هدأت مدافع إسرائيل، ولو إلى حين، في غزة. وعادت طائرات الأباتشي والإف 16 إلى قواعدها، في استراحة لا أحد يمكن أن يتكهن بمدتها، خاصة مع توالي خرق التهدئة من الجانبين. و بالمقابل انطلقت المناورات من هذا الجانب وذاك لحصد النتائج السياسية أو على الأقل تقليص الخسائر، ولو على حساب ألام ومآسي المدنيين من الجرحى والمعطوبين والأيتام والأرامل.
اختلفت عناوين حرب غزة بين الطرفين، وتضاربت التفسيرات بين إرجاعها إلى مبررات إقليمية ودولية وبين ربطها بالواقع الداخلي والانتخابي للمتحاربين. خاضت إسرائيل الحرب بأهداف انتخابية معلنة وأخرى مستترة، فيما جابهت حماس الموقف تحت مسميات مختلفة أقلها فرض واقع الأمر في القطاع مع نهاية ولاية محمود عباس، و التحول إلى القوة الأولى في معسكر المواجهة لمزيد من الشرعية التمثيلية.
من الجانب الإسرائيلي عناوين كثيرة يمكن أن “تصوغ” القتل و الدمار، بدءا من مبررات الرد على صواريخ حماس، وقضية جلعاد شاليط وصولا إلى تهريب السلاح، مرورا باستعادة هيبة قوة الردع بعد تجربة المواجهة مع حزب الله وغيرها. ومن الجانب الآخر تطل مبررات من قبيل : الدفاع عن النفس، ورفع الحصار وفتح المعابر ووقف الاستيطان ووقف استهداف الكوادر وغيرها من الأمور التقنية.
قطعاً، ليست هاته هي المحركات العميقة والمشكلات الحقيقية بين الطرفين، رغم ما تكتسيه تلك العناصر من أهمية. ثمة هناك مشكل أعمق لم يقو الجانبان على مواجهته بالجرأة والشجاعة اللازمتين. إنه صراع الهوية القاتل، حيث يشعر الطرفان بخوف فظيع ومريع وخوف وجودي لا يوازيه سوى الخوف من العدم.
على المدى القريب على الأقل، ليس هناك من أمل في تجاوز هاته المخاوف، بل إن الحرب الأخيرة زودتها بقوة إضافية، وعززت في الأجيال القادمة ولمدى غير منظور صورة الآخر المتوحش والمتعطش لسفك الدماء. تتداخل في هذا الصراع عوامل التاريخ و الجغرافيا و الدين و اللغة ، لكن المشكل يصير أصعب عندما يرتبط ذلك بمصالح من طبيعة اقتصادية تتغذى على الصراع وتعتاش منه.
إن الأمر الوحيد الذي يجب الاتفاق حوله هو ما طرحه مفكر إسرائيلي شتيرنغر في ندوة نظمتها صحيفة هارتس لمناقشة ما بعد عملية الرصاص المصهور في غزة حين تساءل” كيف نضع المريض، أي المنطقة بأسرها، بشكل صائب في المستشفى. وهل سيوافق أوباما، الأوروبيون والسعوديون للدخول إلى هنا بقوة، لتقديم الدعم السياسي والاقتصادي، وحينها تنتظم هنا عملية علاج يمكن أن تغطي كل المرضى، بخليط ثقافاتهم وأديانهم”
خليط الثقافات والديانات في المنطقة هي الكلمة المفتاح في صراع الشرق الأوسط، وما عداه مجرد مظاهر خادعة. طبعا، لا يمكن لأحد أن يشكك في حقيقة معاناة اليهود على امتداد التاريخ الإنساني، لكن حالة آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين فقدوا أطرافهم وأبصارهم، “على الهواء مباشرة” بفعل قنابل الفوسفور الأبيض لا يمكن أن تحجب حقيقة مستوى العنف الذي يمكن أن تصل إليه المنطقة.
أكدت هاته الحرب مرة أخرى أن هناك لغة لم يتحدث بها الطرفان بعد. وما ينقص المنطقة بأسرها لغة حضارية، لا تتجاوز على الاختلافات الدينية، بل تحتضنها على أساس هوية جديدة للمنطقة. لقد حاولت إسرائيل منذ نشأتها أن تقدم نفسها حامية النموذج الغربي في المنطقة رغم عيشها بين ظهراني المسلمين. هل نجحت في ذلك؟
ربما لكن النجاح الحقيقي يقتضي تطوير لغة يهودية ـ إسلامية تقطع من حيث المنطلقات مع الهوية الغربية لهاته الدولة. وهنا فقط يمكن لهاته اللغة أن تشكل منطلقا لكل التفاهمات الممكنة في المنطقة. لغة يمكن أن تقبلها ليس فقط حماس بل حتى إيران و سوريا وحزب الله. إن الخطوة الحقيقية والصحيحة هي البحث عن المواضع التي لا تكون فيها هوية الطرفين متناقضة حد تهديد الوجود الآخر.
لا
يمكن في ليلة وضحاها أن نحلم بنقلة تجعل المنطقة تعيش في أمن وسلام. لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن صراع المنطقة ليس على المعابر والأنفاق، ورفع الحصار. إن الصراع أعمق من ذلك بكثير. إنه ليس صراع معابر بل صراع من أجل قضايا الهوية والوجود. أما خطورة القضية فتعود إلى أن الطرفين مدفوعان بإيمان ديني صارم بعدالة قضيته، ليبقى السلام الحقيقي معلقا إلى أجل غير مسمى، أو على الأقل إلى أن يطور المتنازعون لغة حضارية جديدة. لغة أصيلة ليست بـ”الغربية” ولا “الشرقية”.
© منبر الحرية، 27 مارس 2009