جامعاتنا أماكن للتلقين والحفظ والتلقي البليد للمعلومة
السياسة العربية خربت العلم بإلغائها لقيم الحرية
إذا كانت الجامعات والأكاديميات العلمية هي الأمكنة المعنية بنمو بذور البحث العلمي، ونشوء قاعدة علمية متينة في أي بلد تنعكس إيجاباً على كافة مواقعه ومؤسساته، فإن الحالة عندنا في بلادنا العربية على هذا الصعيد تبدو شبه ميؤوس منها، حيث يمكن الاستنتاج مباشرة بأن العرب لا يزالون بعيدين كل البعد عن البحوث العلمية الرصينة عالمياً.. ولعل الدليل الأبرز على ذلك ليس الواقع المتردي الذي يحكي عن ضحالة وتخلف البني التحتية العلمية العربية فحسب، وإنما أيضاً هو تلك الإحصائيات والأرقام المخيفة التي تقدمها وتنشرها مختلف مراكز البحوث المعروفة عندنا أو في الغرب..
ومن المعروف أن الجامعات العربية لا تحوز على أي تصنيف عالمي معتبر، حيث أنه ومن أصل حوالي 500 جامعة دولية يجري تصنيفها سنوياً ضمن أفضل جامعات العالم، لا تحظى أية جامعة عربية بشرف الانتماء لتلك المجموعة المميزة من الجامعات المرموقة وذات السمعة الحسنة في العالم كله، سواء من حيث ما تقدمه وتنتجه من بحوث علمية رصينة، وما توفره من موازنات مالية ضخمة لتلك البحوث، والعدد الكبير لبراءات الاختراع المسجلة أو الاكتشافات العلمية التي تحققها..
طبعاً دائماً يتم تحميل أسباب ذلك الفشل العلمي العربي إلى ضحالة الوارد المالية، وعدم وجود استراتيجيات بحث علمي حقيقي، مما يتسبب بندرة وقلة الأبحاث العلمية، وندرتها، أو عدم فعاليتها وجودتها بما يمكنها من أن تدخل في التصنيف الدولي لأفضل جامعات العالم….فعن أية جامعات عربية نتحدث، وهي بمعظمها لا تعدو أن تكون أكثر من أماكن للتلقي والتلقين والحفظ والتلقي الجاهز البليد للمعلومة!!..
والسؤال هنا:
كيف يمكن تطوير جامعات العرب ونقلها من حالتها البائسة الحالية المعتمدة كلياً –في كثير من البلدان العربية حتى لا نظلم البعض القليل منها- على أسس ورؤى وبنى تعليمية قديمة رثة عفى عليها الزمان، إلى حالة متطورة ومتقدمة تتحول من خلالها إلى مراكز فعلية وحقيقية للبحوث العلمية الرصينة؟!،
وكيف يمكن تحويل تلك الجامعات التلقينية إلى أمكنة تضج بالحراك والنشاط البحثي العلمي الذي يمكن استخدامه واستثماره بصورة منتجة وفعالة في مختلف أوجه ومجالات المجتمع، من خلال ربط الجامعة بالمجتمع عملياً وليس نظرياً؟..
ثم كيف يمكننا أن نتصور وجود جامعات عربية متميزة ذات مراتب ومعايير دولية في ظل إنفاق مالي لا يتعدى أكثر من نصف بالمائة من إجمالي الناتج المحلي لأي بلد عربي؟!!
والأمثلة كثيرة هنا، ففي دولة عربية كبرى مثل مصر تبلغ مساحتها أكثر من مليون كم مربع، وعدد سكانها أكثر من 75 مليون نسمة، وتحتوي على عشرات الجامعات الحكومية فضلاً عن الجامعات الخاصة، لا تخصص الدولة أكثر من 0,2 بالمائة فقط من الموازنة العامة للجامعات الحكومية ككل، يذهب أكثر من 75 بالمائة من تلك المخصصات المالية كأجور ورواتب للموظفين والدكاترة ومختلف كوادر العمل.. والبقية الباقية يمكن أن تذهب للبحث العلمي في حال كان الضمير المهني وقيم النزاهة والشفافية موجودة!!..
أما في لبنان فلا يتجاوز الإنفاق على هذا المضمار أكثر من 0,4 في المائة من الناتج المحلي.
والأردن لا يخصص لتطوير البحوث العلمية سوى 0,53 من دخله القومي.
طبعاً، هذه أرقام لا تساوي شيئاً وليس لها قيمة منتجة ومؤثرة على الإطلاق، وهي إن دلت أو أشرت على شيء، فهي تؤشر بصورة واضحة إلى عدم وجود أدنى اهتمام مؤسساتي لدى مسؤولي الإدارات السياسية في البلاد العربية بالجامعات وبتطورات العلم والبحوث العلمية، بمقدار ما هم مهتمون بالسيطرة على المجتمع، ومراكمة الثروات، والبقاء الأبدي في سدة الحكم على الكراسي الملكية الذهبية..
وفي ظل هكذا وضع سياسي (تسود فيه فكرة الاستبداد والاستئصال، ومفاهيم القوة والبطش والعنف المادي والرمزي) واجتماعي (يعبر عن نفسه في الفقر والبطالة الحقيقية والمقنعة) وثقافي (تعميم وسيادة ثقاقة مرجعية دائمة نصية دينية محافظة أسها التعصب الأعمى للماضي التليد) لا يمكن مجرد تصور وجود جامعات رصينة، أو نشوء طبقة علمية تعنى بالبحوث العلمية المفيدة والمنتجة..
وللأسف، فقد بات الباحث العلمي العربي –الذي يعيش تحت ظل تلك الأنظمة الرثة- مثل أي مواطن عادي، همه الوحيد ليس البحث والتقصي والتجربة والعمل العلمي، بل تحصيل خبزه اليومي، وكفاف عيشه، باعتباره مجرد موظف مثل باقي كتلة موظفي القطاع العام الكبيرة، وبالتالي هو منشغل دوماً بأن يقبض راتبه الشهري على آخر قرش، مع بعض الحوافز وتعويضات العمل والاختصاص، وبعض الإضافات من هنا وهناك، من ترجمة بحث منشور على الانترنت ونشره في موقع أو مجلة خاصة بجامعته، أو تبني كتاب علمي ليس له.. أو…الخ.. هكذا تدار الأمور في معظم جامعاتنا العربية بكل أسى وحزن..
أما عن الحلول فهي صعبة وسهلة في الوقت ذاته، إنها من نوع السهل الممتنع.. لأن البحث العلمي له شروطه ومقدماته الأولية ومناخاته السياسية والاقتصادية من:
وجود مناخ فكري وثقافي عام يعمل على أن ينمي إمكانيات الفرد ويطور مهاراته على أسس علمية صحيحة، ويحفز مواهبه وطاقاته، ويحرض أجمل وأهم ما لديه من قدرات ذاتية على العلم والعمل والبناء، بصورة تنتفي معها المرجعيات الثقافية التقليدية المهيمنة والضاغطة نفسياً وثقافياً، أو على الأقل لا يعود لها مثل هذا الطغيان والتأثير النفسي السلبي على وعي وسلوك وحركة لفرد.. بمعنى أنه وبدلاً من أن يتحرك ويدور الفرد حول مرجعيات النصوص الدينية والتاريخية العتيقة غير المجدية بل والمعطلة للحياة والمستقبل، تصبح مرجعيته وهويته الحقيقية قائمة في وجوده وعمله ومكتسباته ودوره وتأثيره النافع الإيجابي على صعيد تحسن حياته ككل عل كافة المستويات.. وهذا التحليل لا يعني أننا نرفض أن يكون للناس الحرية الكاملة في اختيار قناعاتهم وأفكارهم ومرجعياتهم الفكرية والتراثية والدينية، ولكن أن تبقى تلك القناعات والخيارات والانتماءات الدينية تحت سقف قيم العلمنة والمواطنة ودولة المؤسسات والقانون المدني وليس الديني.. ولهذا فلا ضير أن يعتبر فلان من الناس أن دينه –وعاداته وطقوسه ومختلف قناعاته المبدئية الدينية- يشكل له هوية ثابتة، له كامل الحرية في الإيمان بها وممارستها، ولكن المشكلة تكمن في أن تكون هويته ثابتة عقائدية سياسية متعصبة ومتزمتة، تحمل في طياتها بذور رفض الآخر وإلغائه.. وهنا أراني أستذكر مقولة تاريخية مهمة لأحد الأئمة وهو زين العابدين أحد أحفاد نبي الإسلام محمد(ص)، يقول فيها: “ليست العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن العصبية أن يرى الرجل شرار قومه أفضل من خيار قوم آخرين”.. إنها حقيقة قيمة الانفتاح والتسامح المطلوبة من المتدينين عموماً..
ضرورة توافر بنية تعليمية علمية متينة تبدأ من رياض الأطفال يمكن أن تعلم الطفل منذ نعومة أظافره على أساليب البحث والتقصي والاستدلال وليس على أساليب بدائية كالحفظ والتلقين والاستظهار والبصم.. حيث نجد أن طلابنا يكررون ما يحفظون من أساتذتهم ومعلميهم من دون أن يؤثر ذلك في سلوكهم وفكرهم واتجاهاتهم.. أي يمكننا بسهولة أن نلاحظ عدم وجود سياسة تربوية علمية ناجحة تقوم بتنشئة الأجيال على مقدمات ومعطيات البحث والتدقيق والاهتمام.. وهنا –في اعتقادي- مطلوب من الأسر في البداية أن تهتم بتربية أبنائها على قيم العلم، وأن تعمل على تنشيط الطاقات الإبداعية والإنتاجية لديهم، وتوجيهها الوجهة العلمية السليمة على صعيد الاهتمام الجدي المسؤول بروحية العلم والبحث العلمي ودوره الهام في الحياة الإنسانية. ولكن للأسف، إن مثل هذا السلوك الحضاري مفتقد عندنا، فالهم الأكبر لدى الأسرة العربية عموماً هو في تأمين أدنى متطلبات وجودها الآدمي..
ضعف المستويات الأكاديمية في معظم جامعاتنا العربية خاصة على صعيد المرحلة التي تلي حصولهم على الشهادة الثانوية (مرحلة قبول الطلاب في الجامعات).. حيث نجد أن المعايير الموضوعة للقبول لا تزال هشة وضعيفة..
ضعف مستويات الترقية بالنسبة لأعضاء الهيئة التدريسية، وعدم موضوعيتها، وقلة المشاركة المنتجة في المؤتمرات الدولية من أجل الاستفادة وتبادل الخبرات والنتائج العلمية، وسرعة تطبيق الاستخلاصات والانتفاع بها..
ضرورة توفر ووجود حريات أكاديمية حقيقية في جامعاتنا العربية، مع توفر القاعدة البشرية العلمية الكبيرة الضرورية لإنماء قطاع البحث العلمي.. وهذه القضية (قضية الحريات) هي جزء من واقع مجتمعاتنا العربية ككل، وهي مرتبطة بالمناخ السياسي العام وبنية تكوين الدولة العربية القائمة للأسف على معايير قديمة من المكونات ما قبل الوطنية من طائفية وعشائرية وعصبيات دينية ومذهبية..
ضرورة توفر المال اللازم للبحث العلمي. فالموارد الموجودة لدى جامعاتنا كما ذكرنا أعلاه، غير كافية.. ففي حين لا يصرف العرب أكثر من ملياري دولار على البحوث العلمية، تخصص الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 275 مليار دولار للبحث والتطوير.
© منبر الحرية،19 يناير/كانون الثاني2012
One comment
فنجان قهوة
19 يناير، 2012 at 6:51 م
أفادني هذا المقال بتوسيع تصوري نحو الخطوات اللازم اتخاذها لتحقيق فكر بحثي في عقول الطلبة…
لكن بصراحة هناك نقطة غير مفهومة بشكل واضح بالنسبة لي ….. وهي نقطة
“بمعنى أنه وبدلاً من أن يتحرك ويدور الفرد حول مرجعيات النصوص الدينية والتاريخية العتيقة غير المجدية بل والمعطلة للحياة والمستقبل، تصبح مرجعيته وهويته الحقيقية قائمة في وجوده وعمله ومكتسباته ودوره وتأثيره النافع الإيجابي على صعيد تحسن حياته ككل عل كافة المستويات.. وهذا التحليل لا يعني أننا نرفض”
فتعليقي حول لفظ “النصوص الدينية” مقترنا مع لفظ “غير مجدية ومعطلة للحياة”…..
قد أكون فهمت النقطة بشكل خاطئ لكنها غير واضحة!!
المشكلة ليست في المرجعيات الدينية والنصوص….لأن الدين الإسلامي يشجع على اكتساب “الهوية” من خلال التفكير والتأثير والدور والعمل…. وبالأصل لا تصادم بين النص الديني الذي أنزله الله والبحث العلمي الذي يوصل لنتائج “خلقها الله”…
وكما ذكرت قد يكون فهمي غير واضح….لكن هذا ما فهمته من هذه النقطة!!
وأحب أن أدرج نصا منقولا عن حسن البنا في شرحه لفهم الدين….
“والعقل يأخذ بيد صاحبه إلى العلم الراسخ الذي يهدي صاحبه إلي ربه : [ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ] – آل عمران 7 ولهذا يقول الإمام الشهيد في الأصل التاسع عشر : وقد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر ولكنهما لن يختلفا في القطعي فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة ويؤول الظني منهما ليتفق مع القطعي فأن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار، وتوظيف العقل في هداية صاحبه يحفظه من أن يخدع من الأعراف الزائفة والمصطلحات المضللة فيأتي العقل ويقف على صحة هذه المصطلحات فلا ينخدع صاحبه بل يزداد يقينه و إيمانه”
http://www.daawa-info.net/article.php?id=429