كثيرة هي الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها وقراءتها من خلال التأمل الموضوعي في واقعنا العربي المعاصر الزاخر بالتحولات المصيرية والانعطافات الحركية التاريخية التي سترسم صورة المستقبل العربي القادم.
فالانتفاضات الشعبية والثورات الاجتماعية العارمة لا تزال تملك قوة الحركية الأولى، وهي تواصل زخمها السلمي الإنساني المتصاعد في أكثر من بلد عربي في مواجهة أشرس آلات القمع والفتك التي عرفت في التاريخ..
ويبدو أن تلك الآلات القاتلة لا تزال بحاجة لمزيد من الطاقة التي توفرها لها أنظمة الطغيان والاستبداد من دماء الناس الأبرياء، من أجل أن تدور وتتحرك وتؤدي عملها المتقن خدمةً واستبقاءً لنخب فاسدة ومفسدة مرفوضة شعبياً وعربياً ودولياً، لم تعد لها أية مصداقية إنسانية ولا أخلاقية تذكر فضلاً عن عدم وجود أية شرعية سياسية كانت امتلكتها في وقت سابق بقوة الحديد والنار..
إن تلك الشعوب لا تزال مصرة ومصممة حتى آخر رمق عندها على نيل مطالبها العادلة والمحقة وانتزاع حقوقها الإنسانية البديهية في الحرية والاستقلال من الاستعمار الداخلي الذي يتلبسها ويمص خيراتها منذ عقود، ولهذا فهي تبدي كامل الاستعداد لتقديم مزيد من الدم البريء الطاهر على مذبح حريتها المستلبة وكرامتها المفقودة.. وهي أيضاً لن تعود من الساحات والشوارع العامة التي خرجت إليها إلا بعد زوال حكم الطغيان والفساد، وإنهاء الحكم الفردي التسلطي الفرعوني الذي تسبب لها –على مدى عقود وعقود- بحدوث كل تلك الأزمات والكوارث اللامنتهية التي تعج وتضج بها كثير من عوالمنا العربية المتخلفة من المحيط إلى الخليج.. وبخاصة في تلك الأنظمة الجملوكية التي تأبى الرحيل إلا بعد تهديم أوطانها وتدمير مجتمعاتها على قاعدة “علي وعلي أعدائي يا رب”، وإتباع سياسة “يا قاتل يا مقتول”..
والأمر المستغرب أن تلك النخب اللاشرعية لا تريد أن تعترف بوقائع ومستجدات وتطورات الحياة الجديدة القائمة على حرية الناس ومعيارية صندوقة الاقتراع، وهي لا تزال تفكر بعقلية الإقطاعي القديم، تنكر على الناس حقوقهم وأشياءهم، وترفض أن تعترف بوجودهم كقاعدة للشرعية التاريخية والعملية، وتصر على البقاء الأبدي في السلطة وحكم شعوب وأوطان وجماعات سياسية تكرهها وتحقد عليها وتطالب ليلاً ونهاراً بتغييرها ورحيلها إلى غير رجعة..
وحقيقيةً لا أدري من أي شيء وبأي معنى عجنت تلك الطبقة السوداء الكالحة من حكامنا وزعاماتنا الفاقدة لصلاحيتها وشرعيتها.. يعني لو حدث ربع ما يحدث عندنا من مظاهرات واحتجاجات في أية دولة أخرى تحترم نفسها وتقدر وجود شعبها لقدمت حكومات تلك الدول –التي تخدم وتقدم وتعطي وتنتج وتعطي- استقالتها ورحلت نهائياً من صورة المشهد السياسي في بلدانها تلك.. أما عندنا فيا للأسف، حكام وحكومات مستبدة مرفوضة بالمطلق تريد وتصر أن تهيمن وتسيطر وتبقي آلة حكمها القاتلة على رؤوس العباد والبلاد.. رغماً عن الناس، ومن دون موافقتهم وشرعيتهم..
طبعاً، هذه هي النتيجة والمحصلة النهائية لتجذّر وامتداد ظاهرة وفكرة “الاستبداد المركّب والشامل” إلى كافة مواقع حياتنا العربية فردياً ومجتمعياً.. ولذلك نحن نعتبر أن هذا المرض هو أهم مشكلة تعيشها مجتمعاتنا في مرحلتنا المعاصرة، وهي تريد أن تنفض عن نفسها ركام التخلف والاهتراء الحضاري، وتتحرك في الحياة والتاريخ لتنهض وتتطور وتزدهر وتنافس..
ولكن، ها هي مجتمعاتنا العربية بدأت بالفعل تتحرك على طريق الاستقلال والتحرر الواعية والمسؤولة لأنها امتلكت هذه الطاقة الحركية التي تدفعها لبناء واقعها.. وهي طاقة الحرية المسؤولة والقدرة الواعية على الاختيار الصحيح والتفكير العلمي الممنهج، والتعبير السليم، والإبداع المتنامي المتراكم، بعد أن غيبتها سنوات العسف والقمع والإقصاء والتهميش الكامل التي جعلتها تعيش لفترات زمنية طويلة في وضعية المتلقي والمتأثر والمنفعل بسبب بقائها مسجونة في قفص الاستبداد الذي صنع حواجز نفسية وفكرية وتاريخية عميقة يمنعها عن الحركة الإيجابية نحو بناء المستقبل المشرق.
فالاستبداد والتسلط بمختلف ألوانه وأشكاله هو شيء أعمى يسير عكس حركة التاريخ والحضارة والحياة الإنسانية الطبيعية.. لأنه يقف على طرفي نقيض من حرية الإنسان، ومن قدرته على تحقيق الاختيار السليم، بل إنه يشل طاقة التفكير واستخدام العقل والفطرة الصافية عند الإنسان، ويرهن مصائره للمجهول، ويجعله أسيراً بيد الجهل والتخلف.. وهنا تقع الكارثة الكبرى عندما يفقد هذا الإنسان حريته.. لأنه يفقد معها كل شيء جميل في الحياة.. إنه يفقد العزة والكرامة والأخلاق والعلم، وبالتالي يكون مصيره الموت المحتم أو العيش على هامش الحياة والوجود.
هذا وقد أدى تفاقم وضعية الاستبداد في بلادنا -مع تقادم العهود والأزمان- إلى قيام أنظمتنا وحكوماتنا المستبدة والمتسلطة بالضغط المستمر على العباد والبلاد، وعدم اهتمامها بأبسط حق من حقوق الإنسان وهو حق التعبير عن الرأي والاعتراض السلمي الهادئ على الممارسات الخاطئة والسياسات الظالمة الفاسدة والمفسدة التي أصبحت تتحرك علانية هنا وهناك، وبدأت تفعل فعلها السلبي في جسد هذه الأمة، خصوصاً بعد أن قام أصحابها بتقنينها ووضعها قسراً ضمن أنظمة السلوك اليومي الذي يجب أن يسير عليه الفرد والمجتمع، الأمر الذي أدى إلى أن ننتقل من هزيمة إلى أخرى ومن خسارة إلى أخرى، حتى وصلنا -في عالمنا العربي والإسلامي عموماً- إلى مرحلة الضياع والتشتت واللاتوازن وتبديد الطاقات والثروات، وبالتالي فقداننا القدرة على العمل والحركة، وامتناع واقعنا المتردي على الإصلاح (أو التغيير!)، وانتظاره التوجيهات والأوامر من هنا وهناك.
وبالنتيجة كان من الطبيعي جداً أن نصل إلى ما وصلنا إليه -في داخل اجتماعنا الديني العربي والإسلامي- من انهيار وتفكك وتفرق، أدى لهيمنة الآخرين على مواقع قوتنا، نتيجة ضعفنا أو تضعيفنا لأنفسنا كما ذكرنا، خاصة بعد أن انتصرت قيم الطغيان والتغلب والعصبية الدينية والتاريخية، حيث تحولت الدولة العربية على مدار تاريخنا إلى حكم وملك عضوض، تم بموجبه -وبقوة الحديد والنار- فرض الوصاية الأبوية الذكورية على المجتمع كله، وضرب قواه الأهلية والمدنية الحية، والهيمنة عليه بالكامل (إلغاءً أو إلحاقاً وتبعية).
طبعاً لا نود القول بأن حالة الانحطاط الشامل التي يعيشها العالم العربي هي حالة انحطاط مطلق وقطعي، أو غير قابلة للاختراق أو المواجهة وبالتالي الإسقاط.. باعتبار أن الأزمات التي وصفناها -في المتن العام بالداهمة والمقيمة- هي التي ساهمت في وصول عالمنا العربي إلى حالة الانحطاط هذه المعقدة والتي هي نوع من أنواع الانحطاط بطبائع الأمور.. والدليل هو هذا الخرق البنيوي العميق الذي أحدثته شعوبنا العربية الثائرة حالياً..
ملاحظة أخيرة:
-كثيراً ما نستخدم في كتاباتنا مصطلح ومفردة “الاستبداد”.. فماذا تعني هذه الكلمة؟!..
..جاء في المعجم الوسيط أن الاستبداد لغة، هو اسم لفعل (استبدّ) يقوم به فاعل (مستبد)، ليتحكم في موضوعه (المستبد)، فلا بد أن يتجسد الاستبداد في شخص أو فئة.. يقال: استبد به: انفرد به، واستبدّ: ذهب. واستبد الأمر بفلان: غلبه فلم يقدر على ضبطه، واستبد بأميره: غلب على رأيه، فهو لا يسمع إلا منه. (راجع المعجم الوسيط ج1، ص42).
أما في لسان العرب: استبد فلان بكذا، أي انفرد به، فيقال استبد بالأمر، يستبد به استبداداً إذا انفرد به دون غيره. (لسان العرب، ج3، ص81).
وفي شرح نهج البلاغة: الاستبداد بالشيء، التفرّد به.(راجع: شرح النهج لابن أبي الحديد، ج9، ص243).
..وإلى ذلك ذهب الجوهري في الصحاح، حيث قال: استأثر فلان بالشيء، استبد به. (راجع الصحاح، ج2،ص444، مادة بدد).
وفي القاموس المحيط، أشار الفيروز آبادي إلى المعنى ذاته عندما قال: استأثر بالشيء استبد به، وخص به نفسه.(ص341، مادة بدد).
إذاً الاستبداد هو الاستئثار المطلق بالسلطة والتشبث العنيف بالحكم.. أي سلب الحكم الصالح من أهله وأصحابه الحقيقيين.. وهو يكون عادة مترافقاً مع تجاوز شبه كلي للقانون والنظام القائم الناظم لعمل الدولة والمجتمع ككل. أي الدستور الذي يرعى الصالح العام في الدولة.. ويسعى فكر وسلوك الاستبداد والمستبدين إلى هيمنة الذاتي على الموضوعي والخاص على العام والمزاج على المعيار القانوني، وحرمان الناس من ممارسة حقوقهم الطبيعية في القول والتعبير والانتخاب والمشاركة السياسية الفعالة، بعد أن تتم عملية السيطرة الكاملة على مقدرات الآخرين المادية، وتدمير قيمهم المعنوية والإنسانية، وإلغاء شخصياتهم المستقلة والمتميزة، وتقزيمهم ومسخهم، ليتم تحويلهم إلى مجرد عبيد لدى الفرد (أو المجتمع أو الأمة) المستبد، وذلك بفعل القوة المادية القاهرة، والمعنوية المضللة، التي تلغي القوانين وتجعل من إرادة المتسلطين قانوناً يُعمل به، إذ ليس هناك من حد قانوني للطاغية المستبد فهو يسخّر كل شيء لإرادته ورغباته ونزعاته.
ومن المعروف أن الاستبداد يستند أساساً على الموروثات التقليدية المتعددة والمختلفة.. وقد أثبتت التجربة السياسية العربية والإسلامية عموماً منذ عهود الاستقلال أن الدول العربية والإسلامية -التي حققت استقلالها من ربقة ونير الاستعمار الأجنبي، وأنهت التبعية الخارجية المباشرة، ولكنها لم تحقق استقلالها الداخلي بعد، حيث أنها تخوض حالياً معركة استقلالها المصيرية النهائية ضد مستبديها الداخليين- لا تزال مرتهنة قسرياً لتنظيمات أخرى غير دولتية سارحة في عمق الدولة وفي داخل المجتمع كالجيش الخاص، أو العائلة (والعشيرة)، أو الحزب، أو الطائفة، أو مركب (سياسي وأمني ومالي) من بعض (أو من كل) هذه التنظيمات أو كلها.
* كاتب سوري
© منبر الحرية،20 أكتوبر/تشرين الاول2011