السوق الحرة والمنظومة القيمية الأخلاقية : جدليّة العلاقة والدور والتأثير

منبر الحرية21 أكتوبر، 20110
تعتبر العلاقة بين السوق الحرة والأخلاق من حيث الدور أو التأثير علاقة جدلية تتحكم بها المنطلقات التي ينظر من خلالها أي باحث اقتصادي أو أي مدرسة اقتصادية إليها. وعلى الرغم من أنّ الجميع يدرك أنّ كلاهما يرتبط بالآخر بطريقة أو بأخرى، تبقى الإجابة على هذا التساؤل: من يؤثّر في الآخر؟ وكيف؟ هل السوق الحرة تؤثر في الأخلاق ؟.....

تعتبر العلاقة بين السوق الحرة والأخلاق من حيث الدور أو التأثير علاقة جدلية تتحكم بها المنطلقات التي ينظر من خلالها أي باحث اقتصادي أو أي مدرسة اقتصادية إليها. وعلى الرغم من أنّ الجميع يدرك أنّ كلاهما يرتبط بالآخر بطريقة أو بأخرى، تبقى الإجابة على هذا التساؤل: من يؤثّر في الآخر؟ وكيف؟ هل السوق الحرة تؤثر في الأخلاق فتقوي المنظومة القيمية الأخلاقية أو تساعد على تقويضها؟ أم أنّ وجود منظومة قيمية أخلاقية أو عدم وجودها هو الذي يؤثر في إيجاد سوق أخلاقية أو غير أخلاقية؟

على عكس الانطباع العام السائد لدى العامة، فان السوق الحرّة ليست حرّة بالمطلق ولا يجب أن تكون كذلك أصلا، فهناك قواعد وأنظمة وقوانين وضوابط تحكم سير عملها. وعلى الرغم من ذلك، فان طبيعة عمل السوق الحرة بشكلها الحالي تشجع وفقا لجون كراي –كلية لندن للاقتصاد- وتكافئ على الجرأة المقاولتيّة والرغبة في المضاربة والمقامرة والقدرة على اغتنام الفرص، وهي بالمقابل تقوّض من الصفات التي من المفترض أنها أخلاقية ومحمودة في المعيار العام مثل الحذر والتوفير والقدرة على الصبر لان هذه المميزات لا تؤدي إلى النجاح إذا ما أريد تطبيقها في السوق.

إذا في هذه الحالة تؤثر السوق الحرة على الأخلاق بشكل سلبي، وهي تدفع من يتمسك بقيمه الأخلاقية إلى الانهيار أثناء المنافسة أو تضطره إلى تغيير هذه القيم على قاعدة “إذا كان غيري يفعل ذلك وينجح، فلماذا لا فعل أنا ذلك أيضا؟”

في المقابل نستطيع أن نقول أنّ السوق لم تأت من فراغ وإنما هي تعبير عن علاقة بين المتنافسين وبينهم وبين العميل وبينهم وبين المؤسسات التي ينتمون إليها وبين القوانين التي تنظم عملهم، فالسوق إذا وفق هذه الرؤية هي في نهاية المطاف نظام سوسيو-اقتصادي تؤثر به بالضرورة الأخلاق والقيم الأخلاقية التي تتحلى البيئة التي انبثق عنها هذا النظام. ولمّا كانت المفاهيم الأخلاقية متغيرة بين مجتمع وآخر، ولمّا كان الالتزام بها أمرا نسبيا أيضا بين مجتمع وآخر وبين فرد وآخر داخل المجتمع نفسه، فقد كان هناك حاجة إلى تأطير عام لها بما يتناسب وعالمية السوق الحرة.

وعلى هذا الأساس وجدت القواعد والقوانين التي تنظم عمل السوق في هذا المجال، وأصبحت تجارة الرق مثلا ممنوعة، وتجارة الأطفال والجنس والمخدرات والأسلحة (سوق سوداء) وتبييض الأموال..الخ. لكن المشكلة أنّ هذه القواعد والأنظمة والقوانين التي من المفترض أنها تأتي لتسد الثغرة حيثما تضعف القيم الأخلاقية في مواجهة الإغراءات والمتطلبات والعوامل التي يفرضها التنافس في السوق الحرة، غير نافذة بذاتها وإنما ترتبط بالمؤسسات والهيئات التي تملك مهمة الإشراف على تطبيقها. هذا الارتباط ما لم يكن مصحوبا بإشراف دقيق وصارم ومنظومة قيم الشفافية والمحاسبة والعقاب، فانه يتحول إلى باب لتسهيل وتسريع انهيار القيم الأخلاقية وبالتالي ضوابط عمل السوق الحرة وهنا نعود إلى المربع الأول.

فعلى الرغم من وجود قوانين، فان التجارة الممنوعة رائجة جدا على مستوى العالم ووصلت إلى مستويات مخيفة وبمساعدة من العولمة التي تسهل مثل هذه التجارة. وعلى الرغم من وجود قوانين أيضا في السوق الحرة، فقد تبين في الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة حجم التلاعب في البيانات المالية للشركات والمؤسسات سواءً لتفادي الضرائب أو لإظهار تحقيق نمو غير موجود إلى جانب فضائح تعويضات المدراء التنفيذيين الخيالية والرشوات لتسهيل تمرير الصفقات و تعديل القوانين وغض النظر عن المخالفات ناهيك عن التعاملات غير الأخلاقية أو الشرعية لاسيما في العمل المصرفي وما يرتبط به.

والحقيقة أنّ البيئة التي أوجدت السوق الحرة هي بيئة غير أخلاقية إلى حد كبير، والحاصل أنّ سلبيات هذه البيئة تنتقل إلى السوق الحرة وطريقة عملها. فعندما يكون الربح السريع وبأي ثمن هو المعيار الأساس، وعندما لا تطبق القوانين أو يتم التغاضي عنها تنهار القيم الأخلاقية. وانطلاقا من هذا المعطى، يمكن للبعض أن يجادل بانّ العلّة ليست في السوق الحرة بحد ذاتها، فالسكين مجرد وسيلة، والسؤال عما إذا كان السكين شيئا ايجابيا أم سلبيا يعتمد على طريقة استخدامه وعمّن يستخدمه ولأي غرض وهو ما يولّد حكما في النهاية من المفترض انه يرتبط بالمستخدم وليس بالسكين نفسه.

معظم الذين يمجدون السوق الحرة بعلّاتها وبشكلها الحالي إنما يصلون إلى هذا الاستنتاج من خلال مقارنتها بالنموذج الاشتراكي الفاشل وبالتخطيط المركزي الجامد حيث كان النظام يسلب المرء مبادرته الفردية ويحرمه من أية حوافز لتحقيق صالح عام مفترض، فيما يتجاهلون أنّ السوق الحرة بشكلها الحالي اليوم إنما لا تأخذ بعين الاعتبار الصالح العام إلا بشكل عَرَضِي وتغذي بالمقابل نزعة الجشع والطمع والغش والتلاعب والمقامرة وتطلق العنان للنزعة الشريرة للفرد دون ضوابط.

أمّا أولئك الذي يرفضون فكرة السوق الحرة من أساسها فهم يرفضونها بناءً على تصور طوباوي مثالي موجود في أذهانهم يفترض أن الناس جميعا يجب أن تكون متساوية في الثروة. صحيح أنّ السوق الحرّة تعمق بشكل مخيف الفجوة بين الفقراء والأغنياء لكن ذلك لا يتم حله باعتماد النموذج الاشتراكي الذي تحدثنا عنه، دون أن ننسى أنّ اتساع الفجوة يعزز بدوره الانهيار الاجتماعي بقضائه على الطبقة الوسطى التي هي عماد أي مجتمع سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا.

في العام 2007، قدّم الاقتصادي “توم بالمر” بحثا مثيرا بعنوان: “عشرون خرافة حول الأسواق الحرة” يدافع في جزء كبير منه عن منطق السوق الحرة ضد الانتقادات الأخلاقية والاقتصادية التي تتناول هذه السوق. القارئ للنقد اليوم يستطيع أن يرى أنّ الأزمة الاقتصادية العالمية نسفت كل الحجج المضادة التي قيلت للدفاع عن السوق الحرة.

أدّت الأزمة المالية العالمية التي تحولت في ما بعد لأزمة اقتصادية إلى فتح المجال واسعا للانتقادات، وعاد النقاش من جديد حول دور الدولة في الاقتصاد والمفاهيم المتعلقة بسميث وكينز سواء لناحية دور الأخلاق في الاقتصاد أو لناحية نطاق تدخل الدولة فيه. وتوصلت معظم النقاشات إلى ضرورة إحداث تغيير في النظام الحالي غيرا لأخلاقي وغير المتوازن، كما طرح البعض فكرة إمكانية الاستفادة من نماذج اقتصادية مغايرة في عدد من القطاعات كالقطاع المصرفي (صدرت العديد من الدعوات من قبل باحثين اقتصاديين غربيين وأيضا من قبل مؤسسات حكومية بعضها فرنسي وأمريكي إلى ضرورة دراسة النظام الاقتصادي الإسلامي وخاصة الناظم المصرفي).

لقد تبيّن أنّ الأزمة لم تأت من فراغ، وقد كان لغياب العنصرين الأساسيين الضابطين للسوق وهما (الأخلاق و-تطبيق- القوانين) دور كبير في استفحال المشكلة، ولأننا في عصر العولمة، فكما يمكن للعنصر الايجابي أن ينتشر بأسرع وقت وأقل كلفة، فان العنصر السلبي ينشر بشكل أسرع ما يجعل الكلفة أكبر، وهو ما يفسر تحول الأزمة سريعا من أزمة مالية مركزها الولايات المتّحدة إلى أزمة اقتصادية تضرب العالم بأسره.

خلاصة القول أنّ هناك ترابط بلا شك بين السوق ومنظومة القيم والأخلاق يتأثر ويؤّثر كل منهما في الآخر، وبقدر ما تكون السوق مرتكزة على قيم أخلاقية وتأخذ بعين الاعتبار ما هو أبعد من مجرد الكسب السريع للمال بأي ثمن بقدر ما تنجح، وبقدر ما تتفلّت من هذه القيم في المقابل لتغذي النزعات الفردية بشكل مطلق بقدر ما تتجاوز كل الخطوط الحمر وتفشل. وهناك يأتي دور الأنظمة والقوانين ليس فقط من أجل ضمان حسن سير الإطار العام للسوق الحرة وإنما لضمان الجانب الأخلاقي وبما يحقق التوازن بين المثالية والانتهازية وبين العام والخاص.

* باحث في العلاقات الدولية من لبنان

© منبر الحرية،21 أكتوبر/تشرين الاول2011

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018