الديمقراطية والحرية يعتبرهما المنظّرون السياسيون مفهومين خلافيين، أو، كما قد يقول المنظّر القانوني رونالد دوركين “إننا جميعاً نشترك في فهم الديمقراطية والحرية، ونتحدث عنهما بطريقة ذات معنى، ولكن، لدى الناس غالباً مفاهيم مختلفة جداً لمدلولات الحرية والديمقراطية، فإذا لم يكن لدينا وضوح حول المفاهيم التي نستشهد بها سيكون هناك تشويش بدلاً من حوار حقيقي.” هذه مسألة تم إغفالها في صوغ السياسة الأمريكية الخارجية وتنفيذها، هي التي تعاني من سلبيات عدة بينها الافتقار إلى وضوح المفاهيم.
الديمقراطية المرغوبة، الديمقراطية المستقرة والقابلة للدوام تتطلب حكومة محدودة. مؤيدو الجمع بين الديمقراطية والحرية يرفضون التركيز الأحادي على السيادة الشعبية التي تشكل جزءاً مهماً من خطاب الديمقراطية الحديثة. المطلوب هو ليبرالية دستورية، نظامٌ يتضمن بصورة أساسية مكوِّناً ديمقراطياً—كما شهدنا للتو في الانتخابات الأمريكية الأخيرة عندما صرفت إرادة الجماهير حزباً ووضعت حزباً آخر لإدارة الكونغرس. بيد أن نظاماً كهذا يحتاج إلى قيود واضحة ومحددة حول هيمنة الخيار العام. يجب أن تكون السلطات الديمقراطية محدودة، وإلا فلن تدوم الديمقراطية، فالديمقراطيات المستقرة والدائمة تحتاج ليس فقط الى إطار حكومي محدود بل تحتاج أيضاً إلى فصل السلطات، خصوصاً في ما يتعلق بسلطة قضائية مستقلة تستطيع إرغام الحكومة على الالتزام بالقوانين.
خلافاً لما يفترض مهندسو المحافظين الجدد في مسألة السياسة الخارجية الأمريكية، فإن حكومة ديمقراطية محدودة دستورياً ليست هي التوازن الطبيعي الذي تلجأ إليه المجتمعات الإنسانية عند إزالة عائق صغير. ما شهدناه هو سياسة أمريكية استندت إلى أساس من الفهم الساذج للتطورات القانونية والاجتماعية والسياسية بصورة تثير الدهشة. قال لنا المحافظون الجدد إن كل ما تحتاجه هو التخلص من ديكتاتور يقف عائقاً أمام حركة شعب نحو التوازن الطبيعي. وعلى نحو يثير الدهشة، كانت المسألة هيمنة شخص الديكتاتور على السلطة. إذاً، تخلص منه وقم بإجراء انتخابات و… مرحى! ديمقراطية في العراق!
علاوة على ذلك، لا ينبغي التقليل من شأن المقومات التقليدية للديمقراطية، إذ كان لتركز التفكير الأحادي على الانتخابات في تكوين العملية الديمقراطية، أو حتى في تعريفها، عواقب سلبية على الترويج لديمقراطية ليبرالية أصيلة، لأنه تم إهمال كل من الأسس الأخلاقية للديمقراطية الليبرالية والتفاعلات التاريخية التي تنحو باتجاه إنتاجها. العراق—مرة ثانية—يوفر لنا دليلاً واضحاً: جورج دبليو. بوش استهان، ليس فقط بصعوبة إيجاد ديمقراطية ليبرالية فعلاً بل أيضاً بالنسيج الاجتماعي للعراق والقوى التي توجد عقبات أمام التنمية الاجتماعية والاقتصادية—وحتى أمام إيجاد إجماع سياسي. القول الجوهري هو أن القادة الأمريكيين كانوا سذّجاً بصورة تثير الدهشة حول ظروف إيجاد ديمقراطية ليبرالية دستورية.
والمحاولات لتصدير أو ترويج الديمقراطية باستخدام القوة العسكرية لها آثار سلبية، الأمر الذي إن تجاهلناه قد يسبب لأمريكا الأخطار. لقد شهدنا تحولاً نحو ذهنية عسكرية ولكنها نوع من ذهنية غير منطقية تنزع إلى الحرب. الحرب على الإرهاب هي حرب ذات مفهوم خاطئ، لأن الإرهاب ليس دولة أو جيشاً بل هو تكتيك. في وسعك شن حرب على منظمة مثل “القاعدة” أو على دولة أجنبية مثل الرايخ الثالث أو الاتحاد السوفييتي، لكن شن حرب على تكتيك يتطلب التزاماً مفتوح الأجل. ليس في وسعك، في حرب كهذه، أن تعرف ما إذا كنت قد انتصرت، ولن تعرف ما إذا كانت الحرب قد انتهت، ولن تعرف ما إذا كنت قد أحرزت تقدماً. الحرب على تنظيم القاعدة كانت مبررة، لكن حرباً من دون تركيز على “الإرهاب” ثبت أنها خطأ جوهري. لقد قادتنا إلى هجوم غبي على صدام حسين وأدت إلى تآكل خطير في حرياتنا المدنية كأمريكيين، وأكثرها مدعاة للرعب تعليق إجراءات التقاضي القانونية، وهي أهم ضمان لحرياتنا ولسيادة القانون، بل هي في رأيي حق قانوني أهم من الانتخابات والحملات السياسية. لقد ألقت إدارة بوش هذا المبدأ القانوني الأنغلوساكسوني المحترم منذ عهود طويلة في سلة النفايات.
ورأينا، منذ أن بدأت هذه الحرب، تضخم السلطات الحكومية تحت إدارة وكونغرس أنفقا أموالاً بسرعة لم تشهدها إدارة أخرى خلال الأعوام الخمسين الماضية، وإنشاء أجهزة بيروقراطية جديدة ضخمة ليست سوى وسائل لإفساد مواطنينا ونظامنا السياسي، بما هي وسائل سياسية لمنح وعطايا في سائر أنحاء البلاد. شهدنا زيادات هائلة في المنح الحكومية والتدخل في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. كل هذا تم تبريره بحجة الحرب على الإرهاب وحملة ترويج الديمقراطية في الخارج. لقد ألحقنا ضرراً شديداً بنظامنا الدستوري باسم ترويجه في الخارج.
وقبل أن أختتم، أود الاستشهاد باقتباس من ويليام كريستول، محرر “الويكلي ستاندرد” الذي كان المؤيد المتحمس لغزو العراق. هذا الاقتباس من افتتاحية كتبها في شهر كانون الأول 2003، والتي تشكل تأييداً مدوياً لسياسة بوش الخارجية. يقول: “لقد أوضح بوش تماماً أن الاستراتيجية الوحيدة للخروج من العراق هي استراتيجية النصر، حيث تعريف النصر بأنه الديمقراطية.” إنني أتساءل عما إذا كان السيد كريستول قادراً على ترديد هذه الكلمات اليوم!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 8 آذار 2007.