مع مضى شهرا حوليا كاملا مؤثرا بكل الحسابات في بلد كالعراق ، ما تزال السجالات والتراشق السياسي الناري الذي يتصاعد مستعرا ، وينخفض متراجعا ، تبعا لمؤشرات الغزل والاحتدام السياسيين . فيما المشاورات المتباطئة لا تشير إلى تقدم جدي ملموس. على الطريق مشروع تشكيل الحكومة الجديدة . المباحثات ، والمشاورات ، والجولات المكوكية تجرى بحذر على نار هادئة إلى ما شاء الله دون النظر إلى الاستحقاقات الانتخابية ومتطلبات المرحلة ، التي تبدو هي الأحرج في الروزنامة السياسة العراقية الجديدة لما بعد نيسان 2003. فالجدل الببيزنطي حول أولوية القائمة أو الكتلة في مسألة التكليف بالتشكيل الحكومي اخذ حيزا غير منطقي وغير مبرر ، إذ اتسعت ضروب الاجتهادات السياسية المفضية إلى تخريجات سياسية مغلفة بغايات سياسية طامحة للسلطة وركوب موجتها عبر المنصب الأثيري ( رئيس الوزراء ) ، وطرح إشكال سيناريوهات، وعلى طريقة كل الطرق تؤدي إلى روما دون النظر في تبعات هذه المواقف وتداعياتها ، فالغريب أن تحصر أية جهة سياسية كل برامجها ، وطموحها ، واستراتجياتها المستقبلية بشخص تريد له أن يكون رئيس الوزراء، فهي بهذا تنظر إلى مشكلات البلاد الكبرى من خلال مشكلتها أو عقدتها هذه وهي مجازفة لا تستحق هذا القدر من المغامرة لتنافيها مع النسق ا لسياسي الجديد الذي لا تقبله التجربة الوليدة لأنها تتناقض مع جوهرها وخطاها .
وبالجملة فقد أضاف هذا التعصب الحزبي والجهوي عنصرا آخر في العقدة التي تشد إليها بممارسات كهذه المزيد من التعقيدات وسباق ضياع الوقت ، فصفقة تصفير الزمن لأجل كسب المزيد من الوقت الضائع المهدور هي الأكثر توصيفا للحالة السياسية- الاجتماعية في العراق اليوم، ومن هنا بدأ تأخر البلاد واشتداد حالة التخلف والفقر الضاربة أطنابها عمقا في التربة العراقية حتى لتخال أن الحديث عن دولة العراق الذي يملك ثاني مخزون احتياطي عالمي من النفط في المنطقة ، حديثا عن دولة قابعة على أطراف القرن الإفريقي وتعيش في فقر مدقع. إن تجربة الديمقراطية العراقية ما زالت تحبوا وسط زوابع من فلسفات وايديولوحيات ومخلفات فكرية وعقدية بالية ومع حالة كهذه يمكن أن يتحول فيه الحبو إلى كبوة ما لم يتم تأطير الحالة بمحددات ومؤشرات دقيقة وواضحة ، تدفع بالتخريجات السياسية المتحذلكة بعيدا من أجل سلامة النمو الديمقراطي من جهة وعدم إفساح المجال لخمائر المخلفات الفكرية من النمو الفوضوي بمواجهة المد الديمقراطي، ومن هنا ضرورة وضع المحددات وآليات تشكيل الحكومة وفق منظومة قانونية ، شفافة ، واضحة بعيده عن الشد والجذب وأشكال المهاترات و السجالات السياسية واللجوء إلى التصريحات النارية المنافية مع تطلعات بلد وشعب يعاني الأمرين من آثار جروح خطيرة ونكبات إنسانية ومجتمعية على كل صعد . مع التأكيد على ضرورة التجديد، وبخاصة منصب رئيس الوزراء تحديدا لامتلاك العراق إرثا تاريخيا سيئا في مجال الزعامة والحكم . ومن شـأن احتكار المنصب السلطوي لفترات متعاقبة تجديد أشكال الدكتاتورية ، ونشؤ لعبة جديدة لا طاقة للبلاد بحملها فالفواتير الماضية باهظة، وهي رهن التسديد بكفالة الدول الراعية للتجربة إلى جانب الركض المتهافت في أرجاء المسرح الدولي طلبا لإطفاء ديون سابقة ترتبت بسبب سياسات عدوانية ، وعنصرية وليس من المنطقي التفريط بمستقبل البلاد ونهضتها لأجل طموحات شخصوية سلطوية تحت أية ذريعة ، ومهما قيل عن مسألة تمثيل الشعب والغزل على هذا المنوال . ففي عراق اليوم يتسابق أكثر من ثلاثمائة حزب ، وحركة ، وكيان سياسي رئيسي ، و ثانوي ويتحدث الجميع بلغة تمثيل الشعب . ومهما كان حجم قاعدة الدعم الشعبي فليس بمقدور أي جهة الادعاء بأنها الممثل الأوحد . على أن مسار التجربة الديمقراطية ، وظهور حكومات مرحلة ما بعد الدكتاتورية لم تنجح في إعادة الروح إلى مفاصل البلاد الممزقة وبناها التحتية المدمرة وإطلاق شيء من الراحة، في مجال إنعاش الاقتصاد الوطني وتحسين الحالة المعاشية للشعب الذي يرزح تحت خط الفقر بمؤشرات المنظمة الدولية وبشهادة الواقع العياني العراقي ، وهو واحد من أهم أسباب تباطآ دينامية التجربة الديمقراطية ،وفشل البرامج الحكومية التي تعاني تشكيلاتها الوزارية من انفصام في الشخصية من ناحية الولاءات والتوجيه ، وعدم الانطلاق من أرضية مؤسساتها بحاجاتها واحتياجها ، وتسيير الأمور بمناهج حديثه لعدم كفاءة العديد من الوزراء من جهة وانعدام المرجعية الموحدة ، فالوزراء تعود مرجعيتهم إلى كتلهم السياسية الواقفة خلفهم ومنها يستمدون الحركة والتوجيه ، ولما كان السباق يقتضي بالعرف السياسي المعمول ، الجري لتحقيق اكبر قدر من المصلحة الفئوية أو الجهوية ، وتحصينها ، فقد ضاع الخيط والعصفور في المعادلة. إن نهضة المجتمع تنطلق من تلاحم ووحدة المجتمع والدولة في مهمة بذل إخلاص الجهود من اجل تعويض الوقت الضائع وإيجاد لغة المصلحة الواحدة ، قولا وفعلا من اجل اختزال الزمن . إن امتلاك القوى السياسية لنظرات عابرة لمحيطها ، و محدداتها ، وتوجهاتها الجهوية ، الفئوية الضيقة وباتساع حركة المجتمع من شانه خلق الاستقرار السياسي المنشود واللحاق بالآخرين دولا ومجتمعات ، ويبدو أن هنالك ما تزال مصالح بإبقاء البلاد رهينة هذه الأوضاع المزرية . في المجال التراشق السياسي واتهام القوائم والكتل لبعضها بعودة البعث أحيانا كما في الحالة السنية والارتماء في الحضن الإيراني كما في الحالة الشيعية، فان العراق بحاجة إلى رئيس وزراء مستورد على طريقة الملك فيصل لدى تشكل دولة العراق في أب عام 1921. إن محاولة التمسك بأهداب السلطة والدخول في صراعات من اجلها من شأنه إصابة العملية السياسية بمقتل ، من خلال تجميد مبدأ التدوال السلمي للسلطة مع ما تحمله من ترسيخ للديمقراطية في العمق ، والتي تحمي الدولة المجتمع من مخاطر الانزلاق إلى العنف من جهة وإعطاء مساحة المنافسة الحيوية المطلوبة من جهة أخرى . في السباق السياسي وحيث لابد من ظهور آليات مبدعة وبرامج قابلة للتحقيق من اجل امتلاك زمام المبادرة في أي عملية انتخابيه قادمة .
في الانتخابات المنصرمة وبعد الاتفاق السياسي بين القوى السياسية الوطنية التي وجدت ضرورة لاستبدال رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري بأحد الشخصيات من كتلته وهي الفرصة التي أظهرت المالكي إلى المواجهة ، ترى ماذا كان سيترتب لو أن الجعفري تمسك بأهداب السلطة ؟ وما هي فاتورة الحساب بالنسبة لكيانه السياسي وتداعيات ذلك على الساحة السياسية ؟. إن مسالة الاستبدال وإعطاء الآخرين الفرص تعكس الروحي الحقيقية للسلوك الديمقراطي ، فالديمقراطية ليست شعارات بلهاء وحفنة كلمات قابلة للمزايدة ، وإنما هي وحدة السلوك والممارسة والتعود على قبول النتائج كما هي تصب مصلحة الكيان السياسي نفسه ، من خلال تبنيه قدرا من المرونة يتطلبها المناخ السياسي الديمقراطي ، ومحاولة ترسيخ هذا التقليد السياسي كإحدى ثوابت العهد الجديد . نأمل أن تنتهي السجالات قريبا ، وان تكون الروح الوطنية سابقة للعواطف والرغبات ، وان يكون السلم السلطوي طريقا لخدمة الناس وليس دالة لخلق نزعات فردية كلفت أثمانا باهظة وخاصة في الحالة العراقية التي أصبحت دراما إنسانية معاصرة .
© منبر الحرية ،24أبريل /نيسان2010