توم جي. بالمر

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

أعاد القصف و العمليات العسكرية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة إلى الأذهان السؤال التالي : لماذا لا يستطيع الفلسطينيون و الإسرائيليون التوصل لحل لصراعهم ؟ من هو المخطئ ؟ أهي فقط حماس التي رفضت تجديد الهدنة ؟ أم أن إسرائيل هي التي لم تبادر خلال هذه المدة بخطوات نحو التفاوض ؟ أم أن هناك أسبابا أعمق من ذلك ؟
ليس هناك شك في أن حماس مسؤولة عن إطلاق الصواريخ، لكنها لا تمثل كل سكان فلسطين اللذين يعيشون منذ ثلاثة عقود حالة من البؤس. بؤس زاد من حدته حصار فُرض لمعاقبة السكان الذين دفعهم اليأس للتصويت لصالح حماس. و من سخرية القدر أن إسرائيل هي التي أخرجت المارد من الزجاجة عندما أعطت في سنة 1982 الضوء الأخضر لتأسيس حماس في فلسطين كما يؤكد شارل أندرلان في مقال نشر بجريدة لوموند الفرنسية في (06/02/04). كما يذهب البعض إلى أنها أسهمت ماديا في هذا التأسيس، و كان هدفها من وراء ذلك هو خلق قوة مضادة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
و في الوقت الذي تساند فيه الولايات المتحدة إسرائيل و يبقى العرب و الأوروبيون عاجزين، يبدو أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أصبح يمثل أساسا نقطة تجاذب داخل الحلبة السياسية الإسرائيلية حيث الأحزاب والسياسيون مهتمون بمصالحهم الانتخابية و المهنية. فبعد الفشل الذي تعرض له الجيش الإسرائيلي في لبنان صيف 2006 فإن المعارضة لم ترحم حزب”كاديما”؛ حزب الوزير الأول أولمرت و وزيرة الخارجية ليفني.
صحيح أن هناك انعداما دائما و خطيرا للأمن بمدن الجنوب تحاول كل الحكومات القضاء عليه. لكن السؤال الذي يستلزم الإجابة هو: هل يمكن تفسير ردة فعل إسرائيل، غير المتكافئة كما يصفها عدد من الملاحظين، بتحقيق أهدافا أمنية أم بالانتخابات المزمع تنظيمها في إسرائيل؟ يبدو أن قادة “كاديما” يضعون نصب أعينهم الانتخابات المقبلة آملين أن تزيل عملياتهم في غزة آثار كارثة 2006.
و يمكن لفرضية وجود موجات عنف دورية تتزامن مع فترة الانتخابات، أن تساعد على فهم أسباب فشل مبادرات السلام السابقة. ففي النظام البرلماني الإسرائيلي المبني على التمثيلية النسبية يمكن للأحزاب الصغيرة المتطرفة أن تحدد من سيحكم و تمنح الأصوات الضرورية لتشكيل أغلبية.
منذ السبعينات كان حزبا الليكود و العمل يعتمدان على الأحزاب الصغيرة و المتطرفة (مفدال، إسرائيل بيتنا) من أجل تشكيل تحالفات للحصول على الأغلبية، كما كانوا يسعون لضمان دعم هذه الأحزاب رغم معارضتها لمسلسل السلام. و يمكن لتصرفات استفزازية أن تؤدي أيضا إلى توجيه المسار السياسي كما حصل عندما استغل أرييل شارون زيارته لساحة المسجد الأقصى من أجل إشعال شرارة الانتفاضة الثانية. الشيء الذي أدى إلى تطرف السياسات المتبعة و ضمن فوزه في انتخابات2001.
و يمكن القول أيضا أن السياسة الأحادية للسلام التي بادر بها شارون في 2005 والتي أدت إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة تنسجم مع النظرية التي تقول بوجوب إبقاء كل الأوراق بأيدي السياسيين في إسرائيل. و تقول نفس النظرية أن الرهانات السياسية لا الأمنية هي التي توجه أغلب الاستراتيجيات في المنطقة. و لن تكون هذه أول مرة ولا هذا أول بلد تستعمل فيه القوة العسكرية كرسالة موجهة للناخبين ( والتدخل الروسي في جيورجيا والشيشان هو خير مثال على ذلك).
أصبحت قضية الحرب و السلام مع الفلسطينيين شبيهة بكرة تتجاذبها أطراف الطيف السياسي الإسرائيلي و لم تعد مجرد رد فعل موضوعي على تهديد عسكري. وقد ساهمت حماس بشكل مباشر وغير مباشر في هذه اللعبة السياسية الإسرائيلية. إذ يتشارك المتطرفون ضمنيا، و مع اختلاف أسبابهم، في نفس الهدف المتمثل في عرقلة مسلسل “السلام مقابل الأرض”. فعندما استأنفت، سنة 1992، المفاوضات بين إسرائيل و منظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات، بادرت حماس إلى القيام بعمليات عسكرية ضد جنود إسرائيليين. ولكن في سنة 1994 و بعد أن قام عضو جماعة كاش المتطرفة والمعارض لمسلسل أوسلو باروخ غولدشتاين بقتل 29 مسلما أثناء تأديتهم للصلاة، توجهت حماس نحو قتل المدنيين. وفي سنة 1995 بادرت إلى القيام بالعمليات الانتحارية الدموية.
و قد منح هذا الأمر سلاحا لليكود ضد غريمه الحزب العمالي مما أضعف هذا الأخير و أضر بمسلسل السلام. كما أدت عمليات حماس إلى إضعاف سلطة رئيس الوزراء في المرحلة الانتقالية، شمعون بيريز الذي فشل في انتخابات 1996 أمام بينيامين نتانياهو. و قد حصل هذا الأخير على مساندة الرأي العام و بذلك أوقف مسلسل السلام بتراجعه عن المعاهدات التي وقعها اسحق رابين.
كيف يمكن إذن الخروج من هذه الصيرورة المتصاعدة من العنف السياسي؟
و مع أن الإصرار السياسي للوصول إلى حل يبقى مهما لكنه، و لحد الآن، لم يؤدي إلى أية نتيجة تذكر. لذا، فان المشكل قد يستوجب مقاربة أخرى كتلك التي تركز على الاقتصاد مثلا. يجب على الإسرائيليين رفع الحصار على غزة. لأن السياسات الحمائية، و أيا كان مصدرها داخليا أم خارجيا، لا تسبب إلا الفقر.
وفي هذا الصدد يمكن القول أن السياسات الإسرائيلية تجاه غزة المتمثلة في التضييقات الاقتصادية و نقاط التفتيش و المراقبة، أدت إلى خنق النشاط الاقتصادي. و عندما لا تستطيع الشعوب الإنتاج فإنها تفكر و تلجأ إلى التخريب. إن الإيديولوجية هي المصدر الأساسي للتطرف العنيف. أما البطالة والبؤس الاقتصادي و اليأس فيشكلون البيئة التي تحتضنه. لقد ذكر صندوق النقد الدولي مؤخرا أنه، و بقياس الدخل فإن 79% من الأسر الفلسطينية تعيش تحت عتبة الفقر. و هذا يرجع إلى انعدام الحرية في الأراضي الفلسطينية و خصوصا غزة. و يلاحظ البنك الدولي أن إسرائيل و بتقييدها لحرية تنقل السلع و الأشخاص تعرقل أي فرصة للاقتصاد الفلسطيني للخروج من الأزمة.
إن لإسرائيل و فلسطين القدرة للخروج من دوامة العنف هذه، و ذلك باعتراف كل منهما بحق الآخر في الوجود. على الشعبين الإسرائيلي و الفلسطيني أن يعيا بأن دورة ردود الأفعال العنيفة التي يطلقها السياسيون و المتطرفون لا تؤدي إلا لنتائج عكسية. لذا فالتفاوض يبقى الطريق الأوحد نحو السلام.
إن الاستنتاج الذي يمكن أن نخرج به من دورة العنف هذه و التي تتزامن مع الانتخابات هو أن الحل السياسي يبقى ضروريا لكنه غير كاف. لأن السلم يتطلب أيضا مكونا اقتصاديا. فالمسار سيستمر بشكل أفضل لو مُنح الفلسطينيون فرصة للإنتاج بدل التخريب، ولتبادل السلع بدل تبادل الصواريخ. و كما كتب ذلك مونتسكيو”السلام هو نتاج طبيعي للتجارة”. كما أن إلغاء الحواجز أمام تنقل السلع يمكن أن يمثل الوسيلة لتشجيع مسلسل السلام و ذلك بخلق أطراف فاعلة في اتجاه السلام من الجانبين، و تحويل الأعداء إلى شركاء في التبادل، و القضاء على البطالة والبؤس باعتبارهما من مسببات التطرف.
إذن يجب اللجوء إلى و تفعيل الحل الاقتصادي عندما تفشل السياسة والقوة العسكرية.
د. هشام المساوي، د. إيمانويل مارتان، د. توم بالمر باحثون في مؤسسة أطلس.
© منبر الحرية، 11 فبراير 2009.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20101

على الرغم من الجهود الحقيقية الحثيثة التي يبذلها العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز لإصلاح المملكة وتحديثها، إلا أن ممارسات الرجعية التي يمارسها المناهضون للحضارة الحديثة هي في الواقع ممارسات فضيعة وضيعة تثير الإشمئزار. وما قضية علي حسين سباط، مقدّم البرامج اللبناني السابق، إلا مثالا على قولنا هذا. سباط مواطنٌ لبناني كان يقدّم برنامجا تلفزيونيا مباشرا، يُبث من لبنان ويغطي منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك السعودية وهو مسلمٌ أيضا. وكان خلال بث برنامجه، يتلقى الاتصالات من بعض الأفراد الذين يتصلون به، ويقدم لهم النصح والمشورة، كما يقوم ببعض التنبؤات حول مستقبلهم.
في مايو (أيار) عام 2008، وخلال قيامه برحلة للحج والعمرة إلى مكة، ألقت الشرطة الدينية السعودية القبض عليه واتهمته بالشعوذة و انتزعت منه الاعترافات وحوكم بلا محام للدفاع عنه. واستُخدِم اعترافه، الذي أ ُخذ بالإكراه، ضده وحُكم عليه بالإعدام في المدينة المنورة في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2009. وقد يُنفّذ الحكم في أي يوم من هذه الأيام.
وما تزال منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى تطالب بالإطلاق الفوري لسراح سباط وغيره من المعتقلين المتهمين بمثل هذه “الجريمة.” وأيا كان ما يعتقده المرء حيال برنامج سباط التلفزيوني، فمن غير المعقول أن يُعدم  لتهمة كالتي أدين بها هذا الرجل. وإن لم يوقَف هذا القتل، فإن تراب السعودية سيُضرّج بجريمة: جريمة قتل. وستخلِّف هذه الجريمة أرملة ثكلى وخمسة أطفال. لا بد أن يمنع تنفيذ الإعدام.
توضّح هذه القضية، بما لا يقبل الشك، القوة الهائلة التي تتمتع بها الشرطة الدينية في السعودية. فالملك عبد الله يواجه معركة صعبة في كفاحه ضد المتطرّفين: ليس فقط  الإرهابيين من تنظيم القاعدة الذين يقتلون الأبرياء، بل الشرطة الدينية والقضاء الذين يقتلون الأبرياء أيضا. كلما أقدم الملك على إصلاح الدولة، أعترض المتطرفون طريقه. على سبيل المثال، قبل شهور قليلة، عندما افتتح الملك جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا، وهي أول جامعة مختلطة في السعودية، واجه موجة عاصفة من الانتقادات التي أثارها رجال الدين. وفي آخر المطاف، أفتتحت الجامعة، وما كان من الشيخ سعد بن ناصر الشثري إلا أن قدّم استقالته من هيئة كبار علماء الدين. لا شك أن تلك كانت خطوة بالاتجاه الصحيح. مع ذلك، وكما تبرهن قضية سباط والآخرين الذين حكموا بالإعدام بتهم “الارتداد” أو “السحر،” فإن مقاومة المتطرّفين ما زالت مستمرة. ولكن الفرصة لا تزال سانحة أمام الملك عبد الله بن عبد العزيز بأن يتخذ قرارا شجاعا، كما فعل عندما جابه رجال الدين في الجدل المتعلق بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا. غير أن الملك ومؤيديه يحتاجون إلى العمل بحزم للحد من قوة المتطرفين وقدرتهم على تنفيذ اعتقالات غير القانونية، وتوجيه الاتهامات الباطلة، وانتزاع الاعترافات بالإكراه، وإقامة محاكمات غير عادلة، ولا سيما تلك التي تتكلل بارتكاب جرائم القتل (أي أحكام الإعدام). وما سباط والآخرون إلا أضحيات وقرابين بشرية يذبحها المتطرفون لا لشيء، سوى لإدامة قوتهم وسطوتهم.
ولكن ماذا سيأتي بعد؟ إعدام طفل يقرأ كتاب ’هاري بوتر‘؟ لقد خلق الحوار الإيجابي الذي بدأ بين إدارة أوباما ومعظم العالم الإسلامي فرصة لواشنطن لكي تعبّر عن قلقها حول مصير سباط. فكثيرا ما تحدّث الرئيس أوباما عن التزامه بحقوق الإنسان فعليه إذن أن يُشجّع الملك عبد الله بن عبد العزيز على اتخاذ موقف من أجل العدالة ووضع حد للأضحيات البشرية.
كما تقع على عاتق لبنان مسؤولية الدفاع عن مواطنيها وحمايتهم والمطالبة بسلامتهم. إن لحكومة رئيس الوزراء سعد الحريري علاقات خاصة مع العائلة الحاكمة في السعودية. لذلك، تحتاج هذه الحكومة، بوصفها حكومة تمثّل بلدا عربيا ديمقراطيا يمتلك صناعة قوية في مجال البث الإعلامي، تحتاج  أن تبيّن أنها ستدعم حرية التعبير – و لا سيما فيما يخص علي حسين سباط والآخرون.
على العاهل السعودي الملك عبد الله أن يُظهر شجاعته عبر مجابهة المتطرفين وإطلاق سراح علي حسين سباط وإعادته إلى لبنان. وإن فعل ذلك، يجب أن يحظى بدعم من جميع أمم العالم الأخرى.
© منبر الحرية، 01 يناير/كانون الثاني 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

أذهلَ قاض ٍ سعودي مؤخرا العديد من السعوديين، كما صَعَقَ الرأي العام العالمي، من خلال إتمامه عقد زواج بين طفلة تبلغ من العمر ثمان سنين ورجلٍ عمره سبعة وأربعون عاما. فقد ذكّر ذلك الحُكم الرأي العام بممارسة مقيتة لطالما كانت متوارية عن الأنظار، وبعيدة عن النقد العام والمناقشة العلنية.
لم تكن تلك القضية فريدة من نوعها. فهناك قضية أخرى في اليمن هزّت الرأي العام مؤخرا، حيث طالبت طفلة تبلغ من العمر عشرة أعوام المحكمة بالطلاق، بعد أن أجبرها والداها على الزواج من رجل يبلغ الثلاثين من العمر، استغّل هذا الامتياز الذي حصل عليه بموجب عقد الزواج ليغتصبها وينتهك شرفها. إنه لمن المخزي أن يُسمح بحدوث مثل هذه “الزيجات” القسرية الفاضحة. ومع ذلك، فإن المطلعين على الأنظمة التعليمية في العالم العربي لم يتفاجأوا.
إن الأنظمة التعليمية المخزية التي تقمع التفكير النقدي السليم هي التي جعلت مثل هذه الممارسات الرجعية تتواصل دونما رادعٍ، تتحصن خلف النظرة الدينية المحلية الضيقة الغير الخاضعة للتحقيق. إن مثل هذه الأحكام  و نظيراتها  في العربية السعودية ما هي إلا نتائج للنظام التربوي الفاشل.
لقد فشلت بعض المجتمعات العربية، وبشكل بائس، في خلق أجيال معدّة أعدادا جيدا، لتكون قادرة على اللحاق بركب العالم بشتى مجالاته. فالمناهج التربوية الدينية في السعودية، التي تزاوج إستظهار النصوص وحفظها عن ظهر قلب مع القبول السلبي للممارسات القبلية بلا نقد ولا مراجعة، هي التي أدت إلى تخلف البلاد. فهي لا تهيأ الطلبة لمواكبة  الحداثة والسير  في ركبها، ولا تأهلهم للإسهام الفعّال والمنتج في المنظومة الاقتصادية العالمية.
وعلى الرغم من سيل المليارات تلو المليارات من أموال النفط التي تُنفق على النظام التعليمي العام، لا يزال الطلبة السعوديون يقبعون وبشكل مستمر في أدنى المراتب ولا سيما في الرياضيات والعلوم.  والمذنب الأكبر الذي يتحمل وزر هذا الأمر هو القمع؛ قمع التفكير النقدي، فضلا عن قلة التعاطي مع الرياضيات والعلوم. فالمحصلة هي ضياع استثمار كبيرٌ  في البنى التحتية للتعليم العالي وعدم إتيان أكله. يبدو الأمر كما لو أن الدولة قد اشترت أحدث  جهاز الحاسوب، ولكنها أهملت برنامج الاستعمال المناسب لتشغيله.
تفشل معظم الأنظمة التربوية العربية في إعداد خريجيها للحياة العملية الإنتاجية. فيتخرج في كل عام آلاف الطلبة من الجامعات بشهادات في الشريعة الإسلامية أو الأدب العربي. ولكن السواد الأعظم من هؤلاء الخريجين سيلتحق بصفوف البطالة، أو سيشعل مناصب لا تناسبه، أو يوَظّف في القطاع الحكومي المترهّل، مما يسهم أيضا في ضعف الأداء الحكومي الذي يعاني مسبقا من عدم الكفاءة. لقد أُضعفت وروح المبادرة والاستقلال و التفكير الذاتي التي تعتبر الدعائم الأساسية لإذكاء روح المقاولة والممارسة الديمقراطية. فلا عجب إذن من أن يقوم القضاة بالحكم على الفتيات البريئات بمثل هذه المصائر المفجعة.
على العربية السعودية وغيرها من الدول العربية أن تنظر إلى سياسات الولايات المتحدة والهند التي حوّلت التعليم وجعلت منه قوة فاعلة وأساسية في تحقيق النمو الاقتصادي.
أوضحت كلاوديا غولدن ولورنس كاتز من جامعة هارفارد أن العائدات الاقتصادية للاستثمارات التعليمية هي عائدات ضخمة. إذ يكسب خريجي الجامعات، في الأنظمة التعليمية الموائمة لسوق العمل، عائدات جيدة جراء استثماراتهم للمال والوقت اللازمين. كما أن رغبة الأمريكيين في الاستثمار في الرأسمال البشري، نخبة كانوا أم عامة الشعب، حفّزت الإزهار الأمريكي وسارعت وتيرته. ولكن المفتاح لم يكن كمية الاستثمار فقط، بل في التفكير النقدي الموضوعي الذي جعله ذلك الاستثمار ممكنا. وعلى العكس من ذلك، نجد أن العربية السعودية تُغدقُ الإنفاق على التعليم العام المجاني، بهدف إدامة نوع من المعتقدات الدينية التقليدية التي يقوم بتدريسها معلمون ضعفاء الإعداد.
لقد أدى استثمار الهند في التعليم إلى انتشال مئات الملايين من البشر من حالة الفقر المدقع عبر نمو اجتماعي حقيقي مثير للإعجاب.  فقد قالت رئيسة الوزراء الهندية الراحلة إندريا غاندي: “إن التعليم هو قوة مُحررة، وفي عصرنا هذا هو قوة دفع صوب الديمقراطية أيضا، فهو يتخطى حواجز الطبقات والفرق والطوائف، مما يخفف من حدة التباينات التي تُفرَضُ بالولادة و عبر إكراهات أخرى ” غير أن تلك القوة المُحرِّرَة لم تكن تلقى تمويلها من الدولة فقط، كما لاحظ جيمس تولي من جامعة نيوكاسل في بحثه الميداني وفي كتابه الأخير الموسوم  الشجرة الجميلة. فقد استثمر الفقراء بشكل كبير من مواردهم الشحيحة ليؤمّنوا التعليم الملائم لأطفالهم. فكانت إحدى ثمار هذا التعليم الموجه صوب المهارة والتفكير النقدي هي نمو الصناعات التكنولوجية المتطورة في الهند، وهو فرصة لم يكن أحدا يحلم بها قبيل أعوام قليلة.
إن المهمة التي تواجه العديد من البلدان العربية هي الإقرار بأهمية التعليم وأولويته على التدريس المجرد. وليس السر في إنفاق المزيد من المال. فالكيمياء لم تفشل نتيجة نقص في الاستثمار في الأكاديميات المتخصصة بعلم الكيمياء. والمناهج التربوية التي تركّز على الحفظ والاستظهار و النقل لا بد من إصلاحها لكي تسمح بالتفكير النقدي الدي يعتبر عنصرا أساسيا للتخلص من براثن التخلف.  كما أن هذا الأمر نفسه ينطبق على تخلّف النظام القضائي و على التخلف الاقتصادي. فالإصلاح العميق والمتأني – الذي لا يقتصر على الجانب المالي فحسب بل يضع نصب عيناه  التفكير النقدي الحر – يمكن أن ينتج قضاة حكماء. أما الاستظهار فلا ينتج و يكرس سوى التخلف.
* تنشر هذه المقالة بتعاون مع صحيفة ذي ديلي ستار.
© منبر الحرية، 16 مايو 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

يحمل الجدل حول ما إذا كانت موسكو ستشهد استعراض تفاخر للمثليين في شهر أيار المقبل العديد من المضامين المهمة لمستقبل روسيا. التهديدات باستخدام العنف موجودة ولابد من مقاومتها. إن كيفية استجابة السلطات الروسية للتهديدات باستخدام العنف التي أصدرها تالغات تاج الدين الذي ينتمي للقيادة الروحية المركزية للمسلمين في روسيا، لهي قضية مهمة في شأنها الخاص. وبحسب السيد تاج الدين: “يجب عدم السماح بالاستعراض، وإذا ظهروا في الشوارع رغم ذاك، حينها لا بد من ضربهم.” ليس لمثل هذه التهديدات مكان في مجتمع يحكمه القانون. لا يجوز أن يتعرض الفرد للعنف لأنه يمشي مشابكاً يديه في الشارع، أو لأنه يمشي بسلام في استعراض. يجب أن يكون هذا واضحاً. (وهو واضح لدى المسلمين الآخرين، مثل السيد نفج الله آشيروف، المفتي الأعلى للجزء الآسيوي من روسيا، الذي رفض علناً الدعوات للعنف). ففي حديث إذاعي، قال السيد آشيروف إن المسلمين سوف لن يلجأوا للعنف ضد المشتركين في استعراض المثليين، على الرغم من أنهم (أي المسلمين) ضد هذا الأمر تماماً. فقال في محطة إذاعة موسكو: “لا أعتقد أن لدينا الحق في “جَلد” أي شخص أو قتله. فهذه الأشياء غير مقبولة لدينا لأنها ضد القانون.”
ولكن مسألة ما إذا كان الاستعراض سيُسمَح به أم لا، تتضمن أيضاً قضية كبرى عن المجتمع الروسي: ما إذا كانت روسيا ستصبح رائدة في مجال الصناعة، والتكنولوجيا، والآداب والعلوم، أم إنها ستتراجع نحو التعصب والتخلف. إنها قضية أن تصبح مجتمعاً منفتحاً أم منغلقاً. والإجابة عليها تحتوي على بعض المضامين التي تمتد إلى أبعد من حب البعض أو كرههم للمثليين.
لقد أوضحت دراسات المدن الأمريكية والكندية، وبشكل فاعل، أن المدينة أو الإقليم المنفتح يتقبل التنوع بأسلوب سلمي، ويُتوقع أن يكون أكثر إنتاجية اقتصادية، وأكثر ثراء وازدهاراً وتطوراً، تكنولوجياً وتجارياً. وفي دراسة رائدة للحياة الحضرية في أمريكا أجراها ريتشارد فلوريدا من جامعة جورج ميسن، وغاري غيتس من المعهد الحضري، ونشرت في حزيران عام 2001، ابتدع فلوريدا وغيتس مقياساً لحضور الشذوذ الجنسي الذكري في مجتمع سكاني حضري، ومن ثم ربطاه بوجود الصناعات التكنولوجية، والنمو الاقتصادي. واستنتجا بأن: “الشاذين جنسياً لا ينبئون بتركيز الصناعات التكنولوجية المتقدمة فحسب، بل إنهم مجسات للتنبوء بنموها أيضاً.” خمسة من المدن العشر التي تحتل المراكز الأولى في نموها في التكنولوجيا المتطورة ما بين عام 1990 وعام 1998، سجلت مواقع متقدمة بين المدن العشر الأولى في مؤشر المثليين.” وفي الدراسة نفسها، وجدا أيضاً معامل ارتباطٍ وثيقٍ بين وجود المبدعين من الناس (مثل الكتّاب، المصورين، النحاتين، الممثلين، وغيرهم)، وبين صناعات التكنولوجيا المتطورة –ذات الأهمية الخاصة لروسيا التي تواجه أزمة ديموغرافية طويلة الأمد– كما اكتشفا أن هناك معامل ارتباط قوي بين نسبة السكان الأجانب بالولادة وبين نجاح الصناعات التكنولوجية.
يبدو أن القضية ليست قضية الكليشية القديمة التي تقول إن “هؤلاء القوم” مبدعون أصلاً، ولكن ظهر أن الأماكن التي تستعرض أو تمتلك الكثير من الإبداع هي تلك الأماكن المفتوحة للإبداع، وهذا يعني الأماكن المتسامحة والمنفتحة لتعبيرات التنوع، بما فيه التنوع الإثني والتنوع الجنسي.
وكما قال غاري غيتس في مؤتمر المعهد الحضري حول “ديموغرافيا التنوع،” إن وجود الرجال المثليين والنساء السحاقيات بين السكان أمر مهم لأنهم:
“يضيفون مناخاً اجتماعياً من التسامح إزاء التنوع في المدن، ولهذا الأمر نتائج اقتصادية ايجابية لمختلف الأقاليم والمدن. ونقطة الجدل هنا أن مجتمع المثليين والسحاقيات الحيوي يوفر واحدة من أقوى الأدلة للتنوع والتسامح، فيما بين المناطق السكنية وفي المدن على حد سواء.”
لقد وصف غيتس أهمية هذا التسامح، قائلاً:
“وما هي نتائج التسامح؟ حسناً، إن تصدقوا زميلي ريتش فلوريدا، فإن أحد أكبر النتائج هو الإبداع. ويذهب (أي فلوريدا) إلى أن الإبداع هو ما تحتاجه المدن–وليس ما تحتاجه هو رأس المال البشري فقط–بل إنها تحتاج لرأس المال الإبداعي. ومثلما كانت المدن والمجتمعات البشرية تستقر حول مناجم الفحم والحديد الخام والممرات المائية، من الناحية التاريخية، فإن مدن اليوم تحتاج لأن تستقر قرب المبدعين. والمبدعون متنقلون، لذا فإن المدن تحتاج لأن تكون فضاءات تستقطب المبدعين وتجذبهم للعيش والاستقرار. وهؤلاء هم الذين سيقودون النجاح الاقتصادي.”
كيف للتسامح مع المثليين أن يظهر أو يؤثر في النجاح الاقتصادي؟ إنه تفويض جيد للانفتاح والتسامح مع المجتمع بوجه عام. وهذا الانفتاح وذاك التسامح يبعثان على ازدهار المجتمع. كما لاحظ ريتشارد فلوريدا، من جامعة جورج ميسن، أن “هناك عدة أسباب جعلت مؤشر المثليين [كنسبة مئوية للشاذين جنسياً من مجموع السكان]، مقياساً جيداً للتنوع. لقد تعرض المثليون لمستوى عالٍ من التمييز. كما أن محاولاتهم للاندماج في الاتجاه العام للمجتمع قد جوبهت بمعارضة شديدة. وإلى حد ما، يمثل الشذوذ الجنسي الحد الأخير لحدود التنوع في مجتمعنا، لذا فإن المكان الذي يرحب بالمثليين يرحب بكل أنواع الناس.”[1] لقد بات من الواضح أن الترحيب بالموهبة أو الكفاءة شرط أساسي لجذبها.
وليست هذه القضية بالقضية الجديدة. فالعلاقة بين التسامح والازدهار موغلة في القدم، كما هو معروف. لقد برزت هولندا كقائد في أوروبا على صعيد التجارة والفنون والتكنولوجيا والصناعة، منذ عدة سنوات خلت، بسبب الدرجة العالية من التسامح الذي أظهرته في التعامل مع الأقليات. فقد وصف الفيلسوف الهولندي الكبير بينيديكت دي سبينوزا، إبن الزوجين الفارين من الاستقصاء الاسباني،[2] وصف حرية الهولنديين عام 1670 قائلاً: “تحصد مدينة أمستردام ثمار هذه الحرية في ازدهارها العظيم، وفي إعجاب الآخرين بها. ففي هذه الدولة الأكثر ازدهاراً، والمدينة الأكثر روعة، يعيش أناس من كل أمة ومن كل دين، يعيشون بسلام سوية في أعظم انسجام، فلا يسألون أي سؤال لأخيهم المواطن قبل ائتمانه على بضاعتهم، سوى عما إذا كان غنياً أم فقيراً، أو أنه يتصف بالنزاهة أم لا. أما دينه وطائفته، فلا أهمية لهما: إذ ليس للدين تأثيراً في كسب قضية أو خسرانها أمام القضاة، وليست هناك طائفة محتقرة إلى الحد الذي يُحرَم فيه أبناؤها من حماية السلطة الموقرة للمدينة، شرط أن لا يلحقوا ضرراً بأحد، وأن يدفعوا لكل فرد مستحقاته، وأن يعيشوا باستقامة.” فهل سينعم مجتمع المثليين في موسكو بحماية السلطة الموقرة للمدينة بوجه تهديدات العنف، أم أن قادة المدينة سيسمحون بتعصب البعض أن يلحق الضرر بحرية ورفاهية الجميع؟
إن القرار حول السماح بالاستعراض في شارع تفيرسكايا من عدمه، ليس مجرد قرار حول تأييد أو عدم تأييد الفرد لرؤية المثليين وهم في العلن. إنه لقرار مرتبط بمستقبل روسيا. قبل ثلاثة عشرة عاماً، انتخبت روسيا، وبشكل ديمقراطي قادة قاموا بالخيار الصحيح في عدم تجريم الشذوذ الجنسي. وبعملهم هذا، فقد أوصلوا مجتمعهم إلى مراتب متقدمة من الحداثة، والتقدمية، والانفتاح. إن الجدل حول السماح باستعراض المثليين في موسكو هو مدخل أو تفويض لجدل أوسع بكثير، جدل حول خيار روسيا: إما أن تختار أن تُعدّ من بين الأمم المعروفة بالإبداع في التكنولوجيا، والعلوم، والأدب، والثقافة، والثروة، أو بين الأمم التي تُعرف بالتعصب، والغطرسة، والفقر، والرجعية. يبدو أن هنالك أمور على المحك أكثر مما يدرك الناس.
ملاحظات:
[1] ومن النتائج المشابهة التي تبين العلاقة بين الانفتاح والتسامح، من ناحية، وبين الإبداع الاقتصادي من ناحية أخرى، قد بينها ميريك إس. غيرتلر من جامعة أونتاريو، الذي وجد أن النسبة المئوية للمقيمين الأجانب بالولادة هي أيضاً مؤشر جيد للرفاه الاقتصادي.
[2] الاستقصاء الإسباني هو المحكمة الدينية التي أقامتها الكنيسة الكاثوليكية، في إسبانيا من 1542 وحتى 1834 والتي أدانت عدداً كبيراً من الناس بتهمة الهرطقة أو الكفر، وحكمت عليهم بالتعذيب والإعدام.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 8 آذار 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

إن تقديم الديمقراطية وتعزيزها والحفاظ عليها ليس بالأمر اليسير. تواجه الديمقراطية تحديات عديدة شأنها بذلك شأن سائر الأمور الحسنة الأخرى في حياتنا. ولكن يمكن التغلب عليها جميعاً. ومن المهم جداً أن نتعلم من تجارب الآخرين الذين خرجوا من ظلمات الدكتاتورية والطغيان إلى نور الديمقراطية الدستورية.
1. تحدي التوقعات
المغالاة في التوقعات: إذا كانت التوقعات عالية على نحو غير واقعي، وكان الناس يتوقعون من الديمقراطية أن تجلب الازدهار والصحة والتعليم وكل ما هو جميل في الحياة، فإنهم سيصابون بخيبة أمل كبيرة وسيسقط دعمهم للديمقراطية ويتلاشى. ليست الديمقراطية سحراً. ولا يعني الحصول على الديمقراطية ضماناً السعادة والصحة والغنى بين ليلة وضحاها. فكل ما يمكن للديمقراطية أن تضمنه هو الحق “في البحث عن السعادة”. لا يمكن للديمقراطية أن تضمن تحقيقاً للسعادة أو الحظ الحسن. إذ يجب كسب على كل ما تقدم ذكره من خلال العمل الجدي في المجتمعات التي يحكمها القانون ويسودها العدل، وليس مصادرتها من قبل طغيان الأقوى.
تدني مستوى التوقعات: إذا كانت التوقعات هابطة، وإذا توقع الناس انتخابات غير عادلة، وتصرفات غير قانونية وغير عادلة من قبل بعض مسؤولي الحكومة، وتسخيراً عنيفاً من قبل رجال الشرطة ورضوا بكل ما تقدم، فإن الشعب عندئذ سيستسلم للعيش وفقاً للمظهر الخارجي للديمقراطية فقط وليس مضمونها الجوهري. فمن أجل نجاح الديمقراطية، يجب أن يتوقع الشعب فعلاً من القضاة والمحافظين وأعضاء مجالس المحافظات وأعضاء البرلمان والوزراء والرؤساء وضباط الشرطة أن يطبقوا القانون. في الحكومات الفاسدة وغير الديمقراطية، يصاب الشعب بالدهشة عندما يتصرف المسؤولون وفقاً للقانون. أما في البلدان الديمقراطية التي يحكمها القانون، يندهش الشعب عندما يتصرف المسؤولون بشكل منافٍ للقانون.
إن التوقعات الواقعية هي المفتاح لتعزيز الديمقراطية وترسيخها. إذا كان الناس يتوقعون نتائجاً سحرية من الديمقراطية، فسيصابون بخيبة أمل وسيهجرون الديمقراطية. ومن ناحية اخرى، إذا لم يتوقع الناس من مسؤولي الحكومة تصرفات عادلة أو انتخابات نزيهة، فانهم قد لا يصابون بخيبة أمل، ولكنهم دون شك لن يتمتعوا بالديمقراطية لوقت طويل.
2. تحدي الشرف

من المهم أن يفهم الانسان الشريف، رجلاً كان أم امرأة، ان قبول الهزيمة في الانتخابات النزيهة—في البلدان الديمقراطية التي يحكمها القانون—أشرف له من أن يرفض القبول بها ويقاتل مستخدماً كل أنواع الأسلحة. في المجتمعات الديمقراطية الناشئة، من الصعب على الذين كانوا خصوماً للحكومة أو الذين يؤمنون بقضاياهم بشدة أن يتقبلوا إمكانية فوز الطرف الآخر في الانتخابات. قد يكون من الصعب أن نتعلم أن التسليم بنتائج العملية الدستورية أشرف من تحديها بالقوة. إن منزلة “المعارضة الوطنية المخلصة” هي منزلة شريفة. إذ ربما تحل هذه المعارضة في يومٍ ما محل الحكومة الحالية، عندها يجب على الحكومة الحالية أن تظهر التزامها بالشرف في أن تكون هي معارضة وطنية. من المخجل أن نرفض نتاج انتخابات عادلة في بلد ديمقراطي دستوري.
يمكن الحصول على شرف الديمقراطية بسهولة عندما يفهم الجميع أن خسارة الانتخابات لا تعني خسارة كل شيء، لأن الديمقراطية الدستورية تحمي حقوق الحياة والحرية والملكية، وتمكّن المعارضة الوطنية الحالية من أن تكون حكومة في الانتخابات المستقبلية.
3. تحدي التعددية

إن نظريات الديمقراطية القائمة على أساس ادعاءات “إرادة الأمة” كثيراً ما تؤول الى الفشل. يمكن أن تتكون الأمة من خليط من الأفراد والعائلات والعشائر والمجتمعات الدينية والمدن والمناطق والمجموعات العرقية. ليست الأمة كالفرد الواحد الذي يكون له رأي واحد ونهائي إزاء قضية واحدة. تحوي الأمة عدة آراء مختلفة إزاء العديد من القضايا، ولن يتفق الجميع مع بعضهم البعض. إذا حاول أي بلد ديمقراطي أن يصر على مبدأ تماثل الآراء في الكثير من الأمور، ستجد الأمة أنها منقسمة على نفسها. وستكون هنالك صراعات ربما تؤدي الى اندلاع أعمال عنف.
من المهم أن تكون الأمور التي تقررها العمليات الديمقراطية محددة، إذا كنا نريد أن تكون ديمقراطيتنا منسجمة ومستقرة. في الديمقراطية الدستورية المستقرة، هنالك الكثير من القضايا لا تبت بها الانتخابات الديمقراطية ولكنها رهن بالاختيار الحر للمجموعات والأفراد، والذين يتولى الدستور حماية حقوقهم.
إن الحريات المحمية دستورياً ذات أهمية خاصة في الدول ذات “الأقليات الدائمية” مثل الجماعات الدينية والعرقية. فإذا ما اقتنع هؤلاء انهم غير قادرين على أن يصبحوا أغلبية ليفوزوا في الانتخابات في يوم ما وأن اغلب حقوقهم الأساسية ستسلب اذا ما بقوا أقلية، فإنهم سيشعرون بعزلة تامة وربما يلجؤون إلى العنف. إن كل من حرية الدين، وحرية ارتداء الحجاب، وحرية اللغة، وحرية التجمع مع الآخرين من دون التخوف من الاعتقال أو التحرش، هي حريات محمية بالدستور في البلدان الديمقراطية ولا تتأثر بتغير قرارات الأغلبية.
لا توجد هنالك “إرادة واحدة للأمة”، بل هنالك إرادات ووجهات نظر واهتمامات وآراء مختلفة. يجب الاحتراس من الساسة الذين يدعون بأن هنالك ارادة واحدة للأمة وأنهم يمثلون صوتها الشرعي الوحيد. إذا كان من الممكن التكلم عن “ارادة الأمة” بشكل هادف، يمكن حينها الإشارة الى الدستور فقط، وليس الأشارة إلى قائد أو قرار سياسي أو قضية ما، لأن الدستور في حد ذاته بحمايته للحقوق هو المعيار الوحيد لوحدة الأمة.
4. تحدي العدالة

هنالك خطرمن تحول الديمقراطية الى أداة للظلم وخصوصاً في المجتمعات ذات التنوعات العرقية أوالدينية أوالعائلية أوالعشائرية أواللغوية القوية. عندما تحصل مشاكل ما، يقوم الكثير من الساسة بإلقاء اللائمة على المجموعات الأخرى، وعلى الأغلب الأقليات، ومن ثم يطالبون الدولة بمعاقبتهم ومصادرة ممتلكاتهم. يمكن أن يطالب الساسة الانتهازيون وغير العادلين الدولة بإعادة توزيع أملاكهم الى مناصريهم. يمكن أن ينزل مستوى الحكومة حينئذ إلى مستوى النهب والسلب. لن تكون حياة وأموال وحريات الناس في مثل هذه البلدان في مأمن من الخطر. يمكن للجماعة التي فازت اليوم وسلبت أموال الغير أن تخسر غداً وتخسر كل ما حصلت عليه بل أكثر من ذلك. ويخسر الجميع في نهاية المطاف. إن تقييد نشاطات الحكومة بالقانون، وعدم اعتبار سياسة الدولة وسيلة لتكريم مناصري الحكومة ولمعاقبة مناوئيها، يجعل الدولة الديمقراطية الدستورية قادرة على ان تجلب الازدهار للجميع.
إن سرقة مجموعة معينة وجزل العطاء للآخرين لا يفضي بالدولة إلا الى الفقر، ماعدا أولئك الذين يستحوذون على السلطة المطلقة والذين لا ينفكون عن امتلاك القصور الفخمة والسيارات الفارهة. يجب أن يكون هَمّ الدولة الوحيد هو الدفاع عن العدالة ضد العدوان. عندما تكون الدولة أداة للعدوان والعنف، تكون الديمقراطية في خطر.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 4 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لقد تأكد مؤخراً أن مؤيدي مذهب الحرية، أو الليبراليين الكلاسيكيين، يعتقدون بأن “الأفراد يتشكلون او يُصنََّعون بشكل تام وأن تفضيلاتهم القيمية تكون في موضع أولوية على أي مجتمع وخارج نطاقه.” “لقد تجاهلوا الدليل العلمي القاطع حول التأثيرات السلبية للانعزال،” والأكثر غرابة من ذلك “إنهم يعارضون بشدة فكرة “القيم المشتركة” أو فكرة “المصلحة العامة.”” إنني اقتبس هنا من الخطاب الرئاسي الذي ألقاه البروفسور أميتاي إتزيوني عام 1995 في الجمعية الأمريكية السوسيولوجية (مجلة أميريكان سوسيولوجيكال ريفيو، شباط 1996). حظي البروفسور إتزيوني، بوصفه ضيفاً دائماً في البرامج الحوارية التلفازية ومحرراً لصحيفة ذي ريسبونسيف كوميونيتي، بشهرة واسعة بين أوساط الجماهير لكونه مروّجاً لحركة سياسية تدعى الاجتماعياتية.
وقلما كان إتزيوني يقوم بمفرده بمثل هذه الاتهامات. فقد جاءت من اليمين ومن اليسار على حد سواء. فمن اليسار، ذهب السيد إي. جي. دونيه، كاتب عمود صحفي في الواشنطن بوست في كتابه: “لماذا يكره الأمريكيون السياسة؟” إلى أن الشعبية المتزايدة للقضية الليبرالية اقترحت أن العديد من الأمريكيين أقلعوا حتى عن إمكانية حصول “المصلحة العامة”، وفي مقال حديث في مجلة الواشنطن بوست ذكر أن “التأكيد الليبرالي على الأفراد الأحرار يبدو وكأنه يفترض أن الأفراد يأتون إلى هذا العالم وهم بالغون كاملون ويمكن اعتبارهم مسؤولين عن تصرفاتهم منذ لحظة الميلاد.” ومن اليمين، ادعى الراحل راسل كيرك في مقال لاذع له تحت عنوان: “مؤيدي مذهب الحرية: سقسقة الطائفيين”، بأن “الليبراليين الخالدين، مثلهم مثل إبليس، لا يطيقون أية سلطة، دنيوية كانت أم روحية.” وبأن “الليبرالي لا يقدس المعتقدات والأعراف القديمة، أو العالم الطبيعي، أو وطنه أو الشعلة السرمدية الكامنة في أبناء جلدته.”
وبأدب أكثر، شجب السيناتور دان كوتس (من إنديانا) وديفيد بروكس من مجلة ويكلي ستاندرد معتنقي الليبرالية على تجاهلهم المزعوم لقيمة المجتمع، إذ كتب كوتس مدافعاً عن مقترحه باتباع المزيد من البرامج الفيدرالية “لإعادة بناء” المجتمع، أن “مقترحه محافظ وواعٍ، ليس ليبرالياً صرفاً. وهو يميز إسهامات المجموعات—ليس الأفراد فقط—في إعادة بناء البنى التحتية الاجتماعية والأخلاقية لمناطق سكناهم.”
لم يتم تثبيت مثل هذه الاتهامات التي كثيراً ما كررها المعارضون للمثل الليبرالية التقليدية من خلال اقتباسات من الليبراليين التقليديين، كما لم يتم تقديم أي دليل ليثبت أن هؤلاء الذين يفضلون الحرية الفردية والحكومة الدستورية المحدودة الصلاحيات، يعتقدون بما جاء في اتهامات إتزيوني وأتباعه. إن الاتهامات غير المعقولة والتي غالباً ما تكون مصنعة مفبركة وغير مثبتة يمكن أن يتم التسليم بها على أنها حقائق، لذلك من الضروري محاسبة إتزيوني ونقاد آخرين من الاجتماعياتيين للحرية الفردية، على ما تسببوا به من التشويهات والتحريفات.
الفردانية الذرية

دعونا نفحص الحجة الواهية “للفردانية الذرية” التي وضعها إتزيوني وديون وكيرك وآخرون. لقد قام النقاد الاجتماعياتيون بالتأسيس للاتهامات الموجهة ضد الليبرالية التقليدية، مثل الفيلسوف تشارلز تيلور والعالم السياسي مايكل ساندل فوضعوا الأصول الفلسفية للاتهام وبدأوا به. على سبيل المثال، يدّعي تيلور أنه بسبب إيمان مؤيدي مذهب الحرية بالحقوق الفردية ومبادئ العدالة التجريدية، “فإنهم يؤمنون بالإكتفاء الذاتي للإنسان، أو الفرد—إن اعجبك ذلك.” إن هذا تحديث للهجوم القديم على الليبرالية التقليدية الفردية، الذي بموجبه افترض الليبراليون التقليديون أن “الفرد المجرد” أساس لوجهات نظرهم حول العدالة.
ليست هذه الإدعاءات سوى محض ترهات لا معنى لها. فلا أحد يؤمن فعلياً بوجود “الفرد المجرد”، لأن جميع الأفراد يمتلكون بالضرورة وجوداً مادياً. ولا يمكن ان يكون “إكتفاءاً ذاتياً” حقيقياً للأفراد، وهذا ما يدركه أي قارئ لكتاب: ثروة الأمم. بالعكس، فإن الليبراليين التقليديين والمؤيدين لمبدأ الحرية يذهبون الى أن نظام العدالة يجب أن يتجرد من الخصائص أو الصفات المادية للأفراد. وعليه، فعندما يقف الفرد أمام المحكمة، فإن ارتفاعه ولونه وثروته ومنزلته الاجتماعية وديانته ليس لها علاقة بقضية العدالة. وهذا ما تعنيه المساواة أمام القانون، فهي لا تعني أن لا أحد يمتلك فعلاً ارتفاعاً أو لون بشرة أو معتقدات دينية محددة. إن التجريدية هي عملية عقلية نستخدمها عندما نحاول أن نميز ما هو ضروري أو ذا صلة بالمشكلة، وهي لا تتطلب اعتقاد بالكيانات التجريدية.
إن السبب الدقيق وراء الحاجة إلى التعاون كضرورة لبقاء الإنسان وازدهاره هو عدم قدرة الأفراد أو المجموعات الصغيرة على الاكتفاء الذاتي بشكل كامل. ولأن هذا التعاون يحدث بين أفراد لا حصر لهم ولا يعرفون بعضهم البعض، فان القوانين التي تحكم ذلك التفاعل هي تجريدية بطبيعتها. إن القوانين التجريدية التي تحدد سابقاً ما يمكن أن نتوقعه من بعضنا البعض تجعل التعاون ممكناً على نطاق واسع.
لا يمكن لشخص عاقل أن يعتقد بأن الأفراد قد يتشكلون بشكل كامل خارج مجتمعهم وبمعزل عنه. فان اعتقد بذلك، فهذا يعني أن ليس بمقدور أحد أن يكون له والدان أو أبناء عم أو أصدقاء أو مَثَل أعلى أو حتى جيران. فمن الواضح أن كلاً منا متأثر بمن حوله. إن ما يؤكده مؤيدو مذهب الحرية هو أن الفروقات بين البالغين الطبيعيين لا تقتضي وجود اختلاف في الحقوق الأساسية.
مصادر الالتزامات وحدودها
ليس مذهب الدفاع عن الحرية بالأساس نظرية تجريدية حول أولوية الأفراد على حساب الأشياء المجردة أقل من كونه نظرية سطحية عن “الأفراد المجردين”، كما أنه ليس رفضاً أو شذوذاً عن التقاليد، كما اتهمه كيرك وبعض المحافظين. بل إنه نظرية سياسية انبثقت استجابةً للنمو غير المحدود لسلطة الدولة. يستمد مذهب الدفاع عن الحرية قوته من اندماج قوي للنظرية المعيارية الأخلاقية والمصادر السياسية وحدود الالتزامات والنظرية الإيجابية الموضحة لمصادر النظام. إن كل شخص له الحق في أن يكون حراً. والأشخاص الأحرار يستطيعون أن ينتجوا النظام بتلقائية، من غير قوة آمرة عليهم.
وماذا عن وصف ديونيه اللامعقول لمبدأ الدفاع عن الحرية الذي ذكر فيه: “أن الأفراد يجيئون إلى هذا العالم كبالغين كاملين، ويعتبرون مسؤولين عن أفعالهم منذ لحظة ولادتهم”؟ يميز الليبراليون الكلاسيكيون الفرق بين البالغين والأطفال، وكذلك الفروقات بين البالغين العاقلين والبالغين المجانين أو المعاقين أو المتخلفين عقلياً. إن وجود الأوصياء شيء ضروري للأطفال وللبالغين غير الطبيعيين؛ لأنهم غير قادرين على اتخاذ قرارات مسؤولة بأنفسهم. لكن لا يوجد هناك أي سبب واضح لجعل بعض البالغين العاقلين يمتلكون سلطة اتخاذ القرارات بالنيابة عن بالغين عاقلين آخرين، كما يعتقد اليساريون واليمينيون المؤيدون للسلطة الأبوية على حد سواء. يذهب الليبراليون الكلاسيكيون إلى أنه ليس لأي بالغ عاقل الحق في فرض الخيارات على بالغين عاقلين إلا في ظروف غير طبيعية، مثلما يحدث عندما يجد شخص ما شخصاً فاقداً لوعيه فيقدم له المساعدة الطبية أو يتصل بسيارة الإسعاف.
إن ما يميز مذهب الليبرالية الكلاسيكية عن غيرها من وجهات النظر الأخلاقية السياسية هو نظريتها في الالتزامات القابلة للفرض. فبعض الالتزامات لا تفرض عادة بالقوة، مثل كتابة رسالة شكر للمضيف بعد حفلة عشاء، لكن في بعض الحالات أخرى، كالالتزام بعدم توجيه لكمة في الوجه لناقد غير مرغوب فيه، أو الالتزام بدفع ثمن زوج من الأحذية قبل أن تأخذها وتخرج من المحل، فتعتبر الالتزامات واجبةً هنا. يمكن للالتزامات أن تكون عامة أو خاصة. إن لدى الأفراد—مهما كانوا أو أينما كانوا، ما عدا في بعض الحالات الاستثنائية—واجبات مفروضة عليهم تجاه الآخرين وهي: أن لا يسببوا لهم الأذى في حياتهم أو حرياتهم أو صحتهم أو ممتلكاتهم. وعلى حد تعبير جون لوك: “لأن الناس جميعهم متساوون ومستقلون، لا يحق لأي كان أن يلحق الأذى بحياة الآخرين أو صحتهم أو حريتهم أو ممتلكاتهم”. يتمتع كل الأفراد بحق عدم التعرض للأذى من قبل الآخرين في تمتعهم بهذه الأشياء. إن هذه الحقوق والواجبات مترابطة فيما بينها، ولأنها عامة و”سلبية” في خصائصها، فإنها تحت ظروف معينة تسمح بأن يتمتع بها الجميع وفي نفس الوقت. إن الأساس الذي تستند إليه النظرة الليبرالية الكلاسيكية هي القاعدة العامة التي توصي بحقوق الإنسان وعدم جواز قتلهم أو جرحهم أو سلبهم. ولا يجب افتراض وجود “شخص مجرد” لتأكيد ذلك الحق. إن السبب الذي يجعل الليبرالي الكلاسيكي يدافع عن حقوق الفرد هو احترامه وليس ازدراءه للـ”شعلة المتقدة في أبناء جلدته.”
تعتبر هذه الالتزامات عامة وشاملة ولكن ماذا عن الالتزامات “الخاصة”؟ وانا أكتب هذه السطور، جالساً في مقهى وقد طلبت لتوّي فنجاناً آخراً من القهوة. لقد قمت بملء حريتي بتحمل التزام معين لدفع ثمن القهوة: لقد نقلت بعضاً من حق ملكيتي لمبلغ معين من المال لصاحبة المقهى، وقد نقلت هي بدورها حقها في ملكية فنجان القهوة لي. يذهب الليبراليون الكلاسيكيون إلى أن الالتزامات الخاصة، تحت الظروف الطبيعية على أقل تقدير، يجب أن تتم بالموافقة أو القبول، ولا يمكن فرضها من جانب واحد عن طريق الآخرين. إن المساواة في الحقوق تعني أنه لا يحق لبعض الناس فرض الالتزامات على الآخرين بكل بساطة، لأنهم بذلك ينتهكون الأسس الأخلاقية كما ينتهكون حقوق الآخرين أيضاً. من ناحية أخرى، يذهب الاجتماعياتيون إلى أننا نولد جميعاً بالتزامات معينة كثيرة، مثل إعطاء هذا الكيان من الاشخاص—الذي يطلق عليه الدولة أو بشكل أكثر غموضاً الأمة أو المجتمع أو الناس—الكثير من المال والكثير من الطاعة أو حتى حياة المرء. و يذهب الاجتماعياتيون الى أن مثل هذه الالتزامات يمكن أن تُفرض بالقوة. في الحقيقة، ووفقاً للاجتماعياتيين أمثال تيلور وساندل، فإنني أُعتبر فرداً مُشَكّلاً ليس بواسطة حقائق نشأتي وتجاربي فحسب، بل بواسطة مجموعة الالتزامات المعينة المفروضة عليّ.
أعود وأكرر، يدعي الاجتماعياتيون أننا كأشخاص مُشكلين من خلال التزاماتنا المعينة، ولهذا لا يمكن لتلك الالتزامات أن تكون أمراً اختيارياً. مع ذلك، فأن هذا محض تأكيد ولا يمكنه أن يكون بديلاً عن مناقشةٍ أو جدل يذهب إلى أن الفرد مقيد بالتزامات نحو الآخرين؛ وهي ليست تبريراً للقسر أو الإجبار. قد يتساءل المرء—وهو محقٌ في تساؤله—إذا ولد الفرد مقيداً بالتزامات لإطاعة الأوامر، فمن هو الذي ولد ممتلكاً للحق في إصدار الأوامر؟ إذا ما أراد أحد ما نظرية التزام مترابطة، فلا بد أن يكون هناك أحد ما، فرد أو مجموعة أفراد، عليه أو عليهم حق تنفيذ الالتزام. إذا ما كنت فرداً مُشكّلاً بواسطة التزامي بالطاعة، إذاً فمن الذي يُشكَّل كشخص له حق الطاعة؟ إن مثل هذه النظرية في الطاعة، يمكن أن تكون مرتبطة بعصر الملوك-الآلهة، ولكنها تبدو بالأحرى في غير مكانها في نطاق العالم الحديث. و خلاصة القول، لا يوجد شخص عاقل يمكنه تصديق فكرة وجود أفراد مجردين، والخلاف الحقيقي ما بين الليبراليين الكلاسيكيين والاجتماعياتيين هو ليس حول الفردانية بحد ذاتها، بل حول مصدر الالتزامات المعينة، إن كانت إلزامية أو اختيارية.
المجموعات والمصالح العامة

إن نظرية الالتزام التي تركز على الأفراد، لا تعني بأنه لا يوجد “شيء” مثل المجتمع، أو أنه ليس بإمكاننا أن نتحدث عن مجموعات لها معنى. فحقيقة وجود الأشجار المنفصلة لا تعني بأنه لا يمكننا التحدث عن وجود غابات. المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد، ولا هو شيء “أكبر أو أحسن” منفصلاً عنهم. وكما أن المبنى ليس مجرد مجموعة من الطابوق، بل هو طابوق وعلاقات فيما بين طابوقة واخرى، كذلك المجتمع فهو ليس عبارة عن فرد مع حقوقه، بل العديد من الأفراد مع مجموعة من العلاقات المعقدة فيما بينهم.
من شأن لحظة من التفكير أن توضح بأن ادعاءات الليبراليين الكلاسيكيين يرفضون “القيم المشتركة” و”المصلحة العامة” على أنها ادعاءات غير مترابطة. إذا ما تقاسم الليبراليون الكلاسيكيون قيمة الحرية (في الحد الأدنى) فإنهم لن يستطيعوا “معارضة فكرة القيم المشتركة”، وإذا آمنوا بأننا جميعاً سنكون في حال افضل إذا ما تمتعنا بالحرية، عندها لا يمكن أن يكونوا قد “تخلّوا عن إمكانية تحقق المصلحة العامة”، لأن الجزء الرئيسي من جهودهم ينصب على التأكيد على معنى المصلحة العامة! ورداً على إدعاء كيرك بأن الليبراليين الكلاسيكيين يعارضون العرف، دعوني أشير إلى أن الليبراليين الكلاسيكيين يدافعون عن أعراف الحرية، والتي تعتبر ثمرة تاريخ إنساني يمتد إلى آلاف السنين. إضافة إلى ذلك، فان التقليدية الصرفة ليست متماسكة، لأن التقاليد أو الأعراف لا يمكن أن تصطدم ببعضها البعض، وبعد ذاك لن يكون للفرد ثمة مرشد للأداء الصحيح. وعموماً، إن القول الذي يدّعي بأن الليبراليين الكلاسيكيين “يعارضون التقاليد” يعد قولاً غير معقول ومنافٍ للذوق. إذ أن الليبراليين الكلاسيكيين يتبعون التقاليد الدينية، والعادات العائلية، والتقاليد العرقية، والتقاليد الاجتماعية كالمجاملات واحترام الآخرين، وغيرها من الامور التي لا أخالها تندرج ضمن التقاليد من منظار كيرك بكل تأكيد.
إن قضية الليبراليين الكلاسيكيين للدفاع عن الحرية الشخصية، والتي شوهها النقّاد الاجتماعياتيين، هي قضية بسيطة ومعقولة. من الواضح أن الأفراد المختلفين يحتاجون إلى أشياء مختلفة ليعيشوا بسلامة وصحة وفضيلة. وعلى الرغم من طبيعتهم المشتركة، إلا أن الناس يتميزون ويختلفون عددياً ومادياً، فلدينا احتياجات مختلفة، إذن، كم إلى أي حد يمكن للمصلحة العامة أن تتسع؟
أكد كارل ماركس، وهو ناقد اجتماعياتي لاذع لمذهب الليبراليين الكلاسيكيين، بأن المجتمع المدني مُرتكز على “تفكك الإنسان” بحيث أن ذلك الإنسان “بجوهره لم يعد في المجتمع بل في اختلاف”، وعلى العكس من ذلك، فحسب الاشتراكية، يمكن للفرد أن يتعرف على طبيعته “كنوع احيائي”. ونتيجة لذلك، يؤمن الاشتراكيون بأن التدبير الجمعي لكل شيء أمراً مناسباً، ففي الحالة الاشتراكية الحقيقية، يمكننا أن نستمتع بنفس المصلحة العامة، ولا يمكن للصراع أن يتواجد. أما الاجتماعياتيون فهم أكثر حذراً، ولكن بالرغم من كثرة كلامهم، نادراً ما أخبرونا عن ماهية مصلحتنا العامة. فالفيلسوف الاجتماعياتي ألاسدير ماكينتاير، على سبيل المثال، أصر في 219 صفحة في كتابه المؤثر: ما بعد الفضيلة، أن هناك “حياة جيدة للإنسان” يجب أن تكون مطلوبة جماعياً، بعدها وعلى نحو هزيل، ختم قائلاً بأن “الحياة الجيدة للإنسان هي الحياة المُستغلة في البحث عن حياة جيدة للإنسان.”
هناك إدعاء مألوف بأن توفير ضمان التقاعد من خلال الدولة يعتبر عنصراً للمصلحة العامة، فهذا “يجمعنا جميعاً سوية”. ولكن من هو المشمول “جميعاً سوية”؟ تشير الإحصائيات التأمينية على أن الذكور الامريكيين من أصول إفريقية (الأمريكيون السود) والذين قاموا بدفع نفس الضرائب لنظام الضمان الاجتماعي كما دفعها الذكور البيض من خلال حياتهم المهنية يحصلون بالنهاية ما يعادل النصف. إضافةً إلى ذلك، يموت ذكور سود أكثر من البيض قبل أن يستلموا قرشاً واحداً، وهذا يعني بأن كل نقودهم قد صُرفت من أجل منفعة الآخرين وأن شيئاً من استثماراتهم لن ينفق على أهاليهم. وبصيغة أخرى، تعرض السود للسرقة من أجل نفع المتقاعدين غير السود. هل يعتبر الذكور السود جزءاً “منا جميعاً” ويستمتعون بالمصلحة العامة، أو هل إنهم ضحايا المصلحة العامة من الآخرين؟ (وعلى القراء أن يعلموا أنه سينتفع الجميع في ظل خصخصة النظام التقاعدي، وهذا ما يدفع مؤيدي الحرية إلى التأكيد على المصلحة العامة من خلال حرية الاختيار ما بين انظمة التقاعد وليس تلك المفروضة من الدولة). وما الادعاءات حول “المصلحة العامة” إلا أغطية لمحاولات أنانية للحصول على مصالح خاصة، كما ذكر الليبرالي الكلاسيكي، الروائي النمساوي روبرت موزيل في عمله الرائع: الرجل بلا خصائص: “في هذه الأيام المجرمون فقط يجرؤون على إيذاء الآخرين من دون فلسفة.”
وقد لاحظ الليبراليون الكلاسيكيون التعددية المحتومة للعالم الحديث ولهذا السبب فهم يؤكدون على أن الحرية الفردية هي جزء من المصلحة العامة على الأقل. وهم يفهمون أيضاً الحاجة القصوى للتعاون من أجل بلوغ مراد المرء، فلا يمكن لإنسان منعزلٍ أن يكون “مكتفٍ ذاتياً”، وهذا هو السبب بالضبط وراء الحاجة للقوانين التي تحكم الملكية والعقود، على سبيل المثال، لأجل ان نجعل التعاون المسالم ممكناً ولمأسسة الحكومة لفرض تلك القوانين. إن المصلحة العامة هي نظام عدالة يسمح للجميع العيش معاً بتوافق وسلام، وهي الأكثر شمولاً مما تميل الى أن تكون، وليست مصلحة عامةً “لجميعنا”، بل لبعض منا على حساب الآخرين (هنالك معنى آخر، مفهوم من قبل كل الآباء، لمصطلح “الاكتفاء الذاتي.” إذ يرغب الآباء بأن يعتمد أطفالهم على أنفسهم وليس على غيرهم مثل السارقين أو المتسولين والمتسكعين أو الطفيليات. تلك هي حالة مهمة لاحترام الذات، وكثيراً ما يخلط تايلور ونقاد آخرون لمذهب الليبرالية الكلاسيكية بين ميزة اكتفاء الذات وحالة عدم الاعتماد على الآخرين المستحيلة).
إن قضية المصلحة العامة مرتبطة باعتقادات الاجتماعياتيين فيما يتعلق بالشخصية أو الوجود المستقل للجماعات. فكلاهما جزء لايتجزأ من وجهة نظر مبدئية وغير علمية ولا عقلانية للسياسة، وجهة نظر تميل إلى شخصنة المؤسسات والمجموعات، كالدولة أو الأمة أو المجتمع. وبدلاً من إثراء العلوم السياسية وتجنب ادعاءات الاجتماعياتيين التي تزعم سذاجة الفردانية التي ينادي بها الليبراليون الكلاسيكيون، وعلى أية حال، فان فرضية التشخيصية تعتم القضايا وتمنعنا من طرح الأسئلة الممتعة التي يبدأ معها البحث العلمي. ولم يقم أحد أبداً بوضع القضايا بشكل أفضل مما فعل المؤرخ الليبرالي التقليدي باركر ت. موون من جامعة كولومبيا في دراسته للإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر، الموسومة:“الإمبريالية والسياسة العالمية” إذ ذكر فيها:
“إن اللغة في الغالب تشوش الحقيقة. وقد أعميت أبصارنا، أكثر مما نتوقع، إزاء حقائق العلاقات العامة بواسطة خدع اللسان. فعندما يستخدم المرء كلمة (فرنسا) البسيطة ذات المقطع الواحد، فإنه سيفكر بفرنسا كوحدة، كينونة. عندما نريد تجنب التكرار المربك، فإننا نستخدم ضمائر شخصية ترمز إلى الوطن… على سبيل المثال عندما نقول (أرسلت فرنسا قواتها المسلحة لفتح تونس)… نحن لا ننسب القوات إلى وحدة البلد، بل إلى الشخصية أيضاً. الكلمات ذاتها تخفي الحقائق وتجعل من العلاقات الدولية دراما ساخرة تكون الأمم المشخصة هي الممثلون، وبكل سهولة ننسى الرجال والنساء وهم الممثلون الحقيقيون. كم سيكون الأمر مختلفاً إذا لم نكن نمتلك كلمة كـ فرنسا… كان علينا حينها أن نقول بدلاً عن تلك الكلمة: الثلاثة وثمانون مليون رجل وامرأة وطفل ذوو الاهتمامات والمعتقدات والمقيمون في منطقة 218.000 ميلاً مربعاً من البلاد! حينها يجب علينا أن نصف بشكل أدق حملة تونس على هذا النحو: (بعض من هؤلاء الثلاثة والثمانين مليون شخص أرسلوا ثلاثين ألفاً آخرين لفتح تونس). هذه الطريقة في وضع الحقائق بشكل مباشر تطرح سؤالاً، أو على الأصح سلسلة من الأسئلة. من هم (البعض)؟ لماذا أرسلوا الثلاثين ألفاً إلى تونس؟ ولماذا هؤلاء يطيعون؟”
ان التشخيصات الجماعية تضفي غموضاً، بدلاً من أن توضح، الكثير من القضايا السياسية المهمة. هذه الأسئلة، التي تتمركز تقريباً حول تفسير الظواهر السياسية المعقدة والمسؤولية الأخلاقية، لا يمكن لها ببساطة أن تُفسَّر داخل حدود تشخيص المجموعة والتي تسدل عباءة من الغرائبية على أفعال صنّاع السياسة، وبهذا تسمح للبعض باستخدام “الفلسفة” أو—الفلسفة الصوفية—لإلحاق الأذى بالآخرين.
ينفصل الليبراليون الكلاسيكيون عن الاجتماعياتيين من خلال اختلافاتهم في القضايا المهمة، ولا سيما فيما يتعلق بكون القسر أو الإكراه ضرورياً لصيانة المجتمع، والتكافل، والصداقة، والحب، والأشياء الأخرى التي تجعل الحياة تستحق العيش، ويمكن التمتع بها مع الأخرين وبشكل مشترك فقط. لا يمكن إزالة تلك الفروقات بكل بداهة، لأن حلولها لا تستند الى التشويه المخزي، أو التصورات غير المعقولة، أو بإطلاق الأسماء الوضيعة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

ينظر العالم إلى مصر؛ فهي تحمل مفتاح تطور العرب، ولأن المحتجين المصريين يزحفون لأجلِ واحدٍ من أثمن عناصر الحكومة الجيدة، والديمقراطية، والحرية، والازدهار، ألا وهو: القضاء المستقل.
يفهم المحتجون، وبمنتهى الوضوح، أن القضاء المستقل ضروري للانتخابات الحرة، وكذلك لضمان احترام القانون واتّباعه، لكن الأمر ينطوي على أكثر من ذلك؛ فالقضاء المستقل هو عجلة المجتمع الحر والاقتصاد المزدهر.
ولا بد من أن يكون القانون متوقَّعاً، لأن من شأن ذلك أن يوفر النظام الاجتماعي. كما يجب أن يراه الناس عادلاً، ليحثهم ويشجعهم على التعاون. ومن البديهي أيضاً أنه لا ينبغي للشخص أن يكون قاضياً في قضيته، مهما كان جيداً أو نزيهاً؛ كما إن من بالغ الأهمية أن لا يكون الذين يسنّون القوانين هم أنفسهم من يحكمون بشأن كيفية تطبيقها على بعض القضايا المحددة، ولا سيما عندما تتداخل فيها مصالحهم الخاصة.
إن القضاة المحايدين والمستقلين ضروريون لكل من الديمقراطية والأسواق الحرة على حد سواء. وقد عرّف عالم الاقتصاد الشهير مانكور أولسون، الذي كرّس حياته لفهم أسباب وكيفية ازدهار بعض المجتمعات وإخفاق مجتمعاتٍ أخرى، عرّف استقلال نظام المحاكم على أنه المفتاح، لأن “نظام المحاكم هذا، والقضاء المستقل، واحترام القانون والحقوق الفردية، الضرورية للديمقراطية الدائمة، ضرورية أيضاً لحماية الملكية وحقوق العقد”.
ليست الديمقراطية مجرد تحقيق “لإرادة الأغلبية” الغامضة، بل هي نظام يستوجب فرض حدود على السلوك؛ كاحترام نتائج الانتخابات، واحترام حقوق الجميع في حرية التعبير عن آرائهم، واحترام حقوق المواطنين العاديين. وتحتاج كل هذه الأمور إلى كيان قانوني مستقل يستطيع أن يقيّد السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا سيما في حالات كحالة مصر، التي تمسك سلطتها التنفيذية بجميع زمام السلطة (الأخرى) بيديها.
ولا يمكن الوثوق بالحكام المطلقين أو الاستبداديين في أن ينفذوا القانون بعدالة، أو في أن يطبقوها على أنفسهم، إذ ليست هناك سلطة مستقلة تجبرهم على الامتثال. وبسبب هذا كله، لا يمكنهم إبرام التزامات صادقة. وكما أشار أولسون في كتابه الأخير القوة والرخاء، فإن الحاكم الاستبدادي ليس لديه دافع لاحترام وعوده: “وعود الحاكم المطلق لا يمكن تنفيذها بواسطة قضاء مستقل، ولا بأي مصدر سلطة مستقل آخر—فالمستبدون، كما تدل تسميتهم، يستطيعون التسلط على مصادر السلطة الأخرى كافة. ونتيجة لهذا الموقف، وللإمكانية الواضحة بأن يُقدِم الديكتاتور على اتخاذ وجهة نظر قصيرة الأمد، فإن وعوده لا يمكن أن تُصدّق بشكل تام”.
ويقودنا هذا إلى المشكلة التي أطلق عليها عالم الاقتصاد إدوارد بريسكوت، الحائز على جائزة نوبل، اسم “عدم الاتساق الزمني”، الذي يتخذ فيه الحاكم التزاماً في الوقت (س)، كعدم مصادرته لأملاك الذين يستثمرون في مشاريع التنمية الطويلة الأمد (المصانع مثلاً)، لكنه يجد في الوقت (ص) أنه ليس لديه باعث على احترام وعده السابق بعد أن تم الاستثمار. وطالما أنه في الوقت (ص) كان الاستثمار قد تحقق، فقد أصبح باعث المستبد هو نحو مصادرة ذلك الاستثمار. ونتيجة لعدم الاتساق الزمني هذا، لا يستطيع أحد الوثوق بالمستبد، ولا يستطيع أحد أن يستثمر. وبالتالي سيعاني الجميع.
لذا، فإنه من دون القضاء المستقل، لا تكون وعود الحكومة معقولة، ولا يستطيع أحد الوثوق بأن الحكومة لن تتراجع عن وعودها باحترام الحقوق. وعندما يهيمن السياسيون من أصحاب المصالح الذاتية على القضاء، فإن وعود المواطنين عندما يتعاقدون فيما بينهم ستصبح أقل صدقاً أيضاً، لأن أطراف العقد لن يكونوا واثقين من أنهم سيحصلون على استماع عادل في المحكمة خلال النزاع.
ويُعدّ الحكم القضائي العادل في المنازعات أمراً بالغ الأهمية لنجاح الاقتصاد. وعُرفَ منذ زمن بعيد أن الأنظمة الاقتصادية الأكثر نجاحاً هي تلك التي تنتج البضائع والخدمات التي تتطلب تخطيطاً طويل الأمد، والذي يتطلب بدوره مقداراً كبيراً من الثقة والتوقعات الواقعية بأن تُحترم الصفقات الطويلة الأمد.
لم تكن مصر دائماً خاضعة لحكم فردي استبدادي؛ فللبلد تقاليد فخورة، وتاريخ نبيل من الديمقراطية والحكومة البرلمانية والقضاء المحترف والمتمرّس. وكان ذلك القضاء يتعرض للهجمات منذ سنوات عدة، ولطالما ناضل في دفاعه من أجل مصلحة الأمة المصرية. ففي العام 1968، طالب القضاة بضمانات أكبر لاستقلالهم، فطُردَ أكثر من مائة قاضٍ. والآن، هناك جيل جديد من القضاة الذين يحتجون على إسكات بعض من زملائهم لفضحهم الفساد والتزوير الانتخابي.
إن القضاء المستقل أساسي لعملية الإصلاح في أي بلد كان، وفي أي جزء من أجزاء العالم؛ إذ لا ديمقراطية بلا قضاء مستقل. ليس هذا فحسب، بل لا عدالة نزيهة بلا قضاء مستقل، وبغياب العدالة النزيهة، لن يكون هناك استثمار طويل الأمد ولا تنمية اقتصادية.
لقد أصبح مستقبل مصر، والعالم العربي برمته، وبطرق عديدة، على المحك في الصراع من أجل استقلال القضاء.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 أيار 2006.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

الديمقراطية والحرية يعتبرهما المنظّرون السياسيون مفهومين خلافيين، أو، كما قد يقول المنظّر القانوني رونالد دوركين “إننا جميعاً نشترك في فهم الديمقراطية والحرية، ونتحدث عنهما بطريقة ذات معنى، ولكن، لدى الناس غالباً مفاهيم مختلفة جداً لمدلولات الحرية والديمقراطية، فإذا لم يكن لدينا وضوح حول المفاهيم التي نستشهد بها سيكون هناك تشويش بدلاً من حوار حقيقي.” هذه مسألة تم إغفالها في صوغ السياسة الأمريكية الخارجية وتنفيذها، هي التي تعاني من سلبيات عدة بينها الافتقار إلى وضوح المفاهيم.
الديمقراطية المرغوبة، الديمقراطية المستقرة والقابلة للدوام تتطلب حكومة محدودة. مؤيدو الجمع بين الديمقراطية والحرية يرفضون التركيز الأحادي على السيادة الشعبية التي تشكل جزءاً مهماً من خطاب الديمقراطية الحديثة. المطلوب هو ليبرالية دستورية، نظامٌ يتضمن بصورة أساسية مكوِّناً ديمقراطياً—كما شهدنا للتو في الانتخابات الأمريكية الأخيرة عندما صرفت إرادة الجماهير حزباً ووضعت حزباً آخر لإدارة الكونغرس. بيد أن نظاماً كهذا يحتاج إلى قيود واضحة ومحددة حول هيمنة الخيار العام. يجب أن تكون السلطات الديمقراطية محدودة، وإلا فلن تدوم الديمقراطية، فالديمقراطيات المستقرة والدائمة تحتاج ليس فقط الى إطار حكومي محدود بل تحتاج أيضاً إلى فصل السلطات، خصوصاً في ما يتعلق بسلطة قضائية مستقلة تستطيع إرغام الحكومة على الالتزام بالقوانين.
خلافاً لما يفترض مهندسو المحافظين الجدد في مسألة السياسة الخارجية الأمريكية، فإن حكومة ديمقراطية محدودة دستورياً ليست هي التوازن الطبيعي الذي تلجأ إليه المجتمعات الإنسانية عند إزالة عائق صغير. ما شهدناه هو سياسة أمريكية استندت إلى أساس من الفهم الساذج للتطورات القانونية والاجتماعية والسياسية بصورة تثير الدهشة. قال لنا المحافظون الجدد إن كل ما تحتاجه هو التخلص من ديكتاتور يقف عائقاً أمام حركة شعب نحو التوازن الطبيعي. وعلى نحو يثير الدهشة، كانت المسألة هيمنة شخص الديكتاتور على السلطة. إذاً، تخلص منه وقم بإجراء انتخابات و… مرحى! ديمقراطية في العراق!
علاوة على ذلك، لا ينبغي التقليل من شأن المقومات التقليدية للديمقراطية، إذ كان لتركز التفكير الأحادي على الانتخابات في تكوين العملية الديمقراطية، أو حتى في تعريفها، عواقب سلبية على الترويج لديمقراطية ليبرالية أصيلة، لأنه تم إهمال كل من الأسس الأخلاقية للديمقراطية الليبرالية والتفاعلات التاريخية التي تنحو باتجاه إنتاجها. العراق—مرة ثانية—يوفر لنا دليلاً واضحاً: جورج دبليو. بوش استهان، ليس فقط بصعوبة إيجاد ديمقراطية ليبرالية فعلاً بل أيضاً بالنسيج الاجتماعي للعراق والقوى التي توجد عقبات أمام التنمية الاجتماعية والاقتصادية—وحتى أمام إيجاد إجماع سياسي. القول الجوهري هو أن القادة الأمريكيين كانوا سذّجاً بصورة تثير الدهشة حول ظروف إيجاد ديمقراطية ليبرالية دستورية.
والمحاولات لتصدير أو ترويج الديمقراطية باستخدام القوة العسكرية لها آثار سلبية، الأمر الذي إن تجاهلناه قد يسبب لأمريكا الأخطار. لقد شهدنا تحولاً نحو ذهنية عسكرية ولكنها نوع من ذهنية غير منطقية تنزع إلى الحرب. الحرب على الإرهاب هي حرب ذات مفهوم خاطئ، لأن الإرهاب ليس دولة أو جيشاً بل هو تكتيك. في وسعك شن حرب على منظمة مثل “القاعدة” أو على دولة أجنبية مثل الرايخ الثالث أو الاتحاد السوفييتي، لكن شن حرب على تكتيك يتطلب التزاماً مفتوح الأجل. ليس في وسعك، في حرب كهذه، أن تعرف ما إذا كنت قد انتصرت، ولن تعرف ما إذا كانت الحرب قد انتهت، ولن تعرف ما إذا كنت قد أحرزت تقدماً. الحرب على تنظيم القاعدة كانت مبررة، لكن حرباً من دون تركيز على “الإرهاب” ثبت أنها خطأ جوهري. لقد قادتنا إلى هجوم غبي على صدام حسين وأدت إلى تآكل خطير في حرياتنا المدنية كأمريكيين، وأكثرها مدعاة للرعب تعليق إجراءات التقاضي القانونية، وهي أهم ضمان لحرياتنا ولسيادة القانون، بل هي في رأيي حق قانوني أهم من الانتخابات والحملات السياسية. لقد ألقت إدارة بوش هذا المبدأ القانوني الأنغلوساكسوني المحترم منذ عهود طويلة في سلة النفايات.
ورأينا، منذ أن بدأت هذه الحرب، تضخم السلطات الحكومية تحت إدارة وكونغرس أنفقا أموالاً بسرعة لم تشهدها إدارة أخرى خلال الأعوام الخمسين الماضية، وإنشاء أجهزة بيروقراطية جديدة ضخمة ليست سوى وسائل لإفساد مواطنينا ونظامنا السياسي، بما هي وسائل سياسية لمنح وعطايا في سائر أنحاء البلاد. شهدنا زيادات هائلة في المنح الحكومية والتدخل في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. كل هذا تم تبريره بحجة الحرب على الإرهاب وحملة ترويج الديمقراطية في الخارج. لقد ألحقنا ضرراً شديداً بنظامنا الدستوري باسم ترويجه في الخارج.
وقبل أن أختتم، أود الاستشهاد باقتباس من ويليام كريستول، محرر “الويكلي ستاندرد” الذي كان المؤيد المتحمس لغزو العراق. هذا الاقتباس من افتتاحية كتبها في شهر كانون الأول 2003، والتي تشكل تأييداً مدوياً لسياسة بوش الخارجية. يقول: “لقد أوضح بوش تماماً أن الاستراتيجية الوحيدة للخروج من العراق هي استراتيجية النصر، حيث تعريف النصر بأنه الديمقراطية.” إنني أتساءل عما إذا كان السيد كريستول قادراً على ترديد هذه الكلمات اليوم!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 8 آذار 2007.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

يقبع طالب كلية مطرود في سجن مصري، وهو عبد الكريم نبيل سليمان، منتظراً إصدار الحكم بتاريخ 22 شباط. فما هي “جريمته” المزعومة؟ إنها التعبير عن رأيه الشخصي في مدونة على الإنترنت. وما هو الخطأ الذي ارتكبه؟ كانت لديه الشجاعة للقيام بذلك مستخدماً اسمه الشخصي.
ارتكبت السلطات المصرية خطأً أكبر عند مقاضاة عبد الكريم. إن الأمر سيكون مضراً لمصر إذا تمت إدانته، والحكم عليه بالسجن. ولهذا السبب يناشد الأصدقاء المخلصون لمصر الحكومة بتصويب هذا الخطأ، وإسقاط التهم الموجهة ضده. إنه العمل الصحيح الذي ينبغي عليها القيام به، والأفضل كذلك فيما يتعلق بصورة مصر في العالم المعاصر. لقد اجتذبت القضية فعلياً اهتمام الصحف في شتى أرجاء العالم، فضلاً عن منظمة هيومان رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، ومراسلون بلا حدود، ومنظمات أخرى. ونشرت شبكات المدونات غير الرسمية الخبر. وبتاريخ 15 شباط، اجتمع المدونون والناشطون في مجال حقوق الإنسان في كل من باريس، ولندن، ونيويورك، وواشنطن، وأوتاوا، وروما، وبوخارست، لمناشدة السلطات المصرية احترام حرية التعبير. ونحن نوافق على ذلك.
وعبد الكريم هو طالب يبلغ من العمر 22 عاماً، تم طرده من جامعة الأزهر لإبدائه انتقاداً حاداً في وقت سابق، وذلك على مدونته، إزاء المنهاج الصارم للجامعة، ولتطرفها الديني. وتم توجيه أمر له، من أجل المثول أمام المدعي العام بتاريخ 7 تشرين الثاني 2006، بتهمة “نشر معلومات تخل بالنظام العام”، “والتحريض على كره المسلمين”، و”إهانة الرئيس”. وتم احتجازه خلال فترة التحقيق في القضية، وتجديد الاحتجاز أربع مرات. ولم يسمح له بالتواصل المنتظم مع المحامين أو أفراد العائلة.
انتقد عبد الكريم السلطات المصرية لإخفاقها في حماية حقوق كل من الأقليات الدينية والنساء. وعبر بمصطلحات قوية عن وجهات نظره حول التطرف الديني. وهو أول مدون مصري تتم مقاضاته بسبب محتوى ملاحظاته. وما يدعو إلى الدهشة أن الشكوى القانونية جاءت أصلاً من الجامعة التي طردته، والتي كانت فيما مضى مركزاً عظيماً للتعليم في العالم العربي، وتقلص دورها الآن إلى الإبلاغ عن الطلبة المنشقين عن عقيدتهم.
التقى أحد كاتبي المقال (توم بالمر) بعبد الكريم في مؤتمر للمدونين في الشرق الأوسط عام 2006. وما أذهله أن عبد الكريم كان شخصاً هادئاً وخجولاً، ولكنه ملتزم إزاء حقوق المرأة والأقليات. وبقيا على اتصال عبر المحادثة بواسطة موقع غوغل للمحادثة، حذر توم خلالها عبد الكريم لكي يكون حذراً ويفكر بالأخطار المحتملة. إنها النصيحة التي غالباً ما يقدمها الأشخاص الأكبر سناً إلى الشباب. وكان جواب عبد الكريم انه لم يكن خائفاً من التعبير عن وجهات نظره. وخلال مؤتمر عقد في تبليسي، جورجيا، وذلك في شهر تشرين الأول، اتصل عبد الكريم بتوم عبر بريد غوغل، وأخبره أنه تلقى أمراً بالمثول أمام المدعي العام في اليوم التالي. وبواسطة عدد قليل من الرسائل النصية والإلكترونية التي تم إرسالها لاحقاً، وبواسطة عدد من الأصدقاء في منظمات مثل دعم تحالف الأيدي عبر الشرق الأوسط، والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، تم تعيين محام له. وتم نشر الخبر عندما تم احتجازه، وتنظيم احتجاجات صغيرة مميزة أمام السفارات المصرية. وبدون أن تدعمه أية حركة منظمة، انتشرت قضية عبد الكريم في شتى أرجاء العالم. وعلم الكاتب الآخر للمقال (رجا كمال) عن قضية عبد الكريم من خلال شبكة الكتاب العرب. وبصفته موظف جامعة رسمي، صدمه أن تقوم جامعة بتسليم طالب لديها إلى السلطات لكي تقاضيه بسبب وجهات نظره. علاوة على ذلك، وبصفته عربي، فهو قلق إزاء مستقبل التعليم والعلوم في مجتمعات يتم فيها معاقبة وجهات النظر المعارضة، بدلاً من مناقشتها. وقام كل من الكاتبين بالاتصال بالسلطات المصرية لمناشدتها تصويب خطأ واضح، وإطلاق سراح عبد الكريم.
تعتبر مصر من البلدان التي وقعت على المعاهدة الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، والتي تضمن “حرية البحث، وتلقي، ونقل المعلومات والأفكار من كافة الأنواع، بغض النظر عن الحدود، إما شفوياً، أو كتابةً، أو طباعةً، أو على شكل لوحة فنية، أو بواسطة أية وسيلة إعلامية أخرى”. أما الاستثناءات المسموحة فهي ضيقة النطاق، وتقتضي إثبات “الضرورة” قبل فرض القيود؛ وإيداع الآراء على مدونة شخصية لأي طالب لا يتأهل إلى كونه تهديدا للأمن القومي، أو لسمعة الرئيس، أو النظام العام. ليس عبد الكريم من يشكل خطراً على مصر، بل مقاضاته بحد ذاتها.
وسواء كنا نتفق أم لا مع الآراء التي عبر عنها عبد الكريم، فإن تلك مسألة غير مهمة. إنما ما يهم هو المبدأ: كون الناس أحراراً في التعبير عن آرائهم الشخصية دون خوف من السجن أو القتل. إن الكتابة في المدونات يجب ألا تكون جريمة.
© معهد كيتو،منبر الحرية، 21 شباط 2007.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

كلّ الشكر إلى العمل الريادي المقدم من نخبة من المفكرين، فقد كان اهتمام المفكرين، وصانعي السياسات، والعامة مركزاً على دور القانون في بناء المؤسسات ودور المؤسسات في تكوين التنمية الاقتصادية. وقد ساهمت الليبرالية في سعادة البشرية عن طريق تركيزها بشكل متزامن على تفويض وتحديد مجموعة من المؤسسات التي توجد، وتخلق، وتعزز القانون. من أجل فهم علاقة الليبرالية بهذه المؤسسات فإنه من السهل أن نعمل تمييزاً بسيطاً، وهو التمييز بين أن تكون “ضد الحكومة” وأن تكون في صالح “تحديد الحكومة”، وغالباً ما يتم الخلط بينهما، خاصة من قبل أعداد معترف بها من أعداء الليبرالية والذين يفضلون الحكومة الغير محدودة، لكن لا يمكن لهما أن يكونا أكثر اختلافاً. فعلى سبيل المثال يُعتبر المجرمون والإرهابيون الذين يريدون تدمير الحياة والحرية والممتلكات “ضد الحكومة”، فهم يسعون إلى إضعاف الحكومة، وبالمقابل، فإن الليبراليين الذين يطالبون بتحديد الحكومة، لا يسعون لتدميرها، بل لتقويتها لتؤدي مجموعة محدودة من الوظائف القيّمة بشكل فعال.
إن ما يطمح إليه الليبراليون هو ليس حكومة ضعيفة، بل حكومة فعالة، وقانونية وشرعية ومحدودة، أي حكومة تستطيع تنفيذ مهام معينة بشكل فعال وكَفوء، ولكن عليها أن تكون محددة بهذه المهام فقط. ما هو ضروري حقاً أن تكون هذه الحكومة حكومة قانون، أكثر من أن تكون حكومة قوة أو عنف.
إن معظم الحكومات حول العالم تقوم بكلتا الوظيفتين معاً: أكثر من المطلوب و أقل منه. فهي تقوم بأكثر مما هو مطلوب عندما تنفذ مهاماً لا يجب تنفيذها على الإطلاق، مثل فرض الاحتكارات والقيود على التجارة الحرة، أو تنفيذها لمهام يمكن أو يجب تنفيذها بمساعدة منظمات المجتمع المدني، سواء أكانت تزويد خدمات الهاتف أو إدارة مراكز العناية بالأطفال، كما تقوم بما هو أقل من المطلوب عندما تفشل بتعريف الحقوق في استخدام المصادر النادرة، وعندما تفشل بتزويد خدمة الدفاع عن الحياة والحرية والملكية. تكمن الطريقة لتحرير المصادر من أجل السماح للحكومة بتنفيذ مهامها القيمة بشكل جيد في منع الحكومة من عمل كل تلك الأمور التي لا يجب عملها إما لكونها غير عادلة أو لأنه يمكن عملها بشكل أفضل من قِبل التنسيق الحر والطوعي للمواطنين. وبهذا لن تقوم الحكومة بوظيفتها بشكل أفضل فقط، بل إنها عندما تقوم بتعريف وحماية الحقوق والأسواق والمنظمات الطوعية بشكل أفضل، فإنها بذلك توفر الثروة والتقدم.
لماذا تعتبر المؤسسات مهمة؟
تعتبر المؤسسات مهمة لأن الحوافز مهمة، إذ تحث الحوافز الأفراد والجماعات على التصرف بطريقة ما وليس بأخرى، وتحث الحوافز الجيدة الأفراد والجماعات على التعاون من أجل إنتاج القيمة عن طريق الإنتاج والتبادل ومن أجل تجنب وتفادي العنف. تحث الحوافز الجيدة الأشخاص والجماعات على إلقاء المسؤولية على الأشخاص الأكثر قدرة على إنتاج قيمة معينة. تتكون هذه الحوافز من قبل المؤسسات، والتي تضم ليس مجرد منظمّات وإجراءات رسمية كالهيئات الحكومية التنفيذية والتشريعية والمحاكم والأحكام القانونية المدوّنة ومراكز الشرطة، بل أيضاً هيئات وإجراءات غير رسمية وغير حكومية كالمعايير الأخلاقية، والسُمعة والتوقعات المتبادلة بشأن السلوك، والكثير غير ذلك. يمكن لفرض القوانين والإجراءات أن يكون داخلياً؛ أي أن تَفرِض هذه القوانين أطرافٌ متأثرة بهذا الإجراء، أو أن يكون خارجياً؛ أي أنه يجب أن يقوم طرف ثالث تحكيمي بفرض هذه القوانين أو أن تقوم منظمات النظام القضائي بذلك.[1] يواجه المرء حافزاً عندما يتوقع شعوراً بالخجل، كخسارة سمعة قيّمة مثلاً أو ضياع فرصة معينة للكسب، أو أن يفرض الآخرون عليه عقاباً أو يقدموا له مكافأة، سواء كان ذلك منظّماً ضمن هيئة حكومية أم غير منظم.[2]
إن الكثير من الناس لا يفهمون أهمية بناء المؤسسات بطريقة صحيحة، فهم لا يفهمونها لأنهم لا يزالون يؤمنون بالسحر. قلائل هم الذين يؤمنون أن أنشودة الكلمات السحرية أو التعويذة تمارس سلطة على العالم. أغلبنا يؤمن بالسبب والنتيجة، وبردِّ النتائج إلى أسبابها. وقد نجح هذا المنهج العلمي في المجالات التحقّقية مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا. عندما يتعلق الموضوع بعلم السلوك الإنساني، فإن الكثير من الناس وربما معظمهم ما زالوا—للأسف—يؤمنون بالسحر، لأنهم يؤمنون بأن هناك مجموعة خاصة من السحرة القادرين على تغيير العالم بقوة الكلمات فقط؛ ويعرف هؤلاء السحرة بالمُشرِّعين وسانِّي القوانين، والحكام، والرؤساء. ولذا معظم الناس يصدّقون عندما يقول هؤلاء الأشخاص كلمات مثل “يعطي القانون الحق لكل مواطن برعاية صحية جيدة، أو حقّ التعليم الجيد، أو بمستوى معيشي أرقى”، أن هذه الكلمات تحمل القوة التي تحقق النية الكامنة وراءها.
إن الأشخاص الذين يؤمنون بمبادئ السبب والنتيجة لا رغبة لهم بالتحقّق من النية المعلنة في قانون ما، فهم لا يتحققون فقط من نية المُشرِّعين، بل أيضاً من آلية السببية. فكيف يتم إدراك هذه النية؟ وما هو التأثير المحتمل للقانون المُسَنّ من قبل المُشرِّعين؟ إن السؤال عن التأثيرات المحتملة للقانون المُسَنّ من قبل المُشرِّعين هو نفسه السؤال عن الحوافز التي يواجهها الأفراد والجماعات. هل سيأتي القانون بحوافز تعمل على حث الناس على إيجاد رعاية صحية أو مستوى تعليمي أفضل أو مستوى معيشي أرقى؟ إن السؤال عن الحوافز هو نفسه السؤال عن المؤسسات التي تقدم نموذجاً خاصاً لهذه الحوافز.
إن الفرق بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية واضح من صور القمر الصناعي الليلي. إذ يبدو الشمال مظلماً تماماً بينما يتوهج الجنوب بالضوء، ماذا يعني ذلك؟ إن الحوافز لدى الناس تخلق الضوء، ويتم تكوين الحوافز بواسطة المؤسسات.
المؤسسات والتكنولوجيا

لقد تم إثبات أن المحدد طويل الأمد للنمو الاقتصادي ليس ببساطة الاستثمار الرأسمالي؛ أي إضافة آلات أو أبنية أكثر، بل هو نمو وتطبيق المعرفة. كما أشار جويل موكير “إن الاختلافات في المؤسسات هي أفضل في شرح اختلافات مستويات الدخل في المقطع العرضي في اللحظة المعطاة. تستطيع المعرفة أن لا تتأثر—وهي فعلاً لا تتأثر—بالحدود القومية، إن لم تكن دائماً بالسهولة غير الخلافية التي يتخيلها بعض الاقتصاديين. إذا كان السبب الوحيد لكون ألمانيا أغنى من زيمبابوي اليوم هو أن المانيا تملك كمية أكبر مما تستغله من معرفة، عندئذ يمكن إزالة الاختلاف في وقت قصير نسبياً. مع ذلك إذا سُئلنا، لماذا ألمانيا اليوم أغنى منها في عام 1815، عندها لا يمكننا مهاجمة التكنولوجيا على الرغم من أن المؤسسات الفضلى يمكن أن يكون لها أهمية أيضاً.”
ومع ذلك، كما يظهر موكير، فإن نمو التكنولوجيا معتمد بشكل عميق بالمحافظة على المؤسسات الملائمة. تُعتبر بعض المؤسسات ملائمة لنمو المعرفة والتكنولوجيا أكثر من غيرها، وحتى عندما تكون التكنولوجيا متوفرة في الكتب أو الأشكال الأخرى، فإن عدم وجود الحقوق لحماية الملكية يجعلها عديمة الجدوى. ما هو جيد أن التغير نحو المؤسسات الجديدة قد يسمح للدول الفقيرة جداً بزيادة دخلها ورفاهية سكانها من خلال النمو الاقتصادي بسرعة لافتة، وذلك بتبني التكنولوجيا الجاهزة من الدول الأخرى ووضعها قيد الاستعمال الجيد. كما أشار يوهان نوربيرغ “يشير التاريخ أن الاقتصاد يمكن أن ينمو بشكل أسرع بالاعتماد على ازدهار وتكنولوجيا الدول الأخرى. لقد استغرق من انجلترا 58 سنة لمضاعفة ثروتها منذ عام 1780. بعد مائة عام فعلت اليابان الشيء نفسه في خلال 34 سنة، وفي القرن اللاحق استغرق ذلك من كوريا الجنوبية 11 عاماً فقط.” إن الزيادة السريعة في معايير العيش في الدول الفقيرة سابقاً مثل كوريا الجنوبية هو دليل قوي على قدرة المؤسسات العاملة على السماح للناس الفقراء بتخطي مئات من سنوات التنمية البطيئة المتصاعدة التي مرت بها الدول الأخرى والوصول إلى ازدهار استثنائي في وقت قصير نسبياً.
على مقياس أصغر، فإن قفزة العديد من الدول إلى الأجهزة الخلوية عند إزالة الاحتكارات الحكومية يوضح أنه يمكن استيراد التكنولوجيا بشكل سريع عند إنشاء المؤسسات الملائمة، وذلك يسمح بالتقدم السريع في النمو الاقتصادي والعيش الكريم. هذه هي الأخبار الجيدة، لكن يجب تصنيف المؤسسات بشكل ملائم أولاً.
“طوائف الحمولة” مقابل الاستدلال العلمي
لا يمكن للطريقة العلمية مع ذلك أن تتوقف فقط عند استـحضار الكـلمة الســرية “المؤسسات.” يجب على المرء أن يذهب إلى أبعد من ذلك ويتساءل: كم تؤثر المؤسسات في الاختلاف وكيف يكون ذلك؟ أيكون كافياً أن ننسخ ببساطة كل مؤسسات المجتمعات الغنية وأن نعيد إنشائها في المجتمعات الفقيرة؟
إن الجهد لفعل ذلك يذكِّر بـ”طوائف الحمولة” للمحيط الهادئ الجنوبي. حيث وصف الفيزيائي الشهير ريتشارد فينمان ما أطلق عليه “علم طائفة الحمولة” في خطاب التخريج في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا:
“في البحار الجنوبية يوجد طائفة حمولة البضائع من الناس. خلال الحرب رأوا طائرات تهبط مع الكثير من البضائع الجيدة وأرادوا الشيء نفسه أن يحدث الآن، لذلك رتبوا تقليد الأشياء كالطرق ولوضع النيران على جوانب الطرق، ولصنع كوخ خشبي ليقف فيها الشخص مع قطعتين خشبيتين على قمته مثل السماعات وقضيبين من الخيزران مثبتين كالهوائيات—هو المراقب—وانتظروا الطائرات أن تهبط، إنهم يفعلون كل شيء بشكل صحيح. إن الشكل مثالي. إنها تبدو تماماً كما بدت سابقاً لكنها لا تعمل، لم تهبط الطائرات، لذلك سأطلق على هذه الأشياء علم طائفة الحمولة لأنها تتبع الأشكال والمبادئ الظاهرية للبحث العلمي لكنها تفتقد شيئاً أساسياً لأن الطائرات لا تهبط هناك. والآن يتوجب عليَّ بالطبع أن أخبركم ما الذي ينقصهم، لكنه سيكون من الصعب أن أشرح لسكان جزر البحر الجنوبي كيف يتوجب عليهم أن ينظموا الأمور للحصول على ثروة أكثر في نظامهم، إنه ليس بالأمر السهل بأن نخبرهم كيف يطوروا أشكال سماعات الأذن.”
غالباً ما يقوم صانعو السياسة في الدول النامية وبشكل أهم صانعي السياسة في الدول المتقدمة ومنظمات العون الدولية بإخبار الناس في الدول النامية أن يطوروا شكل سماعات الأذن عندهم، فهم يقررون أنه إذا امتلك الفقير المؤسسات التي يتمتع بها الغني اليوم، فهم أيضاً سيكونون أغنياء. أتذكر عندما كنت أعمل في الاتحاد السوفييتي السابق والتقائي بموظفي الحكومة الأمريكية الذين كانوا مشغولين في إعداد نسخة عن هيئة التبادل والسندات المالية للولايات المتحدة الامريكية، حيث كان ذلك متطلب أساسي لوجود سوق رأسمالي فعّال، وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك ملكية خاصة بشكل فعلي بعد، إلا أنهم قاموا بتطبيق منطق بسيط ولكن منطوٍ على مغالطة، كما يلي:
‌أ. تمتلك الولايات المتحدة الامريكية هيئة التبادل والسندات المالية؛
‌ب. تمتلك الولايات المتحدة الامريكية سوق رأسمالي عالي التطوير؛ ولذلك
‌ج. تمتلك الولايات المتحدة الامريكية سوق رأسمالي عالي التطوير لأنه فيها هيئة التبادل والسندات المالية؛ ولذلك
‌د. إذا كان على روسيا أن تملك سوقاً رأسمالياً عالي التطوير، فإنها تحتاج أولاً إلى هيئة تبادل وسندات مالية خاصة بها.
في رومانيا مباشرة بعد سقوط تشاوشيسكو بُذلت جهود كبيرة لإنشاء أنظمة تجارية محوسبة لسوق مالي لم يوجد بعد. وقد تروى قصص متشابهة عن المحاولة لنسخ الانماط الخارجية—شكل سماعات الأذن—للنظم البنكية والمالية، وقانون التنافسية، ومؤسسات أخرى، تلك أمثلة على “صناعة سياسة طائفة الحمولة.” إذا قمت بإنشاء هيئة التبادل والسندات المالية أو نظام محطات تجارة محوسبة، فإن تجّار البورصة، ورجال الأعمال وأصحاب المبادرة، والرأسماليين سوف يرون تلك الأنظمة على أنها معلّقة فوق الرؤوس وسوف يقررون الهبوط، مخدوعين من قِبل الشرك الذكي المصمم من قبل صانعي السياسة.
بالكاد يكون نموذج طائفة الحمولة للتنمية الاقتصادية شيءً جديداً. في الحقيقة، أحد الأمثلة الأكثر شؤماً لتلك العقلية أُعطي من قبل في. أي. لينين على المؤسسة المعنية للتجربة الاشتراكية. كما أشار لينين، فإن إدارة المصانع سهلة: “يصبح كل المواطنين موظفين وعمال لولاية (نقابة) البلاد الواحدة. كل ما هو مطلوب أن يعملوا بشكل متكافئ، وأن يقوموا بما مطلوب منهم عمله، وأن يتم الدفع لهم بالتساوي. ولهذا فقد تم تبسيط المحاسبة والسيطرة الضرورية من قبل الرأسمالية للحد الأقصى وتم تخفيضها للعمليات البسيطة بشكل استثنائي—والتي يستطيع أي شخص متعلم انجازها—من الإشراف والتسجيل، ومعرفة قواعد علم الحساب الاربعة، وحتى اصدار وصولات ملائمة.” ما الذي يمكن أن يكون أبسط؟ لقد نظر بحرص لينين ورفاقه إلى الشركات الرأسمالية كما نظر الميلانيزي في العصر الحجري إلى الطرق وأبراج المراقبة. وعرفوا ما وجب عمله وقد أدوه، مع الحصول على نفس النتيجة.
إذا أقبل شخص على إقامة مقارنات، في أية قضية، فإنه من الأفضل أن ينظر، ليس إلى ما تملكه الدول الغنية اليوم، ولكن إلى ما طورته خلال فترة تحولها من بلاد نامية إلى بلاد متطورة. إن الأمر ليس فيما تملكه البلدان الغنية من مؤسسات اليوم، عندما تكون غنية وقادرة على تحمّل السياسات غير الفعالة، ولكن فيما ملكته من مبرر لتطورها.
في 1992 نبّه ميلتون فريدمان الجــمهور في مــؤتمر كـهذا في مدينة مكسيكو “إن الولايات المتحدة ليست النموذج لمدينة مكسيكو، أو أي من تلك البلاد. كنموذج لكَ، خذ الولايات المتحدة في السنوات المائة والخمسين الأولى.” في السنوات الأخيرة، كما أشار فريدمان، كان هنالك عدد كبير من المؤسسات غير الفعالة التي تم إنشاؤها في الولايات المتحدة والتي خفضت النمو الاقتصادي أقل مما كان عليه، ولكن—على الرغم من ذلك—كان من الممكن تحمّلها من قبل دولة غنية جداً. “نستطيع تحمل كلامنا التافه لأنه ولفترة طويلة كان لدينا وقت لبناء قاعدة، لذا كان باستطاعتنا تحمل الهدر.” دعونا نطبق استنتاج فريدمان من خلال النظر إلى البلاغات الحالية للسلطة التنظيمية في الولايات المتحدة الأمريكية. في عام 2002 عبأت هذه البلاغات 75606 صفحة من السجل الفيدرالي وكلفت الأمريكيين 860 بليون دولار كفرص ضائعة للثروة و25 بليون دولار في النفقات الإدارية، والتكلفة المجتمعة 885 بليون دولار. بالمقابل، فإن جميع الأرباح ما قبل الضريبة على الشركات الأمريكية مجتمعة في تلك السنة وصلت إلى 699 بليون دولار، أو 186 بليون دولار أقل من تكلفة الأنظمة. إن الدولة الأفقر—وبالأخص تلك التي على الحد الأدنى من البقاء—ستشعر مباشرةً بتكلفة تلك الأنظمة المعقدة. إن مؤسسات تنظيمية كهذه، على الرغم من أنها تتواجد مع ثروة حقيقية، قد تكون مسببة لكارثة في البلدان الفقيرة التي قد لا تحتمل المصاريف الهائلة اللازمة للاستجابة لتلك الأنظمة. أشار البنك الدولي مؤخراً أنه “لكي يكون للأساليب التنظيمية في الدول النامية فرصة واقعية للنجاح، عليها أن تكون أبسط، وبالغالب أقل كثافة في المعلومات، وأقل عبئاً على المحاكم.” كان على البنك الدولي أيضاً أن يضيف أن معياراً كهذا قد يكون مرحباً به في الدول الغنية.[3]
نسخ أكثر لن يجدي
مثال آخر على صناعة سياسة طائفة الحمولة هو المحاولة لنسخ قواعد رأس المال الأمريكية كقاعدة للنظام الصناعي في الدول النامية. تملك أمريكا نظاماً واسعاً لملكية الأسهم، بوجود خمسين بالمائة من العائلات الأمريكية تملك أسهماً في شركات تجارية عامة. ولكن كما أشار روبرت أنديرسون، الموظف السابق في البنك الدولي، إن ملكية الأسهم المعقودة بشكل واسع ليس شرطاً ضرورياً للنمو الاقتصادي. “ضمن الشركات الكبرى العامة، لم تكن النسب للأسهم المتعاقد عليها بشكل واسع عالية إلا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان. وكانت النسبة في هذه الدول الثلاث 80-100% أما في البلدان الأخرى فكانت الحصص أصغر، فمثلاً، كانت 60% في كندا وسويسرا وفرنسا؛ و50% في ألمانيا؛ و10% أو أقل في هونغ كونغ والنمسا وبلجيكا واليونان.” بالكاد تكون بلجيكا من بلدان العالم الثالث، على الرغم من حقيقة أن اقتصادها يملك قاعدة رأسمالية تختلف بشكل كبير عن تلك في الولايات المتحدة الأمريكية. في البلدان التي تفتقر لنظم النموذج الأمريكي القانونية والرقابية، فإن قواعد النموذج الأمريكي الرأسمالي ليست إلا دعوة لنزاع ما بين الإداريين ومالكي الأسهم، وبين أصناف مختلفة من مالكي الأسهم (ومن الواجب الإشارة إلى أن نزاعات كهذه توجد في الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، وهي متفاقمة بشكل إجمالي باختلال “قواعد عدم الاستيلاء” وقواعد الضرائب المعقدة، والتي تجعل من الصعب على المستثمرين تتبّع سلوك الإداريين.)
ما يهم، ليس ما إذا كان شكل سماعات الأذن بنفس الشكل التي في الولايات المتحدة، ولكن ما إذا كانت تولّد الثروة والحرية. وذلك يتطلب الانتباه إلى أنماط السبب والأثر، والقيود التي تحيط بتنفيذ الإجراءات والقوانين. إننا لا نستطيع تجنب مشكلة تحديد السبب والنتيجة.[4]
الأنظمة المتطورة تحتاج إلى قوانين بسيطة
هناك علاقة سببية واحدة طبقت بشكل جيد، وهي أن بساطة القوانين والمؤسسات تؤدي إلى زيادة تطور الأنظمة، وعلى سبيل المثال، إذا كان سهلاً على الناس الحصول على ملكية قانونية للأرض، يمكن لهم أن يخلقوا أنظمة اقتصادية واجتماعية متطورة. وقد أوثق هيرناندو دي سوتو على تعقيدات القوانين والتي يجب اتباعها من أجل الحصول على ملكية قانونية للأرض في عدة دول: تأخذ تلك الإجراءات في الفلبين “168 خطوة تتضمن مراجعة 53 مؤسسة خاصة وعامة، وتأخذ من 13-25 سنة لإكمالها”، وفي مصر تتضمن العملية “75 إجراءاً بيروقراطياً على الأقل بعد مراجعة 31 مؤسسة خاصة وعامة، وتأخذ من 5-14 سنة لانجازها”. والاختلافات مع الدول الغنية مثل كندا أو ألمانيا أو اليابان لا يمكن أن تكون أوضح من ذلك. الابتكارات التكنولوجية مثل تسجيل الانترنت، يمكن أن تساعد، ولكنها ليست بديلاً عن الحاجة للتخلص من التعقيد البيروقراطي الزائد.[5] إن الإجراءات المعقدة والمكلفة، هي غالباً ناتجة (أو على الأقل مصونة) عن الفرصة لخلق أو دعم الوظائف الحكومية، أو لإنتاج دخل قانوني إضافي لموظفي الحكومة.
الحصول على المُلكية من خلال الاحتلال ونقل الملكية من خلال البيع هي ليست أنظمة المُلكية الوحيدة الموضوعة بتعقيد غير ضروري من قبل المؤسسات التي صممت بشكل سيء من منظور غالبية السكان، ولكنه مصمم بشكل جيد من منظور مجموعات قليلة من أصحاب امتيازات الاحتكار. وفي بعض البلدان فإن انتقال المُلكية من خلال الوراثة معقد جداً ولكن في حالات أخرى، يعتبر بسيط جداً، الاختلاف هو مؤسسي، على سبيل المثال تعلمت من خلال رحلتي إلى جواتيمالا بأن المهنة القانونية في ذلك البلد عبارة عن احتكار في اجراء الوصايات، وعلى المحامي أن يُشغل في إنشاء وصية قانونية شرعية. والنتيجة هي فقط نسبة ضئيلة من السكان—النخبة الغنية—تستمتع بحماية العهود القانونية سارية المفعول. وبالتناقض، وبالانتظار لرحلة إلى بغداد، راجعت مؤخراً وصيتي باستخدامي برنامج حاسوب تجاري ويطلق عليه “صانع الوصية”. إن لم يتوفر لي حاسوب لكان باستطاعتي أن أشتري نموذجاً مبسطاً من أحد المراكز لأقل من دولار. أمليت الطلبات ووقعتها أمام ثلاثة شهود وهم وقعوا أيضاً، وكانت النتيجة وصية شرعية. وعاقبة ذاك الاختلاف هو أينما وضعت اجراءات التركة بكل تعقيد من قبل تلك الاحتكارات، استهلك أعضاء العائلة نسبة أعلى من صراع التركة على توزيعها أكثر من الحالة في الدول حيث تكون إجراءات الميراث بسيطة ومتوفرة للجميع.
هنالك أيضاً رابط قوي ما بين بلاء الفساد الحكومي ومدى التدخل الحكومي في السوق. فكلما زادت العوائق التي تفرضها الدولة في وجه رغبة المستهلكين والبائعين، على سبيل المثال، فإن الفرص تزداد للبيروقراطيين لانتزاع الرسوم والضرائب.
إن الدرس لمثل هذه التجارب واضح: القوانين والإجراءات التي تحكم التعاملات تحتاج إلى أن تكون بسيطة وفعالة. يمكن للحكومات أن تساعد في تبسيط القوانين من خلال التركيز على وضع قوانين أساسية من الإجراءات، ولكن ليس من خلال ضمان النتائج. القوانين التي تحكم الابلاغات التي تلح على العدالة والنزاهة في النتائج—بدلاً من بساطة الإجراء—لا بد من فشلها في ضمان العدالة أو البساطة.
الأسواق بحاجة إلى التنظيم وليس التدخل
إن النظام الموسع للمجتمع الحر يستند على ما أسماه فريدريك هايك “نظام الأعمال”. كما قال هايك: “إذا كانت الأعمال المنفصلة للأفراد تُنتِج نظاماً عاماً، فالمطلوب هو ليس أنه من غيرالضروري فقط أن يتدخلوا في شؤون بعضهم البعض، ولكن أيضاً مع تلك التقديرات والتي فيها نجاح العمل للأفراد يعتمد على أعمال مشتركة ما بين الآخرين، وسيكون هناك على الأقل فرصة جيدة بأن هذا التوافق سيظهر فعلاً.” وما نحتاجه هو نظام قد يعمل على جعل التعاملات منتظمة من خلال الاعتماد على قواعد وإجراءات بسيطة ومباشرة.
وما يسمى حالياً بـ”التنظيم” هو بالضبط لا يعتبر تنظيماً بالمرة، ولكن هو نظام اعتباطي، متقلب، وغير متوقع بتدخلاته، وبمشرِّعين أو بيروقراطيين مفوضين بتغيير القوانين كما ومتى أرادوا، وبفرض بلاغات وأوامر معقدة وباهظة وغير متوقعة على أفراد السوق. فلا فائدة من التعبير “القوانين” إذا كان لوصف شيء غير متوقع ومتغير كثيراً. وصف جميس ماديسون، المؤلف الرئيس لدستور الولايات المتحدة، مخاطر السماح للمشرِّعين أو البيروقراطيين بالتفرد في مثل هذه السلطة الاعتباطية، كما هي حالياً مطبقة تحت اسم “التنظيم”:
“مازالت التأثيرات الداخلية للسياسات المتقلبة أكثر مأساوية. فهي تسمم نعمة الحرية نفسها. فلو كانت القوانين كثيرة جداً بحيث لن يكون هناك وقت لقراءتها، أو إذا كانت مشوشة ومبهمة جداً بحيث لا يمكن فهمها، فإنه سيكون هناك فائدة أقل للأشخاص عند وضع القوانين بواسطة رجال يقومون هم باختيارهم. وإذا تم إلغاء هذه القوانين أو تعديلها قبل أن يتم نشرها، أو إذا مرت في سلسلة تغيرات متواصلة بحيث لا يستطيع أي مرء يعرف القانون اليوم أن يخمن ما سيكون عليه في المستقبل. فالقانون يُعرَف على أنه قاعدة عمل، ولكن كيف يكون هذا القانون قاعدة إذا كان يُعرَف ويُثبَّت بشكل أقل؟ التأثير الآخر لعدم استقرار السياسة العامة هو الفائدة غير المعقولة التي يعطيها لطبقة الأذكياء، والمغامرين، والأثرياء أكثر من طبقة العمال ومعظم الجماهير والذين لا تتوفر لهم المعلومات. يقدم كل تنظيم جديد يخص التجارة أو العوائد المالية، أو في أي حالة تؤثر على قيمة أنواع المُلكية المختلفة، يقدم ثمرة الجهد للأشخاص الذين يراقبون التغيير ويستطيعون تتبع نتائجها، وثمرة الجهد هذه لم تنشأ بجهودهم ولكن بكدح وتعب تلك الأعداد الضخمة لزملائهم المواطنين. هذه حالة الأشياء التي يمكن القول عنها كحقيقة نوعاً ما، أن القوانين صُنعت للأقلية وليس للأكثرية.”
لا يعد فقط ما يسمى بالسلطة التنظيمية الحديثة غير منتجة للتنظيم الفعلي، ولكن يمكن توفير الأنظمة بشكل فعال عن طريق المؤسسات الطوعية مثل مكاتب الاعتماد وشهادة الجودة والتقرير المالي ومقاييس الأداء والمكاتب الأخرى المشابهة. وتوفر هذه الأساليب التنظيمية غير الحكومية درجة عالية من قابلية التنبؤ. ولكونها تنافسية ولا تستطيع أن تتحكم بفرض الاحتكارات القسرية عند وضع الأنظمة، فإنها تستطيع على الرغم من ذلك أن تتبلور في الاستجابة للمتغيرات في التكنولوجيا واحتياجات السوق.
خاتمة
يهتم الليبراليون بالمؤسسات أكثر من غيرهم في أي تيار سياسي آخر، فهم يشددون على تطبيق المبادئ العلمية في العلاقات الاجتماعية أكثر من التفكير الخيالي، ولذلك فهم يركزون على الحوافز والتي تعني بأنهم مهتمون بشكل معمق في بناء ونشوء المؤسسات. ويتطلب ذلك أكثر من السببية المنطقية وراء الكثير من محاولات نسخ المؤسسات القائمة في المجتمعات الغنية، التي تقوم دون السؤال سواء كان ثراء هذه المجتمعات ناتجاً بواسطة هذه المؤسسات، أو المؤسسات—مهما كانت عدم فعاليتها—ممكنة بسبب الثراء السابق لهذه المجتمعات، الثراء الذي كان نتيجة مؤسسات أخرى مجتمعة. وتحتاج المجتمعات المتحررة والغنية إلى قوانين بسيطة وقابلة لأن يُتنبأ بها. وتستطيع الحكومة ذات السلطة المحدودة تزويد إطار العمل الأساسي للقوانين التي تجعل التعقيدات الاجتماعية ممكنة. ويفهم التنظيم على أنه القوانين والمبادئ التي تجعل التبادلات منتظمة، ويجب تمييزه عن تفويض المشرعين والبيروقراطيين لسلطة تغيير القوانين بشكل عشوائي وعرض إرادتهم على الآخرين من خلال المراسيم والأوامر. ويمكن توفير مثل هذا التنظيم بواسطة المؤسسات الحكومية الرسمية القانونية، والتي تتضمن الهيئة التشريعية ومحاكم القانون، أو بواسطة المؤسسات الطوعية للمجتمع المدني مثل مكاتب الاعتماد ومؤسسات تحديد المعايير. تعد الحركة الليبرالية فلسفة الحرية والقانون والازدهار. وهي أيضاً فلسفة مؤسسات القانون—أي لحكومة ذات سلطة محدودة—التي تنشئ الإطار الذي من خلاله نمارس الحرية، ومن خلال هذه الحرية يكوّن الأشخاص الثروة والازدهار العام.
حُضّرت هذه الورقة من أجل “البرنامج الليبرالي للقرن الجديد: وجهة نظر عالمية” وهو مؤتمر مدعوم بالاشتراك بين معهد كيتو ومعهد التحليل الاقتصادي والاتحاد الروسي للصناعيين وأصحاب المبادرة، 8-9 نيسان 2004، موسكو، الاتحاد الروسي الفيدرالي.
ملاحظات:
[1] إقرأ “البنية والتغير في التاريخ الاقتصادي” لدوغلاس نورث (نيويورك: شركة دبليو دبليو نورتون، 1981)، وبالأخص الفصل الخامس عشر: “المؤسسات عبارة عن مجموعة من القوانين وإجراءات الالتزام والأعراف الأخلاقية والسلوكية والتي تُكوَّن للحد من سلوك الفرد وذلك من أجل الرفع من المصلحة أو المنفعة أو الثروة.”
[2] “المؤسسات توفّر بنية من الحوافز للاقتصاد؛ وعند نشوء هذه البنية فإنها توجه التغير الاقتصادي نحو النمو أو الركود أو الهبوط.” دوغلاس نورث في “المؤسسات”.
[3] إقرأ ريتشارد إبستين “قوانين بسيطة لعالم معقد” (كيمبريدج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة هارفرد، 1995)، صفحة 21: “يتوجب أن يكون الرد الصحيح للمجتمعات الأكثر تعقيداً في اعتماده الكبير على قوانين بسيطة، وذلك يشمل القوانين القديمة التي طالما يتم إهمالها كبقايا من العصور القديمة الزائلة.”
[4] كمثال جيد عن وصف السببية، إقرأ دارون أسيموغلو وسيمون جونسون و جيمس إيه. روبنسون “قصة نجاح إفريقية: بوتسوانا” 11 تموز 2001، حيث أشار الكتّاب، في بوتسوانا: “إن النظام الأساسي للقانون والعقود نجح بشكل معقول. فقد قل نسبياً النهب الحكومي والخاص. ولم تُحدث العوائد الكبيرة من الماس عدم استقرار سياسي محلي أو نزاعاً على التحكم بذلك المصدر… نرى أن السياسات الاقتصادية الجيدة لبوتسوانا، ونتيجة لذلك نجاحاتها الاقتصادية، تعكس مؤسساتها، أي ما نسميه مؤسسات الملكية الخاصة والتي تحمي حقوق الملكية للمستثمرين الحقيقيين والمحتَملين، وتوفر الاستقرار السياسي، وتضمن تقييد النخبة السياسية من خلال النظام السياسي ومشاركة كافة أطياف المجتمع.”
[5] في بعض الحالات، قد تساعد التكنولوجيا على تبسيط الإجراءات، كما هو الحال في أندهرا براديش في الهند حيث قلّصت الحوسبة الوقت المطلوب لتسجيل تغيير ملكية الأرض من عشرة أيام إلى ساعة واحدة، ولكن ببساطة وفي معظم الحالات يبقى التخلص من عدد الهيئات المعنية والتصاريح المطلوبة خطوة أكثر فائدة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 23 كانون الثاني 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018