لا ريب في ان واحدة من أهم مزايا دراسة التاريخ، التاريخ الكوني خاصة، تتمثل في إيجاد أنماط تكرار patterns of recurrence تعود للظهور من حقبة لأخرى أمام المجتمعات، فتكون ملاحظة هذه الأنماط من سمات الحكماء الذين يلاحظونها في سياق محاولتهم لتتبع هذه الأنماط أو المتوازيات التاريخية parallelisms كي يستثمروا خبرات المجتمعات والحقب الأخرى على سبيل خدمة مجتمعاتهم وحقبهم. هذه الحال تنطبق، بدقة مثيرة على ملاحظة وجود أنماط تكرار أو حالات توازي بين ما يجري اليوم في المجتمعات التقليدية عبر الشرق الأوسط، من ناحية، وبين المجتمع البريطاني في عصر الثورة الصناعية (القرن التاسع عشر)، إذ تعيش مجتمعاتنا حالة إنتقال تاريخي، هي في جوهرها، حالة إنتقال من أنماط علاقات وبنى القرون الوسطى إلى أنماط العلاقات الجديدة التي أفرزها العصر الحديث، خاصة بعد الإحتكاك والتلاقح الثقافي مع العالم الغربي.
وبقدر تعلق الأمر بالحركة الديمقراطية وتوسيع دوائر الإنتخابات في المجتمعات الشرقية، فإن للمرء أن يرتد إلى عصر الثورة الصناعية أعلاه لإستخراج ما يفيد من دروس، ولتجنب ما يضر من حالات سلبية، خاصة وأن التاريخ هو في جوهره “رسالة تعليمية” A Letter of Instruction.
وللمرء أن يستذكر، في سياق مثل هذا، أن عصر الثورة الصناعية في بريطانيا لم يكن ليحدث لولا عدد من الأعمدة الفكرية الفلسفية التي أرستها أعظم العقول الذكية آنذاك لتمهيد الطريق أمام الحريات والليبرالية، ومنها حركة الإقتصاد الحر laissez-faire ونظرية تقسيم العمل Division of Labor اللتان مهدتا الطريق لإنتقال الفكر الحر من الإقتصاد ومن حدود العرض والطلب (بمنأى عن تدخل الحكومة) إلى الحياة الإجتماعية والسياسية، إذ توّج فيلسوف القرن التاسع عشر “جو ستيوارت مل” Mill هذه الحركة الليبرالية بكتابه الكلاسيكي الفذ، On Liberty، (في الحرية) الذي خدم كأداة لتفجير طاقات المجمتع من خلال زج قدرات الفقراء والطبقات الوسطى في عملية التغيير الإجتماعي والإقتصادي، تلك العملية التي كانت حكراً على الارستقراطية the aristocracy التي راح دورها يتلاشى بعد فقدان بريقها الذي كانت تتمتع به عبر القرون الوسطى أو العصر المظلم، خاصة وأن تحالفها مع الكنيسة، من ناحية، ومع التاج، من الناحية الثانية، كان هو الأساس الذي بنيت عليه حالة الإستكانة والركود الإجتماعي التي تواصلت عبر أوربا حتى حدوث ثورتين عظيمتين، هما: (1) الثورة الفرنسية، (2) الثورة الصناعية (بريطانيا).
لقد بدا مل، مؤلف كتاب (في الحرية) رسولاً مبشراً بالعصر الجديد إذ أنه قد بشّر بأخلاقيات وبنى إجتماعية جديدة، الأمر الذي فتح الطريق أمام الطبقات الفقيرة والوسطى للتمتع بحريات إجتماعية وسياسية، قد لا ترقى إلى ما كانت تتمتع به الارستقراطية، ولكنها كانت حريات أسهمت في تفجير طاقات أوسع الفئات الإجتماعية نحو بناء أول مجتمع صناعي في تاريخ العالم.
لقد كان جون ستيوارت مل، فعلاً، أشبه بـ”المعلم” الأول الذي هيأ الأطر الإجتماعية والسياسية الواسعة لإستيعاب حركة المجتمع البريطاني حقبة ذاك نحو الديمقراطية، بعد تفكيك الأطر الوسيطة medieval التي تواصلت منذ القرون الوسطى حتى ظهور الماكنة التي بشرت ببداية عصر الصناعة.
إن أهم الإعتراضات التي قدمتها القوى الرجوعية لمقاومة المد الليبرالي الذي بشر به رجال من أمثال مل آنذاك، كانت تتجسد في الإعتراض بأن الحرية الزائدة أو غير المقيدة يمكن أن تتسبب بالفوضى وبالكثير من السلبيات، الأمر الذي يفسر ظهور واحد من أعظم كتابات العصر، على سبيل مقاومة التحرر الزائد الذي بشر به “مل”. كان هذا هو كتاب “ماثيو آرنولد” Matthew Arnold الموسوم بـ(الثقافة والفوضى) Culture and Anarchy الذي حمل العديد من الآراء والأفكار التي تستعملها الفئات الرجوعية المقاومة للتغيير وللحريات وللديمقراطية في الشرق الأوسط اليوم لمقاومة تقدم الحريات ولإرجاع مجتمعاتنا نحو عصور الظلام نصف الإقطاعية ونصف الخرافية المسكونة بالغيبيات التي أبقتها حبيسة في ظلمة الماضي الطللي، غير قادرة على قطع نصف المسافة الفاصلة بينها وبين الرغبة في مواكبة العصر الحديث، إذ تجد بعض هذه المجتمعات نفسها غير قادرة على إيجاد موطئ قدم لها في عصر جديد وأجواء جديدة لم تخبرها من ذي قبل.
©معهد كيتو، منبر الحرية، 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.