peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

وسط الأحداث المتلاحقة ثمة مفارقات يستعصى فهمها دون التخلي عن حسن الظن في أبطالها. بعض هذه المفارقات كانت مادة للحوار بين حشد من البشر أمام أحد منافذ توزيع الخبز المدعوم عندما تساءل شيخ وقور -والعرق يتصبب من جبينه: حتى متى يضطر الضحايا تسديد ضريبة صمت الرقباء على تجاوزات المخربين؟!
كان الطابور طويلا، وقد مل الناس من الانتظار.. وكعادة المصريين، يلجأون في مثل هذه الظروف لتزجية الأوقات الضائعة رغما عنهم بتجاذب أطراف الحديث حول أحداث الساعة وأحوال المعيشة، جاء الكلام في معظمه عفويا وسطحيا لمجرد تخفيف وطأة الانتظار، فقد تحدث الواقفون في كل شيء من جنون الأسعار وسرطان الفساد وتشفير كأس العالم إلى جلسات البرلمان ومظاهر الحراك السياسي، وكانوا يتكلمون بود واضح وحميمية ظاهرة وكأنهم أصدقاء – أو على الأقل زملاء – منذ زمن بعيد. ومع كثرة موضوعات الحوار وتداخل أصوات المتحدثين استوقفني ذلك السؤال نظرا لكثافته اللغوية الواضحة، وعلى الفور دارت في الذهن أسئلة أخرى: وهل بعد التخريب من تجاوز؟، ولماذا يسكت الرقباء على تصرفات المخطئين؟، مع أنهم مكلفون بالتصدي لهذه المخالفات، وكيف يسدد الضحايا تكاليف الاعتداء عليهم؟!
للوهلة الأولى توقعت أن الرجل يفلسف مشكلة تسرب الدقيق المدعوم إلى السوق السوداء تحت سمع وبصر مفتشي التموين، فقلت لصاحب السؤال “الفزورة”: “البشر خطاءون بطبعهم وصاحب المخبز لا يعنيه رضا المستهلك عن الرغيف، وكذلك الرقيب المعين من قبل الحكومة، ولهذا تتغلب المصالح الخاصة على القيم والمبادئ والأصول والأعراف نظرا لانعدام الرقابة الشعبية، وبالتالي فإن الضحية مشارك في الجريمة وعندما يدفع ضريبة صمت الرقباء فهو يدفع في الوقت نفسه ضريبة صمته هو أيضا. قال الرجل الطيب وهو يبتسم: المسألة أكبر من ذلك بكثير فأنا أتحدث عن صمن الرقيب الذي انتخبه الجمهور في مواجهة الفساد الكبير والتخريب المنظم، ألم تسمع بما حدث مؤخرا في مجلس الشعب من احتدام الزعيق والصياح حتى دخل الحذاء ضمن مفردات التفاهم؟ ثم فجأة أطبق السكون على الجميع وكأن شيئا لم يكن وأن صاحب الهجوم الخطير حامل الحصانة والاسم الشهير قد رضي من الغنيمة بثمن السكوت؟، وهو مبلغ يحتاج تدوينه لأكثر من ست خانات، وأن تعويض هذا المبلغ على دافعه أسهل من السهولة فلن يكلف نفسه سوى إضافة جنيهات قليلة إلى سعر سلعته الضرورية التي يتحكم فيها بمفرده، وبالتالي فسوف يضطر كل من يحتاج مسكنا يؤويه إلى تسديد ثمن صمت النائب الموقر على تجاوزات المحتكر الشهير – قلت ربما اندفع النائب في غمرة الحماس، ثم بعد الهدوء اكتشف براءة زميله في المجلس فآثر العودة إلى الحق– رد الرجل وقد ارتسمت على وجهه علامات الاستغراب: لو كان ذلك صحيحا لما تنازل الملياردير المطعون في أمانته عن حقه في إقامة دعوى سب وقذف حفاظا على سمعته لكنه اضطر هو الآخر إلى السكوت.
كان الناس من حولنا قد انتقلوا إلى موضوع تشفير كأس العالم وكيف أن الحزب الحاكم لم يقبل بحرمان الناس من مشاهدة مباريات المونديال، فخصص عشرات الساحات ووفر فيها شاشات عملاقة ليتمكن محدودو الدخل من الاستمتاع بهذا العرس الكروي العالمي، وشبَّه أحد الواقفين هذه الساحات بالأماكن التي تخصصها الحكومة لصلاة العيدين في العراء، وأثنى البعض على موقف الحزب الحاكم وعلى شعوره المرهف بمعاناة الجماهير ومحاولته التخفيف من أعبائهم بينما أصر آخرون على اتهام الجهات المعنية بالتقصير في بذل المساعي المطلوبة لنقل مباريات كأس العالم على القنوات الأرضية.
وبقي الشيخ الحكيم صامتا حتى فرغ الجميع من هذا الموضوع وكادوا ينتقلون إلى غيره من الهموم المعيشية، فإذا به يجتذب طرف الحديث ويسأل الناس من جديد: إذا كان الحزب الوطني قد فعل ما فعل انطلاقا من حرصه على مشاعر الجماهير ورغبته في تخفيف معاناتهم، فلماذا لم يتدخل جهابذته لحل مشكلة توريد القمح الوطني من الفلاحين “المصريين” الذين يلفون على الصوامع والمستودعات والمطاحن والشون ولا يجدون من يتسلم منهم محصولهم الوفير؟!
كانت هذه الموضوعات كفيلة بأن تنسي الواقفين لهيب الشمس وارتفاع نسبة الرطوبة، وضجيج السيارات العابرة من حولهم وما تثيره من غبار وتنسيهم أيضا كميات الخبز التي يحملها صبية المطاعم جهارا نهارا أمام أعين المنتظرين في الطابور الطويل، إلى أن وجدت نفسي وجها لوجه أمام موزع الخبز بعد أن سبقني الشيخ وقد حصل على حاجته وانصرف إلى سبيله دون أن يكمل الحوار، وحصلت أنا الآخر على حاجتي وانصرفت، ولكن ما زالت تلك الفوازير تحيرني وقد أعيتني الحيل وخارت قواي العقلية في البحث عن حل منطقي لها أو تفسير مقبول أو معقول.
© منبر الحرية،2 سبتمبر 2010

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018