إن استمرار فتك النظام السوري بالمواطنين سيؤدي حتماً إلى مزيد من القرارات الإقليمية والعربية والدولية، وصولاً إلى تدخل عسكري مرتبط بتركيا وحلف الأطلسي. لقد سقط النظام السوري كما عرفناه قبل أن يسقط.....

     أسلوب النظام السوري في قتل عشرات المتظاهرين يومياً وممارسة الإعدامات والتعذيب على أوسع نطاق، يعمّق الثورة السورية، ويدفع قطاعاً منها للتسلح وقطاعاً آخر للانشقاق عن الجيش والدفاع عن المتظاهرين. إن دموية النظام السوري تدفع المعارضة نحو مزيد من القوة، وصولاً إلى وحدة بين الداخل والخارج وبين المجلس الوطني وهيئة التنسيق. وبفضل دموية النظام، خرجت أحياء كاملة في مدن سورية شتى وفي قرى ومناطق عديدة، عن نفوذ النظام وسلطته. إن استمرار فتك النظام السوري بالمواطنين سيؤدي حتماً إلى مزيد من القرارات الإقليمية والعربية والدولية، وصولاً إلى تدخل عسكري مرتبط بتركيا وحلف الأطلسي. لقد سقط النظام السوري كما عرفناه قبل أن يسقط، فالقتال الذي يخوضه ضد الناس والشعب يتم في الوقت الضائع، وعلامات السقوط بحجم المشهد وشموليته.
لقد انتظر الشعب السوري من نظامه وعلى مدى عقود، إصلاح السياسة والاقتصاد والانتقال الى التعددية، لكن النظام السوري قدَّم وعوداً لم ينفِّذها، وأفهمَ شعبَه أن التنمية خصخصة غير مسؤولة وفساد، وأن الحرية مواجهة لفظية مع إسرائيل وديكتاتورية عائلية. بل حتى الأمس القريب، لم يكن الشعب السوري يعرف انه يمتلك خيارات، ولم يكن يرى شيئاً وراء الأفق. وعندما اكتشف الشعب السوري أن بلاده منهوبة، وأن اقتصاده يقدم له الفتات، وأنه مهمّش في وطنه، وأن الإصلاح في ظل القيادة الراهنة سراب، قام بثورته.

      إننا أمام مشهد إنساني مؤلم: نظام مدجج بالسلاح حتى النخاع يدخل في حرب مواجهة مع شعب أعزل لا يتمتع بحد أدنى من الحماية، ومع ذلك يعلّم الشعب النظام الذي حكمه لعقود دروساً في القيادة، وفي تشتيت قوة متفوقة، وفي المناورة، وفي تحريك الرأي العام وفي الصمود والجرأة، وفي الإنهاك. وبينما يتشبث النظام السوري بالقوة العسكرية، يتمسك الشعب السوري بالقوة المعنوية والأخلاقية وبجرأة نادرة. إننا أمام معركة كلاسيكية بين شعب يريد التحرر ونظام يريد البقاء بأي ثمن، من دون أي إدراك منه للثمن الذي ستدفعه أكثر الأجنحة اعتدالاً -إنْ وُجدت- ضمن النظام. ما يقع في سورية هو صدام بين نظام يركب دبابة وبين شعب يطفو على أمواج الحرية، وفي هذه المعركة سينتصر الشعب، كما انتصر هو نفسه على الاستعمار في السابق، في ظل مواجهة متشابهة بين المدفع وبين إرادة الناس في التحرر.
لكن قيمة السياسة في تاريخ الأمم أنها تقدم حلولاً عند منعطفات كهذه، فلو تنحى الرئيس والشخصيات الأساسية المقرّبة منه، والتي صنعت حمام الدم في الشهور الماضية، لأمكن لسورية تفادي مزيد من الدماء والدخول في مرحلة انتقالية. النظام سيسقط، مع تنوع ظروف هذا السقوط وأنواعه، ولكن قد تكون هناك طريقة للسقوط المنظَّم والمتفَق عليه يمكنها حقن الدماء. من هنا أهمية المبادرات السياسية العربية والدولية التي تدفع نحو التنحي.
لم يحفظ النظام السوري لشعبه ولاءه ومسايرته للنظام على مدى عقود طويلة، فالشعب السوري هو مَن صَنَعَ حرب ١٩٧٣ والصمودَ فيها، وهو من ضحى مالياً ومعنوياً ودفع ثمن دعم المقاومة في لبنان وخارجه، ولولا الشعب السوري وحسه العروبي وشعوره بأنه مَركَزُ ما كان يُعرف تاريخياً ببلاد الشام، لما استطاع النظام السوري أن يفعل شيئاً خارج حدوده. إن شعار سوريا «قلب العروبة النابض» يُقصد به الشعب السوري، بحكم موقعه الجغرافي وتاريخ بلاده.
ربما كان سبب سير الشعب السوري مع حكامه في العقود الماضية من دون الكثير من التساؤلات، هو توقه للاستقرار بعد مرحلة كثيفة من الانقلابات التي عصفت بسورية في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، لكن أحد الأسباب الأخرى لمسايرة الشعب للنظام على مدى تاريخي، ارتبط بتبني السوريين للقضايا العربية على كل صعيد. لكن إطلاق النظام يدَ الأجهزة الأمنية بحق الناس، خلق بينها ردة فعل. لقد عبَّر النظام بديكتاتوريته على مدى عقود، عن مدى احتقاره الناسَ وتعاليه تجاه إنسانيتهم وحقوقهم. القمع والفساد وسوء استخدام النفوذ في الداخل والخارج وملاحقة كل رأي واختلاف في كل شأن ومسألة… كلها أمور عادت لتخلق صحوة سورية جديدة هدفها التحرر من الديكتاتورية. إن التسلط هو أصل الشرور.

        ويمكن تفسير روح الانتقام التي يمارسها النظام بأنها تعود إلى ضعف بصيرته، فعندما نظر إلى المحتجين من أعلى هرم السلطة لم يرَ إلا مندسين وعصابات مسلحة أو حتى جراذين، كما حصل مع القذافي. إن الأنظمة الأمنية قلما تفهم المغزى السياسي من الحركات الشعبية. والأسوأ بالنسبة إلى سورية أن المجموعة الحاكمة هي أول نتاج حقيقي لعملية توريث في نظام سياسي عربي جمهوري، فالورثة بحكم تربيتهم السياسية يستميتون في الدفاع عن مواقعهم وعن سلطتهم والإرث الذي آل إليهم بلا جهد، لهذا فقبولهم بالواقع عندما يتغير من أصعب الأمور.
أنظمتنا العربية تقاتل بعد أن تخسر، وتفتك بالناس بعد أن تنهار قواعدها الأساسية، كما تهاجم حتى لو فقدت قدراتها الهجومية، بل تهدد حتى وهي في ساعاتها الأخيرة، وبينما تتمترس في مخابئها الأخيرة. ومن جهة أخرى، تصر الشعوب العربية على حقوقها وهي تفعل ذلك بصورة تلقائية وروح عالية، وهذا يعني أن الثورة في سورية لن تهدأ إلا إذا حققت مطالبها، وهي تعرف أنها لا تستطيع التوقف والعودة إلى المنازل قبل تثبيت التغير.
تسير سورية نحو وضع أكثر صعوبة بينما تزداد العقوبات الاقتصادية تأثيراً وتتعمق العزلة الإقليمية والعربية، وتتحدد معالم التحرك التركي وآفاق المنطقة الآمنة. إن خيارات النظام تضيق ووقته ينفد، بينما الشعب السوري يتغير من خلال الثورة. وبينما يحصي السوريون شهداءهم، يكتشفون مكونات الصبر والبصيرة والقوة والحرية في أعماقهم. حتماً بإمكان الثورة على الظلم أن تغيِّر مصيراً وتوقظ مارداً وتفعّل حلماً.

© منبر الحرية،

09 دجنبر/ديسمبر2011

PAGE

PAGE  1

2 comments

  • فؤاد انور عبد الرحمن

    11 ديسمبر، 2011 at 2:55 م

    لا احد يعتبر ولا احد يريد لان حملة الاقلام واجهزة الاعلام اصبحت ادوات لديها الاصرار والتصميم علي المساهمة في صنع الكوارث في العالم العربي وكان الحالة تعبير لغوي في حصص اللغة العربية والمصيبة مجرد ان يقع احد الاوطان العربية في براثن التشتت والفوضي والانهيار يسارع حملة الاقلام الي الحالة الجديدة وكاتب المقال للاسف يمارس نفس الخطيئة وهو قابع خلف مكتبه بعيدا عن دوي المدافع ودخان اللهب والاجساد الممزقة للابرياء تتساقط وبينما تناست تلك الاقلام اعداء العرب وماتفعله اسرائيل والخيار السلمي والاوامر للعرب بالتفاوض المباشر المهين مع اسرائيل واجبار العرب علي التمسك بالخيار الدبلوماسي مع اسرائيل بينما اسرائيل تضع خيار العرب تحت اقذر نعالها ولم يكلف كاتب المقال نفسه او ضميره للبحث عن نفس البديل الدبلوماسي للمحافظة علي سوريا صمام الامن في المشرق العربي والكاتب يدرك يقينا ان سقوط سوريا يعني ببساطة شديدة انهيار المشرق العربي بالتتابع في كارثة مروعة تصيب العالم العربي باكمله بالانهيار التام هل هذا مايريده واساله اين الوطن الليبي اليوم واساله عما يحدث في تونس وفي مصر واليمن والعراق والصومال واقول له هل تدرك الابعاد الحاكمة ومقومات التغيير علي الاطلاق لاتدرك لكنك سوف تبحث عن ماوي فيما بعد عندما يبتلعك دخان النار الذي تشعلونه في اوطانكم وتستعدون اعداء العرب علي اوطانكم في صالح اسرائيل التي تبتلع فلسطين الان وسط تلك الدوامة العاتية المحيقة بالوطن العربي كارثة ما بعدها كارثة وازمة اخلاق وقيم وضمير غائب عن الوعي فهل تصمتون قبل فوات الاوان

    Reply

  • mannalo

    15 ديسمبر، 2011 at 2:12 م

    في كل بلد هناك من معارض .. وسوريا قلب العروبة النابض بشعبها طبعا وبجيشها وفوق كل هذا الادارة … تارة تخوض الثورات باسم الحرمان وتارة باسم القمع …. لكن ما ليس مفهوما اين الثورات من هدم البلد … مؤامرة خارجية ؟؟؟؟ دعم خارجي للأطراف المتناحرة ؟؟؟؟ تنافس أقليمي ؟؟؟ كل هذا موجود وما هو ليس موجود الحفاظ على الوطن بأبنائه …… لا ثورة موجودة …. بل هدم وطن ….. هناك من ينادي بتدخل عسكري اجنبي ….. أهذه وطنية ؟ أهكذا نحافظ على بلدنا وشعبنا …؟؟؟ أليس ما حصل من تدخل عسكري لدول عربية يجعلنا نتعلم ونأخذ العبرة مما جرى لهم ؟ أو هناك من أعمى بصرنا وبصيرتنا عن ذلك …… على كل تكاتف العرب على تدمير بعضهم .. تكاتف العرب على نحر بعضهم …. والغرب يحرض هذا وذاك …. وماذا جرى ؟؟؟؟؟؟….. ارتهنوا للواقع وقلب العروبة النابض سيبقى ينبض رغم ظلم ذوي القربى

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018