قراءة نقدية في تقرير كندي يحذّر من الانتشار المتنامي للمسلمين في الغرب

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

أصدرت إحدى المؤسسات البحثية في كندا فلما وثائقيا خطيراً تحذر فيه من الانتشار المتنامي للإسلام في العالم ، خاصة في أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية ، والفلم الوثائقي ، الذي أنتجته المؤسسة البحثية –التي لم يتسنَ التأكد من هويتها- في 25 ابريل 2009 وانتشر بصورة مذهلة على شبكة المعلومات الدولية “الانترنت” ومدته ثمانية دقائق وتم ترجمته لعدة لغات أجنبية ، يتناول واقع النمو السكاني الطبيعي في أوروبا والولايات المتحدة وكندا ومقارنته بالنمو السكاني الهائل للمسلمين في الغرب ، خاصة بعد الهجرات الكثيفة للعرب والمسلمين صوب الغرب منذ منتصف القرن الماضي .
ويؤكد التقرير أن معدلات المواليد في القارة الأوروبية تنخفض بشكل تدريجي منذ عقود ومعدلات الخصوبة متراجعة بشكل ملحوظ، إلا أن الحضارة الغربية غير مهددة بالانقراض أو الاندثار، ليس بسبب ارتفاع معدلات النمو الطبيعي في أوروبا وإنما لارتفاع معدلات الهجرة إليها ، وخاصة ما يسميه التقرير “الهجرة الإسلامية” !! حيث يرى أن ما نسبته (90%) من مجموع المهاجرين إلى أوروبا منذ عام 1990م هم من المسلمين .
الغريب في الأمر انه لم تتبنى أي جهة رسمية كندية أو غربية حقيقة محتوى التقرير، دلالة على أن ما يتضمنه أشبه “ببالون” اختبار عملي تقف خلفه جهات أجنبية معينة تهدف من ورائه لجس نبض ردود الأفعال الرسمية الإسلامية والغربية على التقرير ومن ثم التحضير لتزويد مؤسسات الأمن القومي الغربي، خاصة في كندا والولايات المتحدة، بتفاصيل أكثر دقة لمواجهة ما يسميه التقرير بـ”خطر انتشار الإسلام الكاسح” !!
ويقدم التقرير أرقاما عن نسبة المواليد في بعض الدول الغربية ومعدلات مواليد المسلمين مقابلها، ففي فرنسا مثلا معدلات المواليد فيها (1.8%) يقابلها معدلات مواليد في العالم الإسلامي يبلغ (8.1%) في بعض الأحيان . وفي فرنسا أيضا فان نسبة السكان المسلمين تحت سن العشرين في المدن الكبيرة مثل باريس ونيس ومرسيليا تبلغ (30%) من سكان تلك المدن . وفي بريطانيا ارتفع عدد المسلمين فيها خلال الثلاثين سنة الماضية من (82) ألف مسلم إلى (2.5) مليون مسلم بزيادة مقدرها ثلاثين ضعفا.
أما في هولندا فان (50%) من المواليد الجدد هم من المسلمين وهذا يعني بأن نصف سكانها سيكونون من المسلمين خلال (15) سنة قادمة . وفي روسيا اليوم هناك أكثر من (23) مليون مسلم يشكلون خمس إجمالي سكانها. وفي بلجيكا اليوم فان (25%) من السكان    و(50%) من المواليد الجدد من المسلمين .أما في كندا فالإسلام اليوم هو أسرع الأديان نمواً في هذا البلد .. وفي الولايات المتحدة الأمريكية كان عدد المسلمين عام 1970م (100) ألف مسلم فقط وارتفع هذا العدد اليوم إلى أكثر من (9) مليون مسلم .
ورغم عدم إمكانية التأكيد من صحة الأرقام والنسب التي يطرحها التقرير، إلا أن الواقع يفرض مصداقيتها من حيث المبدأ، سيما وان الأرقام والنسب قد تكون صحيحة لكن عملية توظيفها بهذا الشكل الذي يسيء للإسلام والمسلمين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية هي المشكلة الحقيقية في التقرير .
فالأرقام مستخدمة بطريقة تقدم للآخر معلومات خاطئة وإحصائيات ذات دلالة خطيرة مفادها أن الإسلام خطر حقيقي يتهدد الغرب، والإشارة إلى أن انتشاره الواسع من خلال ارتفاع معدلات خصوبة المسلمين مقارنة بضعف نفس المعدلات لدى الشعوب الغربية يشير إلى تحول بعض البلاد الغربية إلى دول إسلامية بالمستقبل !! هو افتراء ما بعده افتراء من تلك الجهات التي وقفت خلف التقرير واعدته بصورة نمطية تضع المسلمين في أوروبا في قفص الاتهام أمام الرأي العام الغربي أولا ومن ثم أمام صانع القرار الغربي ثانيا .
ويبدو أنها رسالة موجهه لمؤسسات صنع القرار الغربي بوقف الهجرة العربية والإسلامية إلى دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ، ومن جهة أخرى لمراقبة وضبط وتقييد حرية وحركة وعمل العرب والمسلمين في أوروبا والغرب عموما ، عملا بشعار “كل مسلم متهم حتى تثبت براءته” !! وهو منطق سبق وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية تطبيقيه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م وفشلت بذلك لأنها خرقت أهم قواعد الدستور الأمريكي الذي لا يميز بين مواطنيه لأبعاد دينية أو عرقية أو طائفية ، وكذلك وجدت نفسها في مأزق حرج وهي الدولة التي ينشدها كل إنسان على وجه البسيطة لممارسة طقوسه  وحريته الدينية كيفما يشاء .
ويشير التقرير إلى أن المسلمين في أوروبا والبالغ عددهم اليوم أكثر من (52) مليون مسلم لا يعيشون في جماعات موحدة، وهذه حقيقة تناقض دعوته إلى خطر هذه الجماعات على الغرب ؛ فالجماعات الإسلامية في أوروبا ليست متجانسة، وإنما لها خلفيات عرقية وثقافية ولغوية وأخرى اجتماعية متباينة. وعلاوة على ذلك فهي تنتمي إلى مذاهب إسلامية مختلفة. تماما كما هو حال أيضا الشعوب الأوروبية غير المتجانسة مع بعضها حيث الخلفية الاقتصادية والاجتماعية والقانونية.
ولا ينكر أحدا أن الجاليات الإسلامية في أوروبا قد حصلت على كثير من الحقوق التي كانت تفتقدها في مواطنها الأصلية التي هاجرت منها، كما حصل الكثير منها على جنسية الدول التي يقيمون فيها بحيث أضحوا جزءًا من نسيج تلك المجتمعات. وقد حصل هؤلاء على مستوى معيشي جيد، ورعاية صحية كاملة، وأتيح لهم التعليم في مختلف المستويات، وممارسة حرية التعبير كأهل البلاد الأصليين .
وتناسى التقرير أيضاً أن بعض دول أوروبا اعترفت بالإسلام كدين رسمي في بلادها منذ مطلع القرن الماضي ، فعلى سبيل المثال تم الاعتراف بالإسلام في النمسا كدين رسمي منذ عام 1912، وفي بلجيكا منذ عام 1974 بكل ما يعنيه هذا الوضع من مزايا.
لذلك فالمسلمون في الغرب إضافة نوعية وايجابية لرصيد الحضارة الغربية وهم جزء من التكوين الثقافي والاجتماعي للغرب وقدموا الشيء الكثير للحضارة الغربية ، وهم اليوم قوة إنسانية نوعية تزيد من قوة الغرب ولا تضعفها كما يروج التقرير لذلك ، بدليل أن ألاف مؤلفة من الطاقات والإمكانيات البشرية الإسلامية تخدم الغرب في مواقع حساسة ومهمة سياسية واقتصادية وعسكرية .
فوجود المسلمين في الغرب هو مكسبٌ عظيم للغرب، وإغناء لا مثيل له للثقافة الغربية المعاصرة، لاسيما وأن ثمة حالياً استجابة كبيرة من لدن الغرب للقيم الإسلامية الإنسانية ، خاصة بعد أن تمكن المسلمين في الغرب ، خلال العقد الأخير، من أن يشكّلوا حضوراً لافتا داخل المجتمعات الغربية، اعترى مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغير ذلك .
والواقع أن العلاقة بين المسلمين والغرب، في إطار تعايش المسلمين في أوروبا،  لا وجود لها بذلك الشكل السلبي المضخّم الذي يصوره التقرير، فالصورة التي صُمّمت للإسلام في الغرب، هي صورة مقزّمة، نُسجت بفرشاة الأيديولوجيا ومقصّ الإعلام، فإما أن تثار على مستوى النقاش الأيديولوجي ، فتكون صناعة إعلامية مدعومة بما هو أيديولوجي معاد للإسلام، أو العكس، صناعة أيديولوجية مدعومة بما هو إعلامي معاد للإسلام . بيد أن الغرب الحضاري والإنساني، الذي يقدّم للإنسان شتى القيم الإيجابية والإنجازات المفيدة ونحو ذلك، هو ذلك الغرب الذي هيّأ ملاذاً دافئاً لملايين المسلمين والأجانب، في الوقت الذي أقفلت الدول الإسلامية الغنية أبوابها في وجوههم .
وحتى تكتمل محاور النقاش بموضوعية ولا تبقى تدور في حلقات الغرب الذي يحمّله الكثير –ظلماً- ضريبة ومسؤولية الصورة السلبية للمسلمين في أوروبا ، لا بد من توجيه النقد أيضاً للجماعات الإسلامية في الغرب بشكل عام، بضرورة الخروج من نموذج الانغلاق على الذات والتقوقع باسم الدين والمحافظة والخوف من الذوبان، وما إلى ذلك من التبريرات اللاعقلانية.
والأفضل لهم هو الاندماج الإيجابي أو العقلاني في المجتمع الغربي، وهو اندماجٌ على مستوى ما تقرّه الأدبيات السّياسية والقانونية الغربية؛ من إتقان للغة الدولة التي يستقرّ فيها الأجنبي أو المسلم، وتعرّف على ثقافتها وعاداتها وتقاليدها، واحترام ما ينصّ عليه دستورها من قوانين منظّمة للحقوق والواجبات. في مقابل ذلك يتحتّم عليه التمسك بهويته الدينية والثقافية، التي لا تلغي الآخر، بقدر ما تدعو إلى المعاملة الإيجابية معه.
فالانخراط السّلمي والفعال للمسلمين في الواقع الغربي، لا يتحقق إلا بالاندماج الإيجابي المشار إليه أعلاه ، وهو اندماج مبني على احترام الآخر، آخذاً بعين الاعتبار حقوقه. لذلك مطلوب من المسلمين أيضاً بتحسين حضورهم بالسلوك الحسن، والمشاركة الاجتماعية والاقتصادية الفعّالة، والإسهام السّياسي المستمر، والإنتاج الثقافي الهادف، والتوجيه التربوي الصارم. لذلك فإنّ كل منْ يعتقد أن التعايش الحقيقي مع الغرب يبدأ من نزع الحجاب أو اللحية أو ترك الصلاة أو غير ذلك، فإنّ مثله مثل الذي يحرث الصحراء، فلا يحصد منها في النهاية شيئاً، لأن تجانس المسلمين مع واقعهم الحقيقي في الغرب، لن يتأتى إلا عن طريق التربية القويمة التي تصحّح جملة من الأفكار الخاطئة التي جبلوا عليها، وتزوّدهم بمنهج حياة مستمد من منابع الإسلام الحقيقية، حيث الدين المعاملة أولاً وأخيراً سواء كانوا في مجتمع إسلامي عربي أو مسيحي غربي .
ولعل أن تقرير اتحاد هلسنكي العالمي الصادر عام 2005م بشان أوضاع المسلمين في دول الاتحاد الأوروبي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م دليلاً قاطعاً على أن التقرير الكندي –موضوع المقال- لا يمثل سوى الجهة المشبوهة التي أصدرته لأغراض الإساءة إلى الحضور الإسلامي في الغرب والتشكيك في انتماء المسلمين للحضارة الغربية.
إذ وجه تقرير اتحاد هلسنكي العالمي عددا كبيرا من الوصايا إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشأن معاملة المسلمين في أوروبا على أساس أنهم مواطنين أوروبيين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية . ومن الناحية السياسية طالب التقرير بجعل الجاليات المسلمة جزءً مندمجا في المجتمع الأوروبي وحمايتهم من كل أنواع التمييز.   وطالب بضمان حرية ممارسة العبادات وأن يكون تطبيق القوانين الخاصة بالهجرة ومحاربة الإرهاب متماشية مع الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الإنسان. كما أوصى التقرير أيضا أن تكف الدول عن التمييز ضد المسلمين وأن تدعوا بانتظام إلى التسامح والحوار، سواء كان في تعامل المواطنين أو الهيئات أو الإعلام مع المسلمين.
© منبر الحرية، 26 نوفمبر/تشرين الثاني2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018