في المستقبل القريب سيصبح عاديا أن نقرأ على منتوجات من قبيل دمى الأطفال العبارات التالية” تم تصميمها في الولايات المتحدة الأمريكية، وتم نسج شعرها في اليابان، وبفرنسا وقع إخراج ملابسها فنيا، أما حاسوبها الناطق فقد برمج في الهند، في حين أن صباغتها، المستخلصة من البترول السعودي، مصنوعة في التايوان، قبل أن يتم تجميعها النهائي بالصين”.
هكذا تصف الكاتبة الأمريكية “سوزان برغر” في كتابها Made in Monde الأثر “السحري” لمفعول العولمة في تشتيت جغرافية التصنيع العالمية، بعد أن صار الإنتاج الإنساني، بمختلف تجلياته الثقافية والمادية، عابرا للقارات وللحدود. تنبع أهمية استحضار مقولة “برغر” من قيمة الكتاب الذي شارك فيه خبراء أمضوا أكثر من خمس سنوات في دراسة أثر العولمة على مناطق مختلفة من العالم.
لا أدري إن كانت “سوزان برغر” وهي تقوم بسرد الجنسيات المشاركة في إحدى عمليات الإنتاج المستقبلي، قد عمدت بوعي أو بدون وعي إلى حضور العرب فقط كمشاركين بالمادة الأولية، من خلال البترول السعودي. لكن لا يهم وعي “برغر” بالمسألة أم لا، مادام الواقع يثبت أن العالم العربي لا يزال مستهلكا بالدرجة الأولى، ولا تتعدى مشاركته في العملية الإنتاجية تزويد العالم بالمواد الأولية والخامة الطبيعية(البترول، الفوسفاط، الحديد…). أما المشاركة في الإنتاج والإبداع الإنسانيين فتبقى شبه منعدمة، إذ أشار أكثر من تقرير إلى انخفاض مستوى المشاركة العربية في الاختراع والإبداع إلى مستويات قريبة من المنعدمة.
ولم يكن تقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجي التابع للأهرام (2008) بعيدا عن هذا التوصيف، حين أشار في إحدى فقراته إلى أن “العرب دخلوا القرن الواحد والعشرين بدون رؤية واضحة”. فـ”بعد أكثر من خمسين سنة على محاولات اللحاق بركب الحضارة الإنسانية لا تزال معظمها تقبع في المؤخرة، ليس فقط وراء البلدان الغربية بل وراء عدد من دول شرق آسيا” يقول أحمد ولد عبد الله الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لغرب إفريقيا في تقديمه لكتاب بعنوان “التحديث الإسلام والديمقراطية”.
بالتأكيد، هناك إجماع عام على حقيقة اتساع الهوة بين الدول العربية والدول الغربية. ففي منتصف السبعينيات، يقول تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003، كان المستوى الاقتصادي والمعيشي لكوريا الجنوبية موازياً لحال دول عربية كمصر والمغرب، غير أن الهوة اليوم بين هذه البلدان وكوريا صارت ضخمة إلى درجة تستحيل معها كل المقارنات.
لقد فشل العالم العربي في التموقع الصحيح خلال العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين بفعل أسباب عديدة. أولها استمرار مقاربة المستجدات الإنسانية بمنطق إما أسود وإما أبيض. وتعود هذه الرؤية المستحكمة في الذهنية العربية إلى الثنائية التي تشكل صلب العقل العربي والمتمثلة في حلال /الحرام ومقدس /المدنس.
أما السبب الثاني والذي لا يقل تأثيرا عن الأول ويرتبط به ارتباطا عضويا، فيعود إلى استمرار حضور التقسيم الفقهي للعالم والقائم على تقسيمه إلى دار حرب ودار سلم مما يجعل من فرص الاستفادة من التقدم الإنساني شبه منعدمة. يساهم هذا التقسيم في تكريس العداء لكل ما هو حداثي بحجة انتمائه إلى الغرب. فلا تزال آثار العداء الناجم عن التجربة الاستعمارية، وحالة ما بعد الاستعمار ماثلة في المخيال الاجتماعي العربي.
يتفق الجميع إذن، على اتساع الهوة بين الدول المتقدمة والعالم العربي الإسلامي اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. بفعل فشل استراتيجيات التنمية بكل أبعادها. غير أن الأزمة تصبح أعمق بفعل التوتر المستمر بين إكراهات الحفاظ على النظام السائد، الذي تتقاطع فيه مصالح مجموعة من القوى السياسية والدينية والنخب المستفيدة، والحرية التي تفرضها هجرة الأفكار والمنتوجات العابرة للحدود بفعل العولمة.
يتولد عن التخوف من التغيير وفقدان مصالح الجهات الدينية والسياسية والاقتصادية المستفيدة من الانغلاق، عداء مستحكم لكل جديد. هذا العداء غالبا ما تستثمره مجموعات مذهبية متطرفة في العالم العربي الإسلامي فتنتج خطابا إسلامويا، يساهم بهذا القدر أو ذاك، في الحيلولة دون إمكانية استفادة المجتمعات العربية من الفرص الهائلة التي تقدمها العولمة للتحديث والعقلنة والتنمية.
وهكذا، تركز الخطابات الإسلاموية في نقدها للعولمة على أبعاد أخلاقية صرفة. فيتم تفسير العولمة بطريقة تجعلها انحلالا أخلاقيا ميئوسا منه، يهدد الهوية بالتشتت. وتصبح العولمة بهذا المنظور “رجس من عمل الكفار” الراغبين في السيطرة على العالم. ينتج عن هذا الوضع استثمار القوى الحضارية الصاعدة كل إمكانيات العولمة من أجل فرض نفسها كفاعل اقتصادي وسياسي وككيان حضاري بالمنطقة، فيما يظل العالم العربي يقدم رجلا ويؤخر أخرى بل غائبا على كافة الجبهات.
وضعية التردد أمام العولمة، والعجز عن الانخراط في التنمية والإنتاج الإنساني، حذا بالبعض إلى اتهام الإسلام كدين بالمسؤولية عن هذه الأوضاع. لابد هنا من التنويه إلى ضرورة التفريق بين الإسلام كدين والخطابات الناتجة عن الإسلام كثقافة بمعناها الأنتروبوبوجي. يمكننا هذا الحذر من تفادي كل انزلاق نحو اتهام الإسلام/ الدين بالمسؤولية عن تقهقر العرب والمسلمين. بمعنى آخر إذا كان واقع حال العالم العربي الإسلامي مترديا، وتقبع جل دوله في مؤخرة الترتيب العالمي، فإن ذلك لا يعود بالضرورة إلى نقائص فطرية، بل يعود إلى القبضة الخانقة للذهنية المتشددة، التي عملت وتعمل جاهدة على تشويه الطبيعة الأصلية للإسلام.
إن العرب والمسلمين في حاجة لنبذ الفهم المتشدد للدين وتفادي القراءات الحرفية التي تمنعهم من الاستفادة من المنتوج الإنساني، لأن الترياق الضروري للعالم العربي الإسلامي للخروج من حالة التشرذم واللاتنمية يتمثل في استثمار كافة الإمكانيات التي تتيحها العولمة. ورغم أن الكثيرين ينظرون إلى مفعول العولمة باعتباره قد قلص من خيارات البشر في التصرف بحرية، وحكم عليهم بإتباع نموذج أحادي في التطوير، إلا أن العولمة، إلى جانب ما يمكن أن تشكله من صعوبات، توفر فرصا استثنائية للنجاح والاستفادة من المنتوج الإنساني بكل حرية.
إن الحيز الذي تتركه العولمة للاختيار والفعل الحر يفوق كثيرا ما تقترحه التصورات السائدة حول العولمة، غير أن استثمار هذه الوعود الكثيرة والفرص الهائلة، التي تقدمها العولمة يقتضي أولا الاعتراف بوجود هذه الإمكانيات، والتراجع عن تلك الفكرة التي تعتبر العولمة إقصاء وتدميرا لحرية الاختيار.
إن العولمة ليست فعلا طارئا على البشرية، بل تمتد جذورها العميقة إلى تأملات الفلاسفة اليونان حيث نجد زينون الرواقي يقول « إن الناس يجب أن لا يتفرقوا في مدن وشعوب لكل منها قوانينها الخاصة، لأن كل الناس مواطنون، ولأن لهم حياة واحدة ونظاماً واحداً للأشياء، كما هو حال القطيع الموحد في ظل قاعدة قانون مشترك»
إن الرغبة في التوحيد الذي تخلقه العولمة كما أشار إلى ذلك زينون الرواقي منذ ما قبل الميلاد، هي نفس الفكرة التي عبر عنها أنطوني جيدنز، في كتابه “بعيداً عن اليسار واليمين مستقبل السياسيات الراديكالية” الذي ترجمه شوقي جلال، حين يقول “إن العولمة تتعلق في حقيقتها بالتحول في الزمان والمكان، ويمكن تحديد معناها بأنها العمل أو التأثير عن بعد، ولشيوعها علاقة بالكثافة المتزايدة في السنوات الأخيرة لوسائل الاتصال الفوري وحركة الانتقال الجماعية الواسعة على نطاق الكوكب… وتأثير العولمة مَسَّ أيضاً أساليب الحياة المحلية بل والشخصية… بل يمكن الحديث عن نشوء نظام اجتماعي جديد –ما بعد تقليدي”
يعتقد أصحاب النظرة التبسيطية أن نشوء ما يسميه جيدنز بنظام اجتماعي ما بعد تقليدي، الذي تفرضه العولمة مضر، خاصة وأنه يمس أساليب الحياة. إلا أن سنة التطور تفيد أن المنافسة لا بد وأن تطور الأنساق الضعيفة لتصير أكثر تنافسية. لكن بعيدا عن هذه النزعة التشاؤمية، فإن الأنساق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية مطالبة في ظل العولمة بتقوية وجودها . وليست المنافسة التي تفرضها العولمة، سوى حافز على التطوير.
على عكس كل توقعات المتفائلين والمتشائمين بشأن تأثير العولمة، هناك سيناريوهات كثيرة متعددة وناجحة سواء في الدول المتقدمة أو تلك السائرة في طريق النمو. ففي العالم نماذج متعددة للاستجابة للعولمة كأرقى مراحل الحداثة فالنموذج الياباني والنموذج الصيني والنموذج الماليزي والنموذج الكوري الجنوبي، مؤشرات تثبت اختلاف المجتمعات في تعاطيها مع المنتوج الغربي.
إن دراسة هذه النماذج بعمق وبعيدا عن تضخيم الذات أو تقزيمها، مركزي في مسيرة البحث عن أسباب غياب العرب عن المساهمة في الحضارة الإنسانية الراهنة. يقتضي الأمر أيضا، كما يشير إلى ذلك الدكتور إبراهيم أبراش في مقالة عميقة حول العرب وتحديات العولمة، تعاملا عقلانيا وموضوعيا مع موضوع العولمة وغيرها من النظم الفكرية والاقتصادية المستوردة. يجب أن نتوقف عن تضخيم الذات بطريقة غير موضوعية وغير عقلانية. أما نقطة الانطلاق حسب “أبراش” فهو “الإقرار بأننا كمجتمعات عربية وإسلامية توقفنا عن المساهمة الحضارية منذ القرن الخامس عشر (سواء كانت الأسباب داخلية كخضوعنا لنظم استبدادية متسلطة أو خارجية كالاستعمار)، وإن غالبية مشتملات الحضارة الحديثة هي نتاج الآخر، العالم الغربي والمسيحي، والقول بأننا كنا أصحاب حضارة أو ساهمنا في وضع أسس الحضارة الإنسانية لا يفيد في شيء ما دمنا اليوم نعتمد في معيشتنا على منتجات الآخر الثقافية والاقتصادية والعلمية، وهذا القول لا يعني التقليل من شأن السلف الصالح، فهو سلف أولاً وكان صالحاً آنذاك ثانياً”.
© منبر الحرية،20 تموز/يوليو 2010