عياد أحمد البطنيجي

peshwazarabic22 فبراير، 20110

القوة والدور الإيراني :
تعتبر القوة من أهم ركائز السياسة الخارجية، ولعل أخطرها، والقوة هدف أسمى تسعى الدول إلى تحقيقه لضمان مصالحها القومية ومكانتها في النظام الدولي، ومن هنا، يصعب فصل القوة عن المصلحة باعتبارها العامل الحاسم في مكانة الدولة بالنسبة للدول الأخرى، والقوة تشمل عناصر مادية وأخرى معنوية: الأولى تتجلى في القدرة الاقتصادية، والقدرة الحيوية (الأرض والإقليم)، والقدرة العسكرية، والقدرة السياسية التي تشمل العناصر المعنوية: الإرادة القومية، والأهداف الإستراتيجية، والقدرة الدبلوماسية. والقوة قيمة نسبية، وتخص الكيف وليس الكم فحسب، ومعرفة حقيقة قوة دولة منوط بمقارنتها بدول أخرى، فقوة أو ضعف أي لاعب دولي مرتبط بقوة أو ضعف لاعب دولي آخر. وقد ذكرنا فيما سبق، أنه يتعين على الدول أن يكون لها إستراتيجية لسياستها الخارجية متوائمة مع واقعها وقوتها ووزنها الحقيقي، وما تمتلك من موارد، وإلا أصبحت سياستها الخارجية وحركتها الدولية مجردة إلى حد كبير من العوامل الفاعلية، أو أن تكون قوتها غير مستغلة. وبالنسبة لإيران فهي تقبع على موقعٍ استراتيجي في غاية الأهمية، ويغص بالثروات الطبيعية، وتمتاز بموقع استراتيجي حساس، فهي متاخمة لشبه القارة الهندية، وتتمتع بموقع حساس آخر على بوابات الخليج العربي، ولديها من الموارد الاقتصادية الكبيرة والمتنوعة: الفحم، الغاز الطبيعي، خام الحديد، الرصاص، النحاس، المنجنيز، الزنك، الكبريت، وقابعة على احتياطات نفطية ضخمة، وتبلغ مساحتها 1.648 مليون كم2، منها 1.636 مليون كم2 يابسة، و12000 كم2 مياه، ويبلغ تعداد سكانها 70 مليون نسمة تقريباً. لذا، فإيران تمتلك من المقومات ما يؤهلها بأن تصبح قطبًا إقليمًا فاعلاً رغم أنها بلد نامي. وهكذا فإيران تحوز على عناصر القوة، وتستثمر فعلا هذه العناصر في اجتراح دور إقليمي، وتسعى لأن تختط لنفسها خطا سياسيا واستراتيجياً يرمي إلى أن تصبح قوةً إقليمية مهابة الجانب. ولكن المشكلة بالنسبة لإيران هي أنها تسعى إلى دور في غاية الطموح من قبيل أن تصبح قوة عظمى كما يصرح نجاد دائما، وبالتالي فثمة معيقات كبرى تواجه هذا الدور الطموح وذات الكلفة العالية. وقبل أن نوضح ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الدولة القوية تمتلك سيطرة أكبر على مصائرها من الدول الأقل قوة، لجهة امتلاكها للوسائل اللازمة لتنفيذ سياسات ناجعة. لذا خاضت إيران معارك ضاربة في سبيل استقلالها السياسي، وقرارها الذاتي، لإدراكها أن التقدم في ظل التبعية مستحيل، وبالتالي لابد من قطع الروابط العضوية التي تجعل البلد تابعاً للخارج حتى يحدث التقدم والاستقلال. وجدير بالملاحظة أن إيران تتفوق في جميع عناصر القوة على الدول العربية فرادة، وهو ما يؤدي إلى اختلال التوازن الاستراتيجي بين العرب وإيران. تركيا هي الدولة الوحيدة التي توازن إيران في مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وتتفوق عليها في أكثر من مجال. وهو ما يعني أن الدولتين القويتين في المنطقة هما إيران وتركيا بجانب إسرائيل، وهو ما ينبئ بمستقبل استراتيجي لإيران في المنطقة وفي إطارها الإقليمي، يعكس موازين القوة وحقيقة ما تملكه من عناصر القوة. ولكن نجاح دورها منوط في المقام الأول بعدم تعريض مصالح الكبار في المنطقة للخطر، وألا يتعارض هذا الدور مع مصالح القوى العظمى. وهذه شروط في غاية التعقيد والصعوبة بالنسبة لإيران، فالحصار والعزلة المضروبة عليها منذ عقود طويلة مرده هو عدم قبول إيران بذلك، ويبقى السؤال هو: هل تستطيع إيران باجتراح تركيب مناسب يحافظ على دورها ودور القوى الكبرى؟ أم أن ذلك من الصعب في ظل إيديولوجيا الجمهورية الإسلامية؟ هذا التوازن الدقيق والمعقد يمثل المحك على نفاذ واستمرارية سياستها الخارجية.
تحدثنا فيما سبق أن إيران تقبع فوق مصادر هائلة من الطاقة، تساهم في استمرار عجلة النمو الاقتصادي العالمي وخاصة الصيني والياباني والأوروبي. وتزود إيران الصين بالنفط والغاز بما قيمته أكثر من 70 مليار دولار تساهم في تشغيل أكثر من 2300 منشأة صينية.‏ وغيرها من الدول التي تزودها إيران بالغاز مثل الهند واليابان أوكرانيا وأوروبا أرمينيا واذربيجان وجورجيا وتايوان -كوريا الجنوبية، ناهيك عن شبكات وخطوط نقل الغاز والنفط التي تربط إيران بغيرها من الدول مما يخلق مصالح متبادلة يصعب التنازل عنها مستقبلا. من المؤكد أن كل ذلك يعطي إيران قوة ودوراً ونفوذاً في المنطقة. زد على ذلك إصرار إيران على الاستمرار في عملية اكتساب التقنية النووية وتطوير عملية تخصيب اليورانيوم على أراضيها، فنجاحها في ذلك يضيف إلى عناصر قوتها الشاملة، ما يؤثر في تطوير وتفعيل دورها الإقليمي، وهو ما يزيد الشعور لدى الجوار بتفاقم الخطر الإيراني، ويجعل إيران دولة محورية في أي مشروع لأمن الخليج وقوة مرهوبة الجانب مقابل ضعف الاختيارات الأمنية والسياسية العربية، ويزيد من الفجوة والتباعد بين النظم العربية وقاعدتها الشعبية، وتمسى هذه النظم جثة هامدة متقدمة في الاهتراء.
التصورات الذهنية المهيمنة على الطبقة الثيوقراطية:
إن المحلل لقوة إيران، والتصورات الذهنية عن الدور الإيراني الإقليمي والعالمي، يلاحظ أن هناك موارد تساهم في إنفاذ بعض هذه التصورات، وإيران تستثمر فعلا هذه الموارد في إنفاذ مشروعها. ولكن بالضرورة ثمة معيقات تواجهها. أهمها الفجوة بين تصورات الدور وإمكانات تنفيذه. نعم تتوفر لدى إيران إرادة سياسية قوية، وهي ترغب في لعب دور إقليمي وعالمي طموح، كما يكرر احمدي نجاد في المحافل الدولية، وهي ترغب أيضا في إنشاء نظام دولي متعدد الأقطاب، تكون فيه إيران قطبا دوليا محوريا يتحدى الهيمنة الأمريكية أو هيمنة القطب الواحد، ولكن هناك فرق بين الرغبة والحقيقة. فهناك إشكالية في هذا الصدد. فإيران لديها موارد تؤهلها للعب دور إقليمي ومحوري، ولكن بخصوص التصور والتمثلات( الإيديولوجيا الحاكمة) التي تؤثر بالضرورة في نظام السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، يكتنفها قدرا كبيرا من الـمبالغة. فهي تعمل على تعظيم الذات وتضخيمها، وترسم لنفسها دورا يفوق دورها كدولة دنيوية يقودها بشرٌ، فهذه الشمولية في التصورات تتضمن بالضرورة الفراغ، فهي تفترض أن العالمَ فراغٌ تسعى إيران لملأه. ففي التصورات الشمولية تنعدم الحركة وتستدعي السكون، لأنها مقاربات ذهنية ناجزة ومكتملة، لا تفترض التعددية التي تتضمن الحركة والسيرورة. ناهيك عن نزعة التوسع القومي. وهكذا تعتبر إيران نفسها مركزا يجب أن يدور العالم من حوله. هذه المركزية، التي تحطمت مع تفكيكية دريدا، ومع “ميكروفيزياء السلطة عند فوكو” (معزو عبد العالي، مجلة مدارات فلسفية، العدد 13). القوة عند فوكو- وبالتبعية المكانة والهيبة والسلطة- لا مركز لها، فهي متعددة، أي لا يمكن اختزالها في شكل محدد وإضفاء المركزية أو القداسة عليها كما تفعل إيران، فالسلطة في كل مكان، وهي في حالة سيرورة بلا ذات. هذه المركزية نراها في تصريحات القيادة الإيرانية من نجاد إلى خامنئي، وهي مركزية تفترض أن إيران هي المقر الثابت الذي يتشعب منه الفروع، تنطلق منها الشعاعات إلى بقية العالم. أي أنها مكتفية بذاتها، لا تستمد أي شيء من الغير. خذ على سبيل المثال “نظرية أم القرى”، النظرية التي ترمي إلى جعل قم وطهران هما أم القرى بدلاً من مكة، أي مركز العالم الإسلامية، وعاصمة لكل المسلمين، وسيكون فيها قيادة العالم الإسلامي، لتتزعم الأمة بزعامة ولاية الفقيه. أو ما يصرح به الرئيس الإيراني احمدي نجاد، عندما تكلم في نيويورك في أيلول من العالم (2005) أن إيران ” أمة تمتلك تاريخا من الحضارة يرجع لآلاف السنين. ويدين لنا العالم بالكثير من القيم الأخلاقية والإنسانية. وما زلنا نمتلك القدرة الكامنة لقيادة العالم إلى تلك القيم الطيبة. والشيء الوحيد الذي نريده لتحقيق هذا الهدف ليس فهم أنفسنا ولكن الإيمان بها”. ويكفي الدخول إلى موقع وزارة الخارجية الإيرانية على الانترنت، سوف نلاحظ عبارات تزخر بتصوير مكانة إيران وعظمة حضارتها ومدى تميز الإيرانيون وتفردهم عن العالم والحضارات الأخرى، وهم دائما يعطون ولا يأخذون، عطاءٌ دائمٌ وبلا حدود، كأنهم شريان حياة الأمم الأخرى ومصدرها الروحي. هكذا يصورون أنفسهم. وهي تصورات ترمي إلى تعظيم الذات الإيرانية، والرفع من شأنها ومكانتها، وهي تجد مكانة لها في أذهان الإيرانيين. وتظهر بشكل جلي في مدى اعتزاز الإيرانيين بحضارتهم وثقافتهم مثل: “إن النهضة الإيرانية من مراكز الحضارة الإنسانية في العصور التاريخية في قارة آسيا والعالم و تخطي بموقع مهم”، و”تتبوأ إيران مكانة متميزة في الشرق الأوسط بل في العالم اجمع”، “وزاد من أهميتها موقعها الحضاري العريق على امتداد التاريخ” و”هذا قيّض لإيران بان تزخر بتجربة حضارية راقية جعلها معلما للتقدم إنسانيا وسياسيا وثقافيا علي المستوي الوطني والإقليمي والدولي”. وهي تشيد بدورها وبقدراتها وطاقتها في مجال قطاع الصناعات الثقيلة والانجازات العلمية والتنموية والتكنولوجيا، “الأمر الذي بوأ بلادنا مكانة متقدمة سياسيا واقتصاديا وثقافيا و سياحيا وجعلها محط أنظار دول المنطقة والعالم، ورقما صعبا في جميع المعادلات الإقليمية والدولية”. وحتى في مجال الأدب والشعر فإيران تعظم من قيمة آدابها وشعرها فنقرأ مثلا: “بأن الشعر الإيراني القديم منه والحديث قدم صورا مشرقة وخلاقة”، وهو شعرٌ مميزٌ فنقرأ أيضا أن “الشعر الفارسي(… ) حفز الإيرانيين على سکب إبداعاتهم الشعرية في قوالب خاصة انفردوا بها “. وهم يعتبرون أنفسهم “أنهم اغنوا الحضارة الإنسانية “.
في ضوء ذلك، من الواضح أن هناك وعيا إيرانيا فيما يخص هيبة وموقع ومنزلة إيران بين الأمم، ويظهر ذلك من خلال المفردات التي يستخدمها قياداتها المفعمة بالإشارات إلى المساواة وعدم المساومة في المكانة. فمثلا يقول الرئيس الإيراني احمدي نجاد: إن منع إيران من تخصيب اليورانيوم سيمثل حالة من “التمييز النووي” التي تفرضها “بعض الدول القوية التي تستخدم منهجا تمييزيا”. ويقول أيضا: ينبغي “وجود حقوق متساوية للشعوب والأمم في العلاقات الدولية”، وهذا يعني أن” الوصول إلى تقنية سلمية لإنتاج الوقود النووي لا يمكن تقييده بالبعض الذين يحرمون معظم الأمم منها ويقومون بتشكيل احتكارها اقتصادية، ويستخدمونها كأداة لتوسيع هيمنتهم”. هذه الحالة من الإشارة إلى عدم المساواة والتمييز ضد إيران، لا تميز القيادة الإيرانية الحالية، بل موجودة عند القيادة الإيرانية منذ زمن بعيد.
فقد جادل محمد مصدق، الذي انقلبت عليه وكالة الاستخبارات المركزية (C.I.A)، للتخلص منه ومن حكومته إثر تأميمه شركة النفط الانجلو-إيرانية، إن التأميم عمل مبرر لأن الملكية البريطانية للشركة تفرض شكلا من “العبودية الاقتصادية على أمة مضطهدة”. هذه التصورات والتمثلات، تجد مكانة لها في أذهان الجماهير الإيرانية التي تشير دائما إلى المعايير المزدوجة حول برنامج إيران النووي، والتي وصلت إلى حد انتهاك كرامة البلاد.
وفي أعقاب إطلاق قمرها الاصطناعي أوميد، أشارت الصحافة الإيرانية إلى أمر حرصت على إظهاره وهو “أن الأمر يعود إلى الولايات المتحدة كي تندم على أخطاء الماضي، وأن تقبل الحقيقة أن إيران أصبحت قوة عظمى ذات تطور علمي عظيم دون مساعدة من الغرب” وأشارت أيضا: “إن إطلاق القمر الصناعي والبرنامج النووي الذي يثير قلق العالم، فكانا في نظرهم مصدر فخر، ورداً على العقوبات الدولية المفروضة على إيران لإرغامها على كبح طموحاتها النووية”. وفي زيارته الأخيرة إلى نيويورك ألقى احمدي نجاد كلمته أمام قمة قادة الدول على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، هاجم فيه الرأسمالية العالمية، وأننا “بحاجة إلى العودة إلى الخطة الإلهية وفطرتنا التي من أجلها خلق الإنسان والعودة إلى الحكم العادل والمنصف”، ” وان ثمة نوعين من الإدارة، الأولى أمريكية ثبت فشلها، والثانية إيرانية يمثلها ميثاق قورش والتعاليم الإسلامية السامية”، و”أن بلاده أصبحت القوة العالـمية الوحيدة إلى جانب الولايات الـمتحدة الأميركية، وأضاف: إن العالـم يدرك أن هناك قوتين فقط تتمتعان بأقوى نفوذ في العالـم، وهما الولايات الـمتحدة وإيران”.
من خلال ذلك يتجلى كثير من الأمور أهمها أن الصورة الذهنية الضخمة، التي تقترب إلى حد الأسطورة (أو الخرافة) منها إلى الحقيقة. والمهم هنا، بعد هذا الاستطراد، هو أن هناك فجوة بين هذه التصورات (الصور الذهنية عن الذات وبالتالي الدور) وبين موارد إيران. وهذا يترتب عليه كثير من المعضلات التي تؤثر سلبا على نظام سياستها الخارجية.
ولكن يمكن أن نفترض أن إيران لديها مقومات كثيرة، وتستثمر فعلا هذه المقومات والإمكانات، ولكن ثمة معيقات تواجهها، أهمها الفجوة بين تصورات الدور وإمكانات تنفيذه. فإيران قوية بالنسبة لمن ؟ فهل توازن إيران قوة الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى فرنسا أو إسرائيل؟
رابعا، الهيبة والدور الإيراني:
بخصوص محدد الهيبة في السياسة الخارجية الإيرانية، نلاحظ أن موضوع التنمية في إيران، وسعيها الحثيث للحصول على الهيبة، تركز على التقنيات العسكرية والتقنية أكثر من تركيزها على تطوير مؤسساتها الدستورية والسياسية، واحترامها للديمقراطية، والتعددية السياسية، وحقوق الإنسان، واحترام الاتفاقيات الدولية. كل ذلك يضمن لها احترام المجتمع الدولي، فجميعها تشكل عناصر للهيبة والمكانة، التي تمثل قضية محورية في نظم السياسة الخارجية، فالاحترام الذي يمنحه المجتمع الدولي لدولة ما من الدول، لا يكون إلى باستدخال هذه العناصر في بنيتها الدستورية والسياسة. فمن خلال ذلك تحوز الدولة على السمعة الدولية والمكانة الحسنة والمرموقة. وهذا ما يجعل للدولة هيبة. وتركيا خير مثال على ذلك، من خلال الموقف الأمريكي والأوربي بخصوص الاستفتاء التركي. فالديمقراطية أصبحت أيقونة العصر، وبدونها لا يمكن لدولة ما أن تحوز على الهيبة والمكانة. فالتحول نحو الديمقراطية، لا يكفيه أصدر دستور وإجراء انتخابات. رغم أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في 12 حزيران- يونيو 2009، تعد العاشرة التي تجرى في إيران منذ قيام الثورة، هو دليل على حيوية النظام السياسي الإيراني، إلا أن ما جرى بعد الانتخابات افقد النظام هذه الحيوية، ونال من سمعة وهيبة إيران أمام العالم. فقد شكك في نتائجها ونزاهتها ليس من قبل خصوم إيران فحسب، بل من النخبة الإيرانية ذاتها، ومن أقطاب النظام أنفسهم، ومن داخل المؤسسة الدينية التي اعترتها الفرقة والانقسام. ناهيك عن تقريع النخب الإيرانية بعضها بعضا، والاتهامات المتبادلة بالغش والفساد والتزوير. فضلا عن الاعتقالات للمعارضين وتعذيبهم. فقد فضحت الانتخابات النخب الإيرانية أيما فضيحة، وكشفت عيوب النظام الإيراني، وهو ما شكل نقطة ضعف خطيرة مست هيبة الدولة ومكانتها الدولية، ونال من حيوية النظام السياسي الإيراني، وهو ما له تأثيرات جمة على سياسة إيران الخارجية. وهكذا، إذا كان للحالة الديمقراطية في إيران أوجه، فإن بها أيضا قسمات للدكتاتورية، مثل وضع المرشد صاحب الصلاحيات الواسعة جدا، وسيطرة وتحكم مجلس صيانة الدستور في العملية الانتخابية باختيار الشخصيات المرشحة للانتخابات الإيرانية البرلمانية والرئاسية. فضلا عن تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية. بلا شك كل ذلك ينقص كثيرا من الديمقراطية الإيرانية، والنموذج الإيراني.
كما أن المأزق الداخلي للنظام سيؤثر على أولوياته في الخارج، وسيجد النظام نفسه أمام صعوبات جمة في بلورة الإجماع الوطني حول سياسته الخارجية في الوقت الذي يحتاج إلى هذا الإجماع كمعين وسند قوي له في الدفاع عن سياسته، وبخاصة الملف النووي الإيراني، في ظل ما يحاك لإيران من تربص.
وبالتالي يمكن القول على رغم ثراء التجربة الإيرانية، إلا أن ما يمكن استخلاصه منها لا يصلح بالضرورة للتعميم خارج نطاقها، وبخاصة أن نظامها جاء طبقا لنظرية الإمامة في الفقه الشيعي، والتي تتلاءم مع الشخصية الشيعية وتراثها الفكري والحضاري وثقافتها السياسية، وهكذا فهي تعكس خصوصية الحالة الإيرانية فحسب. لذا فإن هذا النموذج لا يصلح للتطبيق خارج نطاق الخصوصية الإيرانية. وهذا يضعف من إمكانية أن تكون إيران كمركز للعالم الإسلامي أو “أم القرى” حسب التعبير الإيراني. وهذا بالتأكيد يشكل نقطة ضعف في النموذج الإيراني، ونقطة ضعف أخرى في سياستها الخارجية، ويجعل طموحها يستنزف مواردها في مشروع وهمي وحلم لا يمكن أن يطبق. منذ الثورة الإيرانية حتى الآن هل أنجز هذا الطموح؟ أما النجاحات الخارجية التي تحققت في هذا الجانب فقد تحققت بفعل ظروف طارئة وحالة الفراغ والإحباط اللتان تسودان في المحيط الجيوسياسي لإيران .
تكشف الحركة الخضراء عن تحديات مباشرة أمام هيمنة الطبقة الثيوقراطية، وتفسيرها لما هو مقبول أو غير مقبول من سلوك وحريات اجتماعية وحرية رأي وصحافة، وأنماط حياة مبتغاة، ناهيك عن العولمة وأثرها على النظام السياسي الإيراني. هذه المتغيرات والمتطلبات الموصوفة بالحداثية، هل ستخضع لتكييف إسلامي شيعي؟ خصوصا وأنها المرة الأولى التي تخضع فيها المسألة الدينية في إيران لإعادة نظر، بل التجرؤ على الإمام الخميني وحرق صوره ووسم خامنئي بالدكتاتور والمحفظين بالجمود والفساد، وهو ما يعني أن رياح التغيير أصابت العمق الإيراني في محاولة للتخلص من آثار الجمود والتشدد، والإفلات من الأصولية التي افتقرت إلى صياغة نموذج تنموي شامل ومستديم. تطالب الحركة الخضراء بالاهتمام بأولويات المجتمع المدني، والتنمية الداخلية على جميع المستويات، فهذه الاحتياجات التي كشفتها المعارضة الإيرانية، بحاجة من الطبقة الحاكمة أن تعطيها الأولوية القصوى من الدخل القومي والصادرات والواردات، كأحد مطالبها التي كُشف عنها النقاب. وعلى إيران أن تدرك الهيبة لا تتحقق في الحصول على السلاح النووي فقط، بل في تحقيق التنمية ودمقرطة النظام، ومواكبة العصر ومتطلبات الحداثة السياسية. عند ذلك ستحقق إيران بالفعل الهيبة والمكانة المرموقة، لا عن طريق تصريحات نجاد عن قيادة العالم والإدارة الإيرانية، أو تصدير النموذج الإيراني للخارج، فكل ذلك لا نفع من ورائه، بل يستنفذ القدرات والموارد الإيرانية. إن الانطلاق لا يتم مما يقوله نجاد والقيادات الإيرانية، وما يتوهمونه، ويتصورونه عن دور إيران في قيادة العالم الإسلامي، لا، بل يتم من الانطلاق من الفعل الواقعي، والعمل على تطوير نظام الحياة الواقعي. إن من الأجدى لإيران أن تبدأ من هنا أي من العالم الواقعي، الايجابي بتطوير النظام بما يتوافق مع حاجات العصر ومتطلبات الجماهير المحرومة. هذا الفعل الرشيد للنظام هو المادة هي التي تحقق لإيران الهيبة والمكانة، لا التصورات الوهمية. فلا يمكن أن يتعاطى العالم مع اللا موجود، ويتجاوز الوجود الكائن، وعلى إيران أن لا تخرج ذهنا عن هذا، إن أرادت التقدم.
الخاتــمة:
قدمنا، في هذه الثلاثية، قراءة في السياسة الخارجية الإيرانية مع تقييم هذه السياسة ومقارنتها بالدول العربية المركزية في المنطقة. وذلك من خلال منظور متكامل، بغية فحص كافة المحددات التي تلعب دورا في تسيير دفة السياسة الخارجية. ومن هنا يتبين أن إيران أصابت في الكثير من الجوانب، وحققت نجاحات لا يمكن إنكارها في ظل بيئة دولية شديدة التعقيد التي تقبع فوقها إيران. حيث ركزت سياستها الخارجية على مواجهة التحديات الخارجية عبر منظومة متكاملة من الإجراءات. ركزت على تطوير قدرات إيران، في مجال التسليح، فضلا عن تنشيط العمل في برنامجها النووي، وتنمية اقتصادها. من خلال سياسة خارجية قائمة على بناء شبكة من الروابط والتحالفات الإقليمية والدولية، مما حقق لها امتلاك قدرة أكبر في مواجهة التهديدات المختلفة. وهو ما عزز مكانتها الإقليمية، فضلا عن حماية مصالحها الإستراتيجية، واستقلالها على المستويين الإقليمي والدولي. وتتبع في ذلك سياسة تتسم بالهدوء والحذر وسياسة النفس الطويل، والعمل دون كلل بحيث تحافظ على الاستمرارية وعدم الانقطاع ومن ثم البدء من الصفر كما هو الحال في النظم العربية، بل بتراكم الانجازات ونقاط القوة، بحيث لا تغضب الولايات المتحدة الأمريكية، القطب المهيمن، إلى الحد الذي لا يمكن أن تطيقه هذه الأخيرة، من خلال الحيلولة دون وصول أو دفع التناقض معها إلى الذروة، طبقا لمبدأ إن شدت واشنطن رخت طهران. فضلا عن استغلال البيئة الدولية، والتراجع الأمريكي لطرح مشروعها ودفعه بخطوة إلى الإمام. وهكذا، أصحبت إيران على صعيد منطقة الشرق الأوسط قوة عسكرية واقتصادية وتقنية. ولكن كما قلنا سابقا فإن القوة في الكيف وليس في الكم فحسب. أي انه على الرغم أن إيران قوة إقليمية عسكرية واقتصادية وتقنية، إلا انه عند مقارنة ذلك بدول أخرى خارج منطقة الشرق الأوسط تفقد إيران قوتها، ويتجلى ضعفها. فمثلا، على صعيد القوة الاقتصادية، لا تقارن باليابان، أو الصين، أو نمور أسيا (من كوريا إلى تايوان) أو أوروبا بما فيها ألـمانيا، أو حتى تركيا. أما على صعيد القوة العسكرية، فإنها لا تقارن القوى بروسيا، أو بريطانيا، أو فرنسا. هذه الدول النووية، ذات المكانة الدولية، والتي تتمتع بحق الفيتو في الـمنظمة الدولية. وقس ذلك في موضوع التحول نحو الديمقراطية، ومفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وغيرها من مفاهيم العصر.
إلى جانب ذلك ثمة إخفاقات تكتنف سياستها الخارجية أهمها التصورات الذهنية الكبرى التي تعتور الدور الإيراني. فلا تزال تهيمن على العقل السياسي الإيراني فكرة المركزية والشمولية، ففي الوقت الذي فيه تتفكك هذه المفاهيم، وتنتفي فيه فكرة المركز والحقيقة المكتملة، لا تزال إيران تؤمن بهما في عصر ما بعد الحداثة. ناهيك عن عجزها حتى الآن عن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة للمجتمع الإيراني. وهو المحك الرئيسي في تقييمنا لنجاح أو فشل أية سياسة خارجية، هو نجاحها أو فشلها في تحقيق تنمية مستدامة لمجتمعها. وعليه فإن إيران بحاجة لإعادة صياغة سياستها الخارجية في تركيب خلاّق ومبدع يواكب مفاهيم العصر واحتياجات البناء في الداخل، وهي احتياجات كشفت عنها المعارضة الإيرانية مؤخرا. وعليه، إن البنية الدستورية والمؤسساتية لإيران تواجه تحديات كثيرة داخلية، أي من القوى المجتمعية والحراك الاجتماعي. ومن الخارج، أي من النظام العالمي سواء من جانب الدول أو المؤسسات الدولية، أو من قوى عولمية ومنظمات غير حكومة. وهو ما يشكل تحديات كبرى أمام إيران. هذه التحديدات تدفع –بالضرورة- البناء المؤسساتي والدستوري في إيران إلى اجتراح الوسائل الملائمة للتعامل معها، حتى يستطيع النظام الاستمرارية والتكيف مع هذه التحديات. هل ستنجح البنية الدستورية والمؤسساتية للنظام في التعامل مع هذه التحديات؟. يمثل الإجابة الحاسمة على هذه السؤال مستقبل الجمهورية الإسلامية.
‎© منبر الحرية،11 فبراير/شباط 2011

peshwazarabic13 ديسمبر، 20100

يمثل الإعلان العالي لحقوق الإنسان، بوصفه أحد المصادر الرئيسية التي تنهض عليها النظرية العامة لحقوق الإنسان في عالمنا المعاصر، الخطوة الأولى المهمة التي خطاها المجتمع الدولي على طريق ترسيخ الاهتمام بحقوق الإنسان والحقوق الأساسية اللصيقة بالشخصية الإنسانية، والذي مهد إلى سن قواعد واتفاقيات جيدة ولاحقة تجاوزت خلو الإعلان العالمي من بعض الحقوق.

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

الجزء الثاني
المحدد الاقتصادي
الاقتصاد والطاقة النووية:
تدرك إيران أن الطاقة عصب الحياة في العصر الحاضر، وعليها أن تعمل جادة في القيام بمسئوليتها على توفير الطاقة الكامنة للحياة والتنمية الاقتصادية، وإيجاد مصادر أخرى للطاقة البترولية. ولعل تطوير إيران لبرنامج نووي أحد تجليات هذا الإدراك. وبالفعل استطاعت إيران أن تحقق بعض الانجازات العلمية بهذا الخصوص، فقد نجحت في تخصيب اليورانيوم باستخدام أجهزة الطرد المركزي، وبإعلان أحمدي نجاد في 11  إبريل 2006  أن إيران امتلكت دورة وقود نووي كاملة، تكون إيران قد امتلكت العلم والتقنية النووية. وهكذا حققت إيران انجازا علميا وتقنيا، وهذا يعني أن البرنامج النووي الإيراني سوف يستخدم في تحديث الدولة علميا وتقنيا في المجال الطبي والزراعي والعسكري، فضلا عن تنوع مصادر الطاقة فيها، لأن البترول مادة فانية ناضبة طال الزمن أم قصر، وسكان إيران يتزايدون بمعدلات مرتفعة، وهم في أمس الحاجة لمصادر بديلة للطاقة.
وعليه تكون الطاقة النووية ركيزة لرفاهية الشعب الإيراني، وذلك من خلال استبدال مصدر الطاقة البترولية بطاقة أخرى نووية، وتقليص احتياجات السوق المحلي من البترول، وهو ما يرفع فائض البترول الذي يتم تصديره للخارج وغزو الأسواق الأجنبية بالبترول الإيراني، وبالتالي زيادة في الدخل القومي الإيراني بفعل زيادة عوائد البترول المصدر للخارج، ومن هنا يتم توظيف هذه العائدات في الداخل، وهو ما يرفع الدخل الفردي وتوفير الكثير من الاحتياجات الداخلية من خلال إنشاء فروع إنتاجية جديدة في المجال الصناعي، ويساهم بشكل كبير في معالجة مشكلات البطالة، والتخفيف من الاستيراد، وغيرها من المشكلات الاقتصادية.
أضف إلى ذلك أن سعي إيران المتواصل لتطوير برنامج نووي، ليس فقط للأغراض السلمية، بل أيضا للأغراض العسكرية، وثمة شواهد على ذلك ليس اقلها تصريحات إيرانية تؤكد هذا المسعى، فهذا أية الله مهاجراني، نائب الرئيس الإيراني السابق، أشار في23  أكتوبر 1991  إلى أن “امتلاك إسرائيل للسلاح النووي يجعل من الضروري على الدول الإسلامية أن تتزود بنفس هذا السلاح، ويجب أن تتعامل من أجل الحصول عليه”.
وهكذا يتبين لنا مدى أهمية الطاقة النووية في تحديث إيران وتطويرها في كافة المجالات. وبالتالي ليس صحيحا ما يُقال أن إيران دولة غنية بالنفط، وبالتالي فهي ليست بحاجة إلى إنفاق ميزانيات طائلة لامتلاك بنية أساسية متكاملة في المجال النووي. إن ما قلناه أعلاه ينفي ذلك لجهة أن امتلاك إيران قدرات نووية سيعجل من عجلة التنمية والتصنيع، ويعالج مشكلات اقتصادية كثيرة، فضلا عن امتلاكها لبنية علمية متطورة، وبالتالي ستحقق إيران من جراء ذلك عوائد ضخمة لا تقدر بثمن.
وحتى ندرك الانتظام والاستمرارية في سياسة إيران الخارجية، لابد من مقارنتها بدول أخرى في المنطقة حتى نستطيع أن نقيم سياستها الخارجية. ومن هنا، إن المراقب للبرنامج النووي الإيراني ونظيره المصري يرى المفارقة بينهما: ففي الوقت الذي يشهد البرنامج النووي الإيراني قدرا كبيرا من الاستمرارية سواء في العهد الإمبراطوري الشاهنشاهي، أو في العهد الثوري، وهو ما يعكس وضوحا في الرؤية والإستراتيجية الإيرانية، ونهجا ثابتا ومطردا رغم اختلاف طبيعة النظامين، في المقابل نرى الجهود المصرية التي بذلت لبناء برنامج نووي في الخمسينات والستينات من القرن الفائت(الحقبة الناصرية)، والمحاولات التي بذلت أيضا في إعادة إحيائه في عقدي السبعينات والثمانينات في نفس القرن، وكيف انتهت تلك المحاولات في الوقت الذي أصبحت فيه الطاقة المحركة هي عصب الحياة، وفي الوقت الذي أصبحت فيه مصر تستورد البترول، والتي ستزداد الحاجة المصرية للاستيراد في المستقبل، بهدف تنمية القدرات العلمية وخدمة المجتمع والتنمية في مختلف المجالات، مما يفاقم المشكلة اكبر واكبر، وهو ما يدفع مصر بالبحث عن إستراتيجية لها، وفي نفس الوقت يعكس ذلك الانقطاع أحيانا والاستمرار أحيانا أخرى، تخبطا في الرؤية وانقطاعا في الهدف وغياب الرؤية الإستراتيجية الواضحة والمتماسكة، ويؤكد أن إيران تعمل على الاستفادة من الفرص القائمة في البيئة الإستراتيجية. ففي الوقت الذي تتراجع فيه القوة الأمريكية، ومأزقها في العراق وأفغانستان، وما رتبت له سياسات إدارة بوش إلى حد كبير من تحول إيران إلى لاعب أساسي في العديد من الساحات، كل ذلك هيأ لإيران بأن تصبح قوةً فاعلةً في الإقليم، “ودولة محورية تمتلك من الإمكانات ما يؤهلها لتصبح قوة عظمى” فهي استغلت بذكاء هذا التراجع والضعف في السياسة الأمريكية، في تفعيل سياستها الخارجية وبخاصة المسألة النووية، حيث تدرك طهران هذه البيئة الإستراتيجية المناسبة والمواءمة لإستراتيجيتها وتدرك هذا التحول في العالم‏، حيث تتنبأ مختلف المراكز السياسية والإستراتيجية‏ والاقتصادية‏ بأن العالم يتجه إلي التعددية وقرب انتهاء عصر انفراد قوة وحيدة بقيادة العالم‏، التي تحتكر إدارة الأزمات الدولية‏، تلك اللحظة التاريخية‏، التي يتحول فيها العالم‏، وتتغير المعايير التي تحكم الأفكار والسياسات‏، هذه اللحظة تستغلها إيران جيدا في طرح وتفعيل سياستها لتحقق مصالحها القومية، وهي لحظة سيكون فيها العالم العربي أمام حساب التاريخ‏، إذا ما ضيع هذه الفرصة.‏ أو حسب ما قاله سياسي أمريكي: “عندئذ لا تلوموا إلا أنفسكم”، هكذا يتبين لنا أن المشروع الإيراني يسير بخطى مدروسة ومنتظمة وبدون انقطاعات، وهو ما يعطي إيران ميزة تميزها عن غيرها من دول المنطقة التي تتغير سياساتها بتغير القيادات الحاكمة، وهو ما ينفي صفة الاستمرارية عنها.
تكنولوجيا الأقمار الصناعية والعسكرية:
تعتبر إيران الدولة الثانية بعد إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط التي تمتلك القدرة على إطلاق أقمار اصطناعية، بعد أن وضعت إيران في4  فبراير 2009  قمرا اصطناعيا صنعته، حيث أطلقته بواسطة صاروخ “سفير2” الذي أفادت وكالة الأنباء الإيرانية أنه بدوره صنع في إيران. ومن المؤكد أن إطلاق قمر إيراني الصنع بواسطة صاروخ إيراني الصنع أيضاً يعد انجازا علميا وتقنيا تفتقر إليه دول المنطقة. إن امتلاك إيران تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والصواريخ الحاملة لها والتي بدا واضحا أن إيران حققت فيهما سبقاً على العرب، يعد مصدر قوة تضاف إلى مصادر القوة الأخرى التي تمتلكها إيران وهو ما يعني التقدم نحو تحقيق المشروع الإيراني. بالإضافة إلى امتلاك إيران لصواريخ شهاب 1 ، 2، 3، 4 ،5  وهناك توجه للتطوير شهاب6، وصواريخ أخرى مثل “زلزال” و”الفاتح”.
وتبذل إيران جهدا جبارا في تطوير قدراتها الصاروخيّة البالستية والتكنولوجيا العسكرية، وهي تنفق جزءا كبيرا من ميزانيتها التسلحية على ترسانة الصواريخ التي تمتلكها وتطورها، فضلا عن امتلاكها للأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وتصنيع الغواصات، لذا تعتبر التكنولوجيا محركا رئيسيا لسياسة إيران الخارجية، وتوجيه العلاقات الإيرانية الخارجية، ونجاحها أحيانا وإخفاقها أحيانا أخرى، حيث إن إيران في حاجة متزايدة إلى تطوير قدراتها التكنولوجية واللحاق بطفرتها العالمية، والرغبة في تحديث جيشها وإصلاح ما تم تدميره منذ الثورة وأثناء حربها مع العراق، والرغبة في تحقيق نمو اقتصادي والاعتماد على الذات كأحد المبادئ الأساسية للثورة الإيرانية في ظل الحصار الأمريكي المضروب عليها، لذا لجأت إيران لتعميق علاقاتها مع الصين وروسيا كبديل عن التكنولوجيا الأمريكية والغربية. فقد بقيت معادلة البترول الإيراني مقابل التكنولوجيا والتجهيزات العسكرية هي المعادلة المسيطرة على توجه السياسة الخارجية الإيرانية، وهو ما جعل إيران تنجح في اختراق الحصار الأمريكي المضروب عليها، وهو ما سبب قلقا أمريكا وإسرائيليا. وهذا كله علامة نجاح تحسب لإيران وسياستها الخارجية.
التنمية والسياسة:
من المؤكد أن التنمية لا تقتصر فقط على القدرة على تخصيب اليورانيوم أو تطوير تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والكيماوية والبيولوجية وتكنولوجيا السلاح، على أهمية كل ذلك إلا أنه غير كافي، فالتنمية هي منظور شامل متكامل ومستديم، وهي تمثل نظاما متكاملا يعضد بعضه البعض، وبالتالي فالتنمية تشمل أبعادا صناعية واقتصادية وسياسية واجتماعية. فمن خلال التنمية الاقتصادية يمكن تحقيق زيادة في الناتج الوطني الاقتصادي أكبر من معدل الزيادة في عدد السكان، مما يؤدي إلى زيادة في حجم الدخل الوطني، وبالتالي زيادة في متوسط نصيب الفرد من الدخل. وتنمية سياسية من خلال تطوير أو استحداث نظام سياسي عصري، وترسيخ المواطنة، وتحقيق التكامل والاستقرار، وإشراك القاعدة الشعبية في صنع القرار أي في المشاركة السياسية وتنمية ثقافة سياسية ديمقراطية. وتنمية اجتماعية من خلال تطوير البنية الاجتماعية المتكلسة، واعتبار الإنسان عنصرا أساسيا ومحوريا في أية خطة تنموية، وتغيير نظرة الإنسان والمجتمع إلى الأمور في المقام الأول.عند ذلك يمكن الحديث عن نجاح الدولة في تأسيس نظم اقتصادية وسياسية متماسكة.
عند تطبيق ذلك على إيران، يتضح أنها استطاعت أن تحقق بعض الانجازات التنموية، ولكنها عجزت عن تحقيق المنظور الشمولي للتنمية المستدامة، ويكشف عن ذلك حالة الاحتجاجات الواسعة ليس فقط في الأوساط الشعبية والطبقة الوسطى، بل من داخل النخبة السياسية التي اعترتها الفرقة وأصابها الانقسام إثر فوز نجاد بولاية رئاسية ثانية، حيث لا يزال يعاني النظام الإيراني من تلك التحولات العاصفة في بنيته الاجتماعية تم التعبير عنها بمظاهرات وحرائق وصدامات وقتلى واعتقالات بالآلاف، وهو مؤشر على أن النظام الحاكم فقد جزءا من قاعدته الاجتماعية نتيجة عجزه عن التعبير عن حركية المجتمع الإيراني، وهو دليل على فشل الطبقة الحاكمة في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في ظل ازدياد الفجوة بين النظام الحاكم وقاعدته الشعبية. هذه الفجوة سوف تستغل من قبل الخارج وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في إحداث المزيد من العقوبات الجديدة التي يطلق عليها بـ”العقوبات الذكية” ضد إيران إثر تعثر نجاح المفاوضات على خلفية برنامجها النووي، وفشل نظام العقوبات الاقتصادية، وبالتالي هيكلة العقوبات بما يستعيد من فاعليتها في منع إيران من تطوير مشروعها النووي. وهي عقوبات وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون بـ “عقوبات تصيب بالشلل”. سوف تستهدف هذه العقوبات بشكل أساسي القاعدة الاجتماعية-الاقتصادية المساندة للنظام الإيراني، من خلال استهدافها نقطة الضعف الاقتصادية الإيرانية الأساسية المتمثلة باعتماد النظام على واردات البنزين الأجنبية التي تصل إلى 40%  من احتياجاته المحلية، وهو القطاع الذي يعمل فيه داعمو النظام وبخاصة الحرس الثوري الإيراني حيث هناك كيانات تابعة لـ (الحرس الثوري) مرتبطة بهذه التجارة بشكل مباشر أو غير مباشر.
هكذا يتبين لنا أن إيران أخفقت في تحقيق التنمية الشاملة، وهو ما يؤثر سلبا على سياستها الخارجية، ويشكل نقطة ضعف في نظامها، وهو ما تعمل القوى الدولية على استغلاله من أجل تحقيق أهدافها. إن الأمل في مستقبل واعد لإيران يتوقف على قدرتها في تحقيق منظور متكامل للتنمية ومستديم بما يحقق الاكتفاء الذاتي.
رغم أن إيران بلد نام، ويعاني من معضلات اقتصادية وبيئة دولية وإقليمية شديدة التعقيد، بيد أنه لا يمكن إنكار ما حققته على الصعيد التنموي- وإن كانت تنمية ناقصة- فهي تحتل على صعيد المنطقة مكانةً متميزة في الحقل الاقتصادي والعلمي والتقني، كما بينا سابقا. وهنا تبدو مفارقة غريبة تحتاج إلى بحث معمق مفادها أن إيران منذ ثورتها عام 1979  وهي ترفض الاعتراف بالنظام الدولي، واتبعت سياسة الحياد “لا شرقية ولا غربية”، مقابل ذلك فُرض عليها عزلة دولية وإقليمية وحصار ضارب من قبل النظام الدولي وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، واستمر النزاع بينها وبين واشنطن، بالإضافة إلى عدم اعترافها بالهيمنة الأمريكية، حتى أمست، كما يقال “رأس حربة في مواجهة المشروع الأمريكي”، ورائدة بما يسمى جبهة “الممانعة”، ومع ذلك استطعت إيران أن تحقق بعض الانجازات التقنية والعلمية والتنموية برغم الحصار والعزلة المضروبة عليها. في المقابل نجد دول عربية تتساوق سياستها مع واشنطن وفي حالة سلام مع إسرائيل إلا أنها بقيت في إطار التبعية ولم تنجز مشروعها التنموي كما أنجزته إيران التي شقت طريقها نحو التنمية الاقتصادية والصناعية. في المقابل نجد تركيا تتمتع بعلاقات جيدة مع واشنطن وإسرائيل وتعترف بالنظام الدولي القائم ومع ذلك شقت طريقها بنجاح باهر في المجلات التنموية الاقتصادية والسياسية والصناعية، رغم اختلاف منهجها عن نهج إيران. في المقابل نجد سورية التي تتبع النهج الإيراني( أي الممانعة) أخفقت بامتياز في كافة المجالات حتى أمست تعاني من جفاف يضرب بعض مناطقها، ناهيك عن فشلها حتى الآن في استعادة أرضها المحتلة. ومصر التي تتساوق سياستها مع واشنطن وفي حالة سلام دائم واستراتيجي مع إسرائيل، ومع ذلك تراجعت مكانتها الدولية ودورها الإقليمي، وأمست عاجزة عن صنع الأحداث الدولية والإقليمية، وأكثر من ذلك فعندما أراد اوباما أن يرسل رسالة إلى العالم الإسلامي اختار تركيا ولم يختر مصر. هذه المفارقات بحاجة إلى دراسات حيث يتجلى أن المشكل يكمن عندنا نحن معشر العرب. وفي الوقت الذي تحاول فيه إيران تعديل الخلل في الميزان الاستراتيجي، نجد “العرب” منذ حرب 1973  لم تجر أية محاولة لتجاوز الاختلال الاستراتيجي بينهم وإسرائيل. وهكذا، بينما تتباين الطرق والمناهج التي يتبعها الآخرون وينجحون في تحقيق مصالحهم، إلا أن العرب يتبعون خطاهم و يفشلون.
© منبر الحرية،21 شتنبر/سبتمبر 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

تمثل سياسة إيران الخارجية دائما إشكالية سواء على المستوى التحليلي أو على المستوى العملي، وهو ما سبب إرباكا حقيقيا للمتعاملين معها، ومرد ذلك أن طهران لا تتحدث بصوت واحد، وأن ثمة معسكرين في إيران يتداولان تلك المسألة، فضلا عن طبيعة سياستها الحذرة والمعقدة.
والسياسة الخارجية هي تلك “السياسة التي يتم بها تنظيم علاقات الدولة ونشاط رعاياها مع غيرها من الدول، وتهدف إلى صيانة استقلال وأمن وحماية مصالحها، ووضع مبادئ وأهداف السياسة الخارجية هي من مسؤوليات القادة العليا للدولة”. وتتكون السياسية الخارجية لأية دولة من الوسائل التي تختارها لتحقيق أهدافها في حلبة السياسة الدولية. وعليه فإن السياسة الخارجية هي تصور وأداء لدور وطني معين.
ويلاحظ في الآونة الأخيرة، وبخاصة بعد سقوط النظام العراقي، تصاعدا في النفوذ الإقليمي لإيران، فهي تقبع على موقع  جيوبوليتيكي متميز قدم لها فرصة كبيرة في استثماره لجهة الدفع بمشروعها التوسعي الدفاعي والهجومي في نفس الوقت، بيد أنه، أي الجيوبولتيكي الإيراني، جعلها أيضا عرضة للمخاطر في منطقة تتسم بالتوتر واللاستقرار.
وعليه، تحاول إيران أن تستغل ما لديها من أوراق تؤهلها في بسط نفوذها داخل محيطها الإقليمي، بغية لعب دورا قياديا، يعكس قدراتها وإمكانياتها الحقيقية، وثقلها الحضاري والتاريخي، وإحساسها بالرسالة. وهذا ما يعتبر إحدى الإشكاليات التي واجهت إيران في سياستها الخارجية، حيث راوحت سياستها بين المثالية (العقائدية) والواقعية، بين القول والفعل. بالإضافة إلى أنها بلد نامي تفتقر إلى الإمكانيات الكافية لتنفيذ دورها الطموح، لاسيما أن هذا النفوذ الإقليمي جاء في كثير من الأوقات على حساب التنمية الإيرانية الداخلية واحتياجات المجتمع الإيراني، بخاصة في ظل الحصار المضروب عليها، فضلا عن الاحتجاجات الداخلية المعارضة لسياسة إيران الخارجية الطموحة ذات الكلفة العالية، وبخاصة تدخلها في لبنان والعراق وفلسطين وغيرها من المناطق والأقاليم الأخرى، حيث استنفذ ذلك من مواردها. وبالتالي لابد للدولة أن يكون لها إستراتيجية لسياستها الخارجية متوائمة مع واقعها وقوتها ووزنها الحقيقي، وإلا أصبحت سياستها الخارجية وحركتها الدولية مجردة إلى حد كبير من عوامل الفاعلية. إن أي خلل في هذا التوازن بين قوة الدولة الشاملة وسياستها الخارجية يؤدي إلى نتيجتين: الأولى، أن تكون السياسة الخارجية مجردة من الفاعلية إلى حد كبير. والثانية، أن تكون قوة الدولة غير مستغلة تماما في سياستها الخارجية.
تأسيسا على ذلك، ثمة مجموعة من القضايا تنال الأولوية لسير الدول في سياستها الخارجية، وهي تمثل الأهداف الحيوية:  الأمن، حفظ الذات، والاكتفاء الاقتصادي، والنفوذ والهيبة القوميين، ومحور السياسة الخارجية هو تقرير أفضل السبل التي يمكن اتخاذها لدفع هذه الأهداف إلى الأمام، وهي الأهداف التي تنصب عليها السياسة الخارجية الإيرانية. إذ تصاغ خيارات السياسة الخارجية على ضوء الموارد المتاحة، للوصول إلى الأهداف والخيارات المختارة. وفي بعض الأوقات تؤكد سياسة الدولة الخارجية على واحد أو أكثر من الأهداف هذه على حساب الأهداف الأخرى.
على ضوء ذلك يمكن أن نقيم السياسة الخارجية الإيرانية، بالرغم أن الأهداف الحيوية هذه تعتبر مفاهيم عامة بحاجة لتحويلها إلى خطوات إجرائية كمية. ومن هنا ندرك مدى الصعوبات التي تواجه أية محاولة لتقييم السياسة الخارجية الإيرانية. فمثلا إذا لجأنا إلى معيار الأمن، الذي يشكل بدوره  أبرز قضايا السياسة الخارجية الإيرانية الحرجة، ويعتبر بحق الأكثر إلحاحا لدى الطبقة الحاكمة الإيرانية ذات المصالح السياسية والاقتصادية الواسعة، وقيمنا سياستها بناءً على هذا المعيار نطرح السؤال التالي:  هل استطاعت إيران أن تحقق أمنها القومي ؟  و ما هو المحدد الرئيس الذي من خلاله يمكن الحكم على نجاح أو فشل  السياسات الأمنية لإيران ؟  تحت أي معيار يمكن أن نجيب على ذلك؟ هل حفظ الذات وكيان الجماعة القومية وضمان بقائها ككيان مستقل هو المعيار؟ أم الحفاظ على الطبقة الحاكمة وضمان بقائها في الحكم؟ أم  استمرار وديمومة النظام؟ أم التحرر من العدوان؟ سنجيب على هذه التساؤلات في متن هذه الدراسة من خلال المحددات التالية:
أولا، المحدد الأمني:
تبنت إيران سياسة خارجية ثورية منذ 1979 إذ كانت الطبقة الحاكمة آنذاك محملة برؤية مسبقة تجاه العالم الخارجي انعكست على سياستها الخارجية، جرّت هذه الرؤية عاصفة محملة بعزلة دولية ونظرة سلبية تجاه إيران. إلا أن مع نهاية الثمانينات من القرن الماضي وبداية عقد التسعينات، بدت إيران أكثر واقعية في سياستها الخارجية، لاسيما مع صعود التيار الواقعي. إثر ذلك سعت إيران إلى إعادة هيكلة علاقاتها الإقليمية والدولية مع الاحتفاظ بثوابتها الإستراتيجية، وانتقلت من الدور الثوري في عهد الخميني، إلى الدور المتوازن إذ ركزت على الدبلوماسية الهادئة والتوازن في علاقاتها الخارجية، وحاولت أن  تجمع بين القوة الصلبة والناعمة، بعيدا عن إثارة الحساسيات، بهدف إعادة بناء ما دمرته الحرب العراقية- الإيرانية. رغم ذلك استمرت دول الجوار تقابل كل سياسة إيرانية بنظرة يكتنفها الشك والحذر الشديد.
أما بخصوص علاقتها مع واشنطن، تمكنت الأخيرة من خلقِ نفوذٍ سياسي وعسكري في الشرق والجنوب والشمال وبعض مناطق الجبهة الغربية لإيران،  في كل من أفغانستان والمحيط الهندي وجمهوريات أسيا الوسطى والخليج وتركيا، وأخير العراق، وبالتالي إحكام الحصار الأمريكي على إيران، ولفق طوق أمني وسياسي وعسكري حولها، بغية عزلها وإبعادها عن أية ترتيبات في محيطها الإقليمي، إذ ” تشير متابعة السياسة الإيرانية خلال فترة ما بعد الخليج إلى أن هذه السياسة تشهد حالة من الذعر والتوجس من احتمالات تعرض إيران لضربات عسكرية أمريكية أو أمريكية-إسرائيلية”.
هذا البيئة المضطربة جعلت إيران تستحوذ عليها فكرة استهدافها عسكريا في إطار ما تسميه واشنطن بـ” محور الشر” . ولولا مأزق أمريكا في العراق وأفغانستان لفتحت جبهات أخرى ربما كانت إيران إحدى هذه الجبهات. ومع ذلك،  ورغم العداء التاريخي بين الطرفين، إلا أنهما لم يصلا حد التناقض الذي لا يمكن أن يتعايش كلاهما معه بحيث يدفع ذلك إلى حرب طاحنة يقضي أحدهما على الآخر، أي أن الواقع التاريخي لتطور العلاقات الأمريكية-الإيرانية يقول إن الطرفين استطاعا أن يتعايشا في رحم تناقضاتهما وإبقاء الأخير كامن.  وبالتالي أستطيع أن أقول: إن سياسة إيران الخارجية استطاعت أن تحافظ على كيانها القومي وحفظ ذاتها واستمرار الطبقة الحاكمة في الحفاظ على وجودها وهيمنتها على النظام.
ومع ذلك  فرغم هذا النجاح النسبي في سياستها الأمنية، إلا أن إيران  ما تزال في علاقتها الإقليمية والدولية ينتابها عدم ثقة عميقة، حيث تواجه 15 دولة جوار يغلب على تفاعلاتها سمة التوتر، تجعل إيران والأطراف الإقليمية والدولية في حالة شك دائمة، وهذا بالتأكيد سوف ينعكس على فاعلية سياسة إيران الخارجية، وهو ما يعتبر إخفاقا نسبيا في سياستها الأمنية مما يجعل نجاحها الكامل أمرا مشكوكا فيه، وبخاصة أن إيران ما انفكت تشعر بأنها مستهدفة من القريب والبعيد، وهذا ينعكس على رؤيتها للعالم بما يحول دون تفاعلها الايجابي والبناء، وهو ما له تداعيات سلبية على نظام سياستها الخارجية.  ولعل العزلة والتهديد الموجه ضد طهران جعلا التفكير السياسي الإيراني القائم على المؤامرة ربما يمثل القوة المحركة وراء محاولة الحصول على السلاح النووي. وجدير بالملاحظة أن التهديدات والحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على إيران، فرضا على الأخيرة التركيز على سلامتها ووحدتها الإقليمية وأيقظت وعي الإيرانيين والشعور بأهمية الوضع الإقليمي لإيران.
واستطرادا، لا تزال أنشطة إيران الخارجية تُقابل بنظرة من القلق والشك، لاسيما في العراق ولبنان وفلسطين واليمن ومعظم الدول العربية، ‏وهو ما يحول دون تجذر العلاقات الإيرانية- العربية. فتجذر هذه العلاقة يتطلب بناء مؤسسات مشتركة تؤطر تفاعلاتهما‏، وترعاها جهات نافذة ذات سلطان ونفوذ‏، حتى يتم التعامل مع هذه العلاقة باعتبارها جزءا من نسق علائقي كامل اقتصادي وثقافي وسياسي، عند ذلك يمكن أن تزال أزمة الثقة بين إيران وجوارها، وبخاصة أن إيران لم تقم بالجهد اللازم لتطمين هذه الدول.
لا يمكن لكل ذي عقل حصيف أن ينكر أن سياسة إيران الأمنية جعلتها طرفا لا يمكن تجاوزه في ترتيبات المنطقة الأمنية. وبالتالي فإن أي سياسة تحول دون دمج إيران في شبكة طبيعية من العلاقات الدولية والإقليمية، هي سياسة فاشلة وقصيرة الأجل. حيث  ترى المجموعة الأوروبية فرصة اقتصادية كبرى في المساعدة على تسوية الخلافات الأمريكية- الإيرانية. وعلى المستوى الداخلي في واشنطن أخذت شركات النفط والمؤسسات الاقتصادية الأخرى، بالإضافة لعدد متنام من الشخصيات السياسة الأمريكية، تنتقد واشنطن لفشلها في حل مشكلاتها مع إيران. وسعت دول عربية خليجية إلى تحسين علاقاتها مع إيران ورفض مشاركتها بأي عمل عسكري ضدها. ولكن يجب على دول الخليج  بخاصة امتلاك عناصر القوة الشاملة لجعل علاقتها مع إيران تقوم على التوازن حتى يمكن تطوير علاقات متوازنة ومنظومة أمنية متناسقة، لأنه بدون التوازن الاستراتيجي بين إيران ودول الخليج لن تنبني علاقات متوازنة بل ستكون علاقات مختلة لصالح الطرف الأقوى وهذا يؤدي إلى صراعات مدمرة وعدم استقرار وتوتر دائم.
إن الإستراتيجية الأمريكية المدعومة من الغرب والمؤيدة من قبل بعض الدول العربية التي ترى عزل إيران وتطويقها سوف يؤدي إلى ” تهدئتها” والى كبح جماحها، دفع السياسة الخارجية الإيرانية إلى مناكفة القوى المواجهة لها، وعدم الإذعان من خلال محاولات التخريب عليها والتهديد بضرب مصالحها. لعل ذلك هو ما دفع القوى الدولية إلى الاعتراف بالدور الإيراني في منطقة الخليج والى الاعتراف بإيران كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها. كما أن سياسة الحصار الأمريكي أضرت بالشركات الأمريكية نفسها من سياسة العقوبات. فوفقا لتقارير أمريكية فإن 670 شركة أمريكية تم منعها من التعاون مع دول من بينها إيران وهذه الشركات فقدت مصالحها في هذه الدول حيث تشير التقديرات إلى انه نتيجة سياسة العقوبات هذه فإن الاقتصاد الأمريكي يفقد سنويا 19 مليار دولار وهو الدخل الذي ذهب إلى الدول الأوروبية والشرق الأدنى وأوروبا الشرقية ونتيجة لهذا تبخرت إمكانية إيجاد 200 فرصة في الولايات المتحدة.
خلاصة ذلك،  رغم النجاح الذي حققته إيران في هذا الجانب الأمني، إلا أنه لا يمكن الركون إلى المعيار الأمني كمحدد رئيس للحكم على نجاح السياسة الخارجية، لأنه لو اعتبرنا أن حفظ المقومات المادية للذات الإيرانية واستمرارية الطبقة الحاكمة كمعيار وحيد، دليل على نجاح السياسة الخارجية لاعتبرنا كل الدول بمن فيها الدول “الفاشلة” ناجحة في سياستها الخارجية. فمثلا سورية استطاعت بالفعل أن تحفظ النظام العلوي، والطبقة الحاكمة، فهل نعتبر هذا مؤشرا على نجاح سياستها الخارجية رغم أن قضاياها الكبرى لم تنجح في تحقيقها إلى الآن؟ ولا يعني ذلك أن نقلل من أهمية المعيار الأمني كمؤشر على نجاح السياسية الخارجية، ولكن الاعتماد عليه كمؤشر وحيد يعتبر خطأ. وهذا ما يدفعنا إلى البحث في المعايير الأخرى، والنظر إلى كافة المعايير من منظور متكامل.
© منبر الحرية،07 غشت/آب 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20102

لا تزال المعارضة الإيرانية مستمرة للنظام الإيراني منذ انتخابات حزيران 2009. ولا تزال الأزمة تراوح مكانها برغم كل المحاولات التي بذلت، وذلك دلالة واضحة على عمق الانقسام الذي تعيشه إيران فهي أسوأ أزمة تشهدها منذ الثورة، فهي تكشف عن عمق التوترات والأمراض التي تنخر في النظام الإيراني، وتطلعنا على حجم التحديات المستقبلية، فالمجتمع كائن عضوي تكشف حالة المرض عن مدى كفاءة الأعضاء التي تكون بدنه وأحشاءه معا. ومن المعروف أن النظام السياسي يبقى مستقرا طالما كان موفيا بمطالب أعضاء النظام في مختلف النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ولاستجلاء حقيقة المعارضة الإيرانية، يتعين وضعها في سياقها التاريخي، وبالتحديد منذ الثورة الإيرانية. هذا التاريخ يكشف عن تركيبة النظام وبنية المجتمع، ومستقبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فالأحداث السياسية التاريخية هي التي تشكل خبرة الإنسان السياسية وتبقى مختزنة في الوعي السياسي للأمة وخزان وقودها، وتمد المجتمع السياسي بقوة دفع لا يستطيع إيقافها أي نظام مهما أوتي من قوة.
إن القراءة المتأنية لتاريخ المعارضة تساعد على الخروج بتعميمات نستطيع من خلالها فهم ما يجري في إيران في هذه الأثناء. هذه القراءة تؤكد أن المعارضة في تزايد مستمر، فضلا عن تزايد جرأتها ومطالبها. وعليه، لا نبالغ إن قلنا: إن مستقبل النظام مرهون بمدى استجابته للتحديات والآمال التي تكشف عنها ليس فقط الاحتجاجات الحالية، بل ما يكشف عنها تاريخ المعارضة منذ الثورة الإيرانية إلى الآن. فالنظام الإيراني يشهد بين الحين والآخر  حالة مزمنة  من التوترات شديد الحدة بما يشبه “الأزمة الممتدة”، وخصوصا الصراعات الحادة  بين التيارات السياسية داخل الجهاز الحكومي أو بين الأخير والقوى المحيطة بالنظام. ولكن هذه التوترات لم تصل إلى درجة تهديد النظام وتقويض بنيانه، قد تصل إيران إلى هذه الحالة، أي إلى أزمة حادة وبنيوية يصعب حلها في ظل النظام القائم إن لم يقم الجهاز الحكومي بتغذية راجعة يتفادى من خلالها الوقوع في أزمة مستقبلية قد تكون أشد حدة وقد تعرض بنيان النظام إلى خطر ماحق. فضلا عن ذلك إن هذه القراءة تكشف عن ثوابت المعارضة الإيرانية، ومدى استجابة النظام لهذه الثوابت، وردود فعله تجاهها؛ لاعتقادنا أن هذا محدد رئيس لاستشراف مستقبل النظام الإيراني.
وجدير بالملاحظة أن المعارضة السياسية مسألة ضرورية ولازمة لأي نظام سياسي. وفي النظام السياسي الإيراني، فإن الحاجة إلى المعارضة تعتبر ضرورة مضاعفة عن مثيلاتها في النظم السياسية الأخرى، ليس فحسب لأنها تكشف عن مثالب النظام واحتياجات البناء الاجتماعي، بل لأنها تهز استقرار النزعة المحافظة للنظام الإيراني.
وبعد مسح لأشكال المعارضة الإيرانية منذ الثورة إلي الآن ومطالبها وردود فعل السلطة تجاهها،  نعرض بعض الخلاصات التالية:
أولا:  في إيران أكثر من شكل واحد للمعارضة. والمفارقة رغم تنوعها الشديد إلا أن فاعليتها محدودة. ويمكن تصنيف المعارضة إلى ثلاثة أصناف:
1-  معارضة داخل الجهاز الحكومي
2-  المعارضة الدينية
3-  المعارضة المسلحة .
تشكل المعارضة داخل الجهاز الحكومي مجموعة من التيارات السياسية شديدة التباين تعمل من داخل النظام، تعارض بعضها بعضا، وتعتبر ولاية الفقيه مقولة دستورية ملزمة. وتحكمها تباينات عميقة تتعلق بالحقوق المدنية، وسيادة القانون، والمجتمع المدني، والفصل بين السلطات الثلاثة، وحدود سلطات الدولة. فهناك التيار اليميني التقليدي، وتيار اليسار الإسلامي، والتيار الليبرالي، وتيار معتدل  يغلب عليه الطابع الإداري والتكنوقراطي.
ولكل تيار قاعدة اجتماعية تناصره، وامتداد خارج مؤسسات الدولة، وصحف ناطقة باسمه. خلاصة ذلك أن هناك تنوعا شديدا في التيارات السياسية داخل الجهاز الحكومي بين يمين ويسار، متطرف ومعتدل، إصلاحي ومحافظ. يعكس هذا التباين التنوع في فئات وطبقات المجتمع الإيراني. وهكذا نجد أن لكل قاعدة اجتماعية ممثلين حكوميين. وهذه حقيقة في غاية الأهمية، فالتنوع السياسي- الاجتماعي والإيديولوجي، هو في الحقيقة ممثل بتيارات سياسية داخل الجهاز الحكومي. أهمية ذلك تكمن في أنه يحول دون وصول التناقضات السياسية والاجتماعية إلى ذروتها.
وبفضل وجود هذه التيارات في قلب النظام السياسي أمكن لصانع القرار مراعاة مصالح متعددة ومتنوعة. وهو متغير مهم يفسر لنا قدرة النظام الإيراني على الاستمرارية والبقاء في ظل ظروف إقليمية ودولية شديدة التعقيد، فضلا عن وضع داخلي ملتهب. وهذا ما يجعل النظام قادرا على تفادي أزماته ومعالجتها، دون حدوث ثورة أو تغيير انقلابي، كما يحدث في الأنظمة السياسية العالمثالثية. فقد أثبتت إيران قدرا عاليا على مواجهة التحديات والتصدي للأزمات الداخلية والخارجية. ولذلك فإن القوى المؤثرة في مصير النظام هي قوى “داخلية”- كما يقول الباحث الإيراني سعيد برزن-  أي داخل الجهاز الحكومي، وليس للقوى التي تتخندق خارج النظام سوى تأثير قليل جدا قد يصل إلى درجة الصفر. وبالتالي فإن التغيير ينتج ليس نتيجة صراع بين قوى النظام الداخلية والقوى المحيطة به، بل إن المنافسة بين تيارات النظام الداخلية هي التي قادت إلى التغيير. فـ “كلما ابتعدنا عن مركز النظام شاهدنا انخفاض مستوى التأثير لدى القوى السياسية”. خلاصة القول، لقد كان تحرك الفكر والسياسة من داخل الجهاز الحكومي نفسه. فالتيارات التي تشكل جسم النظام هي التي حملت لواء التغيير، أما القوى المحيطة بالنظام لم تستطع التأثير في هذا التحول التاريخي بشيء يذكر. وعليه فحتى تؤثر المعارضة في النظام يتعين عليها جذب التيارات الممثلة داخل الجهاز الحكومي لصالحها، فإن إحداث التغيير لن يكون بدون مساندة ومساعدة هذه التيارات السياسة.
أما المعارضة الدينية، فهي تنتقد النظام على أساس ديني، وتعارض أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة للنظام. وتلعب دورا مؤثرا داخل النخبة السياسية الحاكمة خصوصا عندما يكون الصراع بين التيارات السياسية على أشده، فقد ينتهي الأمر بأن ترجح المعارضة الدينية كفة الإصلاحيين. وتتنوع مواقف المعارضة تجاه ولاية الفقيه. ثمة من يرفضها بالمطلق، ويعتبرها ” شرك بالله وفرعونية”. وثمة من لا يرفضها وإنما يرفض ولاية المرشد الحالي على خامنئي؛ لافتقاده المؤهلات الدينية الكافية لتولي الزعامة الدينية. هذه المعارضة تطالب بإحلال شخص أكثر كفاءة من خامنئي. وثمة من يطالب باستبدال قيادة الفرد الواحد وإبدالها بقيادة  جماعية من خلال مجلس فقهاء يتكون من فقهاء حاصلين على أعلى درجات العلم الديني لضمان الطابع الإسلامي للدولة. وثمة من يطالب بولاية محدودة تتمتع بصلاحيات سياسة محدودة؛ لتقييد سلطان ولاية الفقيه. وثمة من يطالب بانتخابه مباشرة من الشعب، أي ولاية الأمة.  وثمة من يرفض ولاية الفقيه جملة وتفصيلا، ويرون أن مبدأ ولاية الفقيه استباقا لفكرة المهدي المنتظر، ويشككون في شرعية أي حاكم قبل عودة الأمام الثاني عشر، هذا التيار يدعو إلى انسحاب علماء الدين من السياسة. وأخيرا من المعارضة الدينية من يطالب بتحويل ولاية الفقيه إلى ولاية شرفية فقط أي لا تتمتع بأي صلاحيات سياسية.
يتضح مما سبق أن المعارضة الدينية عبارة عن خليط غير متجانس، وتتشكل من جماعات تترابط برابط هش وضعيف، وتفتقر إلى التنظيم. وهذه نقطة ضعف قاتلة، تفقدها القدرة على التأثير في النظام. وعليه فهي لا تشكل تهديدا له، بل يسهل على النظام اختراقها وتفتيتها وإضعافها. ومرد ذلك ليس لضعف في تكوين علماء الدين المعارضين، بحكم ثقافتهم وتكوينهم العقلي والديني، بل في تفكيرهم المثالي، وبالتحديد رفضهم الانجرار وراء المناورات السياسية وألاعيبها، ويفضلون البقاء بعيدا عن ألاعيب السياسة والاكتفاء بدور المرشد والموجه والتعبير عن المبادئ الروحية السامية. وبالتالي فهم لا يصلحون لإدارة أجهزة الدولة.
لذلك تستغل النخبة الحاكمة والمؤيدة لـ “خامنئي” نقطة الضعف هذه جيدا.  ونقطة الضعف الثانية، تتمثل في أن الصراعات الدينية بين علماء الدين الشيعة سواء أكانت فيما بينهم أو بينهم وخصمهم “خامنئي”، نقول إن هذه الصراعات تكون غالبا وراء الكواليس ونادرا ما تتسرب أخبارها إلى الخارج، لذلك فهي بمثابة “حرب باردة” وصامته وبخاصة بين رجال الدين وخامنئي. وبالرغم من حدة الاختلافات بين المعسكرين والعداء بين الجانبين إلا أن بين المعسكرين اتصالات كثيرة وروابط متشعبة، ومتشابكين عبر الزيجات والروابط الأسرية والتجارب المشتركة التي جمعت بينهم خلال سنوات الدراسة ومعارضتهم للشاه. المهم هنا أن بقاء هذه الصراعات وراء الكواليس يجعل الرأي العام الإيراني غير مطلع عليها، وهذا خسارة سياسية لهؤلاء غير الممثلين داخل جهاز الدولة، وبالتالي لا يتم توظيفه سياسيا لصالح التيارات المعتدلة، وهذا يعد مكسبا للنظام ونخبته الحاكمة وخصوصا تيار اليمين المؤيد لـ”خامنئي”.
أما بخصوص تعامل النخبة الحاكمة مع المعارضة الدينية، فكان ولا يزال تعاملا سلبيا إما بالترهيب والإقصاء، أو بالسجن والإقامة الجبرية، أو من خلال الإهمال والرفض والعزل.
وبخصوص المعارضة المسلحة، فهي تمثل جماعات وأحزاب إيرانية يعيش معظمها في المنفى. تكرس نفسها لمقاومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالسلاح، وتصارع الأخيرة على  الدولة وعلى الإستراتيجية العليا للدولة الإيرانية. وتهدف إلى الإطاحة بالنظام أو انتزاع حكم ذاتي للأقليات العرقية أو الدينية. ومن هذه المعارضة “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و” المعارضة السنية المسلحة” و”منظمة مجاهدي خلق” . هذه المعارضة لا تمثل أي تهديد حقيقي للنظام، دع عنك عن إطاحته. ولا تمتلك أي فرصة للاستيلاء على السلطة. وترفض الأغلبية العظمى من الإيرانيين، في داخل البلاد وخارجها، “منظمة مجاهدي خلق” وتحتقرها أغلبية الإيرانيين، وكانت دائما غريبة على جو “الحوزة” “ولها أراء غير تقليدية عن الإسلام”. وبالتالي فالمعارضة المسلحة ليس لها تأثير، وهي أيضا مفتتة وليس بينها رابط مشترك أو أهداف جامعة متفق عليها توحدهم في مناوئة النظام، فضلا عن مشاكل بنيوية تعتورها. وعليه، فهي عاجزة عن التأثير في مجريات الأمور في إيران، لا يمكن التعويل عليها لإحداث اختراق في بنية النظام.
ثانيا: تشكل المعارضة الإيرانية موقفا حرجا للجمهورية الإسلامية التي تتجاذبها القوى المعارضة. فلا تزال القضايا التي تثار متعلقة بمسألة ولاية الفقيه المطلقة التي تشكل الركيزة الرئيسية للحكم في إيران. المشكلة التي مابرحت تهيمن على النظام منذ الثورة إلى الآن هي كيف يمكن الجمع بين الدولة الدينية والمدنية في وقت واحد؟، حيث يؤخذ على النظام بأنه أخفق في تحقيق المصالحة بين المذهب الشيعي والعصر، وأخفق في تحقيق التوفيق بين الإيمان والحرية، دع عنك الاستجابة لطموح الأجيال الشابة. فالدستور مثلا يحاول أن يجمع بين المتناقضات، فيقر الحريات المدنية ويضيق في آخر كل مادة فيها هذه الحريات “ما لم يخل بالقواعد الإسلامية والحقوق العامة” أو “بشرط أن لا تناقض أسس الاستقلال والحرية والوحدة الوطنية والقيم الإسلامية”. أو “بشرط أن لا تكون مخلة بالأسس الإسلامية”. ومن المعروف أن الأسس والقواعد الإسلامية التي يشترطها الدستور لممارسة الحريات، هي مبادئ عامة ومجردة يستطيع كل تيار سياسي تفسيرها حسب معتقداته ومبادئه؛ لأنها غامضة وتحتاج إلى تفسير وثمة تفسيرات عديدة لهذه المبادئ، وكل التيارات تستطيع تفسيرها لصالحها.
فمثلا يعتبر تيار اليمين التقليدي أن كل نقض موجه للنظام أضحى نقدا موجها للإسلام نفسه. ناهيك أن النظام يلقي بتهمة “الحرابة” على من يخالفه، وقد أعدم الكثير بسبب هذه التهمة.
هذه التحفظات حاصرت حريات الصحافة، والاجتماع، ومكنت السلطات من الالتفاف عليها؛ لعجز النظام عن إيجاد التوازن بين “ولاية الفقيه” وبين ولاية الشعب، بين المدني والديني. وهذا يعد من المطالب الأساسية التي تكشف عنها المعارضة، بل ومن ثوابتها. ولا غرو أن الحركة الخضراء يعتبر جزء كبير من همها متعلق بالحريات، ويكشف عن ذلك المبادرة التي قدمها الزعيم الإصلاحي مير حسين موسوس التي تطالب بوضع حدود للسلطة، وأن تعمل في إطار القانون، وإعداد قانون للانتخابات يضمن منافسة نزيهة وعادلة، والإفراج عن جميع السجناء، وضمان حريات الصحافة والتعبير، والسماح للصحف الموقوفة بالعودة مجددا، والاعتراف بحق الشعب بالتجمعات القانونية، والسماح للأحزاب بالعمل وفق القانون. وعليه يرتكز تاريخ المعارضة الإيرانية على مسألتي في غاية الأهمية وهما: الحريات المدنية، وحدود سلطة الدولة وسياستها الخارجية، وتأخذ المعارضة على النظام أنه مفرط في سياسته الخارجية، وهذا الإفراط هو الذي يجلب المواجع داخليا؛ لأنها تبدد أموال الشعب.
ثالثا: ما برح ميزان القوى يميل لصالح النظام الحاكم وبخاصة لصالح تيار اليمين التقليدي المساند للمرشد والمدافع عن ولاية الفقيه. فالتيارات السياسية التي تشكل الجهاز السلطوي جميعها رغم اختلاف التوجهات السياسية، لا يمكنها تجاوز الأسس الدينية والسياسية والمبادئ العامة التي يقوم عليها النظام. فـ”مير حسين موسوي” زعيم الحركة الخضراء مؤمنا بكل أسس الثورة والمبادئ العامة التي أرستها. ورفسنجاني وخاتمي وكروبي يعتبرون أنفسهم أبناء النظام، ويرتبط بعضهم بالنخبة الحاكمة وبعلاقة مصاهرة ونسب وتجمعهم تجارب وآلام مشتركة. وهذا ينبئ بقدرة النظام على معالجة هذه الأزمة، فثمة ما يشي بذلك وخصوصا أن الحركة الخضراء بدأت تضعف وتتراجع وهناك انحسار ملموس في حجمها. بيد أن المستقبل لا ينبئ بذلك؛ لأن  تاريخ المعارضة يشير بتزايدها وتزايد جرأة مطالبها، فلأول مرة نشاهد هجوما على المرشد، وصورة تحرق وتمزق وهتافات تنادي “بموت الدكتاتور”. ولأول مرة نرى حدة التنافس والاختلاف بين المحافظين والإصلاحيين فضلا عن حدة الانقسام في النخبة السياسية والدينية. ولأول مرة نرى المرشد يعلن بوضح انحيازه لتيار بعينه، والخروج عن دوره المتعارف عليه وهو الحياد والمحافظة على التوازن داخل الجمهورية الإسلامية. ولأول مرة نجد هذا التدخل العسكري الواسع والعنيف في التصدي للمعارضة بهذا الشكل وما صاحبه من إعدام وسجن للخصوم. وعليه لا غرو أن البعض يصفها بالأزمة الأكبر والأخطر منذ الثورة إلى الآن، والأكثر كشفا لطابع النظام، الذي يكشف عن عمق الانقسام في المجتمع الإيراني. لذا فقد تفتح فصلا جديدا في تاريخ إيران تشكل هذه المعارضة مقدمته.
رابعا: إن التأثير السياسي للمعارضة الدينية التقليدية الرافضة لولاية الفقيه جملة وتفصيلا، يكاد يكون تأثيرا معدوما. فولاية الفقيه تمثل اجتهادا متطورا في الفقه الشيعي، فلا يعقل مطالبة المعارضة الدينية التقليدية تعليق قضية الحكم بحجة انتظار المهدي المنتظر. أما المعارضة الدينية الفاعلة والمؤثرة تنقسم إلى قسمين : الأول، أنصار ولاية الفقيه المطلقة. والثاني، أنصار الولاية المحدودة للفقيه.  والمعلومات تشير إلى أن التوجه الشعبي يسير نحو تأييد الخيار الثاني، فضلا عن أن هناك طائفة من النخبة تؤيد هذا الخيار وتدعم باتجاهه.  وجدير بالذكر أن انقسام المرجعيات بعد انقسام الزعامات يعني أن إيران دخلت المرحلة الأخطر، بعد أن نالت حدة الانقسام ولاية علي خامنئي وهزت مرجعيته وشرعيته.
خامسا: إن تزايد المعارضة وتصاعد وتيرة الأزمة  أو خبوها في المستقبل، يتوقف على انفتاح النظام على مطالب  المعارضة واحتياجاتها وأن تستثمر السلطة الحاكمة المطالب والاحتياجات وتستدخلها جميعها في نظامها وفي مشروعها، والقدرة على هضمها في بنية قرارات النظام السلطوية، لأن تسكين الأزمة ليس علاجا ناجعا. فثمة مرحلة جديدة من التحديات لم يألفها النظام، وهو مقبل عليها قسرا إذا استمرت استجابته بهذه النمطية.
نعم لدى النظام الحالي من القوة ما يمكنه من مواجهة المعارضة الحالية، ولكن العبرة بقدرة النظام على المحافظة على استمراريته وثباته وقوته، كيف يتم ذلك؟ هذا متوقف على التعامل البرجماتي مع الاحتياجات والمطالب التي تمظهرت. ولا ينفع النظام تهميش هذه المطالب بحجة أن الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بإيران غير مواتية، بسبب المخاطر والتهديدات التي تواجهها، وبخاصة ارتفاع وتيرة المواجهة مع الغرب بسبب أزمة الملف النووي الإيراني. ولا ينفعه اعتبار المعارضة صنيعة أجنبية ومدعومة من أمريكا والغرب. فاستمرار ذلك يعني أن  النظام  لا تزال استجابته للمعارضة استجابة لا تنم عن الفهم الكامل للحق في الاختلاف؛ لعدم إضفائه عليها أية مشروعية بل يعتبرها نشازا. ولا ينظر لهذه الاحتياجات بأنها تشكل لائحة مطالب ضرورية وتقريرا كاملا يكشف عن تحولات اجتماعية في شرائح المجتمع الإيراني، وتكشف عن فصل جديد ينتظر إيران، ومن مصلحة النظام التصالح مع مطالب واحتياجات المعارضة. ويتحتم التعامل معها من خلال إيجاد صيغة توفيقية تضمن احتياجاتها وتستوعب مطالبها بدلا من شيطنتها؛ لأن استمرارها ورد فعل الأجهزة السلطوية المسلحة تجاهها يعني تشويه صورة إيران ونموذجها وصدقيه نظامها الأخلاقي. لاسيما أن الفكر الإسلامي المنفتح يؤكد على وجود مفهوم المعارضة في الإسلام. فلا ينفع القمع لأن العوامل البنيوية ترجح كفة المطالب الشعبية الحيوية والثابتة. واستمرار القمع سيقود إلى إضعاف النظام في المستقبل، وبخاصة أن إيران مقبلة على تحديات مستقبلية من قبيل نمو تعدادها السكاني، فلا تزال إيران من أعلى المعدلات في العالم. ونظرا لوجود عدد كبير للغاية من الشباب فإن النظام يواجه تحديا يتمثل في مواجهة القلق المحتمل والتوقعات التي فشلت والتي تطالب بها المعارضة. ناهيك أن النظام الإيراني لا يعمل طبقا للظروف التي نمت فيها الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات، عندما كان بمقدورها الانعزال، فاليوم يعيش النظام في عصر العولمة والانفتاح والعالم السريع والسهل والمنفتح، لذا فان عصر الثورة قد ولى. وعليه يتعين على النظام أن يبدأ بتنفيذ سلسلة من الإصلاحات تدريجيا إذا أراد أن يحافظ على وضعه، بدلا من تآكل النظام من الداخل والتحطم على صخور الواقع.
© منبر الحرية، 15 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

في سياق الانشغال العربي على كل المستويات السياسية والنخبوية، فضلا عن المؤسسات البحثية ووسائل الإعلام بالصعود التركي وتداعياته الإقليمية والدولية، يثار التساؤل التالي: ما هي ملامح خطاب المثقفين العرب تجاه هذا الصعود التركي واتجاه التغير الذي لحق السياسة الخارجية التركية؟

بعد رصد ومتابعة لما كتب حول هذا الانشغال العربي في خطاب المثقفين، نستعرض في هذا المقال، ملامح هذا الخطاب وقسماته، وبعد ذلك نقدم رؤية نقدية لهذا الخطاب، بغرض الكشف عن البنية الفكرية للمثقفين العرب.  وجدير بالذكر أن هذا المقال يتناول بعض القراءات للمثقفين وليس كلها، فهناك قراءات معمقة وتستحق التقدير ولكنها قليلة ونادرة. وعليه فنحن هنا نقدم قراءة للصفة الغالبة لخطاب المثقفين تجاه الصعود التركي، فهذا ما يستحق الدراسة والبحث.

وفي هذا السياق، نجد من بين المثقفين من وصف تأثير الصعود التركي بأنه “خطف الأبصار وأسر القلوب”. وآخر يقول: “إن الشرق الأوسط دخل العصر التركي”. وثالث يناشد وزير خارجة تركيا بإنقاذ بلاده قائلا: ” لا تتركنا يا داود أوغلو”، لأنك “تحمل في حقيبتك أفكاراً وتمنيات وحلولاً وضمادات وعقاقير”. ورابع يرى بأن ثمة “تحولات إستراتيجية مهمة في المنطقة أسهم فيها الموقف التركي”. هذه التحولات جعلت “إسرائيل خالية من أي تحالفات إقليمية للمرة الأولى منذ تأسيسها”. وخامس يقول: “أصبحت إسرائيل تسعى إلى استمالة تركيا عن طريق وساطة واشنطن” بعد أن كان العكس هو الذي يجري. وسادس: “فتركيا الخلافة ستعود بإذن الله قريبا”؛ لأن الجسد العربي صار بعد زوالها “هزيل ومهتري”، وبعودة تركيا “الخلافة” يعود “العز والمجد”. وسابع يرد التغير في الموقف التركي من الحليف الاستراتيجي “إسرائيل” إلى “صحوة ضمير المسئولين الأتراك”، هذا الموقف الأخير في غاية الغرابة، كونه يرد هذا التحول في المسائل السياسية والإستراتيجية إلى الضمير، وبالتالي يسقط من اعتباره العوامل الموضوعية سواء أكانت داخل تركيا أو في محيطها الإقليمي والدولي، ويعزل المجتمع التركي بكامله عن هذا “التحول الكبير” ويحصره فقط في ضمير المسؤولين الأتراك. أي دكتاتورية ورومانسية وليس أكثر من ذلك !.

والأغرب وتحت تأثير “السحر التركي” يصف بعضهم الشعب التركي بأنه “شعبٌ من أفضل شعوب المسلمين”؛ لأنه ” شعب يتميز بحميَّة إسلامية عالية، وبرُوح إيمانية رائعة”. بأي مقياس  قاس ذلك ؟ لا نعلم. والأنكى أن هذا الموقف العنصري يأتي على لسان “رجل دين” يدعي بأنه مفكر إسلامي، ويحمل مشروعا فكريا لاستنهاض أمة الإسلام، هذا المفكر  يرد عودة تركيا  إلى حضنها الإسلامي بغية “الدفاع عن أهل السنة ضد الأحلام الصفوية الشيعية”؛ لأنه ليس للعرب، في ظل ضعفهم، غير ” الاعتماد  على تركيا السنية(…) لذلك يُعَلِّق عليهم أبناء العالم الإسلامي آمالَ الوقوف أمام التغلغل الشيعي المؤَيَّد بالأنظمة الغربية”. والأكثر غرابة عندما تساءل أحد المثقفين العرب: “هل توحد تركيا المشرق العربي ؟”. وفي لغة مفعمة بالتمني والرغبات صور أحدهم تركيا بالقوة الرئيسية في المنطقة، وأنها ستلعب أدوارا ” حيوية في كل الملفات المطروحة، رغم انف إسرائيل ولوبياتها” .

هذا على المستوى الفردي.   أما على المستوى المؤسساتي، فهذه مؤسسة تمنح أردوغان جائزة العام 2010 ” تقديرا للمنجزات الاستثنائية”. وتلك تمنحه جائزة لـ”خدمة الإسلام “باعتباره أنموذجا” ولـ”قيامه بجهود عظيمة وبناءة”. وأخرى تشيد بموقف أردوغان في مؤتمر دافوس، وتعتبر موقفه دليلا  على ” زوال عصر قوة السلاح “.

وفي ضوء هذه الرؤى، يتبن أن بعض العرب الذين بدؤوا بملاحظة التحول في السياسة الخارجية التركية، تعاملوا تعاملا ساذجا ومبالغا فيما يخص هذا التحول، والدور الموعود لتركيا، ليس الإقليمي فحسب بل والعالمي أيضا كما يجري تصويره. ورغم أن  ملامح السياسة  التركية  ما زالت قيد التشكل، وأن قسمات المشروع التركي لم تتبلور بعد، إلا أن البعض أصدر أحكامه قطعية ويقينية.

والملفت للنظر أن هناك هالة كبيرة أحاطت هذا التغير التركي، ورسم دور يفوق طاقة تركيا وقدراتها وكأنها تعمل في فراغ دون أخذ قدراتها الفعلية وارتباطاتها الجيو-ستراتيجية، فضلا عن إضفاء نوع من الرومانسية والبطولة والشجاعة والمرونة الفائقة عليها. وبالتالي إحلال رغباتهم الذاتيّة محلّ الواقع، وكأننا لا نحلل هذا التحول المرتبط بدولة تتحرك في سياق إقليمي ودولي يضع عليها قيودا بقدر ما يفتح أمامها فرصا للتحرك، بل يتجاوز هذا “التحليل” وكأنك تقرأ لعاشقة تكتب عن عشيقها، أو عاجزا ينتظر المخلص. مع العلم أن تركيا لا تملك إلا القليل من الوسائل الخاصة اللازمة لتحقيق مصالحها التي  لا تتناسب مع ارتباطاتها الإستراتيجية وتطلعاتها الإقليمية.

هذا التبسيط هو هروب من الواقع وانحياز وتشويه لحقيقة هذا التغير في السياسة التركية، واستغراقا في الرومانسية والخيال، بعيدا عن ارتباطات الواقع وحدود الحركة. وهذا يؤكد أن الفكر العلمي والموضوعي لم يكن جزءا من خطاب هؤلاء، بل سيطر الفكر الرغبي، والرومانسية الفاقعة على العقلانية، والتمني على الواقع، والحلم على الحقيقة، وهو تعويض سيكولوجي عن نقص حاد يعتري هؤلاء،  وتعبير عن ضيقٍ من الأوضاع القائمة المزرية، وفي نفس الوقت يعكس حالة الفراغ الذي يعاني منه النظام  الإقليمي العربي. وبالتالي ثمة أزمة منهجيّة في تفكيرهم. وباعتبار أن ثمة علاقة بين المعرفة والأطر الاجتماعية، فموقف هؤلاء الفكري مرتبط بضعف وترهل وهشاشة البنى السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد العربية. ويؤكد موقفهم “الفكري” هذا بأن الميثولوجيا( الأساطير والزيف والأوهام) تبرز في الفكر السياسي الوضعي كما في الخرافة الشعبية، مكتسيا، في كل حالة، شكلا خاصا من “العقلانية” أو المعقولية، كما يقول فالح عبد الجبار في كتابة “معالم العقلانية والخرافة في الفكر السياسي العربي، (ص54). وعليه فهذه الميثولوجيا عميقة الجذور  في زوايا التفكير والوعي الاجتماعي. إذ تؤكد هذه القراءات أن هؤلاء المثقفين لم يتحرروا من إسار الايديولوجيا وأنها لا تزال فاعلة في وعيهم وتكوينهم الفكري، وبالتالي كل الحديث الذي قيل حول نهاية الايديولوجيا هو حديث ليس له أي سند واقعي. أضف إلى ذلك أن ولائهم السياسي لأنظمتهم كان طاغيا وعلى حساب التحليل الموضوعي المرتبط بالمصلحة القومية للعرب، وهذا يعني ضعف الفكر القومي لديهم. فمثلا نجد معظم المثقفين السوريين مرحبين بالصعود التركي، وفي المقابل نجد أن المصريين متوجسون وتنتابهم  نزاعات شكك عميقة من الدور التركي. وهذا يعني أن مواقف هؤلاء غير مستقل عن مواقف أنظمتهم السياسية، كون أن النظام السوري رحب بهذا الدور، أما نظيره المصري عبر عن مخاوفه العميقة من هذا الصعود. وهذا ينبئ بأن الدور التركي الصاعد قد يحدث المزيد من الانقسامات العربية- العربية.

ولكن  التساؤل هنا: هل توافق تركيا على هذه القراءات الساذجة ؟ بعبارة أخرى: كيف ترى تركيا نفسها ؟

إذا كانت تركيا بهذه القوة، كما يصورها هؤلاء، لماذا لم توفق حتى الآن في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟!، ولو كانت تركيا بهذا “السحر” لكان الأولى أن  يستجدي الاتحاد الأوربي لكي تمن عليه وتقبل تركيا الدخول في الاتحاد بدلا من العكس!.  ولو كانت تركيا كذلك لما شعرت بأنها مهملة، ولا تم تجاوزها في عملية تشكيل الصرح الأمني للقارة الأوروبية، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، رغم أنها تعتبر نفسها داخله بعمق وفي نسيج الصرح الأمني الأوروبي، ولما انحاز الاتحاد الأوروبي إلى اليونان، خصم تركيا اللدود، ولما فضلها على تركيا في مجالات الأمن والدفاع وغيرها من المجالات الأخرى. ولو كانت بهذه القوة لحسبت واشنطن لتركيا ألف حساب قبل أن  تستخدم “قضية الأرمن” ضدّ تركيا، عندما قررت لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس الأمريكي بوصف المجازر التي وقعت عام 1915، وراح ضحيتها آلاف من الأرمن، بـ”الإبادة الجماعية”، ولما صوت البرلمان السويدي أيضا على قرار يعتبر ما جرى مع الأرمن هو إبادة، بل ذهب البرلمان السويدي أبعد من ذلك حيث نص القرار أن “السويد تعترف بإبادة عام 1915 ضد الأرمن، والآشوريين، والسريان، والكلدانيين، واليونانيين، الذين كانوا مقيمين” في أراضي السلطنة العثمانية، وبالتالي كل الأقليات المسيحية التي كانت مقيمة هناك. وذلك  دون أن تعير العلاقات التركية-السويدية أي اهتمام. والغريب أن من الكتاب من اعتبر أن هذين القرارين  يعدان في الحقيقة “انتصارا لتركيا”، رغم أن تركيا سارعت إلى التنديد بهذا التصويت، وعبرت عن استيائها وامتعاضها. وقام الرئيس التركي، عبدالله غل، بالاتصال بالرئيس الأمريكي، باراك اوباما، وطلب منه التدخل  للحيلولة دون مصادقة الكونجرس على توصية اللجنة. كما وطالبت السويد أن “تتخذ خطوات للتعويض” عن قرارها الذي “لن يفيد العلاقات الثنائية وقد يلحق بها الضرر”. بأي عقل قرأ كاتبنا هذا “الانتصار” ؟ بالطبع لا ندري، رغم أن تركيا لا تعتبره كذلك. وهكذا يتبن أن تركيا لا تشكل قيمة كبرى للاتحاد الأوروبي وبخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، الذي قلل من قيمة تركيا الإستراتيجية، ما أثار نقاشات داخلية حامية حول دور تركيا الإقليمي، لإعادة تقويم أهميتها الإستراتيجية، وإعادة تحديد مكانتها في المنظومة السياسية الجديدة على الصعيد الدولي. ولكن هذا لا يعني أنها فقدت قيمتها. نحن لا نقلل من قيمة تركيا، فلها مكانتها واحترامها، ولكن نقلل من قيمة المبالغة في الدور التركي، الذي يحاول أن يصوره البعض كـ”قبضاي إقليمي”، وكـ”عودة صلاح الدين”. فأي مبتدئ في علم السياسة يدرك أن أية دولة تتبع سياسة ترمي إلى تحقيق مصالحها أينما وجدت. وعليه، فتركيا تعي جيدا دورها ولن تستطيع الذهاب بعيدا عن الخط المرسوم، ولن تتجاوز الخطوط الحمر؛ لأنها تدرك أن السياسة هي انعكاس لموازين القوى. وهذا ما نلمسه في تفكير أحمد داود  أوغلو القائم على الموازنة بين “قوة الأمر الواقع”، و”قوة الحق الأصيل” في ضوء موازين القوى. هذا المبدأ يؤكد أن تركيا بلد يتبع مبادئ النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، بلد يؤمن بتوازن القوة وبضرورة السعي إلى تحقيق المصالح القومية حتى لو  اقتضت الضرورة تحقيق هذه المصالح على حساب دول أخرى. وفي ظل موازين القوى السائدة، ستتأثر سياسة تركيا تجاه المنطقة العربية بروابطها المصلحية والاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما يجعلها لا تجرؤ على التعامل مع المنطقة بعيدا عن المشروع الأمريكي وسياسته في المنطقة.

وهنا نستطيع أن نقدم فرضية أولية وهي: أن أولوية المشروع التركي في المنطقة ستكون اقتصادية، وسيبتعد قدر الإمكان عن الأبعاد السياسية والإستراتيجية التي تثير حساسية المشاريع الأخرى في المنطقة، وحتى لا يصطدم معها. فقد تبين أن تفاعلات تركيا حتى الآن محصورة فقط بإيران، العراق، سورية، لبنان، والأردن، بهدف تحرير التجارة بين تركيا ودول المشرق العربي خصوصا، بغية تدشين سوق مشتركة. وقد عبر أحمد داود أوغلو عن تطلعات تركيا  في تكثيف التفاعلات التجارية والاقتصادية والمالية بينها ودول المشرق العربي في العديد من محادثاته مع الجانب العربي. وعليه، فتركيا لن تضيف لنا نحن العرب إضافة إستراتيجية، ولن تقوم بأي دور بدلا عنا نحن معشر العرب.

تأسيسا على ما تقدم فإن الزعم، الذي يكثر ترديده، حول الدور الإقليمي والعالمي لتركيا، زعما يقوم على قدر هائل من المبالغة، فإن المرء لا يستطيع أن ينفي حقيقة أن تركيا لها مكانتها الخاصة في السياق الإقليمي والدولي، ولكن ما نقره نحن أن تركيا تواجه مخاطر أمنية لن تستطيع مواجهتها وتعزيز استقرارها الأمني لوحدها ودون مساعدة واشنطن والغرب وحتى إسرائيل.كما أن تحقيق تطلعاتها الاقتصادية بحاجة إلى إسناد أمريكي وغربي.  لذا فإن سياستها سوف تأخذ بعين الاعتبار مصالح هؤلاء أكثر من غيرهم، حتى لو تطلب الأمر ضرب مصالح العرب بعرض الحائط، طالما بقي العرب غير مؤثرين في لعبة التوازنات السياسية، وبقاءهم أحد مكونات اللعبة السياسية، ولكنهم ليسوا المؤثرين الوحيدين أو اللاعبين الرئيسين، فقط هم قطعة شطرنج تمارس الضغوط عليهم من اللاعبين الرئيسيين.

وما يكشف عن  القدرة المحدودة لتركيا هي المبادئ التي تقوم عليها سياستها الخارجية، أي  “الموازنة” و”المسالك المتعددة”. هذان المبدءان صكا بفعل الموقع الجغرافي الحساس لتركيا، وسوف نتحدث عن ذلك في مقال آخر، ولكن المهم في هذا السياق، أن هذين المبدأين يكشفان عن ضعف بنيوي في تركيب السياسة التركية. إن  التركيز على مبدأ “المسالك المتعددة” وعدم القدرة على انتهاج سياسة ذات حد واحد، وإضفاء صفة التعددية على سياستها الخارجية، هذا يشي بأن تركيا عاجزة عن العمل بمفردها، وبذا لا تستطيع أن تفرض نفوذها، ونجاح سياستها مرهون بقبول الآخرين بها، وأن لا تكون على حساب مصالحهم، واجتراح سياسات تحظى بموافقة الجميع. ولا أعرف دولة استطاعت أن تبني علاقات متوازنة ومتكافئة مع الجميع، إلا الدول الضعيفة التي ليس لديها مشروع أو فلسفة سياسية خاصة، أو رؤية واضحة تسعى إلى تطبيقها، فالدول التي تسعى إلى التورط الإقليمي والدولي يجب أن تأخذ مواقف محددة وواضحة. كل ذلك يظهر مدى التحديات والمأزق التي تواجهه تركيا، ومدى التحديات التي تظهر مدى صعوبة تحقيق هذه المبادئ؛ لأن تركيا سوف تضطر في النهاية لأن تُقدِم على خيارات واضحة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لن تقبل الدول المنخرطة معها في تفاعلات ومصالح متبادلة بأن تستمر بسياسة الموازنة هذه، وتدهور علاقاتها مع إسرائيل دليل على ذلك.  ورغم ما فعلته إسرائيل بتركيا، عن سابق دراية وتخطيط، بإهانة سفيرها، إلا أن الأزمة تم تجاوزها “فكان الاستقبال [التركي] الحافل لايهود باراك وتجديد الالتزامات الإستراتيجية تجاه إسرائيل” على حد قول أحد الكتاب النابهين. هذه هي لعبة التوازنات التي لا يدركها الكثيرون من المثقفين هؤلاء.

© منبر الحرية ،يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20101

يفرض الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني الحاصل منذ حزيران (يونيو) 2007، حين سيطرت حماس على قطاع غزة بالقوة، كثيرا من التساؤلات حول حقيقة هذا الانقسام، وخصوصا أنه ما يزال يتعامل معه على أنه انقسام سياسي، أي انقسام في النظام السياسي  وعليه.
منذ حزيران 2007 إلى الآن تجلت كثيرٌ من الوقائع  والأحداث الاجتماعية التي كان محركها الانقسام الفلسطيني، فالانقسام الذي بدأ سياسيا قد مست مفاعيله البنية الاجتماعية للفلسطينيين.
وفي استطلاع للرأي نفذه مركز معلومات وإعلام المرأة الفلسطينية في غزة، حول مدى تأثر العائلة الفلسطينية بحال الانقسام الداخلي، أفاد أن النسبة الأكبر من الأسر الفلسطينية في قطاع غزة تأثرت بشكل واضح بحالة الانقسام التي نتجت عن الصراع بين حركتي فتح وحماس، وأفاد84.6  %من أفراد العينة أن عائلاتهـم قد تأثرت بهذا الصراع والانقسام.  في حين أفاد62   % بأن حال الانقسام والصراع الداخلي الفلسطيني تسببت في حدوث مشاكل عائلية داخل أسرهم، وأفاد  19.9% بأنها وصلت إلى حد استخدام العنف أو التهديد به.  وفي كثير من الأحيان أدت هذه الانقسامات إلى  قطع الصـلات العائلية. وردا على سـؤال حول مدى التشـاؤم أو التفاؤل بالمسـتقبل؟  أفاد حوالي 50  % من أفراد العينة أنهم متشائمون حيال المسـتقبل، بينما أفاد 41  % منهم أنهم متفائلـون. ولمعرفة تأثير الانقسام الداخلي على الحياة الاجتماعـية الفلسطينية ومدى تأثر العلاقات الأسـرية من ناحية اختيار الزوجات والزواج بهذه المسألة أجاب 71.1% من أفراد العينة أنه أصبح للانتماء السـياسـي لفتح أو حماس تأثير كبير في اختيار الزوجات والأزواج بينما أجاب 25 % من أفراد العينة بأن الانقسام الداخلي لم يؤثر عليـهم من هذه الناحيـة، وأفاد 3.9% بأن لا رأي لهم . وردا على سؤال فيما إذا كانت علاقات أطفالكم مع أصدقائهم أو زملائهم في المدارس قد تغيرت جراء حالة الانقسام أجاب 68.1 % من أفراد العينة، إن علاقات أطفالهم مع زملائهم في المدارس وأصدقائهم قد تضررت جراء الانقسـام الداخلي. والإجابة الأخطر الذي عكسها هذا الاسـتطلاع كانت حول الموقف من مسـألة الهجرة للخارج. فقد أفادت أغلبية كبيرة وبنسـبة 47.8 % بأنهم يفضلون الهجرة للخارج إذا سنحت لهـم الفرصة بينما فضل 45%من أفراد العينة البقـاء في الوطن حتى لو سـنحت لهم فرصـة الهجرة. بينما أفاد 7.2% بأنه لا رأي لهم
.
وتفيد تقارير صادرة عن المحاكم الشرعية الفلسطينية، عن ارتفاع نسبة الطلاق في العامين الأخيرين، خصوصاً في قطاع غزة، وبأن من بين أسباب ارتفاع هذه النسبة الخلافات الحزبية بين الزوجين، أو بين أحد الزوجين وأسرة الآخر(الحياة، 21 فبراير 2010).
التساؤلات التي تدور في خلد من يراقب هذه الصورة المأساوية التي تعكسها هذه البيانات: هل جذر الانقسام الفلسطيني سياسي أم اجتماعي؟ وهل الفلسطينيون منقسمون اجتماعيا قبل انقسامهم سياسيا ؟ أم أن الانقسام السياسي أدى إلى الانقسام الاجتماعي؟ وإذا كان الأمر كذلك ألهذا الحد بلغت البنية الاجتماعية الفلسطينية  من الترهل والسوء مبلغا  لا يمكن تخيله أو تحمله؟ ألهذا الحد كان العامل السياسي طاغيا في تشكيل الاجتماعي؟ أم أن أسباب هذا الانقسام هو ترهل واهتراء البنيتين الاجتماعية والسياسية معا؟  وأين المجتمع المدني الفلسطيني الذي تشكل إبان تأسيس السلطة الوطنية وشهدنا فيها بزوغا لهذه المؤسسات المدنية وأخذت على عاتقها نشر القيم الديمقراطية وقيادة التحول الديمقراطي ومراقبة أداء النظام السياسي، فما فائدتها إذا كانت المحصلة صفر؟
من الصعوبة بمكان دراسة العمل السياسي بدون الأخذ بعين الاعتبار العوامل الاجتماعية. لذا فإن هذه التساؤلات تقع ضمن اختصاص علم الاجتماع السياسي. ومن هنا فإن اكتشاف الضعف والترهل في الواقع الحالي يتطلب قراءة هذا الواقع من منظور علم الاجتماع السياسي الذي يربط بين  الوقائع السياسية بعضها بالبعض الآخر، ويربط بين هذه الأخيرة والوقائع غير السياسية، سواء أكانت هذه الوقائع اجتماعية أو اقتصادية أو دينية أو أخلاقية أو ثقافية.  فالتأثير بين المجتمع والنظام السياسي، بين البنى الاجتماعية والمؤسسات السياسية هو تأثير حتمي لا فكاك منه، لأن الواقعة السياسية هي واقعة اجتماعية، وأن المجتمع “كل” يتكون من مجموعة من العناصر التي يعتمد بعضها على البعض الآخر، فهذه العناصر لا تكون لوحدها عوالم منغلقة ومنعزلة بعضها بالنسبة إلى البعض الأخر.
وفي ضوء هذه الرؤية المنهجية التي يتعين قراءة هذه البيانات من خلالها. يمكن القول إن هذا الانقسام طال أهم بنيتين اجتماعيتين وهما: الأسرة والمدرسة.
فقد لعبت الأسرة الفلسطينية دورا بارزا في التنشئة السياسية، فتفجير الانتفاضة الأولي عام 1987 من شباب وأطفال الحجارة ليس إلا تعبيرا عن الأسرة الفلسطينية وبدورها في التنشئة السياسية التي حافظت على الهوية القومية للطفل الفلسطيني بعد أن زيفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي كل المقررات الدراسية، ونزعت منها أي بعد قومي، وبعد أن ركنت سلطات الاحتلال إلى أن الجيل الجديد نشأ وتربى في ظروف ستجعله أقل مقاومة ورفضا للاحتلال، إذا بها تفاجأ الأسرة الفلسطينية وقد أخرجت لهم جيلا أقوى وأصلب وأقدر على المقاومة، ولم يكن ذلك إلا برهانا قويا على أن دور الأسرة في التنشئة السياسية  يمكن أن يكون هو خط الدفاع الوحيد أمام الشعوب والأمم في مراحل معينة من حياتها السياسية. وهنا تبرز التساؤلات في ضوء البيانات السابقة التي تبين ضعف الأسرة الفلسطينية وتراجع دورها: لماذا تأثرت الأسرة بهذه السرعة بالانقسام السياسي؟ ولماذا أصابها الانقسام والفرقة والتناحر؟ ألهذا الحد بلغت الأسرة  مبلغا من الضعف والترهل ؟! ألهذا الحد كانت غير محصنة ومخترقة سياسيا؟! لماذا فقدت دورها في أن تكون حاضنة ومصدر أمنٍٍ وأمان لأبنائها في الوقت الذي يفتقدون فيه للأمن النفسي والاجتماعي في ظل الاحتلال الصهيوني الإحلالي؟ ولماذا فقدت الأسرة هذا الدور التي لطالما كانت سداً منيعاً في السابق وحصنا دافئا لأبنائها؟
تشير البيانات أيضا أن الانقسام طال طلبة المدارس والجامعات. ومن المعروف أن المدرسة هي البيئة الثانية التي يواجه فيها الفرد نموه وإعداده للحياة المستقبلية، ويأتي دورها بعد دور الأسرة حيث إن دورها لا يكتمل إلا بما تضفيه المدرسة من مبادئ تسهم في تشكيل شخصية الفرد، وذلك بما تحتوي عليه من المناهج وما يدرسون من المواد، وعن طريقها يستكمل المواطن ما بدأته الأسرة من تربية وتعليم. وهكذا تلعب المدرسة في الأعداد السياسي للنشء دورا مكملا للأسرة. ولكن واقع الحال وتأثر المدرسة والجامعة بالانقسام الفلسطيني يؤكد أن هذه المؤسسات لم تكن محصنة كما يجب، بل كانت سهلة الاختراق وسهل التأثير فيها وإقحامها في غياهب الصراعات الداخلية: فأين المؤسسة التعليمة ؟ أين النظام التعليمي الفلسطيني؟ أين المناهج الفلسطينية الحديثة التي شرعتها السلطة الفلسطينية واحتوت قيماً سياسية من قبيل العدل والتسامح والمساواة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية؟ أين المؤسسات الفلسطينية المستقلة؟ ولماذا عجز الفلسطينيون عن تشكيل بنى مستقلة تتوسط بين النظام السياسي والعائلة وتكون حصنا منيعا وإطارا حاميا من توغل الاستبداد السياسي  وعند انهيار النظام السياسي ؟
والأنكى أن غالبية من شارك في الاقتتال الفلسطيني الداخلي هم من جيل المراهقين والشباب التي تتراوح أعمارهم ما بين 15- 25 سنة، هذا الجيل تربى في ظل وجود سلطة وطنية فلسطينية، فأين هذه المناهج الحديثة التي تواكب التطور والحداثة ونشأ عليها هذا الجيل إذا كانت المحصلة صفر؟ ألهذا الحد كانت المؤسسة التعليمة مهترئة ومتآكلة؟ أم أنها كانت مخترقة سياسيا تقوم بدور سياسي تحريضي تعبوي أكثر منه تعليمي وتثقيفي ؟ ولماذا عجزت المؤسسات التعليمية في المساهمة في تحقيق التكامل السياسي من خلال ما تبثه من ثقافة سياسية قومية؟  ألهذا الحد افتقد هذا الجيل إلى القدوة الحسنة والنموذج الذي يحتذي به؟ أين القيم التي تحث على التواصل والتآزر والتماسك؟ هل تحول المواطن إلى كائن استهلاكي أناني فردي؟
مما لا شك فيه أن الشعب الفلسطيني صمد صمودا بطوليا في وجه أعتى قوة في العالم، وقدم تضحيات وبطولات من أجل الوطن وفي سبيل الله. ولا يخامرنا أدنى شك في نبل وتضحيات وبطولات الشعب الفلسطيني في مواجهة التحدي الصهيوني. ولكن ما يثير الاستغراب هو ضعفه في مواجهة  الأخطار الداخلية ومواجهة الذات والعمل على نقدها وكشف عيوبها ومثالبها. فهذا التحدي الخارجي لم يقابله بنى  داخلية قوية رصينة توازيه في المقدار، بل ضعفا داخليا مشينا وعجزا فاضحا على مجابهة الأخطار الداخلية. إن المجتمع الفلسطيني في أمس الحاجة إلى امتلاك ثقافة النقد الذاتي وإلى الحرية الفكرية والجرأة الكبيرة. إذ تعاني المؤسسات الفلسطينية أشد المعاناة من ضآلة وضعف الإسهامات الفكرية في مجال النقد الذاتي. إن إخمادنا للنقد الذاتي وحرية الفكر يعني قتلا للعقل وتعطيل ثقافة النقد الذاتي وهي بداية الطريق إلى الانحدار والهزائم والتخلف السياسي والاجتماعي، فصعود المجتمعات وتقدمها  مرتبط بامتلاكها حرية التفكير والعقل والنقد الذاتي الذي يعتبر جزءًا أساسيا من عملية التطوير والتقويم المستمر وترشيد السلوك، وطالما كان الأمر كذلك، فما أحوج هذه المؤسسات إلى ثقافة النقد الذاتي، من أجل ترشيدها، وتخليصها من أمراضها.
والخلاصة التي تؤكدها هذه البيانات أن البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني هي بُنية عصبوية لم تتطور اجتماعيا وسياسيا وثقافيا بما يؤهلها لتكون ضاغطة على النخب السياسية، وناظمة للتفاعلات السياسية، وضمانة لنفاذ القواعد الدستورية، وبالتالي حاضنة للتحول الديمقراطي الذي يشهد تقهقرا في الأراضي الفلسطينية . وعليه فإن المجتمع الفلسطيني لم ينجح حتى الآن في إحداث تحولات بنائية شاملة والخروج من إطار العصبوية الاجتماعية والسياسية وتشكيل بنى سياسية واجتماعية حديثة ومتطورة.
إن الواقع الفلسطيني اليوم ملئ بالمشكلات التي تراكمت تاريخيا وأحدثت تفكك وترهل  في المجتمع والنظام السياسي معا معطوفا على انهيار أخلاقي وقيمي، فعندما يجرؤ فلسطيني على قتل أخيه الفلسطيني فنحن أمام انهيار أخلاقي وقيمي وليس انهيارا سياسيا فحسب. إن اهتزاز الثوابت الأخلاقية التي تمثل المرجعية العليا وضمير الجماعة ومعايير السلوك التي تحدد ما يجب أن يكون عليه هذا الأخير، فهذا مؤشر على عقم واهتراء كل المؤسسات الفلسطينية ابتداء من الأسرة مرور بالمدرسة والجامعة وانتهاء بالحزب السياسي، وتصبح هذه التشكيلات غير قادرة على التعامل مع الواقع وضبطه وتقنينه. فلا غرو والحالة هذه أن تكون النتيجة هي أن يمر المجتمع السياسي بحالة من الفوضى، مما يمهد الطريق إلى  البحث عن مطلقات وثوابت أخرى  تكون قادرة على أن تضبط واقع الاجتماع السياسي، فما يجري اليوم هو تيه وجهل سياسيين، نتيجة أن الأنساق الفكرية والفلسفية والبنى الاجتماعية والسياسية تعرضت للاهتزاز .  ويتحمل مسؤولية الوصول إلى هذا الوضع  كل من ساهم في تلك الحالة أو وافق عليها أو لم يعترض عليها  أو تواطأ معها، وهي مسؤولية تاريخية مستمرة مهما مضى من الزمان. والكل يتحمل المسؤولية بمقدار وظيفته ودوره في البناء الاجتماعي والوطني.
فبعد أن أثبت التاريخ أن لاوحشية الاحتلال الصهيوني وجبروته استطاع أن يلغي الشعب الفلسطيني أو يضعف انتمائه لوطنه، ولكن وصول الوضع الفلسطيني إلى حد التفكك سوف ينعكس على حالة الانتماء هذه،  وبخاصة أن البيانات المذكورة أعلاه تؤكد أن نسبة الهجرة هي نسبة عالية وسوف تزداد إذا بقي الوضع على حاله، واستمر انشطار العقل السياسي والبناء الاجتماعي، وسيُهزم وطن أمام سياسات فاشلة وعصبوية اجتماعية قاتلة. فضلا عن الانقسام السياسي بين قطبي النظام: فتح وحماس. كل ذلك يأتي في ظل انحسار اليسار الفلسطيني، وضعف التشكيلات السياسية الأخرى، وأخيرا الدور الضعيف وغير المؤثر للمنظمات الأهلية وباقي تشكيلات “المجتمع المدني الفلسطيني”. وعليه لا مراء والحالة هذه أن البنيتين الاجتماعية والسياسية تعيش حالة اهتراء وخواء، وأن كلا البنيتين في حالة تفكك مستمر فضلا عن تآكلهما
لا نورد هذا التحليل ليكون مبعثا على التشاؤم، بل لأن بداية المعالجة هو التشخيص السليم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لنبين تأثير الانقسام على البنى الاجتماعية التي  لم تنل الاهتمام الكافي، لطغيان التحليل السياسي، والاهتمام بالقضايا الكبرى، وتقديم الموضوع السياسي الوطني على الهم الاجتماعي والديمقراطية، دون أن نعير الاهتمام بالقضايا الصغرى أي اهتمام. ومن ناحية ثالثة لنوضح خطورة ما وصل إليه الوضع الفلسطيني  من خطورة مما يتطلب إعمال العقل والنقد الذاتي والمراجعة الشاملة وبخاصة للعقدين الأخيرين من حياة الفلسطينيين، وضرورة إنجاز عقد اجتماعي وطني جديد. وأخيرا لتبيان أن ثمة أزمة بنيوية  ووظيفية شاملة تطال البنى الاجتماعية والسياسية والعلاقات والمفاهيم وأشكال العمل السائدة في السياسة الفلسطينية.
© منبر الحرية ، 18 ماي /أيار2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018