الشباب في كل المجتمعات هم أكثر الشرائح تأثراً بالمناخ السياسي والاقتصادي السائد، وبالتالي لابد أن تنعكس عليهم كل أثار التوتر والفشل أو النجاح؛ فالشباب عبارة عن طاقات كامنة عندما تُستغل وتُوجه بصورة صحيحة فأنها تدفع بالمجتمع إلى الأمام، والعكس في حال فشل المجتمع في التعاطي معها واحتواءها بشكل ايجابي قد تتحول إلى قنبلة موقوتة تنفجر في أي لحظة.
في مجتمعاتنا العربية هناك الكثير من الأزمات والمشكلات التي نعاني منها، وبما أن الشباب مكون أساسي في هذه المجتمعات فهم يعيشون كل تلك الأزمات والمشكلات ويتأثرون بها، بل إن واقعهم ما هو إلا انعكاس ونتاج لأزمة المجتمعات التي ينتمون إليها.
قبل عامين أشار تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) إلى أن الشباب في المنطقة العربية يقعون تحت ضغط الإحباط والتوقعات التي تحدثها بشكل جزئي مؤثرات الإعلام والتكنولوجيا والديناميكيات المتحولة في الأطر والبنى الأسرية، بالإضافة إلى الصراعات السياسية والأزمات المستمرة التي تعيشها معظم البلاد العربية.
والواقع أن معظم الحكومات العربية فشلت طوال العقود الماضية في إحداث تنمية حقيقية، وفي تكريس مفهوم المواطنة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وفي بناء دولة عصرية قوية سياسياً واقتصادياً قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية؛ وكل هذا خلق أزمة دائمة وحالة من عدم الثقة بين الحكومات العربية وبين الجماهير، ولما كان الشباب العربي يمثل قرابة الخمسين بالمائة من إجمالي عدد السكان في البلدان العربية، وما يعنيه ذلك من تحديات فعلية قد تواجه الحكومات العربية في حال فشلت في احتواء هذه الشريحة، ابتدعت الحكومات لعبة سياسية جديدة ظاهرها الاحتواء ومضمونها الإقصاء والإبعاد!
إن الحديث عن علاقة الشباب بالدولة هو في الأساس بحث في مسألة المشاركة السياسية بوصفها أحد صور العمل الاجتماعي الذي يتم من خلاله الإسهام في صنع ورسم السياسات والمشاريع الوطنية التي تعبّر هذه الفئة من خلالها عن رؤاها ومصالحها، وبالتالي إثبات وجودها وتأكيد هويتها. غير أن هذه العلاقة في مجتمعاتنا العربية تختلف تماماً؛ فالحكومات العربية ومعها القوى السياسية المعارضة ما زالت تتعامل مع هذه الشريحة من المجتمع بحذر شديد، فالشباب بنظرهم “شريحة متمردة”، مزاجها متقلب ويصعب التكهن بأفعالها أو قبول استحسانها. لذا تعمد هذه القوى إلى إنشاء قنوات تواصل سياسية وإعلامية تبث من خلالها رسائل مُعدة بعناية توجه إلى الشباب بهدف احتواءهم، ومن ثمّ توظيفهم في العملية الانتخابية والصراع السياسي الذي يتنافس أطرافه من أجل تحقيق مصالح فردية أو حزبية ضيقة تتمحور في السيطرة على الثروة والسلطة.
وغالباً ما تلجأ معظم الحكومات العربية عبر الحزب الذي يمثلها في السلطة إلى استنساخ تنظيمات شبابية تابعة لها، ليس بهدف إشراكها الفعلي في الشأن الحزبي والسياسي العام وإنما لتكون أداة تابعة تنفذ أجندة سياسية مرسومة ومعدة سلفاً دون تفكير، وعندها فقط يحدث الخلل في طبيعة العلاقة بين الشباب ومجتمعاتهم، وبموجب هذا الخلل يؤدي الشباب دوراً مغايراً يُلغي ويُصادر دورهم الطبيعي داخل المجتمع؛ فهذه العلاقة لا تعترف بقدرات الشباب وإمكانياتهم بل أنها تُقصيهم كذوات اجتماعية تستطيع التعبير عن قضاياها ومصالحها المنبثقة من مصلحة المجتمع ذاته.
إنها مفارقة الإقصاء عبر الاحتواء، ووحدها الحكومات والنظم العربية عبر مكوناتها السلطوية المختلفة من ينتجها، لكنها لم تنتج هذه المفارقة وحدها بل أنتجت معها جيلاً جديداً من الشباب فاقد للهوية؛ جيل يبحث عن تحقيق ذاته بصور مختلفة ومتمردة على كل القيم والعادات الموروثة. ولهذا لجأ قسم من الشباب إلى التقليد الأعمى لنمط وثقافة الحياة الغربية بكل ما تحمله من مضامين ودلالات، بينما لجأ القسم الآخر إلى التطرف والعنف كمحاولة لتغيير الواقع بالقوة.
ظاهرة “الأفغان العرب” مثال حي على فشل الحكومات في استيعاب الشباب والتعاطي معهم، وعلى سوء استغلال الحكومات لطاقاتهم، فالمتطوعين للجهاد في أفغانستان وجلهم من الشباب العرب خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي حظوا بكل الدعم المادي والمعنوي من قبل حكوماتهم، وأطلق عليهم وقتها اسم “المجاهدين”، ولكن بعد انتهاء المهمة وتحرير أفغانستان من الغزو السوفيتي تبرّأت الحكومات العربية منهم وأسقطت المكانة والهالة التي تمتعوا بها طوال فترة الجهاد الأفغاني، وتحولوا بعدها إلى مطاردين في أصقاع الأرض، ومن هنا كان ارتدادهم لقتال الحكومات التي انقلبت عليهم وكان ذلك بداية لمسلسل طويل من العنف والتطرف والإرهاب ما زلنا نشهد فصوله حتى اليوم.
إذاً من الواضح أن أزمة الشباب في العالم العربي ما هي إلا انعكاس لأزمة المجتمعات العربية العاجزة عن بلورة رؤى إصلاحية حقيقية تلبي احتياجاتها ومصالحها، وفي نفس الوقت تتماشى مع المتغيرات الكبرى التي يشهدها عصرنا على مختلف الأصعدة. ونحن هنا إذ نحاول تسليط الضوء على بعض مكامن الخلل في بنية المجتمعات العربية وطبيعة العلاقة مع أهم شريحة داخل هذه المجتمعات، لا نبرر إطلاقاً السلوك المنحرف والنزوع نحو التطرف بكافة أشكاله وصوره بل ندين هذا النهج والممارسات المترتبة عليه، والتي ما فتئت تنتجها فئة من الشباب المُحبطين الذين عجزوا عن ابتكار آليات جديدة وحضارية للتغيير فلجئوا إلى العنف أو الانعزال للتعبير عن سخطهم من الوضع القائم.
وقصارى القول إن أزمة الشباب العربي تأخذ صوراً وأشكالاً متعددة، ولكن هناك مدخل واحد لحلها يتمثل في فهم طبيعة وواقع هذه الشريحة والانفتاح على رؤاها وأفكارها، ومن ثمّ إعطاءها فرصة حقيقية للتعبير عن ذاتها وتحمّل مسؤولياتها من خلال إشراكها كقوة فاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية، وفي بناء وتقدم المجتمعات التي تنتمي إليها.
© منبر الحرية، 10 أبريل 2009