اللغة العربية من أقدم فروع اللغات السامية، وقد امتد عطاء تراثها إلى كل الثقافات على مدار العصور على غرار ما كان من تأثير المقامات العربية في العبرية، وما حدث من ترجمات إلى الاتينية و القشتإلىة، عبر مدارس المترجمين في طليطلة وغيرها، من يهود وعرب وأسبان. من هنا تجلت إنسانية التراث العربي في اتساع خريطة تأثيره وتفاعله التاريخي مع كل ما من حوله، حتى ظل هذا التراث مقوما مميزا للشخصية العربية، محققا لقوميتها، وعاصما لها من الفناء.
يزخر الفكر الإسلامي بالعديد من المؤلفات التي يحاول بعض الباحثين إحيائها فيما يعرف بظاهرة إحياء التراث الإسلامي، وهناك ثلاثة مواقف كبرى من هذه الظاهرة.
الموقف الأول، يرى في حركة إحياء التراث الإسلامي مجرد اجترار للماضي، ويرى في محاولة نشر بعض كتب التراث مضيعة للوقت. حيث لا يمكن ان يكون منها وعبرها حلولا لمشاكل العصر الحديث.
الموقف الثاني، هو موقف يدافع عن التراث كلية ويتعامل مع تلك الظاهرة بشيئ من التقديس، وذلك الموقف يقبل كل ما في التراث ويرى فيه ما يحقق الامال والاهداف المرجوة للامة مع ان العصور الأسلامية تنطوي علي كثير من الفكر الهابط الذي عكس انحطاط تلك الأزمان التي عبر عنها وعن تخلفها وانحطاطها.
الموقف الثالث هو موقف وسطي لا يقبل التراث على علاته ولا يرفضه كلية، إنما يأخذ منه ما يتاسب مع الواقع وما يمكن ان يستفاد منه.
واقع الأمر أن موقف الرافض كلية لإحياء التراث الإسلامي و الموقف المؤيد لإحياء التراث على علاته ، كلاهما يجانبه الصواب وكلاهما يتبنى موقفا متطرفا ازاء التراث.أما الموقف الوسطي من التراث فهو الموقف الأسلم للمنطق والأقرب للصواب مع الأخذ في الاعتبار ضرورة وجود معايير لاختيار ما يناسب الواقع المعاش وعدم الرجوع إلى التراث بشكل عشوائي وغير ضروري. إن نشر بعض الكتب التي تمثل أمهات الفلسفة والفقه، قد يكون له ثلاثة وظائف: الوظيفة الأولى الوظيفة اللغوية بمعنى تحليل النص بعناصره وألفاظه وأبعاده. أما الوظيفة الثانية فهي الوظيفة التاريخية من حيث معايشة النص وتحويله إلى شخصيات وحقائق في حين أن الوظيفة الثالثة هي الوظيفة السياسية حيث يلغي عنصر الزمان ويصير النص تعبيرا عن التقاء بين الماضي والحاضر والمستقبل ويعتبر مهمة إحياء التراث ليس مجرد تحليل للنص أو متابعة تاريخية له وإنما قد ترتفع هذه العملية إلى مستوى المعاناة السياسية حيث تصير تلك (الوظيفة السياسية لإحياء التراث) حلقة تسمح بمتابعة الوعي الجماعي ليس فقط في تكوينه و تكامله وإنما أيضا في تحليل معاناته ابتداء من العودة إلى الذات، إلى لحظة التعريف بتلك الذات. وتلك العملية تعيد الوعي إلى الأمة أو تعيد الأمة إلى وعيها، فالتراث هنا جزء من الأمة لا ينفصل عنها ولا تنفصل عنه. ولكن الناظر لكتب التراث التي يتم تحقيقها يجدها تنحرف عن هذا المسار إذ أنها جاءت انتقائية لخدمة أغراض ومرامي سياسية تهدف للمجابهة عن الأخر والانعزإلىة الإسلامية ولم نجد مثلا اهتماما بمفكر كبير مثل موفق الدين عبد اللطيف البغدادي –المتوفي في 8 نوفمبر 1231 – أحد العقول النيرة في تاريخ الفكر العربي. فقد جمع بين التحصيل الوافر الدقيق لكل العلوم المعروفة في عصره، وبين أصالة الفكر ودقة المنهج العلمي والقدرة على النفوذ إلى جوهر المشاكل العلمية فضلا عن أصالة المنهج في الملاحظة والتشخيص والكشف عن الأسباب والعلامات وكان عالما بارزا في الفلسفة والجغرافيا والمنطق. فمثل هذا العلم الفكري يجب العمل علي إحياء تراثه الضخم والعناية به نشرا وتحقيقا حتى تستند النهضة الفكرية العربية إلى أعمدة راسخة تمتد قواعدها إلى تربة التاريخ العربي العريق المزدهر.
أما الشيء الغير المقبول فهو أن يتم النظر إلى التراث بصورة اختزالية وعدم الالتفات إلى أن محور الزاوية في الفكر المعبر عن عقيدة الأديان السماوية والفكر السامي المعبر عنها هو العالمية التي لا تحقق لأحد مطمعا. فالملوك والرؤساء لا يستطيعون أن يبسطوا سلطانهم وزيادة عدد رعاياهم إلا بالتعصب الضيق أو العثور على نصوص مجتزئة لتبرير الأفكار الظلامية بحجة إحياء التراث. وهكذا أضحت الوظيفة السياسية لإحياء التراث الإسلامي- وفق بعض الفكر- هو إنزال الأديان من سمائها لتستغلها في أغراضها. لاسيما أن الأمة الإسلامية وقعت منذ القرن الثامن الهجري فريسة للأفكار ملتبسة ومشوهة. وأسفر ذلك عن ممارسات مغلوطة كثيرة أدت إلى الإخفاق الحضاري لهذه الأمة، وتحولها من أمة شاهدة عادلة إلى أمة مشهودة بائسة، يشهد على فشلها جميع الأمم والحضارات. وقادها سقوطها في فخ مفاهيمي من جراء اجتزاء النصوص من سياقها والتعصب والانعزالية، إلى حالة من التخبط في فهم التاريخ وطريقة النظر إلى المستقبل.
© منبر الحرية، 16 أبريل 2009