الجزء الثاني
المحدد الاقتصادي
الاقتصاد والطاقة النووية:
تدرك إيران أن الطاقة عصب الحياة في العصر الحاضر، وعليها أن تعمل جادة في القيام بمسئوليتها على توفير الطاقة الكامنة للحياة والتنمية الاقتصادية، وإيجاد مصادر أخرى للطاقة البترولية. ولعل تطوير إيران لبرنامج نووي أحد تجليات هذا الإدراك. وبالفعل استطاعت إيران أن تحقق بعض الانجازات العلمية بهذا الخصوص، فقد نجحت في تخصيب اليورانيوم باستخدام أجهزة الطرد المركزي، وبإعلان أحمدي نجاد في 11 إبريل 2006 أن إيران امتلكت دورة وقود نووي كاملة، تكون إيران قد امتلكت العلم والتقنية النووية. وهكذا حققت إيران انجازا علميا وتقنيا، وهذا يعني أن البرنامج النووي الإيراني سوف يستخدم في تحديث الدولة علميا وتقنيا في المجال الطبي والزراعي والعسكري، فضلا عن تنوع مصادر الطاقة فيها، لأن البترول مادة فانية ناضبة طال الزمن أم قصر، وسكان إيران يتزايدون بمعدلات مرتفعة، وهم في أمس الحاجة لمصادر بديلة للطاقة.
وعليه تكون الطاقة النووية ركيزة لرفاهية الشعب الإيراني، وذلك من خلال استبدال مصدر الطاقة البترولية بطاقة أخرى نووية، وتقليص احتياجات السوق المحلي من البترول، وهو ما يرفع فائض البترول الذي يتم تصديره للخارج وغزو الأسواق الأجنبية بالبترول الإيراني، وبالتالي زيادة في الدخل القومي الإيراني بفعل زيادة عوائد البترول المصدر للخارج، ومن هنا يتم توظيف هذه العائدات في الداخل، وهو ما يرفع الدخل الفردي وتوفير الكثير من الاحتياجات الداخلية من خلال إنشاء فروع إنتاجية جديدة في المجال الصناعي، ويساهم بشكل كبير في معالجة مشكلات البطالة، والتخفيف من الاستيراد، وغيرها من المشكلات الاقتصادية.
أضف إلى ذلك أن سعي إيران المتواصل لتطوير برنامج نووي، ليس فقط للأغراض السلمية، بل أيضا للأغراض العسكرية، وثمة شواهد على ذلك ليس اقلها تصريحات إيرانية تؤكد هذا المسعى، فهذا أية الله مهاجراني، نائب الرئيس الإيراني السابق، أشار في23 أكتوبر 1991 إلى أن “امتلاك إسرائيل للسلاح النووي يجعل من الضروري على الدول الإسلامية أن تتزود بنفس هذا السلاح، ويجب أن تتعامل من أجل الحصول عليه”.
وهكذا يتبين لنا مدى أهمية الطاقة النووية في تحديث إيران وتطويرها في كافة المجالات. وبالتالي ليس صحيحا ما يُقال أن إيران دولة غنية بالنفط، وبالتالي فهي ليست بحاجة إلى إنفاق ميزانيات طائلة لامتلاك بنية أساسية متكاملة في المجال النووي. إن ما قلناه أعلاه ينفي ذلك لجهة أن امتلاك إيران قدرات نووية سيعجل من عجلة التنمية والتصنيع، ويعالج مشكلات اقتصادية كثيرة، فضلا عن امتلاكها لبنية علمية متطورة، وبالتالي ستحقق إيران من جراء ذلك عوائد ضخمة لا تقدر بثمن.
وحتى ندرك الانتظام والاستمرارية في سياسة إيران الخارجية، لابد من مقارنتها بدول أخرى في المنطقة حتى نستطيع أن نقيم سياستها الخارجية. ومن هنا، إن المراقب للبرنامج النووي الإيراني ونظيره المصري يرى المفارقة بينهما: ففي الوقت الذي يشهد البرنامج النووي الإيراني قدرا كبيرا من الاستمرارية سواء في العهد الإمبراطوري الشاهنشاهي، أو في العهد الثوري، وهو ما يعكس وضوحا في الرؤية والإستراتيجية الإيرانية، ونهجا ثابتا ومطردا رغم اختلاف طبيعة النظامين، في المقابل نرى الجهود المصرية التي بذلت لبناء برنامج نووي في الخمسينات والستينات من القرن الفائت(الحقبة الناصرية)، والمحاولات التي بذلت أيضا في إعادة إحيائه في عقدي السبعينات والثمانينات في نفس القرن، وكيف انتهت تلك المحاولات في الوقت الذي أصبحت فيه الطاقة المحركة هي عصب الحياة، وفي الوقت الذي أصبحت فيه مصر تستورد البترول، والتي ستزداد الحاجة المصرية للاستيراد في المستقبل، بهدف تنمية القدرات العلمية وخدمة المجتمع والتنمية في مختلف المجالات، مما يفاقم المشكلة اكبر واكبر، وهو ما يدفع مصر بالبحث عن إستراتيجية لها، وفي نفس الوقت يعكس ذلك الانقطاع أحيانا والاستمرار أحيانا أخرى، تخبطا في الرؤية وانقطاعا في الهدف وغياب الرؤية الإستراتيجية الواضحة والمتماسكة، ويؤكد أن إيران تعمل على الاستفادة من الفرص القائمة في البيئة الإستراتيجية. ففي الوقت الذي تتراجع فيه القوة الأمريكية، ومأزقها في العراق وأفغانستان، وما رتبت له سياسات إدارة بوش إلى حد كبير من تحول إيران إلى لاعب أساسي في العديد من الساحات، كل ذلك هيأ لإيران بأن تصبح قوةً فاعلةً في الإقليم، “ودولة محورية تمتلك من الإمكانات ما يؤهلها لتصبح قوة عظمى” فهي استغلت بذكاء هذا التراجع والضعف في السياسة الأمريكية، في تفعيل سياستها الخارجية وبخاصة المسألة النووية، حيث تدرك طهران هذه البيئة الإستراتيجية المناسبة والمواءمة لإستراتيجيتها وتدرك هذا التحول في العالم، حيث تتنبأ مختلف المراكز السياسية والإستراتيجية والاقتصادية بأن العالم يتجه إلي التعددية وقرب انتهاء عصر انفراد قوة وحيدة بقيادة العالم، التي تحتكر إدارة الأزمات الدولية، تلك اللحظة التاريخية، التي يتحول فيها العالم، وتتغير المعايير التي تحكم الأفكار والسياسات، هذه اللحظة تستغلها إيران جيدا في طرح وتفعيل سياستها لتحقق مصالحها القومية، وهي لحظة سيكون فيها العالم العربي أمام حساب التاريخ، إذا ما ضيع هذه الفرصة. أو حسب ما قاله سياسي أمريكي: “عندئذ لا تلوموا إلا أنفسكم”، هكذا يتبين لنا أن المشروع الإيراني يسير بخطى مدروسة ومنتظمة وبدون انقطاعات، وهو ما يعطي إيران ميزة تميزها عن غيرها من دول المنطقة التي تتغير سياساتها بتغير القيادات الحاكمة، وهو ما ينفي صفة الاستمرارية عنها.
تكنولوجيا الأقمار الصناعية والعسكرية:
تعتبر إيران الدولة الثانية بعد إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط التي تمتلك القدرة على إطلاق أقمار اصطناعية، بعد أن وضعت إيران في4 فبراير 2009 قمرا اصطناعيا صنعته، حيث أطلقته بواسطة صاروخ “سفير2” الذي أفادت وكالة الأنباء الإيرانية أنه بدوره صنع في إيران. ومن المؤكد أن إطلاق قمر إيراني الصنع بواسطة صاروخ إيراني الصنع أيضاً يعد انجازا علميا وتقنيا تفتقر إليه دول المنطقة. إن امتلاك إيران تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والصواريخ الحاملة لها والتي بدا واضحا أن إيران حققت فيهما سبقاً على العرب، يعد مصدر قوة تضاف إلى مصادر القوة الأخرى التي تمتلكها إيران وهو ما يعني التقدم نحو تحقيق المشروع الإيراني. بالإضافة إلى امتلاك إيران لصواريخ شهاب 1 ، 2، 3، 4 ،5 وهناك توجه للتطوير شهاب6، وصواريخ أخرى مثل “زلزال” و”الفاتح”.
وتبذل إيران جهدا جبارا في تطوير قدراتها الصاروخيّة البالستية والتكنولوجيا العسكرية، وهي تنفق جزءا كبيرا من ميزانيتها التسلحية على ترسانة الصواريخ التي تمتلكها وتطورها، فضلا عن امتلاكها للأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وتصنيع الغواصات، لذا تعتبر التكنولوجيا محركا رئيسيا لسياسة إيران الخارجية، وتوجيه العلاقات الإيرانية الخارجية، ونجاحها أحيانا وإخفاقها أحيانا أخرى، حيث إن إيران في حاجة متزايدة إلى تطوير قدراتها التكنولوجية واللحاق بطفرتها العالمية، والرغبة في تحديث جيشها وإصلاح ما تم تدميره منذ الثورة وأثناء حربها مع العراق، والرغبة في تحقيق نمو اقتصادي والاعتماد على الذات كأحد المبادئ الأساسية للثورة الإيرانية في ظل الحصار الأمريكي المضروب عليها، لذا لجأت إيران لتعميق علاقاتها مع الصين وروسيا كبديل عن التكنولوجيا الأمريكية والغربية. فقد بقيت معادلة البترول الإيراني مقابل التكنولوجيا والتجهيزات العسكرية هي المعادلة المسيطرة على توجه السياسة الخارجية الإيرانية، وهو ما جعل إيران تنجح في اختراق الحصار الأمريكي المضروب عليها، وهو ما سبب قلقا أمريكا وإسرائيليا. وهذا كله علامة نجاح تحسب لإيران وسياستها الخارجية.
التنمية والسياسة:
من المؤكد أن التنمية لا تقتصر فقط على القدرة على تخصيب اليورانيوم أو تطوير تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والكيماوية والبيولوجية وتكنولوجيا السلاح، على أهمية كل ذلك إلا أنه غير كافي، فالتنمية هي منظور شامل متكامل ومستديم، وهي تمثل نظاما متكاملا يعضد بعضه البعض، وبالتالي فالتنمية تشمل أبعادا صناعية واقتصادية وسياسية واجتماعية. فمن خلال التنمية الاقتصادية يمكن تحقيق زيادة في الناتج الوطني الاقتصادي أكبر من معدل الزيادة في عدد السكان، مما يؤدي إلى زيادة في حجم الدخل الوطني، وبالتالي زيادة في متوسط نصيب الفرد من الدخل. وتنمية سياسية من خلال تطوير أو استحداث نظام سياسي عصري، وترسيخ المواطنة، وتحقيق التكامل والاستقرار، وإشراك القاعدة الشعبية في صنع القرار أي في المشاركة السياسية وتنمية ثقافة سياسية ديمقراطية. وتنمية اجتماعية من خلال تطوير البنية الاجتماعية المتكلسة، واعتبار الإنسان عنصرا أساسيا ومحوريا في أية خطة تنموية، وتغيير نظرة الإنسان والمجتمع إلى الأمور في المقام الأول.عند ذلك يمكن الحديث عن نجاح الدولة في تأسيس نظم اقتصادية وسياسية متماسكة.
عند تطبيق ذلك على إيران، يتضح أنها استطاعت أن تحقق بعض الانجازات التنموية، ولكنها عجزت عن تحقيق المنظور الشمولي للتنمية المستدامة، ويكشف عن ذلك حالة الاحتجاجات الواسعة ليس فقط في الأوساط الشعبية والطبقة الوسطى، بل من داخل النخبة السياسية التي اعترتها الفرقة وأصابها الانقسام إثر فوز نجاد بولاية رئاسية ثانية، حيث لا يزال يعاني النظام الإيراني من تلك التحولات العاصفة في بنيته الاجتماعية تم التعبير عنها بمظاهرات وحرائق وصدامات وقتلى واعتقالات بالآلاف، وهو مؤشر على أن النظام الحاكم فقد جزءا من قاعدته الاجتماعية نتيجة عجزه عن التعبير عن حركية المجتمع الإيراني، وهو دليل على فشل الطبقة الحاكمة في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في ظل ازدياد الفجوة بين النظام الحاكم وقاعدته الشعبية. هذه الفجوة سوف تستغل من قبل الخارج وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في إحداث المزيد من العقوبات الجديدة التي يطلق عليها بـ”العقوبات الذكية” ضد إيران إثر تعثر نجاح المفاوضات على خلفية برنامجها النووي، وفشل نظام العقوبات الاقتصادية، وبالتالي هيكلة العقوبات بما يستعيد من فاعليتها في منع إيران من تطوير مشروعها النووي. وهي عقوبات وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون بـ “عقوبات تصيب بالشلل”. سوف تستهدف هذه العقوبات بشكل أساسي القاعدة الاجتماعية-الاقتصادية المساندة للنظام الإيراني، من خلال استهدافها نقطة الضعف الاقتصادية الإيرانية الأساسية المتمثلة باعتماد النظام على واردات البنزين الأجنبية التي تصل إلى 40% من احتياجاته المحلية، وهو القطاع الذي يعمل فيه داعمو النظام وبخاصة الحرس الثوري الإيراني حيث هناك كيانات تابعة لـ (الحرس الثوري) مرتبطة بهذه التجارة بشكل مباشر أو غير مباشر.
هكذا يتبين لنا أن إيران أخفقت في تحقيق التنمية الشاملة، وهو ما يؤثر سلبا على سياستها الخارجية، ويشكل نقطة ضعف في نظامها، وهو ما تعمل القوى الدولية على استغلاله من أجل تحقيق أهدافها. إن الأمل في مستقبل واعد لإيران يتوقف على قدرتها في تحقيق منظور متكامل للتنمية ومستديم بما يحقق الاكتفاء الذاتي.
رغم أن إيران بلد نام، ويعاني من معضلات اقتصادية وبيئة دولية وإقليمية شديدة التعقيد، بيد أنه لا يمكن إنكار ما حققته على الصعيد التنموي- وإن كانت تنمية ناقصة- فهي تحتل على صعيد المنطقة مكانةً متميزة في الحقل الاقتصادي والعلمي والتقني، كما بينا سابقا. وهنا تبدو مفارقة غريبة تحتاج إلى بحث معمق مفادها أن إيران منذ ثورتها عام 1979 وهي ترفض الاعتراف بالنظام الدولي، واتبعت سياسة الحياد “لا شرقية ولا غربية”، مقابل ذلك فُرض عليها عزلة دولية وإقليمية وحصار ضارب من قبل النظام الدولي وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، واستمر النزاع بينها وبين واشنطن، بالإضافة إلى عدم اعترافها بالهيمنة الأمريكية، حتى أمست، كما يقال “رأس حربة في مواجهة المشروع الأمريكي”، ورائدة بما يسمى جبهة “الممانعة”، ومع ذلك استطعت إيران أن تحقق بعض الانجازات التقنية والعلمية والتنموية برغم الحصار والعزلة المضروبة عليها. في المقابل نجد دول عربية تتساوق سياستها مع واشنطن وفي حالة سلام مع إسرائيل إلا أنها بقيت في إطار التبعية ولم تنجز مشروعها التنموي كما أنجزته إيران التي شقت طريقها نحو التنمية الاقتصادية والصناعية. في المقابل نجد تركيا تتمتع بعلاقات جيدة مع واشنطن وإسرائيل وتعترف بالنظام الدولي القائم ومع ذلك شقت طريقها بنجاح باهر في المجلات التنموية الاقتصادية والسياسية والصناعية، رغم اختلاف منهجها عن نهج إيران. في المقابل نجد سورية التي تتبع النهج الإيراني( أي الممانعة) أخفقت بامتياز في كافة المجالات حتى أمست تعاني من جفاف يضرب بعض مناطقها، ناهيك عن فشلها حتى الآن في استعادة أرضها المحتلة. ومصر التي تتساوق سياستها مع واشنطن وفي حالة سلام دائم واستراتيجي مع إسرائيل، ومع ذلك تراجعت مكانتها الدولية ودورها الإقليمي، وأمست عاجزة عن صنع الأحداث الدولية والإقليمية، وأكثر من ذلك فعندما أراد اوباما أن يرسل رسالة إلى العالم الإسلامي اختار تركيا ولم يختر مصر. هذه المفارقات بحاجة إلى دراسات حيث يتجلى أن المشكل يكمن عندنا نحن معشر العرب. وفي الوقت الذي تحاول فيه إيران تعديل الخلل في الميزان الاستراتيجي، نجد “العرب” منذ حرب 1973 لم تجر أية محاولة لتجاوز الاختلال الاستراتيجي بينهم وإسرائيل. وهكذا، بينما تتباين الطرق والمناهج التي يتبعها الآخرون وينجحون في تحقيق مصالحهم، إلا أن العرب يتبعون خطاهم و يفشلون.
© منبر الحرية،21 شتنبر/سبتمبر 2010