لا يكل صديقي “صابر أيوب” من شكر الله شكراً كثيراً وحمده بُكرةً وأصيلاً، لأنه ما زال يحتمل ما يتعرض له من مواقف وأحداث دون أن يستسلم لليأس والإحباط كما فعل زميله “عبد الحميد” الذي ألقى بنفسه من أعلى أحد الكباري إلى قاع النيل.
وعبد الحميد –لمن لا يعرف- شاب مكافح، فقد تحمَّل بنفسه توفير مصاريف دراسته حتى تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق.. ونال شهادة تقدير (الطالب المثالي) في دورة تشجيع العمل الحر، وشهادة أخرى لمشاركته في منتدى الشباب بقرطاج ممثلا لبلاده، وثالثة من دورة تكنولوجيا المعلومات، ورابعة في تنظيم دورة تأهيلية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، وكان على وشك مناقشة رسالة الماجستير، وجميع أساتذته يقدرونه ويتوقعون له مستقبلا عظيما.
لهذا تصور أن بمقدوره أن يتقدم للالتحاق بوظيفة “ملحق تجاري” بوزارة الخارجية. ومن المصادفات الجديرة بالملاحظة أن بقية المتقدمين لشغل هذه الوظيفة كانوا من الحاصلين على الدورة التأهيلية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، التي نظمها وشارك فيها محاضراً، لذا كان طبيعياً أن يتخطى الامتحان التحريري والشفوي بجدارة، بيد أنه الوحيد من بين 43 متقدما الذي رسب في النهاية. وفي كشوف النتيجة المعلقة على الحائط الخارجي ظهر اسمه كاملا: “عبد الحميد علي شتا”، وبجواره السبب الوحيد بارزاً في صلافة: “غير لائق اجتماعياً”!!
… بعد تعرُّضه لهذه الصدمة وُجدت جثته في قاع النيل.
انشغل الناس بهذه الحادثة ثم -كما يحدث في كل قضايانا المصيرية- تضاءل هذا الاهتمام إلى أن طواه النسيان، واستمرت الأمور على وتيرتها الرتيبة إلا مع صديقي الذي ظل يتذكر الحادث المؤلم، وفي كل مرة يأخذ شهيقاً عميقاً ويحتفظ به في صدره لفترةٍ ثم يطلقه زفرةً حارةً ويكرر في حسرةٍ: “ليت زميلي عبد الحميد عاش في زمن الجواري والعبيد، فكم من جارية مجهولة النسب وصلت بذكائها أو بجمالها أو بمجرد إجادتها للعزف والغناء، إلى سدة الحكم والرياسة، وكم من عبد لا يعرف أسياده هويته شق طريقه بنباهته وشجاعته حتى أصبح قائدا للجيوش أو حاكما للبلاد أو مؤسس دولة تستمر بعد موته لأجيال وأجيال”..
ثم يبدأ صاحبي صابر في سرد المواقف المشابهة التي تعرض لها، فقد حاول في صباه أن يلتحق بـ “الثانوية العسكرية” لكي يسهل عليه بعدها التقدم لإحدى الكليات “السيادية”، وعجز وقتها عن الحصول على “تزكية” رغم تفوقه الدراسي وارتفاع لياقته البدنية وإجادته للعديد من الرياضات.. ورغم حصوله على الثانوية “العامة” بمجموع كبير جعله من بين العشرة الأوائل على مستوى الجمهورية عاوده حنينه الأول ففشل ثانية للسبب نفسه فاضطر لمواصلة الدراسة في كلية مدنية لا تحتاج لـ “كارت توصية”. وتفوق كعادته وظل يتقدم لأي وظيفة يسمع عنها ودائما كان يسبقه إليها من هم أعلى منه في طبقات الهرم الاجتماعي.
ما حدث مع عبد الحميد، وما زال يقع مع صابر، هو الوجه الآخر لحوادث “التوريث” المتجذرة في حياتنا اليومية دون أن ينكرها أو يلتفت لوجودها أحد. وهذا الوجه يترتب بالضرورة على الوجه الأول، فمعنى أن يحصل شخص ما على وظيفة لا يستحقها، أن هناك من كان يستحق هذه الوظيفة وتم حجبها عنه أو منعه من الوصول إليها، حتى أصبح أمثال صابر وعبد الحميد يشكلون نسبة كبيرة من أبناء الوطن منهم من قضى نحبه، ومنهم من تأقلم مع الظروف القائمة، ومنهم من اختصر الطريق فاحترف التسول أو بيع السلع التافهة، ومنهم أيضا من سوَّغ لنفسه طرق الانحراف وبرع فيها لأن النابغ أينما توجهه الأحداث لا يعدم الحيلة.
وللتوريث في حياتنا بوجهيه (منح من لا يستحق، ومنع من يستحق) مظاهر كثيرة يتناقلها الجميع ولا ينكرها أحد وتتمتع بقوة أعلى من قوة القانون.
من بين هذه المظاهر أن بعض المؤسسات الحكومية تعطي لأبناء العاملين فيها أولوية مطلقة في شغل ما يشغر بها من وظائف، وهناك ما يعرف بـ “الإعلانات الداخلية” عن الوظائف المطلوب شغلها، وبالطبع لا يعلم بهذه الإعلانات إلا العاملون داخل هذه الهيئة أو تلك الإدارة، وبالتالي لن يخبروا بها إلا أقرب الأقربين، ناهيك عن الانتهاء من اختيار المحظوظين قبل الإعلان الشكلي عن الوظيفة التي كانت شاغرة.
وهناك عائلات شهيرة في أكثر من “جمهورية” عربية لا يخلو منها أي تشكيل وزاري، وبعض الدوائر الانتخابية تظل حكرا على عائلات بعينها لا ينازعها عليها أحد، وأحياناً يتم تقسيم المقاعد النيابية في هذه الدوائر بين عدد محدود من العائلات، وفي الساحة الإعلامية تتعاقب الأجيال وتبقى أسماء معروفة للمتابع البسيط. ولا يمنع ذكر أمثلة لهذه الأسماء إلا الحرص على عدم شخصنة القضية.
وبعيدا عن الكليات السيادية –إن صح هذا التعبير الذي وصفها به صاحبنا- حدث غير مرة، في أكثر من كلية -وبشهادة أشخاص عدول- أن قرر مجلس أحد الأقسام عدم تعيين معيدين لمدة ثلاث سنوات لتفريغ هيئة التدريس حتى يضمن أحد المسؤولين النافذين تعيين نجله الذي التحق بهذا القسم وهو لا يزال في الفرقة الأولى.
ولا تختلف شروط الالتحاق بسلك القضاء عن مثيلتها في السلك الدبلوماسي ولا في الكليات السيادية، ولا المؤسسات الرسمية.
وثمة نوع آخر من أشكال التوريث يختلف قليلا عن الأنواع السابقة بغياب عصبية النسب واعتماد التوجه الأيديولوجي –إن صح الوصف ووُجد الموصوف- ويتمثل في سيطرة بعض التنظيمات السياسية أو الجماعات الدينية على بعض القطاعات فيقتصر إسناد الوظائف فيها على “الرفاق” أو “الإخوة” –بحسب الجبهة المهيمنة- ولا يحق لمن عداهم الوصول إلى هذه الأماكن، وهو ما يُطلَق عليه لفظ “الشللية”.. ويظهر هذا النوع من التوريث أكثر ما يظهر -للأسف الشديد- في المؤسسات الإعلامية والثقافية..
لا تقتصر خطورة هذه السلوكيات على ما يلحق بالأفراد المحرومين من غبن وظلم، إنما تمتد إلى ما يلحق بالمجتمع من خسائر نتيجة حرمانه من جهود وكفاءات وعقول ومهارات تم استبعاد أصحابها من العمل في أماكن تحتاج لإمكاناتهم.
يبقى السؤال الملح: ما مستوى أداء أي شخص قَبِلَ أن يبدأ حياته العملية بهذه الطريقة المشبوهة، وما مدى إخلاصه لأبناء المجتمع الذين خطا فوق رقاب بعضهم ليصل إلى ما وصل إليه؟
أما مناوئو توريث رئاسة الجمهورية فعليهم أن ينظروا للصورة بكل تفاصيلها وأن يعلنوا موقفهم صراحة، دون مناورة، من أشكال التوريث البغيضة على جميع المستويات وليس فقط على مستوى الإمامة الكبرى..
© منبر الحرية،24 أكتوبر/تشرين الأول 2010