سؤال الدولة، شاغل معرفي واجتماعي استفرغ جهد الكثيرين قصد المقاربة المثلى لإشكالاته، وتجنب ما لا يرى من آثار مؤسسة الدولة بتعبير الاقتصادي الفرنسي الشهير فريدريك باستيا. منظومة معرفية هامة خلفتها الإنسانية والحضارة المعاصرة، حول أدبيات الحرية وسؤال الدولة، وفي علاقات تداخل مصالح الفرد مع مصالح الجماعة، أو “فن الارتباط” بينهما بتعبير مؤرخ الديمقراطية الأعظم ألكسيس دو توكفيل. وغيرها مما يهم اجتماع الكائن البشري.
هذا الرصيد المثير، كان محط نقاش واهتمام عند من يسمون برواد النهضة العربية/الإسلامية، وداخل الأوساط الثقافية عامة؛ حول طبيعة الدولة، والقانون، وعلاقات الدين بالدولة، وأشكال الحكم …الخ. إلا أن السمة الغالبة على هذا النقاش، انحساره دوما في دائرة النظري وسطحيته، لكنه، رغم حالته هذه، سيخمد تماما بعد استتباب أشكال الاستبداد في المنطقة، ليتحول إلى نقاش عقيم، يمثل هوسا عند فئة ثقافية معينة، وغاية في حد ذاته.
كما أن التقابل الإيديولوجي الساذج، أرخى بظلاله على هذه السطحية عينها، ليضاعف من وقع الأزمة، أمام إطلاقية وشمولية النموذج الاشتراكي، والنموذج الإسلامي، النموذجين اللذين تصارعا خلال العقود الأخيرة في العالم العربي/الإسلامي، باعتبارهما أصوليات متقابلة. صراع بعيد عن كل أشكال الوعي الممكنة، تحكمت فيه دوما راهنيات الضغط السياسي، وردود الأفعال أمام خيبات التحقق الفعلي لطروحها.
لكن، ما الذي تغير اليوم، لنعاود طرح سؤال الدولة مجددا؟ وهل من جدوائية لابتعاث هذا الجدل القديم/الجديد؟.
دون أن ندعي الإجابة، سأحاول اجتراح الموضوع، وفق منطق ما يرى وما لا يرى عند فريدريك باستيا، كي نتجاوز سطحية ما يرى، ولحظيته، ونحاول اكتشاف ما لا يرى، ذي البصيرة البعدية، والتي من الممكن أن تجنبنا آلام التجربة والخبرة المريرة التي تؤدى عنها دوما ضرائب اجتماعية مكلفة.
يتحدث دو توكفيل عن فكرة جميلة، استحالت واقعا ملموسا اليوم، وهي “فن الارتباط”، أو “المجتمع المدني” بالتعبير الأكثر شيوعا في أدبياتنا المعاصرة. فن الارتباط هذا يمكن أن نسحبه كقاعدة على كل بنيات المجتمعات الحديثة. حيث يترابط الاقتصاد، والقانون، والحقوق والواجبات، والمعرفة، والعدالة، والمؤسسات، والحريات …، دون تمايز ودون انفصال. فلا تقدم لمجتمع إن لم يغامر معرفيا، ويطور قدراته العلمية في اكتشاف العالم واكتشاف ذاته. ولا تقدم له بدون حريات؛ فحرية الفرد أساس المجتمع الحر، ولا اعتبار للفرد في هذا المجتمع إن لم يتسم بمقومات المواطنة الإنسانية. لا قيمة للعيش إجمالا في هذه الدولة إن لم تكن المساواة روحا تسري في كل مفاصل العلاقات المدنية داخل المجتمع، وتؤطر مفاهيم المصلحة والحق والواجب وعلاقات الأنا بالآخر.
إننا أمام منظومة معاصرة تؤمن حد الجنون بفكرة “فن الارتباط” بين أساسيات الحضارة الإنسانية المعاصرة، لكنه ارتباط وفق “فنية” و”إستراتيجية”، تجعل من الإنسان الحر، أصلا ومركزا لكل الحقوق والحريات.
نحن اليوم، لا نزال نعيش مرحلة ما بعد الثورات بكثير من التردد، تردد يبلغ حدود الارتباك في المواقف، والتصورات، تردد يضعنا أمام محك نظري هام، عاود علينا مجددا وبإلحاحية واقعية هذه المرة طرح سؤال الدولة المدنية؟.
إنها المرة الأولى التي نوضع في موقف اتخاذ القرار إزاء مستقبل الدولة في مجتمعاتنا، وهي المرة الأولى كذلك، التي نختار فيها من يحكم وفق إرادتنا. ولنقل بعبارة أكثر تحديدا، إنها المرة الأولى التي نثق في الفعل السياسي عندنا، دون أن يعني ذلك أننا نملك ثقة في المكونات السياسية.
لهذا، اقتنعنا أن “ما يرى” فيما حصل عندنا من حراك ديمقراطي تغييري، هو الإرادة الإنسانية التي لا تزال متقدة في ضمير شعوبنا، والرغبة الأكيدة في الانعتاق والمستقبل الأفضل، و”ما يرى” في ذلك أيضا، استئثار البعض بالرأي ومحاولة استلاب الدولة لصالح اللاهوت “التيوقراط”، بعيدا عن كل أدبيات الاجتماع المدني المعاصر، وبعيدا عن كل مقومات الدولة المدنية التي تتعالى على العرقيات والأديان، وكل أشكال الاستبداد مهما بلغت درجات تخفيها.
هذا بخصوص “ما يرى”، ويستشفه الكثيرون، دون عناء يذكر، لكن “ما لا يرى” هو أن هذا الفعل يكتنفه جهل مطبق بكل أدبيات الدولة المدنية معرفيا، وبكل أدبياتها الواقعية التي خلفتها الحضارة المعاصرة، هذا من ناحية أولى، وفي مستوى أولي من مستويات “ما لا يرى”. أما في المستوى الثاني منه، ف”لا يرى” الكثيرون أن هذه التجاوزات التي حاولت فرض السيطرة باسم الدين أو باسم القانون أو باسم السلطة أو باسم الحكومة، قد جعلتنا نرتهن للتجربة التي لا بد فيها من الوقوع في مستنقع الألم، والخبرة المستخلصة من الجهالات المجانية. ولعل ما يحصل في مصر اليوم دليل واضح على اشتراك كل هذه الجهالات في جعل مسار بلوغنا المستقبل أكثر مرارة وألما.
إن النموذج التونسي، رغم اختلافه عن النموذج المصري، يشتركان في البنيات المعرفية المؤطرة للفعل عند الأصولية الإسلامية، وعند الأصوليات الأخرى كذلك. ويتبادلان التأثير والتأثر بينهما، رغم ادعاء خلاف ذلك.
فكلاهما لا يزالان يقدمان رهان الثأر والانتقام على رهان المدنية والتحضر وصناعة المستقبل، لتنطبق عليهما إشارة باستيا الذكية؛ ” بمجرد استعادة الطبقات لحقوقها السياسية، فإن أول ما يستبد بفكرها ليس التخلص من النهب (فهذا يفترض وجود أنوار هي أفقر ما تكون إليها) بل إنشاء نظام انتقام وثأر من الطبقات الأخرى؛ كما لو كان محتما أن يطال عقاب كلا الطرفين قبل أن تبسط العدالة سلطانها، بعقاب البعض عن ظلمه والآخر عن جهله” (القانون، فريدريك باستيا. 2012. ص 18).
عودا لـ”ما يرى”، فإن ما يقع يمثل جهلا مطبقا في الاعتراف بحقوق كل طرف، والجهالة بقيمة الإنسان داخل المجتمعات المتقدمة اليوم، والجهالة بمعاني العيش المشترك، وفق مبادئ السلم والتحرر الإنسانيين. “ما يرى” في كل ذلك أيضا، هو استمرار الاستبداد الذي لم يغادر مؤسساتنا ووعي فاعلينا السياسيين، واستمرار ارتهاننا للاستبداد الديني، وشمولية الأصوليات المدمرة.
لكن، “ما لا يرى”، وبمنطق الحفر المضاعف، هو أن الدولة المدنية ليست هي القيام بثورة، وليست هي الاقتراع، أو امتلاك السلطة، يعلق باستيا على هذه السذاجة المسطحة، أننا “لدينا جميعا استعداد كبير للنظر إلى كل ما هو قانوني على أنه شرعي، إلى درجة أن كثيرين يتصورون خطأ أن كل عدالة ناجمة عن القانون” (القانون، باستيا. ص18). فالمستوى الأولي من “ما لا يرى” هنا، يعكس اقتناعنا بتحقق العدالة عن طريق القانون، أو الدولة، مجردة عن الطابع المدني، لأننا لازلنا نطلب هنا التحكم والتسلط والإدارة، بعيدا عن أي إستراتيجية للمستقبل، أو أي مدنية ذات أساسيات الدولة المدنية المعاصرة.
أما المستوى الثاني من “ما لا يرى” هذا، جهلنا بأننا “نحن” القانون، حينما لا نضع قوانينا تستحق تقديرنا واحترامنا، حسب باستيا، قوانين لا تتملكنا، أو تصادر حقوقنا وحرياتنا. وبنفس المنحى، نجهل أننا روح الدولة المدنية، حيث يتصور الكثيرون أن هذه الأخيرة رغم كونها مطلبا ملحا في هذه المرحلة، إلا أنها لا تعني العدالة والمساواة والحرية، لمجرد احتمالها ذلك بحكم التوصيف التاريخي الذي يكتنفها، لكنها بالمقابل، وببساطة ظاهرة؛ دون الإنسان الحر لا تعني شيئا، ولن تحقق المرجو منها، إذ بإمكانها التحول لعكس مسارها، الذي هو التحرر، والرفاه، والديمقراطية، والنمو الاجتماعي ..، فتستحيل استبدادا يهيننا دون أن يعذبنا حسب التوصيف البليغ لتوكفيل .
إننا، نتحدث بتحديد أدق، عن التلقائية، تلك الهبة المقدسة، التي لا يمكن للإنسان السير بخلافها، ولا يمكن لأحد فرض وصايته عليها باسم المصلحة العامة أو القانون أو الدولة، لهذا لا يمكن لنا فصل الدولة المدنية – إن نحن اقتنعنا يوما بجدوائيتها وفق أساسياتها المعاصرة – عن قداسة “المساواة” وقداسة “الحرية” وقداسة “العدالة” وقداسة “المواطنة” …الخ. فهي مقدسات أسهمت الإنسانية جمعاء في تقدمها وبلوغها ما هي عليه اليوم
الدولة المدنية، إلى جانب ابتعادها وفق أدبياتها المعروفة، عن الاستلاب باسم دين ما أو لصالح فئة ما أو مكون ما، أو إيديولوجية ما، فهي الأنجع لنا اليوم، باعتبارها آلية اخترناها عبر مراحل التطور البشري المعاصر، لا باعتبارها نقطة نهاية، ولكن باعتبارها اختيارا واعيا، ينسجم وروح التلقائية الإنسانية، فهي نموذج الدولة التي نحقق عبرها رغباتنا الحرة، ذات الإمكان المفتوح على المستقبل، وليست التي تتملكنا باسم مصالحنا، وباسم تلبيتها لحاجياتنا. وهي الدولة التي تترك لنا مجال القرار والاختيار بأي طريقة نود العيش، وإن ليس لها الحق في مصادرته أصلا يمكن القول، أن الدولة المدنية هي التي يكون الإنسان الحر فيها هو الضامن لاستمرارها، واستمرار الحريات فيها والقوانين واستمرارها هي ذاتها.
* كاتب وباحث من المغرب
منبر الحرية، 01 غشت/اب 2014