولكن كأداة لتمرير أفكار “مبيته” أو موصى بها، أو كعصا لضرب “الرأي العام” الحقيقي وتحجيمه.
الملاحظ في هذا السياق هو أن إستطلاعات الرأي العام هي ظاهرة أميركية لها تاريخ فلسفي طويل يتصل بطبيعة “العالم الجديد” وبميله القوي إلى التفرد وتكريس الإختلاف مع أوربا، خاصة مع بريطانيا. لذا ناقشت أذكى العقول البريطانية (خاصة في عصر الثورة الصناعية) هذه الظاهرة ولم تؤل جهداً في نقدها، إبتداءً من تشارلز ديكنز Dickens و جون ستيوارت مل Mill وإنتهاءً بعبقريات رفيعة من عيار ماثيو آرنولد Arnold وأوسكار وايلد Wilde. والحق، فإن مسألة الإستطلاعات لا يمكن أن تؤخذ عنواناً واحداً ووحيداً للديمقراطية، ذلك أن النقاد البريطانيون لظاهرة الأمركة Americanization الكاسحة، من أمثال الأسماء المذكورة أعلاه، عدّوا الموضوع نموذجاً للإنجراف وراء رأي “الأكثرية” بديلاً عن “الأقلية”، بإعتبار أن الحكمة وبًعد النظر هي من صفات الأقلية وليس من صفات الأكثرية التي كان ينظر اليها بإزدراء ودونية أحياناً!
بيد أن أميركا تبقى أميركا، “عالم جديد” متمسك بإتباع الأغلبية على حساب الأقلية درجة تطوير هذا الإتجاه بطرائق علمية رصينة تبلورت في إستطلاعات المراكز العلمية والصحافة الرصينة من عيار الـ(نيويورك تايمز) أو الـ(واشنطن بوست). هذه الصحف والمراكز التخصصية تقدم خلاصات إستطلاعات الرأي بطرق مسؤولة، لأنها تضطلع بها بأساليب إحصائية دقيقة، فتقدم هذه الخلاصات دون تحوير أو تغيير أو ليّ أو عمليات تجميل، درجة أنها تكون مستعدة للمساءلة القانونية وللتدقيق العلمي من قبل اية جهة أخرى، حكومية أو قضائية. لذا يُعتد بإحصائيات أو إستطلاعات معهد غالوب على نحو علمي من قبل أرفع مراكز صناعة القرار في واشنطن.
وإذا كانت المحاكاة من أفضل أساليب التعلم، فإننا في العالم العربي لا نتعلم كثيراً لأننا في أغلب الأحيان نعجز عن المحاكاة الدقيقة، الأمر الذي يفسر عدم دقة إحصائيات وإستطلاعات الراي والجداول الرقمية التي تقدمها الفضائيات والصحف والمجلات وحتى الكتب المختصة أحياناً، خاصة الآنية، الإعلامية والدعائية، التي راحت تعتمد إستطلاعات الرأي لموضوعات تافهة من نوع إستطلاع رأي الجمهور بأداء راقصة أو بمغنِ ! أما في الموضوعات السياسية المهمة والحساسة، فإن هذه الإستطلاعات غير قابلة للتحقيق أو للتدقيق، ولكنها تسرب عبر الشاشات وصفحات الحرف المطبوع بلا مسؤولية وبلا قانونية وبغض النظر عن الوسائل العلمية التي اعتمدت للخروج بخلاصاتها. هكذا يحاكي بعض العرب الأميركان في الشكل دون المضمون.
وحيث يمثل إستخدام علم الإحصاء لأغراض سياسية حرفاً خطيراً لمسار وأهداف هذا النظام العلمي من أجل التاثير، عن بعد، على الراي العام لتشكيله كما يريد “راعي” الإستطلاع، فإن علينا أن نعترف أن ماضينا كان سباقاً في توظيف التاريخ لأهداف سياسية. فمنذ نهاية عصر الخلفاء الراشدين (رض) برزت على سطح التاريخ العربي الإسلامي الأهمية القصوى لتوظيف التورخة والمؤرخين بالطرق السياسية من أجل أهداف من نوع تبرير إدعاء اسرة أو سلالة معينة بالخلافة على حساب اسرة أخرى، أو من أجل تتبع الأصول العائلية والقبلية عبر أنواع النسابين المرتزقين، خاصة مع تصاعد الصراع بين العرب والأعاجم في العصر “الذهبي” للحضارة العربية الإسلامية التي شهدت صعود نجم “الشعوبية” كإفراز سلبي من هذا النوع من الشوفينيات. لذا لم يكن من الغريب أن يجد الباحث، من بين رجالات “البلاط”، المؤرخين والنسّابين المعتمدين من قبل صانع القرار، إضافة إلى شعراء البلاط ومداحيه وجنرالاته ومهرجيه من بين سواهم من أفراد الحاشية المتخصصين. لقد كان مؤرخ البلاط عبر تواريخ الأمم من أهم “الموظفين” الذين يتم إستدعائهم لإستشارتهم عند الحاجة، خاصة عندما يظهر مطالبون جدد بالسلطة. إن أهم واجبات هذا النوع من المؤرخين هو الاحتفاظ بالوثائق وبشجرات العائلات وبكل مامن شأنه تمجيد الحاكم وإصطناع خلفيته التاريخية، بغض النظر عن علمية ما يقوم به.
بيد أن الطريف في هذا السياق هو أن ظاهرة توظيف العلوم بهذه الطريقة قد تواصلت حتى في العصر الحديث وبعد تحقيق العديد من الدول الإسلامية والعربية الإستقلال السياسي. وهذا ما تمت ملاحظته مع الحملة التي شهدتها العقود الأخيرة من القرن الماضي، تحت عنوان “إعادة كتابة التاريخ”، حيث تمت رعاية اللجان الكبيرة والمؤتمرات المتعددة المشحونة بالإيفادات وبالولائم وبالمكافآت النقدية من أجل تحقيق تسجيل إنتقائي أو إنتخابي لصفحات التاريخ، على النحو الذي يخدم أهداف هذا العلم “الوطنية” أو التعبوية. وهكذا عاش المؤرخون والنسابون عصراً ذهبياً في العديد من هذه الدول، خاصة عندما كانوا يتميزون عن سواهم في تتبع أنساب الرعاة إلى شخصيات أو أسر تاريخية لها وقعها الإعتباري والعاطفي في النفس الجماعية. وكانت أخطر الظواهر قد تمثلت في ركوب المؤسسات الأكاديمية لخدمة مثل هذه الأغراض، وهكذا أسست معاهد ومؤسسات بحث مختصة بـ”ضخ” أطروحات الماجستير والدكتوراه التي تمجد الحاكم وتطري أفكاره وتطلعاته أو تبرر ما أقدم عليه من أفعال.
وليس ببعيد عن هذا النوع من التوظيف السياسي، تبرز ظاهرة “الإستفتاءات” التي تشبه الإستطلاعات، حيث تأتي النتائج الباهرة، كما كان متوقع لها، بنسب لا علمية ولا واقعية من نوع 99.9% أو 100% على طريق خدمة الأهداف السياسية للمتنفذين، كما حدث في إستفتاءات “الترئيس” التي إعتمدت في عدد من الدول العربية في العقود الأخيرة.
لقد كانت ظاهرة تسخير العلوم والمعارف في تاريخنا القديم والحديث معروفة بوصفها حالة مؤسفة، ولكن أن يقوم البعض بوضع قناع العالِم على وجهه وعباءة الأكاديمي على كتفيه من أجل تمرير أرقام يراد لها تشكيل الراي العام بطرائق منحرفة، فإن هذا هو من أخطر ما يحيق بالجمهور العربي اليوم.
© منبر الحرية، 13 أبريل 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018