لا صوت يعلو من الجهات الأربع لهذا المسمى وطنا عربيا غير صوت الإذعان والخضوع. يقول محترفو الدين “لا تفكروا لأن العقل محدود” و” ارضوا دون أن تفهموا”، ويستلون سيف الفتوى مهددين بقطع رأس كل من تجرأ على استخدام عقله. أما رجل السياسة فلا يتردد في الإعلان عن هدر دم الجميع، إن لم ينظموا إلى حزبه ويبايعوه زعيما واحدا أوحدا. في حين ينفذ العسكر هواياتهم المفضلة ويأمرون “أطيعوا والتزموا بالأوامر”.
رجل الدين المتطرف ورجل السياسة المتزمت والعسكري المتسلط أعداء ثلاثة يقفون بالمرصاد أمام إحداث التغيير المنشود وانبثاق المجتمع الحر. لكن أين باقي القوى الحية في المجتمع وخاصة “قبيلة” المثقفين؟ وهل يلعب المثقف العربي دوره كاملا؟
لست من أصحاب البكاء على الماضي، ولست من الذين يعتبرون أنه ليس بالإمكان أن يكون أفضل مما كان، لكن ينبغي أن نسائل المثقفين رواد ومنتجي الأفكار، عن دورهم في إنجاز مهام التنوير والتحرر. بل هل يوجد لدينا مثقف بالأصل؟ أليس إما متمسحا بأعتاب السلطة الحاكمة وإما منعزلا ومحاصرا في برجه العاجي بعيدا عن قضايا الناس؟
يتحمل المثقف العربي جزءا كبيرا من المسؤولية عن غياب الحرية بفعل عدم قدرته على المشاكسة والنقد، وتمسح أغلب المشتغلين بالثقافة بالبحث عن الامتيازات الصغيرة، أو تطييب خاطر العامة خوفا من تكسير اليقينيات وما يجلبه من غضب.
لن نبالغ إذا اعتبرنا أن لفظ المثقف في عالمنا العربي مجرد وهم أو مجرد مجاز لفظي لايمت للحقيقة بصلة، إذ يعيش بين نارين حين تحرص الدولة على تحويله إلى بوق شرعيتها، وتطلب منه الجماهير مسايرة ميولاتها وعواطفها، وعندما يستسلم لضغوطات أحد الطرفين يفقد صوته أي تأثير ويفقد مكانته الاعتبارية.
المثقفون العرب مصابون بأنفلونزا التملق المزمن، لذلك فهم لا يخرجون عن صنفين : صنف يتملق للسلطة صاحبة “الولائم الكريمة” وصنف متملق لعواطف الجماهير مهما كانت خاطئة ومجانبة للصواب. ومن نجا من هذا التصنيف منعزل في خطابات بعيدة عن قضايا الواقع. في حين تبقى قلة قليلة غير قادرة على تقديم خطابات لا تعتمد على مداهنة هذا الطرف أو ذاك.
لقد فشل “المثقفون” العرب في التعاطي مع المتغيرات والوقائع الجديدة بفعل، إما الوقوف الطويل أمام أبواب السلطة لحراسة شرعيتها، أو نتيجة التحول إلى مجرد حرس للأفكار الميتة المسايرة لعواطف الناس بحثا عن شعبية وهمية. وضعية تحول المثقففين إلى كائنات كاريكاتورية تثير الشفقة، يصدق فيها وصف علي حرب، الذي أطلق عليهم تسمية “أهل الكهف”، نظرا لعجزهم عن التكيف مع المتغيرات الجديدة في عالم متغير.
شهدت أوروبا في القرن الثامن عشر نموذجا للمثقفين الطلائعيين، مثقفون أدانوا الظلم وجلبوا التنوير. دافعوا عن الحرية وواجهوا سلطة رجال الدين. نشروا العلم وواجهوا الاعتقال. لقد أسهموا حقيقة في التحولات الكبيرة التي عاشتها مجتمعاتهم.
نماذج كثيرة لصلابة موقف المثقف شهدها العالم الغربي. ومن غاليلي إلى سارتر، ومن اسبينوزا إلى بييربورديو ومن إيميل زولا إلى ألبر كامو، ظل المثقف صوت من لاصوت لهم رغم الحصار ورغم العنف والتهديد. خاطر المثقف الغربي بحياته لكي يظل ضميرا في كامل اليقظة. وسواء تذكرنا قولة غاليلي الشهيرة “ومع ذلك تدور” وهو يقاد إلى مقصلة الكنيسة أومواقف سارتر المناهضة لمواقف بلاده من حرب الجزائر، فإن المبدأ ذاته ظل منتصبا وهو: استقلالية الموقف.
هل حدث شيء من ذلك في وطننا؟ بالتأكيد لا. لأن مجاملة الحكومات واستدرار عواطف الناس أفقد صوت المثقف مصداقيته… ومع كل ذلك يبقى الرهان ملحا على ولادة جيل جديد قادر على ممارسة دوره الخلاق، لأن حاجتنا اليوم ماسة، إلى مثقف يضطلع بدوره كاملا في النقد البناء، لكي يعلن متى لزم الأمر”ثورته” الهادئة على كل أعداء الحرية، سواء لبسوا معطف الدين أو قبعة سلطة الدولة، أو ركبوا على مشاعر الناس العاطفية والدينية.
إن ممارسة المثقف نقده البناء يعني أن يقول “لا” كلما لزم الأمر.”لا” لكل الذين يصادرون الحرية تحت أي شكل من المبررات، لا لكل الذين يمارسون القمع باسم المصلحة الوطنية، و”لا” لكل الذين يستغلون الدين للحفاظ على امتيازات أنانية، و”لا” لكل المستبدين مهما كانت مبرراتهم دينية أو قومية أو سياسية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 30 ديسمبر 2008.