نوح الهرموزي22 نوفمبر، 20110
إن البناء في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا بعد الحرب العالمية الأولى ومازال حتى وقتنا الحاضر و لكنه بناء متلكأ مرتبك ناتج إما عن اجتهادات الحاكم المتسلط أو في أحسن الأحوال عن خطط تنموية غير واضحة حاولت تقليد الخطط الغربية.....

تطور مفهوم التنمية الاجتماعية بعد كوارث الحرب العالمية الثانية، و عكف الفكر الاقتصادي و الاجتماعي الغربي على دراسة ظاهرة التراجع نتيجة الحرب و محاولة تجاوزها من خلال خطط تنموية. و على أساس هذا التصور للتنمية  يُقدم البنك الدولي تعريفا للبلد النامي مبنيا على أساس مقارنة الدخل، حيث يكون “البلد النامي هو البلد الذي تعيش فيه الأغلبية على أموال أقل بكثير مما يعيش عليه السكان في البلدان الصناعية الكبرى المرتفعة الدخل، حيث تفتقر هذه الأغلبية إلى الخدمات العامة الأساسية مقارنة بهؤلاء السكان”. و بقى هذا التعريف سائدا و ما زال يستند إلى الجوانب الاقتصادية بالمقارنة مع الدول الصناعية الكبرى. الدول الغربية التي دَمرت بُناها التحتية الحرب العالمية الثانية عاشت تطورا فكريا و اجتماعيا مختلفا تماما عما هو عليه الحال في مجتمعات الشرق الأوسط العربية و الإسلامية. لذا كانت خطط التنمية تطمح لإعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية و ليس ما دمره سُكون حضاري دام قرونا. المشاريع الانمائية جميعها تفترض وجود مجتمع متقبل لهذه الخطط  و متفاعل معها من اجل البناء. و هذا ما كان في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية.

إن مستعمرات الدولة العثمانية السابقة بالإضافة لإيران دخلت القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى من دون خسائر حضارية تُذكر لأنها في الأساس لم تكن لتمتلك ما تخسره سوى العنصر البشري المقاتل. خرجت هذه المجتمعات من سجن الزمن الذي عاشته قرونا ودخلت عصر الحضارة الحديثة من دون مقومات و من دون خطط تأهيلية. دخلت القرن العشرين متخلفة عن القرن العشرين بقرون حيث لا بُنى تحتية و لا مجتمعات متفتحة متعلمة تعرف ما تريد. انه تخلف هائل يصعب تصوره و يشمل كافة جوانب الحياة المادية والاجتماعية و الإنسانية و الفكرية…

لقد بنى الغرب ألمانيا بسبب التدمير الهائل الناتج عن الحرب العالمية الثانية فهل ستعوض تركيا العرب و المسلمين عن التخلف الحضاري الذي كانت سببا أساسيا فيه باعتبارها دولة مُستعمِرة. وهل ستعيد المسروقات الإسلامية إلى دولها الأصلية. وهل وهل… إن مستعمرات الدولة العثمانية في الشرق الأوسط  وأوربا ما تزال تُعاني الأمرين نتيجة التخلف الحضاري لدولة الخلافة المقدسة.  فهل ستعتبر تركيا الحالية نفسها وريثة تتحمل وزر الركود الحضاري الذي كانت سببه الأساسي؟ و إن لم تكن كذلك فعليها أن تنقد مرحلة قاسية دمرت فيها شعوب المنطقة نتيجة الانغلاق والتخلف الفكري.

على أية حال بدء البناء في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا بعد الحرب العالمية الأولى ومازال حتى وقتنا الحاضر و لكنه بناء متلكأ مرتبك ناتج إما عن اجتهادات الحاكم المتسلط أو في أحسن الأحوال عن  خطط  تنموية غير واضحة حاولت تقليد الخطط الغربية. لقد اثبت الواقع و للأسف أن البناء الممكن في هذه المنطقة من العالم لا يتم إلا في ظل أنظمة حكم مُتفردة سواءً كانت جمهورية أو ملكية. منظومة الحكم المطلق هي التي أثبتت إمكانية البناء و لكن هذهِ المنظومات تَبني على رمال متحركة. حيث البناء هنا هو بناء الحاكم وليس بناء المجتمع. لذا كثيرا ما تعرض هذا البناء للتدمير سواءً كان جُزئياً أو كلياً. الانتكاسات السياسية و الانكسارات و الهزائم العسكرية و الانهيارات تتوالى و الخسائر الاجتماعية سواءً بالأرواح أو فرص التنمية أو الاقتصاد اكبر من أن تُقدر والخاسر الوحيد هو المجتمع ذاته. أما خطط التنمية فإنها تذهب هباءً مع ساستها و أحزابها. المدينة العربية هي مدينة السلطة والحاكم وليست مدينة المجتمع. ولا عجب أن تواجهك يافطة في مطارات الدول العربية ترحب بك و تخبرك بأنك في عاصمة الرئيس أو الملك الفلاني. و هذا صحيح وليس ادعاء. إن كاتب اليافطة على حق لان الحاكم يفعل ما يريد و يبني كما يريد و لهذا كان البناء سطحيا و لا يعدو عن كونه جراحة تجميلية للمعاصرة.

لقد أثبتت خطط التنمية جميعها فشلها بنسبة أو بأخرى و معدل التنمية على العموم اقل بكثير من المتوسط لما كان متوقعا. إضافة لعدم تجانس التنمية فقد تكون هناك تنمية عمرانية مقابل تراجع في التنمية الاجتماعية و هكذا…في هذه المجتمعات من السهولة بمكان أن تبني مدينة عصرية و حديثة جدا وبمساحة شاسعة و لكن من الصعوبة أن تُكون مجتمعا يحترم إشارة المرور و قواعده في القُرى والمناطق البعيدة عن رقابة أجهزة المرور.

هذه المجتمعات ولا شك لم تصل بعد لمرحلة الاستقرار المناسب للتمنية المطلوبة. إنها ما تزال تواجه تحديات ذاتيه كبرى إضافة للتحديات الخارجية التي يفرضها الوضع الدولي المعاصر. و لكن التحديات الذاتية اشد خطورة وصعوبة في التجاوز من التحديات الخارجية. فعلى سبيل المثال لا الحصر تواجه المجتمعات العربية والإسلامية تحديات الذاتية من مثل :

البعد الشاسع للثقافة الاجتماعية عن روح العصر. وعدم القدرة على استيعاب الحداثة أو إيجاد البديل. وان كانت هناك استجابة ضئيلة فإنها لا تستطيع مواكبة سرعة التغيرات العالمية السريعة.

التجانس الاجتماعي ما زال يأن تحت ضغوط الماضي و التاريخ و تقاليد القبيلة. الماضي بكل تفاصيله ما زال حيا و يفعل أفاعيله في المجتمع و ليس هناك من قدرة على تجاوزه.

التخلف الكبير للمنظومات الحديثة المُتبناة إدارية كانت أو الاقتصادية أو التربوية أو أو….

عدم وضوح الهوية الاجتماعية الموحدة للمجتمع و التي تثير تناحرات خطرة.

مجتمعات تعاني مثل هذه الأزمات لا يمكنها أن تحتضن التنمية. هذه المجتمعات بحاجة إلى خطط إعادة تأهيل بعد خروجها من نفق زمني طوله قرون عدة و ليس خطط تنمية. خطط التنمية  أثبتت عدم نجاحها و سطحية عملها في هذه المجتمعات. إن محاولات التحديث في الشرق الأوسط لا تعدو عن أن تكون نُسَخ مُعدلة من محاولة أتاتورك الساذجة و التي ما هي إلا نظرة عثمانيه لطريقة التغيير أو تحديث قِشري مُبهرج كما فعل شاه إيران. إنها عمليات تجميل حضارية لا تتجاوز الوجه و المحيا.

إن كل النظم الاجتماعية المعاصرة و التي تطمح المجتمعات العربية إلى تبنيها أو اقتباسها بنسبة أو أخرى تمت و تطورت تدريجيا خلال الثلاث أو الأربعة قرون الماضية. و تأهلت المجتمعات لها تدريجيا و لم تنفذ دفعة واحدة كخطة تنمية أو عملية تحديث. كانت عمليات تطور النظم مترافقة مع تطور المجتمع. أما ما يحدث في مجتمعات العرب فما هو إلا استيراد أنظمة معاصرة لمجتمعات مُتخلفة عنها زمنيا.

في مجتمعاتنا يُعزى التناقض الحاد (الذي يقود إلى رفض التحديث ) ببساطة للأصالة والخصوصية الاجتماعية ! و لا يعزى للفرق الزمني بين النموذج المُستَورَد و المجتمع المُستَورِد. إن مفهوم الأصالة و الخصوصية الاجتماعية شيء والتخلف الزمني شيء آخر. الأصالة والخصوصية تتم عندما يكون هناك اتجاهان متطوران مختلفان ولكل منهما خصوصيته و أصالته في النمو الزمني. وعلى ذلك يكون هناك نموذجان معاصران مختلفان. أما ما هو موجود لدينا فليس أكثر من ركود حضاري لعدة قرون انفتح فجأة على عالم حديث و متغير. في هذه الحالة لا يوجد أي نموذج يمكن اعتباره بخصوصية معاصرة.   الخصوصية الحالية ما هي إلا ناتج ركود زمني و ليس عن تطور باتجاه مغاير.  إن عنصر الحركة الزمنية غير متوفر في هذه الخصوصية المزعومة. لقد توقف الزمن في مجتمعات العرب منذ قرون وتوقفت معه كل التطورات الاجتماعية. فهل ناتج هذا التوقف هو خصوصية يجب الحفاظ عليها؟ المحافظة هنا تعني الإصرار على توقف الزمن وبذلك يكون التوقف الزمني هو الخصوصية !

في مجتمعات ترى الخصوصية في توقف الزمن لا يمكن أن تفعل خطط التنمية فعلها فيها. و هذا ما كان و هذا ما يحدث.  هذه المجتمعات تأكل نفسها بنفسها دون أن تتمكن من الوصول إلى حلول لهذا التدمير المستمر.

حتى عقد الخمسينيات من القرن الماضي كان الغرب يمثل الدول المتطورة اجتماعيا واقتصاديا و في عقد الستينات أخذت اليابان بالظهور لتكون قوة اقتصادية و علمية منافسة. و في العقد السبعينات  بدئت دول جنوب شرق آسيا بالظهور كقوة اقتصادية جديدة منافسة. بعد ذلك أخذت الصين بالظهور كقوة اقتصادية و علمية منافسة. كل هذه النماذج لم تعش سجن زمني كالذي عاشه العرب والمسلمون و لعدة قرون و ليست لديهم خصوصية يخافون عليها. لذا كانت نهضتها سلسة اجتماعية و لم تعاني من رفض داخلي و انهيارات اجتماعية. الثروة النفطية التي تم اكتشافها خلال القرن الماضي ساهمت و بصورة كبيرة في استمرار و امتداد الخمول الثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية.

العالم منذ القرن العشرين بدء مرحلة التكنولوجيا والتي قادت إلى العولمة وبذلك أصبح العالم صغير و لم يعد هناك انعزال فيه. الكل مرتبط مع الكل و الاقتصاد مترابط مع التكنولوجيا و السياسة و المجتمع. في عالم بمثل هذا التعقيد لا مكان فيه للخمول الاجتماعي. أعضاء العالم الجديد يجب أن يكونوا مؤهلين للمشاركة في بناء الحضارة الإنسانية الجديدة. فهل المجتمعات العربية مؤهلة لان تلعب دور الفاعل ولو بنسبة بسيطة في عالم العولمة والتكنولوجيا؟

مجتمعات العرب لم تتجاوز القبيلة بعد فكيف لها بالعولمة و لم تعرف من التكنولوجيا سوى استيراد أجهزتها. مجتمعاتنا بحاجة لإعادة تأهيل جذرية لتعرف عصرها و ليس بناء على رمال متحركة يُسمى بخطط تنموية أو عمليات تجميل حضاري. إن الخارج من سجن الزمن لابد من تأهيله قبل محاولة تطويره.

 © منبر الحرية،22 نونبر/تشرين الثاني2011

نوح الهرموزي

الدكتور نوح الهرموزي: أستاذ الاقتصاد في جامعة ابن طفيل في القنيطرة بالمغرب.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018